الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ الْفِتَنِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ]
مَسْأَلَةٌ:
فِي الْفِتَنِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَأَمْثَالِهَا؛ فَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَسْتَبِيحُ بَعْضُهُمْ حُرْمَةَ بَعْضٍ: فَمَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. هَذِهِ الْفِتَنُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] .
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا حَتَّى صَارَ عَنْهُمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا صَارَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» فَهَذَا مِنْ الْكُفْرِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَكْفُرُ بِالذَّنْبِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَ الْمُقْتَتِلِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إخْوَةٌ، وَأَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ إنْ اقْتَتَلُوا:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} [الحجرات: 9] وَلَمْ يَقْبَلُوا الصَّلَاحَ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] فَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ بَعْدَ أَنْ {تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ. فَمَنْ رَجَعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ يُعْدَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَيُقْسَطَ
بَيْنَهُمَا. فَقَبْلَ أَنْ نُقَاتِلَ الطَّائِفَةَ الْبَاغِيَةَ وَبَعْدَ اقْتِتَالِهِمَا أُمِرْنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُقْهَرْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِقِتَالٍ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْعَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ بِالصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَرَسُولُهُ. وَيُقَالُ لِهَذِهِ: مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ؟ وَلِهَذِهِ: مَا تَنْقِمُ مِنْ هَذِهِ؟ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا اعْتَدَتْ عَلَى الْأُخْرَى: بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ الْأَنْفُسِ، وَالْأَمْوَالِ: كَانَ عَلَيْهَا ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْهُ. وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ أَتْلَفُوا لِهَؤُلَاءِ تَقَاصُّوا بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] وَقَدْ ذَكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي طَائِفَتَيْنِ اقْتَتَلَتَا فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ، قَالَ:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وَالْعَفْوُ الْفَضْلُ فَإِذَا فَضَلَ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ شَيْءٌ عَلَى الْأُخْرَى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يُؤَدِّيهِ بِإِحْسَانٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ تَضْمَنَ وَاحِدَةٌ لِلْأُخْرَى، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَحَمَّلَ الرَّجُلُ حَمَالَةً يُؤَدِّيهَا لِصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْأَلَ النَّاسَ فِي إعَانَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ: يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ؛ فَإِنَّهُ يَقُومُ ثَلَاثَةً مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ؛ فَيَقُولُونَ: قَدْ أَصَابَ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ وَسَدَادًا مِنْ عَيْشٍ؛ ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٌ يَحْمِلُ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ، ثُمَّ يُمْسِكُ» . وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ أَنْ يَسْعَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مَهْمَا أَمْكَنَ.
وَمَنْ كَانَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَظُنُّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا صَبَرَ وَمَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ؛ وَلَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَقَالَ تَعَالَى:
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] فَالْبَاغِي الظَّالِمُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعُهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللَّهُ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا. وَمِنْ حِكْمَةِ الشِّعْرِ:
قَضَى اللَّهُ أَنَّ الْبَغْيَ يُصْرَعُ أَهْلُهُ
…
وَأَنَّ عَلَى الْبَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ
وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23] الْآيَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ:«مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْبَغْيِ، وَمَا حَسَنَةٌ أَحْرَى أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهَا الثَّوَابُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ» فَمَنْ كَانَ مِنْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بَاغِيًا ظَالِمًا فَلِيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ، وَمَتَى كَانَ مَظْلُومًا مَبْغِيًّا عَلَيْهِ وَصَبَرَ كَانَ لَهُ الْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] قَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ إذَا ظُلِمُوا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي حَقِّ عَدُوِّهِمْ:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وَقَالَ يُوسُفُ عليه السلام لَمَّا فَعَلَ بِهِ إخْوَتُهُ مَا فَعَلُوا فَصَبَرَ وَاتَّقَى حَتَّى نَصَرَهُ اللَّهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي عِزِّهِ: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِصِدْقٍ وَعَدْلٍ، وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَى الْآخَرِ وَظُلْمِهِ لَمْ يَضُرَّهُ كَيْدُ الْآخَرِ؛ بَلْ يَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْفِتَنُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ وَالْخَطَايَا فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ وَيَتُوبَ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْفَعُ الْعَذَابَ، وَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