الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ: إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا، لَكِنْ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً، وَمَنْ وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ وَطَاوَعَتْهُ، عُزِّرَا جَمِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِيَا وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَمَنْ يَفْجُرُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ وَطْءُ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ]
436 -
38 - مَسْأَلَةٌ:
فِي الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ، مَا الدَّلِيلُ عَلَى وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الْإِمَاءِ الْمَجُوسِيَّاتِ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَطْءُ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ وَطْئِهِنَّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَدْ قَالَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَائِلِ أَنَّهُ حَرَّمَ نِكَاحَهُنَّ، وَلَكِنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ قَوْلُ الشِّيعَةِ، وَلَكِنْ فِي كَرَاهَةِ نِكَاحِهِنَّ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ نِزَاعٌ، وَالْكَرَاهَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَكَذَلِكَ كَرَاهَةُ وَطْءِ الْإِمَاءِ، فِيهِ نِزَاعٌ.
رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَهُ وَالْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ، بَلْ قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَحَرَّمَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا كَالثَّانِي، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] الْآيَةَ. فَأَبَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي آيَةِ الْإِمَاءِ:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25] فَإِنَّمَا أَبَاحَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّاتِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْوَثَنِيَّاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ، وَأَظُنُّ هَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْوَثَنِيَّةِ نِزَاعًا، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَلَيْسَ فِي وَطْئِهَا مَعَ إبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ نِزَاعٌ، بَلْ فِي التَّزَوُّجِ بِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ التَّسَرِّي بِهِنَّ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَلَا يَقُولُهُ فَقِيهٌ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، فَبَقِيَ حِلُّ وَطْئِهِنَّ عَلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُنَازِعُ فِي حِلِّ نِكَاحِهِنَّ بِقَوْلِهِ:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] وَقَوْلِهِ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] إنَّمَا يَتَنَاوَلُ النِّكَاحَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُنَّ، فَيَبْقَى الْحِلُّ عَلَى الْأَصْلِ.
الثَّانِي: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] . يَقْتَضِي عُمُومَ جَوَازِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، حَتَّى أَنَّ عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلُوا مِثْلَ هَذَا النَّصِّ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، حِينَ قَالُوا: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَإِذَا كَانُوا قَدْ
جَعَلُوا عَامًّا فِي صُورَةٍ حَرُمَ فِيهَا النِّكَاحُ فَلَا يَكُونُ عَامًّا فِي صُورَةٍ لَا يَحْرُمُ فِيهَا النِّكَاحُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ، بَلْ قَدْ قِيلَ: يَحِلُّ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، حَيْثُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ مُجْمَعٌ عَلَى التَّسَرِّي بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَرْجَحَ مِنْ حِلِّ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ دُونَهُ فَلَوْ حَرُمَ التَّسَرِّي دُونَ النِّكَاحِ كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ حِلَّ نِكَاحِهِنَّ يَقْتَضِي حِلَّ التَّسَرِّي بِهِنَّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَوْسَعُ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ، وَالنِّكَاحُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ، وَمَا حَرُمَ فِيهِ الْجَمْعُ بِالنِّكَاحِ قَدْ نُوزِعَ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَسَمٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ فِي عَزْلٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ نَوْعُ رِقٍّ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ رِقٌّ تَامٌّ.
وَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَهْلُ الْكِتَابِ نِسَاءَهُمْ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ، كَمَا قَالَ عُمَرُ: النِّكَاحُ رِقٌّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» .
فَجَوَّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْكَافِرَةَ، وَلَمْ يُجَوِّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، كَمَا جَوَّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ الْكَافِرَ وَلَمْ يُجَوِّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمَ، فَإِذًا جَوَازُ وَطْئِهِنَّ مِنْ مِلْكٍ تَامٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَانِعَ إمَّا الْكُفْرُ وَإِمَّا الرِّقُّ، وَهَذَا الْكُفْرُ لَيْسَ بِمَانِعٍ، وَالرِّقُّ لَيْسَ مَانِعًا مِنْ الْوَطْءِ بِالْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ التَّزَوُّجِ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْوَطْءِ قَائِمًا، وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا جَازَ الْوَطْءُ، فَهَذَا الْوَجْهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَعَلَى قِيَاسِ الْأَوْلَى، وَيُخْرَجُ مِنْهُ وَجْهٌ رَابِعٌ يَجْعَلُ قِيَاسَ التَّعْلِيلِ، فَيُقَالُ: الرِّقُّ مُقْتَضًى لِجَوَازِ وَطْءِ الْمَمْلُوكَةِ، كَمَا نَبَّهَ النَّصُّ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْوَطْءُ بِسَبَبٍ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، بِأَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً بِالرَّضَاعِ أَوْ بِالطُّهْرِ أَوْ بِالشِّرْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهَا مَا يَصْلُحُ لِلْمَنْعِ إلَّا كَوْنُهَا كِتَابِيَّةً، وَهَذَا لَيْسَ بِمَانِعٍ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلْحِلِّ قَائِمًا، وَالْمَانِعُ الْمَذْكُورُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا، وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ بَعْدَ تَمَامِ تَصَوُّرِهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ بِالْحِلِّ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ سِيَرَ الصَّحَابَةِ، وَالسَّلَفِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ، وَجَدَ آثَارًا كَثِيرَةً تُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا، بَلْ هَذِهِ كَانَتْ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ، مِثْلُ الَّذِي كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَتْ تَسُبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ يَقْتُلُهَا، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ مُسْلِمَةً، لَكِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَائِلِ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْمُشْرِكَاتِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، وَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَهُ كَانَتْ بِمَكَّةَ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ فَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُ نُزُولِهَا، وَفِي الْبَقَرَةِ مَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا كَآيَاتِ الزِّنَا، وَفِيهَا مَا نَزَلَ مُتَقَدِّمًا كَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَمِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، قَالَ لِلْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ: هَلْ لَك فِي نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي، وَمِثْلُ فَتْحِهِ لِخَيْبَرِ، وَقَسْمِهِ لِلرَّقِيقِ، وَلَمْ يَنْهَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ وَطْئِهِنَّ حَتَّى يُسْلِمْنَ» ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْرَاءِ.
بَلْ مَنْ يُبِيحُ وَطْءَ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَا جَرَى يَوْمَ أَوْطَاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» عَلَى
جَوَازِ وَطْءِ الْوَثَنِيَّاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَفِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَالصَّحَابَةُ لَمَّا فَتَحُوا الْبِلَادَ لَمْ يَكُونُوا يَمْتَنِعُونَ عَنْ وَطْءِ النَّصْرَانِيَّاتِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْمَجُوسِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَجُوسَ لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَحِلَّ طَعَامُهُ وَلَا نِسَاؤُهُ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَفِيهَا نِزَاعٌ شَاذٌّ، فَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 155 - 156] .
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَمَنْعًا لَأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَدَفْعًا لَأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ طَائِفَتَيْنِ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ كَذِبًا، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17] فَذَكَرَ الْمِلَلَ السِّتَّ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْمِلَلَ الَّتِي فِيهَا سَعِيدٌ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [البقرة: 62] فِي مَوْضِعَيْنِ، فَلَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، فَلَوْ كَانَ فِي هَاتَيْنِ الْمِلَّتَيْنِ سَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فِي الصَّابِئِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَذَكَرَهُمْ، فَلَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ لَكَانُوا قَبْلَ
النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى هُدًى، وَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إذَا عَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِمْ، كَمَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْمَجُوسَ فِي هَؤُلَاءِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، بَلْ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ دُونَهُمْ، مَعَ أَنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ إلَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَجُوسَ أَبْعَدُ عَنْ الْكِتَابِ مِنْهُمْ.
وَأَيْضًا: فَفِي الْمُسْنَدِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْمَغَازِي، الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ:«لَمَّا اقْتَتَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَانْتَصَرَتْ الْفُرْسُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِكَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ إلَيْهِمْ، لِأَنَّ لَهُمْ كِتَابًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] » .
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَجُوسَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ، وَقَالَ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرِ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» . وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَعَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تُوَافِقُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ خِلَافٌ.
وَأَمَّا حُذَيْفَةُ فَذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ، وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا الْمُرْسَلِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْمُرْسَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَفِي الْآخَرِ هُوَ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا الْمُرْسَلُ نَصٌّ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، فَرُفِعَ، قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ صَحَّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ، لَا أَنَّهُ الْآنَ