الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَا؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَلَا يَقُولُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ؛ وَلَكِنْ ظَهَرَ عَنْهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ مَا أَوْجَبَ كُفْرَهُ وَقَتْلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
[مَسْأَلَةٌ الْمُعِزِّ مَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ وَالْقَصْرَيْنِ هَلْ كَانَ شَرِيفًا فَاطِمِيًّا]
754 -
108 مَسْأَلَةٌ:
عَنْ " الْمُعِزِّ مَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ " الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ، وَالْقَصْرَيْنِ: هَلْ كَانَ شَرِيفًا فَاطِمِيًّا؟ وَهَلْ كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مَعْصُومِينَ؟ وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ، وَإِنْ، كَانُوا لَيْسُوا أَشْرَافًا: فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ؟ وَإِنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ الشَّرِيعَةِ: فَهَلْ هُمْ " بُغَاةٌ " أَمْ لَا؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَمَدِينَ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ.
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ أَوْ نَحْوِهِمْ كَانُوا مَعْصُومِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَأِ، كَمَا يَدَّعِيهِ الرَّافِضَةُ فِي " الِاثْنَيْ عَشْرَةَ فَهَذَا الْقَوْلُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ بِكَثِيرٍ؛ فَإِنَّ الرَّافِضَةَ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَا شَكَّ فِي إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، بَلْ فِيمَنْ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: كَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهم. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ؛ وَأَنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ؛ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.
بَلْ كَانَ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ، وَلَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ فِي ذَلِكَ كُفْرًا؛ بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ؛ بَلْ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ نُظَرَائِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ النَّظَرُ فِي قَوْلَيْهِمَا، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَابَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] فَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ؛ إذْ الْمَعْصُومُ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَقَّ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَدِيثًا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْصِدُ بِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ.
أَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْقَائِلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بَلْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ " مَرْتَبَةُ الرَّسُولِ، الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] .
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] وَقَالَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] .
وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . وَقَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [المائدة: 12] وَأَمْثَالُ هَذِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، بَيَّنَ فِيهِ سَعَادَةَ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَاتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ، وَشَقَاوَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعْهُمْ؛ بَلْ عَصَاهُمْ.
فَلَوْ كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ مَعْصُومًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُنْهِي عَنْهُ لَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الرَّسُولِ. وَالنَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ رَسُولٌ إلَيْهِمْ؛ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ. فَمَنْ كَانَ آمِرًا نَاهِيًا لِلْخَلْقِ: مِنْ إمَامٍ، وَعَالِمٍ، وَشَيْخٍ، وَأُولِي أَمْرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ مَعْصُومًا: كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ مَنْ أَطَاعَهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ عَصَاهُ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، كَمَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ بَلْ مَنْ أَطَاعَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا؛ وَمَنْ عَصَاهُ يَكُونُ كَافِرًا؛ وَكَانَ هَؤُلَاءِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ؛ فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ النَّبِيِّ:
«لَا نَبِيَّ بَعْدِي» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» . فَغَايَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونُوا وَرَثَةَ أَنْبِيَاءٍ.
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ «أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِلصِّدِّيقِ فِي تَأْوِيلِ رُؤْيَا عَبَرَهَا: أَصَبْت بَعْضًا، وَأَخْطَأْت بَعْضًا»
وَقَالَ الصِّدِّيقُ: أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَكُنْت فَاعِلًا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا قُتِلَ، وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ النَّبِيِّ لَا يُقْتَلُ بِكُلِّ سَبٍّ سَبَّهُ؛ بَلْ يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا: لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ، وَلَوْ قَذَفَ غَيْرَ أُمِّ النَّبِيِّ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بَرَاءَتَهَا لَمْ يُقْتَلْ.
وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ بِمِثْلِ هَذِهِ، فَيَرْجِعُ عَنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ مَا قَالَ، وَيَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَنْ بَعْضِ السُّنَّةِ حَتَّى يَسْتَفِيدَهَا مِنْهُمْ، وَيَقُولُ فِي مَوَاضِعَ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَوْ أَخْطَأَهُ.
وَيَقُولُ: امْرَأَةً أَصَابَتْ. وَرَجُلٌ أَخْطَأَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ» وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» فَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ بِهَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَتَهُ؟ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَأَعْظَمُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ سَائِرِهِمْ، وَأَوْلَى بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ:«خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا، وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي، وَالْأَقْوَالُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ [كَثِيرَةٌ] .
بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فُتْيَا أَفْتَى فِيهَا بِخِلَافِ نَصِّ النَّبِيِّ.
