الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا أضفنا هذه الأخبار المعاصرة لما ورد في كتب الفقه والتاريخ من وجود نساء حملن لمدد طويلة، أفادت هذه الأخبار وجود هذا النوع من الحمل وإن كان شاذًّا ونادرًا.
والخلاصة: أن الذي يمكن أن يقال في هذه المسألة: إنه إذا ثبت طبيًّا ثبوتًا أكيدًا لا شبهة فيه أن الحمل لا يمكن أن يبقى كل هذه السنوات الطويلة، فلا مفر من القول بذلك؛ لأن الشرع لا يمكن أن يأتي بما يخالف الواقع أو الحس، فهما يشهدان على أن أقصى الحمل هي المدة المعهودة تسعة أشهر، والتي قد تزيد بضعة أسابيع، وهو الذي يبنى عليه الأحكام الشرعية.
فإذا ادعت المرأة وجود حمل تجاوز المدة المعهودة يلزم أن تثبت ذلك بالبينة الموجبة لتصديق قولها، كأن تشهد النساء بوجود هذا الحمل وظهور علاماته الواضحة -التي لا تلتبس مع الحمل الكاذب- كحركة الجنين، أو تثبت ذلك عن طريق تحليل البول أو الدم أو الموجات الصوتية (السونار) أو غير ذلك مما يقطع بوجود الحمل من عدمه؛ لأن الأصل عدم امتداد الحمل عن المدة المعهودة، ولقطع باب الادعاء، ولكون هذا الحمل ينبني عليه أحكام كثيرة، ويمكن للقضاة في هذا الزمان الاعتماد على الأجهزة الطبية الحديثة التي تحدد عمر الجنين بدقة، إضافة إلى البصمة الوراثية والتي تحدد الأبوين بنسبة 99 %.
إثبات براءة الرحم من خلال تحليل الدم أو البول:
قبل الشروع في حكم النازلة نوضح أن العدة التي أمر الله النساء بها أنواع منها:
1 -
عدة المرأة التي تحيض وهي ثلاثة قروء، كما قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ
…
} [البقرة: 228].
2 -
عدة الصغيرة أو اليائسة وهي ثلاثة أشهر، لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4].
3 -
عدة الحامل وهي وضع حملها، كما قال تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} [الطلاق: 4].
4 -
المتوفى عنها وهي أربعة أشهر وعشرًا ما لم تكن حاملًا وإلا كان وضع الحمل، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
5 -
أما التي طلقت قبل الدخول فلا عدة لها؟ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].
واستثنى العلماء من ذلك عدة الوفاة لما يترتب عليها من الإرث، وللمصيبة أخذًا من عموم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَحِل لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَاّ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"(1).
* أما التي كانت تحيض ثم توقف عنها الحيض وأشكل عليها الأمر فلا تدري هل هي حامل أم انقطع عنها الحيض، فإنها تنتظر تسعة أشهر، ثم تستبرئ بثلاثة أشهر احتياطًا، وتلك هي عدتها؛ لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها، فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلك وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر بثلاثة أشهر ثم حلت" (2). وبناءً على ما
(1) رواه البخاري في الجنائز، باب إحداد المرأة على غير زوجها (1280)، ومسلمٌ في الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة .. (1486)، عن أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
الموطأ، كتاب الطلاق (2/ 580) رقم (70).
ذكرناه فإنه لا يمكن إثبات براءة الرحم بالوسائل الحديثة وذلك لما يلي:
أولًا: أنه أمر إلهي يجب تنفيذه أدركنا العلة منه أم لم ندركها، قال تعالى:{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، أي: مدته، وهي المبينة سابقًا.
ثانيًا: أن هذه الأحكام ربطها الله تعالى بعلامات محددة يستوي فيها الحاضر والباد ومن لديه معامل ومن ليست له، وهي صالحة في كل زمان ومكان، والأحكام إنما تعلل بالعلل المنضبطة.
ثالثًا: أن من حكمة معرفة براءة الرحم من الحمل الحفاظ على الأنساب حتى لا تختلط، هذا مع ملاحظة الفرق بين الحكمة والعلة، فالحكمة لا يمكن أن يعلل بها لعدم انضباطها بخلاف العلة.
وبهذا ندرك أن في تشريع العدة حكمًا متعددة منها: التأكد من براءة الرحم، والحرص والحفاظ على الأنساب والأعراض، وإمكانية المراجعة في حال الطلاق، كما أن هذا الانتظار فيه تقدير واحترام لتلك العشرة السابقة معه، وحتى لو كان حيًا، مما قد يكون له الأثر النفسي على المرأة نفسها حتى تستطيع أن تتقبل حياة جديدة مع إنسان جديد، ومن أجل أن يحصل النسيان حتى يمكن التآلف مع هذا الشخص الجديد الذي ربما يكون يختلف عن الأول في جوانب عديدة؛ ولهذا فإن المعرفة بثبوت أو بنفي الحمل مبكرًا بالوسائل الحديثة لا تكفي للنصوص الصريحة؛ ولتلك الحكم الظاهرة (1).
(1) أحكام النوازل في الإنجاب، د. محمَّد بن هائل بن غيلان المدحجي، (ص: 1118).