الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة 46
الأمر إذا ورد مقيدا بالمدة أو التكرار حمل عليه.
ولم أر فيه خلافا وإن ورد مقيدا بشرط فسيأتى.
وإن كان مطلقا لم يقيد بشيء فما يقتضى.
في ذلك مذاهب.
أحدها: وهو الذي ذكره ابن عقيل مذهب أحمد وأصحابه وحكاه القاضى في كتاب الروايتين والوجهين عن شيخنا عبد الله بن حامد أنه يقتضى التكرار وهذا أشهر قولى القاضى وقول أكثر أتباعه وحكاه في المسودة عن أكثر أصحابنا وهو رأى الأستاذ أبى إسحاق الاسفرائينى لكن بحسب الطاقة والإمكان كما ذكره.
قال أبو البركات والآمدي وبالغ القاضى في ذلك حتى منع حسن الاستفهام عن التكرار ثم سلمه.
قلت: وفي منعه نظر إذ قد ثبت في السنة الصحيحة والآية قد يستفهم عما في الظاهر دخوله كأفراد العام.
والمذهب الثانى: لا يقتضى التكرار ولا يدل على المرة ولا على التكرار بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بتكرار أو مرة إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به واختاره أبو محمد المقدسي.
وذكر أبو محمد التميمى أن مذهب أحمد أن الأمر لا يقتضى التكرار إلا
بقرينة ولم بفرق بين مطلق ومعلق بشرط لكن قد يكون التعليق عنده قرينة واختاره الإمام فخر الدين والآمدي وابن الحاجب والبيضاوى وغيرهم.
والمذهب الثالث: أنه يدل على المرة واختاره أبو الخطاب ثم أكثر كلامه يحتمل التكرار وهو قول أكثر أصحاب الشافعى كما حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع ونقل القيروانى في المستوعب عن الشيخ أبى حامد1 أنه مقتضى قول الشافعى.
والمذهب الرابع: التوقف وعلى هذا قولان.
أحدهما التوقف لكونه مشتركا بين المرة والتكرار.
والثانى أنه لأحدهما ولا نعرفه.
وقال أبو البركات في المسودة إن إمام الحرمين فسر التوقف فيما زاد على المرة الواحدة وقال لست أنفيه ولا أثبته قال أبو البركات وحقيقة ذلك عندى ترجع إلى قول من قال لا يقتضى التكرار.
قلت: ذكر بعضهم أن على قول التوقف يمتنع إعماله وليس بصحيح على ما ذكره أبو البركات وعلى قول من قال إنه لأحدهما ولا نعرفه فلا يمنع إعماله أيضا لأنه يفيد طلب الماهية لكن هل هى ماهية متكررة أو ماهية واحدة والله أعلم.
وإن ورد معلقا على شرط فإن قلنا المطلق يقتضى التكرار فالمعلق على شرط عنده تكرار شرطه يقتضى التكرار بطريق الأولى.
وإن قلنا المطلق لا يقتضى التكرار ولا يدفعه فهل يقتضيه هنا أم لا؟
في ذلك مذهبان.
أحدهما لا يقتضيه واختاره ابن أبى موسى وابن الحاجب تبعا للآمدى.
والمذهب الثانى يقتضى التكرر بتكرار شرطه وحكاه في المسودة عن
1 أي أبو حامد الغزالي.
بعض الحنفية وبعض الشافعية واختاره هو وحفيده1.
وعلى هذا المذهب مذهبان.
أحدهما أن إفادة التكرار من جهة اللفظ أى إن هذا اللفظ وضع للتكرار.
والثانى أن إفادة التكرار من جهة القياس لا اللفظ قال في المحصول هذا هو المختار وجزم به البيضاوى.
وإن علق على علة ثانية وجب تكراره بتكرارها اتفاقا قاله ابن الحاجب تبعا للآمدى وكلام أصحابنا يقتضيه.