وَقَدْ وُجِدَ لِعَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا وُجِدَ لِعُمَرَ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يُنَاظِرُ بَعْضَ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ، فَصَنَّفَ كِتَابَ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " وَبَيَّنَ فِيهِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تُرِكَتْ مِنْ قَوْلِهِمَا؛ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِخِلَافِهَا، وَصَنَّفَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الثَّوْرِيُّ كِتَابًا أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَرَكَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَاتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الْفُتْيَا عَلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهَا إذَا وَضَعَتْ حَمَلَهَا حَلَّتْ، لِمَا ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ: أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ كَانَتْ قَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ. فَقَالَ: مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ. حَلَلْت فَانْكِحِي» فَكَذَّبَ النَّبِيُّ
مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا. " وَكَذَلِكَ الْمُفَوِّضَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا وَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرٌ قَالَ فِيهَا عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهَا لَا مَهْرَ لَهَا، وَأَفْتَى فِيهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ: نَشْهَدُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ ". وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنَاهُ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا، كَمَا
يُخَالِفُ سَائِرٌ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَوْ كَانُوا مَعْصُومِينَ لَكَانَتْ مُخَالَفَةُ الْمَعْصُومِ لِلْمَعْصُومِ مُمْتَنِعَةٌ. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ، فِي أَمْرِ الْقِتَالِ يُخَالِفُ أَبَاهُ وَيَكْرَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ، وَيَرْجِعُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي آخِرِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَئِنْ عَجَزْت عَجْزَةً لَا أَعْتَذِرْ سَوْفَ أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرَّ وَأَجْبُرُ الرَّأْيَ النَّسِيبَ الْمُنْتَشِرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ أَنْ لَوْ فَعَلَ غَيْرَ الَّذِي كَانَ فَعَلَهُ لَكَانَ هُوَ الْأَصْوَبُ وَلَهُ فَتَاوَى رَجَعَ بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّ لَهُ فِيهَا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِنَّ.
وَالثَّانِي: إبَاحَةُ ذَلِكَ وَالْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، كَمَا فِي «قَوْلِ النَّبِيِّ السُّنَّةُ اسْتَقَرَّتْ» فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا بَعْدَهُ نَسْخٌ إذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
وَقَدْ وَصَّى الْحَسَنُ أَخَاهُ الْحُسَيْنَ بِأَنْ لَا يُطِيعَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَلَا يَطْلُبَ هَذَا الْأَمْرَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُحِبُّهُ وَرَأَوْا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ، لَا يُجِيبُهُمْ إلَى مَا قَالُوهُ مِنْ الْمَجِيءِ إلَيْهِمْ وَالْقِتَالِ مَعَهُمْ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ رضي الله عنه قَالَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً، وَالرَّأْيُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ. وَالْمَعْصُومُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ مَعْصُومًا آخَرَ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى شَرِيعَتَيْنِ، كَالرَّسُولَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرِيعَتَهُمَا وَاحِدَةٌ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عِصْمَةَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ، الْمَشْهُورِ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْجَنَّةِ؛ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ؛ بَلْ وَلَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ مَحْمُودٌ.
فَكَيْفَ تَكُونُ الْعِصْمَةُ فِي ذُرِّيَّةِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ " مَعَ شُهْرَةِ النِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ؟ ، وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ: فَلَا رَيْبَ أَنَّ سِيرَتَهُمْ مِنْ سِيرَةِ الْمُلُوكِ، وَأَكْثَرُهَا ظُلْمًا وَانْتِهَاكًا لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَأَبْعَدُهَا عَنْ إقَامَةِ الْأُمُورِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَأَعْظَمُ إظْهَارًا لِلْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِعَانَةً لِأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَأَعْظَمُ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ دَوْلَتِهِمْ، وَأَقَلُّ بِدَعًا وَفُجُورًا مِنْ بِدْعَتِهِمْ، وَأَنَّ خَلِيفَةَ الدَّوْلَتَيْنِ أَطْوَعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ خُلَفَاءِ دَوْلَتِهِمْ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي خُلَفَاءِ الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، فَكَيْفَ يَدَّعِي الْعِصْمَةَ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ، وَالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ، وَالْعُدْوَانُ وَالْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأُمَّةِ، وَالِاطْمِئْنَانُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ؟ ، فَهُمْ مِنْ أَفْسَقِ النَّاسِ. وَمِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ. وَمَا يَدَّعِي الْعِصْمَةَ فِي النِّفَاقِ وَالْفُسُوقِ إلَّا جَاهِلٌ مَبْسُوطُ الْجَهْلِ، أَوْ زِنْدِيقٌ يَقُولُ بِلَا عِلْمٍ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، أَوْ بِصِحَّةِ النَّسَبِ فَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَقَالَ عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُ صِحَّةَ نَسَبِهِمْ وَلَا ثُبُوتَ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ؛ فَإِنَّ غَايَةَ مَا يَزْعُمُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ؛ أَنْ قَدْ عُرِفَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ، وَأَئِمَّتُهَا وَجَمَاهِيرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً، يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ. فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ صَارَ فِي إيمَانِهِمْ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، فَالشَّاهِدُ لَهُمْ
بِالْإِيمَانِ شَاهِدٌ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ؛ إذْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى إيمَانِهِمْ مِثْلُ مَا مَعَ مُنَازِعِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ.
