الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة 43
الأمر المجرد عن قرينة هل يقتضى الوجوب أم لا؟
في المسألة مذاهب.
أحدها أنه يقتضى الوجوب ما لم تقم قرينة تصرفه إلى غيره نص عليه الإمام أحمد رضى الله عنه في مواضع وهو الحق وبه قال عامة المالكية وجمهور الفقهاء.
وقال إمام الحرمين في البرهان والآمدي في الأحكام وغيرهما إنه مذهب الشافعى وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع إن الأشعري نص عليه.
لكن هل يدل على الوجوب بوضع اللغة أم بالشرع؟
فيه مذهبان مذكوران في الشرح المذكور على اللمع.
والأول: وهو كونه بالوضع نقله في البرهان عن الشافعى ثم اختار هو أنه بالشرع وفي المستوعب للقيرواني1 قول ثالث أنه يدل بالعقل.
والمذهب الثانى: أنه حقيقة في الندب وحكاه الغزالى في المستصفى2 والآمدي في كتابه قولا للشافعى وقاله بعض الشافعية وحكاه أبو البركات عن المعتزلة وحكاه بعضهم عن بعض المعتزلة.
1 هو الفقيه الحافظ المؤرخ الشاعر: أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن رشيق القيرواني [ت 380هـ] وله "المستوعب لزيادات المبسوط مما ليس في المدونة".
2 "المستصفى من علم الأصول" مطبوع "1937".
والمذهب الثالث: أنه حقيقة في الإباحة لأنه المحقق والأصل عدم الطلب.
والمذهب الرابع: أنه مشترك بين الوجوب والندب وجزم به الإمام في المنتخب وكذلك صاحب التحصيل1 كلاهما في باب الاشتراك.
والمذهب الخامس: أنه مشترك بين هذين وبين الإرشاد ونقله الآمدي في الإحكام عن الشيعة وصححه ونقل عنهم في منتهى السول المذهب الذي قبله.
والمذهب السادس: أنه حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب وفي المستوعب للقيروانى والمستصفى للغزالى أن الشافعى نص على أن الأمر متردد بين الوجوب والندب وهذا محتمل لهذا المذهب والمذهب الرابع.
والمذهب السابع: أنه حقيقة إما في الوجوب وإما في الندب ولكن لم يتعين لنا ذلك ونقله صاحب الحاصل ثم البيضاوى حكاية عن الغزالى.
وليس كذلك فإن الغزالى نقل في المستصفى عن قوم أنه حقيقة في الوجوب فقط وعن قوم أنه حقيقةفي الندب فقط وعن قوم بين أنه مشترك بينهما قال: كلفظ العين ثم نقل عن قوم: التوقف بين هذه المذاهب الثلاثة قال وهو المختار ونقله في المحصول عنه على الصواب.
وقال الغزالى في المنخول2 وظاهر الأمر للوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه هذا لفظه وهو مخالف لكلامه في المستصفى.
والمذهب الثامن: أنه مشترك بين الوجوب والندب والإباحة.
والمذهب التاسع: أنه مشترك بين الثلاثة المذكورة ولكن بالاشتراك
1 هو الفقيه المنطقي المتكلم: القاضي سراج الدين محمود بن ابي بكر بن حامد بن أحمد الأرموي الشافعي [594 – 672هـ]"والتحصيل" مختصر له "للمحصول" لفخر الدين الرازي.
2 "المنخول من تعليقات الأصول" مطبوع دمشق "1980".
المعنوى وهو الإذن حكاه ابن الحاجب مع الذي قبله.
والمذهب العاشر: أنه مشترك بين خمسة وهى الثلاثة التى ذكرناها والإرشاد والتهديد حكاه الغزالى في المستصفى.
والمذهب الحادى عشر: أنه مشترك بين الأحكام الخمسة الوجوب والندب والإباحة والتحريم والكراهة حكاه أصحاب البرهان والمحصول والإحكام ونسب إلى الأشعرى.
فإن قيل: كيف يستعمل لفظ "الأمر" في التحريم أو الكراهة؟
والمذهب الثانى عشر: أنه موضوع لواحد من هذه الخمسة ولا نعلمه نقله في البرهان أيضا ونسب إلى الأشعرى.
قيل لأنه يستعمل في التهديد والمهدد عليه إما حرام أو مكروه.