وإذا تكرر لفظ الأمر وقلنا الأمر المطلق لا يقتضى التكرار فهل يقتضى التأكيد أم التأسيس؟
فيه مذهبان:
أحدهما وهو الذي اختاره أبو الخطاب وأبو محمد المقدسي وأبو بكر الصيرفي والبصرى أنه لا يقتضيه قال ابن عقيل وهو قول الأشعرية فيما حكاه بعض الفقهاء عنهم.
والثانى أنه يقتضى التأسيس وقاله القاضى في كتاب الروايتين مع اختياره فيه أن الواحد لا يقتضى التكرار واختاره في المحصول والآمدي في الأحكام قال أبو البركات وهو الأشبه بمذهبنا ونقله القيروانى عن عامة أصحاب الشافعى.
وفي المسألة قول ثالث بالوقف.
ومحل الخلاف إذا كان الثانى غير معطوف على الأول فأما إن كان الثانى معطوفا على الأول بغير تعريف كقوله صل ركعتين وصل ركعتين فإنه يفيد التكرار وإن كان المعطوف عليه معرفا مثل صل ركعتين وصل الصلاة فإنه يحمل على الصلاة الأولى قاله القاضى وغيره.
وقال أبو الحسين في المعطوف المعرف الأشبه الوقف لأن العطف
1 أي عبد الحليم بن تيمية.
يعارضه لام العهد حكاه عنه الإمام فخر الدين وخالفه وقال الأشبه حمله على التغاير لأن لام الجنس كما تستعمل للعهد تستعمل لبيان حقيقة الجنس كقول السيد لعبده اشتر لنا الخبز واللحم فما تعينت معارضتهما للعطف.
قلت: والمثال الذي ذكره الرازى في قول السيد لعبده ليس مطابقا لمحل النزاع لأن قول السيد لعبده اشتر لنا الخبز واللحم فالألف في اللحم ليس لمعهود حتى نصرفها إليه فتعينت للجنس وأما صل ركعتين وصل الصلاة فثم معهود يصرفها فتعين.
ولم ينازع الرازى أحد في صحة استعمال الألف واللام للجنس بل نقول إذا احتمل كون ال للعهد وكونها لغيره كالجنس أو العموم فإنا نحملها على العهد لأن تقدمه قرينة مرشدة إليه كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً*فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15،16] هكذا ذكره جماعة من الأصوليين.
وقال ابن مالك في التسهيل فإن كان أحدهما عاما والآخر خاصا نحو صم كل يوم صم يوم الجمعة.
وقال في المحصول فإن كان الثانى غير معطوف عليه كان تأكيدا وإن كان معطوفا فقال بعضهم لا يكون داخلا تحت الكلام الأول وإلا لم يصح العطف قال والأشبه الوقف للتعارض بين ظاهر العموم وظاهر العطف.
قلت: لا نسلم التعارض بين ظاهر العموم وظاهر العطف لأن ذكر الخاص مع العام هل يكون إفراده بالذكر يقتضى عدم دخوله في العام أو أنه دخل وأفرد بالذكر اعتناء به وتفخيما.
في المسألة مذهبان كما سيأتى في العموم إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا بالأول فعدم التعارض واضح وإن قلنا بالثانى فلا يمتنع أن ينص على بعض أفراده اعتناء به وتفخيما ومنعا لإخراجه من الحكم والله أعلم.
وحكى القرافي عن القاضى عبد الوهاب في مسألة العطف أن الصحيح بقاء
العام على عمومه وحمل الخاص على الاعتناء به قال وسواء تقدم أو تأخر والله أعلم.
قلت: فعلى قول القاضى عبد الوهاب يرجح الدليل الذي فيه لفظان عام وخاص معطوف عليه عند معارضة دليل واحد لأن الفروع يرجح فيها بكثرة الأدلة وعلى قول الرازى ينبغى أن لا يرجح بذلك.
قال في المسودة وهل الأمر يقتضى وجوب تكرار اعتقادية الوجوب وعدم الإمساك قال القاضى ملزما لمخالفيه إنه يجب.
وحكى عن الجوزجانى1 الحنفي أنه لا يجب وإنما يجب البقاء على حكم الأعتقاد من غير فسخ له كالنية في العبادات وكاعتقاد ما يجب اعتقاده قال أبو البركات وهذا أصح.