وَكَذَلِكَ " النَّسَبُ " قَدْ عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ تَطْعَنُ فِي نَسَبِهِمْ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْمَجُوسِ أَوْ الْيَهُودِ هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ شَهَادَةِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ مِنْ: الْحَنِيفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلِ الْكَلَامِ، وَعُلَمَاءِ النَّسَبِ، وَالْعَامَّةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ ذَكَرَهُ عَامَّةُ الْمُصَنِّفِينَ لِأَخْبَارِ النَّاسِ وَأَيَّامِهِمْ، حَتَّى بَعْضُ مَنْ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي أَمْرِهِمْ كَابْنِ الْأَثِيرِ الْمَوْصِلِيِّ فِي تَارِيخِهِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِخُطُوطِهِمْ فِي الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِمْ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي تَارِيخِهِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا بُطْلَانَ نَسَبِهِمْ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَبُو شَامَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، حَتَّى صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، كَمَا صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَجُوسِ، وَذَكَرَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مَا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَذَاهِبَهُمْ شَرٌّ مِنْ مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ وَمِنْ مَذَاهِبِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ نُبُوَّتَهُ، فَهُمْ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَمَدُ " فَصْلًا طَوِيلًا فِي شَرْحِ زَنْدَقَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ فَضَائِلَ المستظهرية وَفَضَائِحَ الْبَاطِنِيَّةِ، قَالَ: ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ، وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ.
وَكَذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُتَشَيِّعَةِ الَّذِينَ لَا يُفَضِّلُونَ عَلَى عَلِيٍّ غَيْرَهُ؛ بَلْ يُفَسِّقُونَ مَنْ قَاتَلَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ قِتَالِهِ: يَجْعَلُونَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ. فَهَذِهِ مَقَالَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَقِّهِمْ، فَكَيْفَ تَكُونُ مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؟ ،، وَالرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ - مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ، وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ، وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ نَعَمْ - يَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ مَقَالَةُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ؛ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ شَرٌّ مِنْ مَقَالَةِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَأَمَّا الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِمْ فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ.
وَقَدْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ غَيْرُهُمْ طَوَائِفُ، وَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْعِلْمِ مَا فِيهِ؛ فَلَمْ يَقْدَحْ النَّاسُ فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ، كَمَا قَدَحُوا فِي نَسَبِ هَؤُلَاءِ وَلَا نَسَبُوهُمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ كَمَا نَسَبُوا هَؤُلَاءِ. وَقَدْ قَامَ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ طَوَائِفُ؛ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ، وَوَلَدِ الْحُسَيْنِ، كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَأَخِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَأَمْثَالِهِمَا. وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِ أَعْدَائِهِمْ لَا فِي نَسَبِهِمْ وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ الدَّاعِي الْقَائِمُ بِطَبَرِسْتَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعَلَوِيِّينَ، وَكَذَلِكَ بَنُو حَمُّودٍ الَّذِينَ تَغَلَّبُوا بِالْأَنْدَلُسِ مُدَّةً وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقْدَحْ أَحَدٌ فِي نَسَبِهِمْ، وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ.
وَقَدْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الطَّالِبِينَ مَنْ عَلَى الْخِلَافَةِ، لَا سِيَّمَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَحَبَسَ طَائِفَةٌ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَقْدَحْ أَعْدَاؤُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ، وَلَا دِينِهِمْ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْسَابَ الْمَشْهُورَةَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ مُتَدَارَكٌ مِثْلُ الشَّمْسِ لَا يَقْدِرُ الْعَدُوُّ أَنْ يُطْفِئَهُ
؛ وَكَذَلِكَ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَصِحَّةُ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى، وَصَاحِبُ النَّسَبِ وَالدِّينِ لَوْ أَرَادَ عَدُوُّهُ أَنْ يُبْطِلَ نَسَبَهُ وَدِينَهُ وَلَهُ هَذِهِ الشُّهْرَةُ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ.
وَهَؤُلَاءِ " بَنُو عُبَيْدٍ الْقَدَّاحِ " مَا زَالَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْمَأْمُونُونَ عِلْمًا وَدِينًا يَقْدَحُونَ فِي نَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ؛ لَا يَذُمُّونَهُمْ بِالرَّفْضِ وَالتَّشَيُّعِ؛ فَإِنَّ لَهُمْ فِي هَذَا شُرَكَاءَ كَثِيرِينَ؛ بَلْ يَجْعَلُونَهُمْ " مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ " الَّذِينَ مِنْهُمْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ، وَمِنْ جِنْسِهِمْ الخرمية المحمرة وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اتِّبَاعَ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ؛ وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ وَوَضَعُوهُ؛ وَذَكَرُوا مَا بَنَوْا عَلَيْهِ مَذَاهِبَهُمْ؛ وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا بَعْضَ قَوْلِ الْمَجُوسِ وَبَعْضَ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ؛ فَوَضَعُوا لَهُمْ " السَّابِقَ "" وَالتَّالِيَ "" وَالْأَسَاسَ "" وَالْحُجَجَ "" وَالدَّعَاوَى " وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمَرَاتِبِ. وَتَرْتِيبُ الدَّعْوَةِ سَبْعُ دَرَجَاتٍ؛ آخِرُهَا " الْبَلَاغُ الْأَكْبَرُ؛ وَالنَّامُوسُ الْأَعْظَمُ " مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلِ ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِصِحَّةِ نَسَبٍ أَوْ إيمَانٍ فَأَقَلُّ مَا فِي شَهَادَتِهِ أَنَّهُ شَاهِدٌ بِلَا عِلْمٍ، قَافٍ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ؛ بَلْ مَا ظَهَرَ عَنْهُمْ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ.
وَمُعَادَاةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ: دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ نَسَبِهِمْ
الْفَاطِمِيِّ؛ فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَقَارِبِ النَّبِيِّ الْقَائِمِينَ بِالْخِلَافَةِ فِي أُمَّتِهِ لَا تَكُونُ مُعَادَاتُهُ لِدِينِهِ كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ؛ فَلَمْ يُعْرَفْ فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَلَا وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا بَنِي أُمَيَّةَ: مَنْ كَانَ خَلِيفَةً وَهُوَ مُعَادٍ لِدِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَادِيًا كَمُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ أَوْلَادُ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ فَيَكُونُ فِيهِمْ نَوْعُ حَمِيَّةٍ لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ كَيْفَ يُعَادِي دِينَهُ هَذِهِ الْمُعَادَاةَ؛ وَلِهَذَا نَجِدُ جَمِيعَ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مُعَادِينَ لِهَؤُلَاءِ، إلَّا مَنْ هُوَ زِنْدِيقٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ مَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَكَذِبِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ.
فَصْلٌ وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَائِلِ " إنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ " فَدَعْوَاهُمْ الَّتِي ادَّعُوهَا مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ هُوَ أَعْظَمُ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ؛ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلَا بِرَسُولِهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْبَاطِنَ الَّذِي ادَّعُوهُ هُوَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ لِلْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ بَوَاطِنَ تُخَالِفُ الْمَعْلُومَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَالْأَخْبَارِ.
أَمَّا " الْأَوَامِرُ " فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَمَرَهُمْ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
وَأَمَّا " النَّوَاهِي " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأَثِمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَأَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، كَمَا حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَنِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَكِنْ لِهَذَا بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة، الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ، كَقَوْلِهِمْ:" الصَّلَاةُ " مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا؛ لَا هَذِهِ الصَّلَوَاتُ ذَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ. " وَالصِّيَامُ " كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا لَيْسَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ. " وَالْحَجُّ " زِيَارَةُ شُيُوخِنَا الْمُقَدَّسِينَ.
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُدَّعُونَ لِلْبَاطِنِ لَا يُوجِبُونَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يُحَرِّمُونَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ بَلْ يَسْتَحِلُّونَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَنْ يَكُونُ هَكَذَا كَيْفَ يَكُونُ مَعْصُومًا؟ ،، وَأَمَّا " الْأَخْبَارُ " فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلَا بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ بَلْ وَلَا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ بَلْ وَلَا بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، بَلْ أَخْبَارُهُمْ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا اتِّبَاعَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ التَّابِعِينَ لِأَرِسْطُو، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ، ذُرِّيَّةِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ ". فَهَلْ يُنْكِرُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ الْيَهُودِ، أَوْ النَّصَارَى: أَنَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " مُخَالِفٌ لِلْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَالْإِلَهِيَّةِ، وَعُلُومِ الْأَخْلَاقِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالْمَنْزِلِ: مَا لَا يُنْكَرُ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَأَمَرَتْ بِهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِكَثِيرٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ، وَتَبْدِيلِ شَرَائِعِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَارِفٍ بِمِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ. فَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَنْ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ.
وَمِنْ أَكَاذِيبِهِمْ وَزَعْمِهِمْ: أَنَّ هَذِهِ " الرَّسَائِلَ " مِنْ كَلَامِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ الصَّادِقِ.
وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ زَمَانَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ وَاضِعُهَا فِيهَا مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ اسْتِيلَاءِ النَّصَارَى عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رضي الله عنه تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، قَبْلَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ؛ إذْ الْقَاهِرَةُ بُنِيَتْ حَوْلَ السِّتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا فِي تَارِيخِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ ". وَيُقَالُ: إنَّ ابْتِدَاءَ بِنَائِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَأَنَّهُ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ قَدِمَ " مَعْدُ بْنُ تَمِيمٍ " مِنْ الْمَغْرِبِ وَاسْتَوْطَنَهَا.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ يُعْلَمُ خُرُوجُهُمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ مُبَشِّرِ بْنِ فَاتِكٍ أَحَدِ أُمَرَائِهِمْ، وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ الْهَيْثَمِ اللَّذَيْنِ كَانَا فِي دَوْلَةِ الْحَاكِمِ
نَازِلَيْنِ قَرِيبًا مِنْ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ. وَابْنُ سِينَا وَابْنُهُ وَأَخُوهُ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمَا: قَالَ ابْنُ سِينَا: وَقَرَأْت مِنْ الْفَلْسَفَةِ، وَكُنْت أَسْمَعُ أَبِي وَأَخِي يَذْكُرَانِ " الْعَقْلَ "" وَالنَّفْسَ "، وَكَانَ وُجُودُهُ عَلَى عَهْدِ الْحَاكِمِ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مِنْ سِيرَةِ الْحَاكِمِ مَا عَلِمُوهُ، وَمَا فَعَلَهُ هشتكين الدَّرْزِيّ بِأَمْرِهِ مِنْ دَعْوَةِ النَّاسِ إلَى عِبَادَتِهِ، وَمُقَاتَلَتِهِ أَهْلَ مِصْرَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَابُهُ إلَى الشَّامِ حَتَّى أَضَلَّ وَادِي التَّيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَالزَّنْدَقَةُ وَالنِّفَاقُ فِيهِمْ إلَى الْيَوْمِ، وَعِنْدَهُمْ كُتُبُ الْحَاكِمِ، وَقَدْ أَخَذْتهَا مِنْهُمْ، وَقَرَأْت مَا فِيهَا مِنْ عِبَادَتِهِمْ الْحَاكِمَ؛ وَإِسْقَاطِهِ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَتَسْمِيَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُوجِبِينَ لِهَذِهِ الْوَاجِبَاتِ الْمُحَرِّمِينَ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْحَشْوِيَّةِ. إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى.