والمذهب الثالث عشر: أنه مشترك بين ستة أشياء وهى الوجوب والندب والتهديد والتعجيز والإباحة والتكوين وحكاه ابن برهان في الوجيز عن الأشعرى.
ونسب إلى الأشعرى مذاهب أخرى غير ما تقدم ولكن أتفق جمهور الأشعرية على أن مذهبه التوقف بين أمور ويعبر عنه أيضا بأن الأمر ليست له صيغة تخصه قال في البرهان والمتكلمون من أصحابنا يجمعون على اتباعه في الوقف ولم يساعد الشافعى على الوجوب إلا الاستثناء والله أعلم.
والمذهب الرابع عشر: أن أمر الله للوجوب وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للندب حكاه القيروانى في المستوعب عن الأبهرى1 في أحد أقواله.
والمذهب الخامس عشر: أن أمر الشارع للوجوب دون غيره اختاره أبو المعالى وابن منجا وبنى عليه من أخر دفع مال أمر بدفعه بلا عذر قال لا يضمن بناء على اختصاص الوجوب بأمر الشرع.
1 هو المحدث والفقيه الأصولي المالكي: أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمي الأبهري البغدادي [290 – 375هـ] إمام المالكية في وقته من مصنفاته: "شرح مختصر ابن الحكم" و"الرد على المزني في ثلاثين مسألة" كتاب في أصول الفقه.
قلت: والمذهب يضمن بناء على القاعدة والله أعلم.
إذا تقرر هذا فيتعلق بالقاعدة على الصحيح من المذهب مسائل كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها ولكن العالم ذو الدربة والنظر يستخرجها ويبنيها على القاعدة.
وفي المذهب فروع كثيرة ادعى الأصحاب أنها خرجت عن الوجوب بقرائن صرفتها عنه وفي كون تلك القرائن صارفة للأمر عن الوجوب نظر ظاهر والله أعلم.
وههنا فوائد أصولية تتعلق بالأمر.
منها: أن الكتابة أو الإشارة هل تسمى أمرا أم لا؟
ذكر أبو البركات في المسودة عن القاضى أنها لا تسمى أمرا حقيقة وذكر القاضى في الجامع الكبير في الكلام على وقوع الطلاق بالكتابة أن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب بدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بدعوة جميع الناس إلى الإسلام ثم كتب إلى كسرى وقيصر فقام ذلك مقام دعوتهما إلى الإسلام وهذا يقتضى أن يكون أمرا حقيقة والله أعلم.
ومنها: هل يحسن الاستفهام عن الأمر المجرد هل هو واجب أم لا؟
ذكر القاضى أبو يعلى في ذلك منعا وتسليما.
ومنها: فعل النبى صلى الله عليه وسلم هل يسمى أمرا حقيقة أم لا؟
قال أبو البركات لا يسمى أمرا حقيقة بل مجازا في قول إمامنا وأصحابه والجمهور.
وقال بعض المالكية وبعض متأخرى الشافعية يسمى أمرا حقيقة وأقره عبد الحليم1 وذهب أبو الحسين البصرى والقاضى أبو يعلى في الكفاية إلى أن لفظة الأمر مشتركة بين القول والبيان والطريقة وما أشبه ذلك قال وهذا هو الصحيح لمن أنصف.
1 هو: تقي الدين بن تيمية.
قلت: وهذا يقتضى أن يسمى أمرا حقيقة وهذا ينبغى إذا ثبت التأسى بفعله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: إذا قلنا إطلاق الأمر يقتضى الوجوب إلا أن تصرفه قرينة فإطلاق التوعد لفعل ما توعد عليه أو إطلاق الوجوب أو الفرض هل يكون ذذلك نصا في الوجوب لا يقبل التأويل أم لا.
قال القاضى لا يكون نصا في الوجوب بل يقبل التأويل ذكره في الثلاثة.
والذي رأيت ابن عقيل ذكره أنه لا يكون نصا في الوجوب هو إطلاق القواعد خاصة ولم أر له كلاما في إطلاق الوجوب أو إطلاق الفرض.
واختار أبو البركات إطلاق القواعد وإطلاق الفرض أو الوجوب نص في الوجوب لا يقبل التأويل وهو أظهر إذ يمتنع وجود خاصة الشىء بدون ثبوته والله أعلم.
ومنها: ما قاله في المسودة إذا صرف الأمر عن الوجوب جاز أن يحتج به على الندب أو الإباحة وهو قول بعض الحنفية وبعض الشافعية ومنهم الرازى.