قلت: محل هذا حيث قلنا بأن الأمر يقتضى التكرار وإلا فلا وإذا قلنا الأمر المعلق على شرط يقتضى التكرار فقد يقال إن الزوج إذا قال لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق وقلنا يقتضى لفظه أن يتكرر الطلاق بتكرر دخولها كما لو قال كذا.
فإن قلت: مسألة الطلاق من باب تعليق الإنشاء على الشرط وكلامنا في إطلاق الأمر على الشرط.
قلت: إذا ثبت في الأمر ثبت في الإنشاء بالقياس ولكن كلام الآمدي في الأحكام يقتضى أن الإنشاء لا يتكرر اتفاقا وصرح به في الخبر كقولنا إن جاء زيد جاء عمرو فحينئذ يمثل قوله بقوله لوكيله طلق زوجتى إن دخلت الدار وقلنا لوكيل المطلق لا يملك الثلاث وإن قلنا يقتضى التكرار قياسا فينبغى أن يخرج ذلك على الخلاف بين أصحابنا فيما إذا قال السيد لعبده أعتقت سالما لسواده وفي ذلك وجهان.
1 هو الفقيه أبو سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني الحنفي صاحب القاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني [ت 201هـ] من مؤلفاته "السير الصغير" و"الصلاة" و"نوادر الفتاوى".
أحدهما يعتق كل أسود من عبيده قاله أبو الفتح الحلوانى وأبو الخطاب وحكى ذلك عن أبى بكر الصيرفي1 من الشافعية فإذا عدينا العتق إلى غير المعتق بالعلة فكذلك يتكرر الوقوع على المطلقة بالنص على العلة كما لو قال أنت طالق لدخولك الدار.
والثانى وهو صحيح لا يتعدى العتق إلى غير المعتق فلا يتكرر الطلاق لأن قوله أعتقت سالما لسواده ليس إنشاء للعتق على كل أسود بل هو إنشاء للعتق على سالم وحده ونص على أن علة إعتاقه هى السواد فالسواد علة لإنشاء عتقه عليه ليس علة لوقوع العتق المعتقد إنشاؤه على كل أسود فمن أين يعتق غيره من السود من غير إنشاء لصيغة العتق إذا لم ينشىء عتق غيره من السود فغايته أنه تناقض ولا يلزم من فعل العبد شيئا لعلة أن يحكم عليه بفعله كلما وجدت فيه تلك العلة.
وإما الشارع فإنه حكيم لا يجوز عليه التناقض فإذا شرع حكما وعلله بعلة علمنا أنه شرع ذلك في الحكم كلما وجدت فيه تلك العلة والله أعلم.
ومما يتعلق بالأمر المعلق بشرط إذا سمع مؤذنا بعد آخر فهل تستحب إجابة الجميع لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" 2 ظاهر كلام الأصحاب يستحب وبناؤه على ذلك متجه لكن محل هذا إذا كان الثانى مشروعا قاله أبو العباس.
وإذا قلنا الأمر المكرر يحمل على التأسيس أو التأكيد فيشبه من الفروع
1 هو أبو بكر الصيرفي محمد بن عبد الله البغدادي [ت 330هـ] الشافعي من مصنفاته: "البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام" في أصول الفقه و"شرح الرسالة" للشافعي.
2 رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" كتاب الأذان رقم: "611" وفي مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" كتاب الصلاة رقم: "384".
في المعنى إذا قال الرجل لزوجته المدخول بها أنت طالق أنت طالق فإن أراد التأسيس أو التأكيد أو الإفهام حمل عليه وإن أطلق فالمعروف في المذهب عند الأصحاب حمله على التأسيس.
ولكن نقل أبو داود إذا قال الرجل لزوجته اعتدى اعتدى فأراد الطلاق هى واحدة.
وظاهر هذا النص أنه لا يتكرر بالطلاق إذا طلق الزوج ولم ينو التكرار.
يؤيده ما قاله غير واحد من الأصحاب أنه لو قال المقر له على درهم له على درهم ولم يوجد ما يقتضى التعدد لا يلزمه سوى درهم واحد.