وَبِالْجُمْلَةِ " فَعِلْمُ الْبَاطِنِ " الَّذِي يَدَّعُونَ مَضْمُونُهُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ بَلْ هُوَ جَامِعٌ لِكُلِّ كُفْرٍ، لَكِنَّهُمْ فِيهِ عَلَى دَرَجَاتٍ فَلَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي الْكُفْرِ؛ إذْ هُوَ عِنْدَهُمْ سَبْعُ طَبَقَاتٍ، كُلُّ طَبَقَةٍ يُخَاطِبُونَ بِهَا طَائِفَةً مِنْ النَّاسِ بِحَسَبِ بُعْدِهِمْ مِنْ الدِّينِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ.
وَلَهُمْ أَلْقَابٌ وَتَرْتِيبَاتٌ رَكَّبُوهَا مِنْ مَذْهَبِ الْمَجُوسِ، وَالْفَلَاسِفَةِ، وَالرَّافِضَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ:" السَّابِقُ "" وَالتَّالِي " جَعَلُوهُمَا بِإِزَاءِ، الْعَقْلِ " " وَالنَّفْسِ " كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْفَلَاسِفَةُ، وَبِإِزَاءِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ كَاَلَّذِي يَذْكُرُهُ الْمَجُوسُ. وَهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ هُوَ السَّابِعُ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْبَاطِنِ. وَالْأَسَاسِ، وَالْحُجَّةِ، وَالْبَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ وَصْفُهُمْ.
وَمِنْ وَصَايَاهُمْ فِي " النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ، وَالْبَلَاغِ الْأَعْظَمِ " أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ " بَابِ التَّشَيُّعِ " وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الشِّيعَةَ مِنْ أَجْهَلِ الطَّوَائِفِ، وَأَضْعَفِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا، وَأَبْعَدِهَا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَلِهَذَا دَخَلَتْ الزَّنَادِقَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَابِ الْمُتَشَيِّعَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَمَا دَخَلَ الْكُفَّارُ الْمُحَارِبُونَ مَدَائِنَ الْإِسْلَامِ بَغْدَادَ بِمُعَاوَنَةِ الشِّيعَةِ، كَمَا جَرَى لَهُمْ فِي دَوْلَةِ التُّرْك الْكُفَّارِ بِبَغْدَاد وَحَلَبَ وَغَيْرِهِمَا؛ بَلْ كَمَا جَرَى بِتَغَيُّرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ لِمَنْ يَدْعُونَهُ، وَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُمْ نَقَلُوهُ إلَى الرَّفْضِ وَالْقَدْحِ فِي الصَّحَابَةِ، فَإِنْ رَأَوْهُ قَابِلًا نَقَلُوهُ إلَى الطَّعْنِ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ نَقَلُوهُ إلَى الْقَدْحِ فِي نَبِيِّنَا وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالُوا: إنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَهُمْ بَوَاطِنُ وَأَسْرَارٌ تُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ أُمَّتُهُمْ، وَكَانُوا قَوْمًا أَذْكِيَاءَ فُضَلَاءَ قَالُوا بِأَغْرَاضِهِمْ الدُّنْيَوِيَّةِ بِمَا وَضَعُوهُ مِنْ النَّوَامِيسِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ قَدَحُوا فِي الْمَسِيحِ وَنَسَبُوهُ إلَى يُوسُفَ النَّجَّارِ، وَجَعَلُوهُ ضَعِيفَ الرَّأْيِ حَيْثُ تَمَكَّنَ عَدُوُّهُ مِنْهُ حَتَّى صَلَبَهُ فَيُوَافِقُونَ الْيَهُودَ فِي الْقَدْحِ مِنْ الْمَسِيحِ؛ لَكِنْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ. فَإِنَّهُمْ يَقْدَحُونَ فِي الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا مُوسَى وَمُحَمَّدٌ فَيُعَظِّمُونَ أَمْرَهُمَا، لِتَمَكُّنِهِمَا وَقَهْرِ عَدُوِّهِمَا؛ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمَا أَظْهَرَا مَا أَظْهَرَا مِنْ الْكِتَابِ لِذَبِّ الْعَامَّةِ، وَأَنَّ لِذَلِكَ أَسْرَارًا بَاطِنَةً مَنْ عَرَفَهَا صَارَ مِنْ الْكُمَّلِ الْبَالِغِينَ.
وَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ أَحَلَّ كُلَّ مَا نَشْتَهِيهِ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِكُلِّ طَرِيقٍ؛ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ: مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إذْ الْبَالِغُ عِنْدَهُمْ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ؛ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَفِي " إثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ " الْمُبْدِعِ لِلْعَالَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَئِمَّتِهِمْ تُنْكِرُهُ وَتَزْعُمُ أَنَّ الْمَشَّائِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فِي نِزَاعٍ إلَّا فِي وَاجِبِ الْوُجُودِ؛ وَيَسْتَهِينُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْمِهِ حَتَّى يَكْتُبَ أَحَدُهُمْ اسْمَ اللَّهِ وَاسْمَ رَسُولِهِ فِي أَسْفَلِهِ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ كَثِيرٌ.
وَذَوُو الدَّعْوَةِ الَّتِي كَانَتْ مَشْهُورَةً؛ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة الَّذِينَ كَانُوا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بِقِلَاعِ الْأَلْمُوتِ وَغَيْرِهَا فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ؛ وَبِأَرْضِ الْيَمَنِ وَجِبَالِ الشَّامِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ: كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ الْعُبَيْدِيِّينَ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ؛ وَابْنُ الصَّبَّاحِ الَّذِي كَانَ رَأْسُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة؛ وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يُنَاظِرُ أَصْحَابَهُ لَمَّا كَانَ قَدِمَ إلَى مِصْرَ فِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَكَانَ أَطْوَلُهُمْ مُدَّةً؛ وَتَلَقَّى عَنْهُ أَسْرَارَهُمْ.
وَفِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ كَانَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِرِيِّ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ لَمَّا جَاهَدَ الْبَسَاسِرِيَّ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، وَاتَّفَقَ مَعَ الْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ وَذَهَبَ يَحْشُرُ إلَى الْعِرَاقِ، وَأَظْهَرُوا فِي بِلَادِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ شِعَارَ الرَّافِضَةِ كَمَا كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوهَا بِأَرْضِ مِصْرَ، وَقَتَلُوا طَوَائِفَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَشُيُوخِهِمْ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ قَتَلُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمَغْرِبِ طَوَائِفَ، وَأَذَّنُوا عَلَى الْمَنَابِرِ:" حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ " حَتَّى جَاءَ التُّرْكُ السَّلَاجِقَةُ " الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَطَرَدُوهُمْ إلَى مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ أَوَاخِرِهِمْ " الشَّهِيدُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ " الَّذِي فَتَحَ أَكْثَرَ الشَّامِ، وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى؛ ثُمَّ بَعَثَ عَسْكَرَهُ إلَى
مِصْرَ لَمَّا اسْتَنْجَدُوهُ عَلَى الْإِفْرِنْجِ، وَتَكَرَّرَ دُخُولُ الْعَسْكَرِ إلَيْهَا مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ الَّذِي فَتَحَ مِصْرَ؛ فَأَزَالَ عَنْهَا دَعْوَةَ الْعُبَيْدِيِّينَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَظْهَرَ فِيهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، حَتَّى سَكَنَهَا مِنْ حِينَئِذٍ مَنْ أَظْهَرَ بِهَا دِينَ الْإِسْلَامِ.
وَكَانَ فِي أَثْنَاءِ دَوْلَتِهِمْ يَخَافُ السَّاكِنُ بِمِصْرَ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الْحَبَّالُ صَاحِبُ عَبْدِ الْغَنِيّ بْنِ سَعِيدٍ، وَامْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ خَوْفًا أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ: مَنْ لَعَنَ وَسَبَّ، فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ.
وَكَانَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عِدَّةُ مَقَاصِيرَ يُلْعَنُ فِيهَا الصَّحَابَةُ؛ بَلْ يُقْطِعُهُمْ فِيهَا بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَكَانَ لَهُمْ مَدْرَسَةٌ بِقُرْبِ " الْمَشْهَدِ " الَّذِي بَنَوْهُ وَنَسَبُوهُ إلَى الْحُسَيْنِ وَلَيْسَ، فِيهِ الْحُسَيْنُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ: بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَانُوا لَا يُدَرِّسُونَ فِي مَدْرَسَتِهِمْ عُلُومَ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ الْمَنْطِقَ، وَالطَّبِيعَةَ، وَالْإِلَهِيَّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ. وَبَنَوْا أَرْصَادًا عَلَى الْجِبَالِ وَغَيْرِ الْجِبَالِ، يَرْصُدُونَ فِيهَا الْكَوَاكِبَ، يَعْبُدُونَهَا، وَيُسَبِّحُونَهَا، وَيَسْتَنْزِلُونَ رُوحَانِيَّاتِهَا الَّتِي هِيَ شَيَاطِينُ تَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارِ، كَشَيَاطِينِ الْأَصْنَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
" وَالْمُعِزُّ بْنُ تَمِيمِ بْنِ مَعْدٍ " أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ الْقَاهِرَةَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَصَنَّفَ كَلَامًا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَتْبَاعِهِ؛ وَلَيْسَ هَذَا " الْمُعِزُّ بْنُ بَادِيسَ " فَإِنَّ ذَاكَ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ مُلُوكِ الْمَغْرِبِ؛ وَهَذَا بَعْدَ ذَاكَ بِمُدَّةٍ. وَلِأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ وَالْبِدْعَةِ بَقِيَتْ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ مُدَّةَ دَوْلَتِهِمْ نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ قَدْ انْطَفَأَ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، حَتَّى قَالَتْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ: إنَّهَا كَانَتْ دَارَ رِدَّةٍ وَنِفَاقٍ، كَدَارِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. وَالْقَرَامِطَةِ " الْخَارِجِينَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانُوا سَلَفًا لِهَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةِ ذَهَبُوا مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ جَاءُوا مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى مِصْرَ؛ فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ وَرِدَّتَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ، وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا وَرِدَّةً مِنْ كُفْرِ أَتْبَاعِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْكَذَّابِينَ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَقُولُوا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالشَّرَائِعِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ.
وَلِهَذَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِهِمْ وَقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَإِنَّ قُبُورَهُمْ مُوَجَّهَةٌ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
وَإِذَا أَصَابَ الْخَيْلُ أَرْصَدَهُ أَتَوْا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ، كَمَا يَأْتُونَ بِهَا إلَى قُبُورِ الْكُفَّارِ، وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْخَيْلِ إذَا أَصَابَ الْخَيْلَ مَغَلٌ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ النَّصَارَى بِدِمَشْقَ،
وَإِنْ كَانُوا بِمَسَاكِنِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا بِمِصْرَ ذَهَبُوا بِهَا إلَى قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِهَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ يَتَسَمَّوْنَ بِالْأَشْرَافِ، وَلَيْسُوا مِنْ الْأَشْرَافِ، وَلَا يَذْهَبُونَ بِالْخَيْلِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَلَا إلَى قُبُورِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا أَمْرٌ مُجَرَّدٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْجُنْدِ وَعُلَمَائِهِمْ.
وَقَدْ ذُكِرَ سَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَتَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ الْبَهَائِمُ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ بِذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ:«أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا عَلَى بَغْلَتِهِ، فَمَرَّ بِقُبُورٍ فَحَادَتْ بِهِ كَادَتْ تُلْقِيهِ، فَقَالَ: هَذِهِ أَصْوَاتُ يَهُودٍ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا، فَإِنَّ الْبَهَائِمَ إذَا سَمِعَتْ ذَلِكَ الصَّوْتَ الْمُنْكَرَ أَوْجَبَ لَهَا مِنْ الْحَرَارَةِ مَا يُذْهِبُ الْمَغَلَ» ، وَكَانَ الْجُهَّالُ يَظُنُّونَ أَنَّ تَمْشِيَةَ الْخَيْلِ عِنْدَ قُبُورِ هَؤُلَاءِ لِدِينِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ دُونَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ لَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قَبْرِ مَنْ يُعْرَفُ بِالدِّينِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا؛ إنَّمَا يُمَشُّونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ: تَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مُشْتَبِهًا.
وَمَنْ عَلِمَ حَوَادِثَ الْإِسْلَامِ، وَمَا جَرَى فِيهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ: عَلِمَ أَنَّ عَدَاوَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ لِلْإِسْلَامِ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَعْظَمُ مِنْ عَدَاوَةِ التَّتَارِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي كَانُوا يَدَّعُونَ حَقِيقَتَهُ هُوَ إبْطَالُ الرِّسَالَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا؛ بَلْ إبْطَالُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ؛ وَأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّوهُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ، وَلَا مِنْ خَبَرِهِ، وَلَا مِنْ أَمْرِهِ؛ وَأَنَّ لَهُمْ قَصْدًا مُؤَكَّدًا فِي إبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَإِفْسَادِ مِلَّتِهِ، وَقَتْلِ خَاصَّتِهِ وَاتِّبَاعِ عَثْرَتِهِ. وَأَنَّهُمْ فِي مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ؛ بَلْ وَسَائِرِ الْمِلَلِ: أَعْظَمُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ بِأَصْلِ الْجُمَلِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ: كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَالرُّسُلِ؛ وَالشَّرَائِعِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَكِنْ يُكَذِّبُونَ بَعْضَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150]{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 151] .
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ كَافِرُونَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، يُخْفُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُمُونَهُ عَنْ غَيْرِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِ؛ لَا يُظْهِرُونَهُ، كَمَا يُظْهِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ دِينَهُمْ،
لِأَنَّهُمْ لَوْ أَظْهَرُوهُ لَنَفَرَ عَنْهُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهِمْ وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ؛ بَلْ الرَّافِضَةُ الَّذِينَ لَيْسُوا زَنَادِقَةً كُفَّارًا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَقَالَتِهَا وَمَقَالَةِ الْجُمْهُورِ، وَيَرَوْنَ كِتْمَانَ مَذْهَبِهِمْ، وَاسْتِعْمَالَ التَّقِيَّةِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مِنْ الرَّافِضَةِ مَنْ لَهُ نَسَبٌ صَحِيحٌ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَكُونُ زِنْدِيقًا؛ لَكِنْ يَكُونُ جَاهِلًا مُبْتَدِعًا.
وَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مَعَ صِحَّةِ نَسَبِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ يَكْتُمُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يُخَالِفُونَهُمْ: فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلِّهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَإِنَّمَا يَقْرَبُ مِنْهُمْ " الْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ أَصْحَابُ أَرِسْطُو " فَإِنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَرَامِطَةِ مُقَارَبَةً كَبِيرَةً.
وَلِهَذَا يُوجَدُ فُضَلَاءُ الْقَرَامِطَةِ فِي الْبَاطِنِ مُتَفَلْسِفَةٌ: كَسِنَانٍ الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ، وَالطُّوسِيُّ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا لَهُمْ بِالْأَلْمُوتِ، ثُمَّ صَارَ مُنَجِّمًا لِهَؤُلَاءِ وَمَلِكَ الْكُفَّارِ، وَصَنَّفَ " شَرْحَ الْإِشَارَاتِ لِابْنِ سِينَا " وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى مَلِكِ الْكُفَّارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَصَارَ عِنْدَ الْكُفَّارِ التُّرْكِ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ " الداسميدية " فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يُظْهِرُهُ الْقَرَامِطَةُ مِنْ الدِّينِ وَالْكَرَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُتَفَلْسِفًا، وَيَدْخُلُ مَعَهُمْ لِمُوَافَقَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ فِي الظَّاهِرِ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.
فَإِنَّ " الْمُتَفَلْسِفَةَ " مُتَأَوِّلُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِالنَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ الَّذِي يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الْعَمَلِيَّةُ فَلَا يَنْفُونَهَا كَمَا يَنْفِيهَا الْقَرَامِطَةُ؛ بَلْ يُوجِبُونَهَا عَلَى الْعَامَّةِ؛ وَيُوجِبُونَ بَعْضَهَا عَلَى الْخَاصَّةِ، أَوْ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَمَرُوا بِهِ لَمْ يَأْتُوا بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ؛ وَلَكِنْ أَتَوْا بِأَمْرٍ فِيهِ صَلَاحُ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ.
وَلِهَذَا اخْتَارَ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِمَخَارِيقَ لِقَصْدِ صَلَاحِ الْعَامَّةِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ التُّومَرْتِ الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ، وَمَذْهَبُهُ فِي الصِّفَاتِ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مِثْلَهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا مُكَذِّبًا لِلرُّسُلِ مُعَطِّلًا لِلشَّرَائِعِ، وَلَا يَجْعَلُ لِلشَّرِيعَةِ الْعَمَلِيَّةِ بَاطِنًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا؛ بَلْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُوَافِقِ لِرَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ، وَنَوْعٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَرَوْنَ السَّيْفَ وَيُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ.
فَهَؤُلَاءِ " الْقَرَامِطَةُ " هُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَيَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ بَلْ وَإِيصَالَ النَّسَبِ إلَى الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَعِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَأَنَّ إمَامَهُمْ مَعْصُومٌ. فَهُمْ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ دَعْوَى بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَفِي الْبَاطِنِ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ بِالرَّحْمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنْ الْكَذَّابِينَ قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَدَّعُونَ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّ الَّذِي يُضَاهِي الرَّسُولَ الصَّادِقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَ دَعْوَتِهِ فَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي وَأَنْزَلَ عَلَيَّ، وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَلَا يُسَمِّيَ مُوحِيَهُ كَمَا يَقُولُ قِيلَ لِي وَنُودِيت وَخُوطِبْت وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَكُونَ كَاذِبًا، فَيَكُونُ هَذَا قَدْ حَذَفَ الْفَاعِلَ أَوْ لَا يَدَّعِي وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ لَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ وَوَجْهُ الْقِسْمَةِ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ فِي مُضَاهَاةِ الرَّسُولِ إمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ أَوْ لَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدٍ فَهَؤُلَاءِ فِي دَعْوَاهُمْ مِثْلَ الرَّسُولِ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِالْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَعْظَمَ مِمَّا فَعَلَ مُسَيْلِمَةُ، وَبَسْطُ حَالِهِمْ يَطُولُ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَوْرَاقَ لَا تَسَعُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته حَالُ أَئِمَّتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ الْعَالِمِينَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ مِنْ الشِّيعَة وَالرَّافِضَة مَنْ لَا يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ عَالَمًا بِحَقِيقَةِ بَاطِنِهِمْ وَلَا مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ أَتْبَاعِ الزَّنَادِقَةِ الْمُرْتَدِّينَ الْمَوَالِي لَهُمْ النَّاصِرِ لَهُمْ؛ بِمَنْزِلَةِ أَتْبَاعِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ يُوَالُونَهُمْ وَيُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْصُرُونَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ؛ وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ. فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ جَاهِلٌ مُعَظِّمٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَكَذَا مَنْ كَانَ مُعَظِّمًا لِلْقَائِلَيْنِ بِمَذْهَبِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فَإِنَّ نِسْبَةَ هَؤُلَاءِ إلَى الْجَهْمِيَّةِ كَنِسْبَةِ أُولَئِكَ إلَى الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْقَرَامِطَةَ أَكْفَرُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