وبعضهم قال لا يحتج به كذا حكاه القاضى أبو يعلى وكذلك اختاره ابن برهان ولفظة الأمر إذا دلت على وجوب فعل ثم نسخ وجوبه لا تبقى دليلا على الجواز بل يرجع إلى ما كان عليه خلافا للحنفية وكذلك اختاره أبو الطيب الطبرى ولفظه إذا صرف الأمر عن الوجوب لم يجز أن يحتج به على الجواز قال لأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز وإنما الجواز تبع للوجوب إذ لا يجوز أن يكون واجبا ولا يجوز فعله فإذا سقط الوجوب سقط التابع له وهذا الذي ذكره أبو محمد التميمى من أصحابنا.
وذكر أبو الخطاب أن هذه المسألة من فوائد الأمر هل هو حقيقة في الندب فيجىء فيها الوجهان لنا وكذلك ذكر في مسألة الأمر بعد الحظر.
ومنها: إذا كان المأمور به بعضه واجبا وبعضه مستحبا كقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك" 1 ونحو ذلك وهو كثير في الكتابة والسنة.
قال بعض الأصوليين إن حمل الأمر على الوجوب خرجت منه المستحبات وإن حمل على الندب خرجت منه الواجبات مع أنه يحكم وإن حمل عليهما لزم حمل اللفظ على حقيقته ومجازه أو على حقيقته.
قال ابن عبد السلام في قواعده والحمل على الوجوب مع التزام التخصيص أولى لأن الغالب على صيغة الأمر الإيجاب والغالب على العموم التخصيص فحمله على الغالب أولى.
وقال أبو العباس في المسودة والصواب أن يقال الأمر عام في كل ما يتناوله لقيام المقتضى للعموم قال ثم لك مسلكان.
أحدهما أن تقول هو دال على القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب وما امتاز به بعضها من الإذن في الترك والمنع مستفاد من دليل منفصل.
والمسلك الثانى وهو أظهر أن نقول هذا الأمر أريد به الواجب في الواجبات والمستحب في المستحبات والله أعلم.
ومنها: لفظ الأمر إذا قلنا بالقول الأول المنصوص عن أحمد فأريد بالأمر الندب فهو حقيقة فيه على ظاهر كلام أحمد واختاره أكثر أصحابنا القاضى وغيره وهو نص الشافعى حكاه أبو الطيب وقال هو الصحيح من مذهبه.
وقال الكرخى والرازى من الحنفية هو مجاز واختاره عبد الرحمن الحلوانى من أصحابنا وعن الشافعية كالمذهبين.
وإن أريد به الإباحة فعند أبى البركات أنه مجاز وحكاه عن الحنفية وقال المقدسي واختاره ابن عقيل وقال هو قول أكثر الأصوليين وقال القاضى يكون خقيقة.
قال أبو العباس والتحقيق في مسألة أمر الندب مع قولنا الأمر المطلق
1 رواه البخاري موقوفا على حسان بن أبي سنان ومرفوعا كتاب البيوع رقم: "2054" والترمذي كتاب صفة القيامة رقم: "2518".
يقبل الإيجاب أن يقال الأمر المطلق لا يكون إلا إيجابا وأما المندوب إليه فهو مأمور به أمرا مقيدا لا مطلقا فيدخل في مطلق الأمر لا في الأمر المطلق يبقى أن يقال فهل يكون حقيقة أو مجازا فهذا بحث اصطلاحى.
وأجاب عنه أبو محمد البغدادي1 بأنه مشكل كالوجود والبياض.
وأجاب القاضى بأن الندب بعض الوجوب فهو كدلالة العام على بعضه وهو عنده ليس بمجاز إنما المجاز دلالته على غيره وهذا منه يقتضى أن الأمر إذا أريد به الإباحة أن يكون مجازا وهو خلاف ما تقدم عنه والله أعلم.
1 لعله جمال الدين أبو محمد عبد الرحمن بن سليمان بن سعيد بن سليمان الحراني المعروف بـ "البغدادي"[585 – 670هـ] أحد بلاميذ موفق الدين بن قدامة وكان فقيها في المذهب الحنبلي وإماما بحلقة الحنابلة بجامع دمشق انظر الذيل على طبقات الحنابلة "2/282" وشذرات الذهب "7/578".