ولكن الفرق بين الإقرار والطلاق أن الإقرار خبر عما في الذمة فيجوز أن يكون الثانى خبرا عما أخبر به في الأول والأصل براءة الذمة وليس كذلك الطلاق لأنه إيقاع طلاق فإذا أوقع الأولى لا تكون الثانية إبقاعا للأولى مرة أخرى فوقعت كما وقعت الأولى ألا ترى أنه لو قال له على درهم وسكت ساعة ثم قال له على درهم لم يلزمه غير الأول ولو قال أنت طالق وسكت ساعة ثم قال أنت طالق كان الثانى إيقاعا بلا خلاف قاله القاضى في الجامع الكبير.
وإن كان اللفظ الثانى لا يصلح للتأسيس كقوله أنت طالق طالق لم يتكرر الطلاق به إلا أن ينوى به التكرار فيلزمه ويقدر ما يتم به الكلام قاله أبو محمد المقدسي في الكافي وعبارة الترغيب لو قال أنت طالق طالق طالق قبل أيضا قصد التأكيد.
قلت: وظاهره إن أطلق ولم يقصد التأكيد أنه يتكرر والله أعلم.
وإن كان الثانى صالحا للتأسيس كقوله أنت طالق وطالق وطالق فإنه يتكرر الطلاق مع الإطلاق قاله غير واحد من الأصحاب.
فإن أراد بالثانية تأكيد الأولى لم يقبل منه قاله القاضى وأبو محمد وغيرهما للمغايرة بينهما بحرف وقالوا: إن أراد بالثالثة تأكيد الثانية قبل منه لمطابقتها لها في لفظها وإذا عطف بالفاء أو بثم كالواو قاله غير واحد من
الأصحاب وأنه غاير بين الحروف فقال أنت طالق وطالق ثم طالق أو طالق ثم طالق وطالق أو طالق فطالق فكذلك لم يقبل منه في شئ منها إرادة التأكيد لأن كل كلمة مغايرة لما قبلها مخالفة لها قاله القاضى وأبو محمد وغيرهما.
وإذا قال في نظير ذلك في الإقرار له على درهم درهم لزمه درهم جزم به في التلخيص وغيره ولو قال له على درهم ودرهم ودرهم وأراد بالثالث أم لا؟
في المسألة وجهان.
أحدهما: قاله القاضى في الجامع الكبير أنه لا يقبل.
وفرق بينه وبين الطلاق بأن الطلاق يدخله التأكيد بدليل أنه يصح أن على التأكيد وليس كذلك الإقرار لأنه لا يدخله التأكيد ألا ترى أنه لو قال له على درهم درهما لم يصح.
والثانى: قاله في التلخيص أنه يقبل واتفقا على أنه لا يقبل تأكيد الأول بالثاني.
ومع الإطلاق فعلى قول القاضي لزوم الثلاثة له واضح.
وحكى صاحب التلخيص على قوله وجهين أحدهما لزوم الثلاث كالطلاق والثاني يلزمه درهمان لأنه اليقين والثالث: محتمل والأصل براءة الذمة وفرق بينه وبين الطلاق لأن حظر الطلاق أعظم والله أعلم.
وإن كان اللفظ الثاني مثل الأول في المعنى مخالفا له في اللفظ كقوله أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة قبل منه إرادة التأكيد بالثانية والثالثة جزم به أبو محمد المقدسي في المغنى والكافي ولو قال أنت مطلقة ومسرحة ومفارقة وقال أردت التأكيد أبدى في المغنى احتمالين:
أحدهما: القبول وعلله بأن اللفظ المختلف يعطف بعضه على بعض تأكيدا كقوله:
فألفت قولها كذبا ومينا1.
والثاني: عدم القبول وعلله بأن الواو تقتضي المغايرة فأشبه ما لو كان بلفظ واحد.
قلت: وينبغي إذا قبلنا منه إرادة التأكيد مع العطف في هذه الصورة أن يكون محل هذا في إرادة تأكيد الثانية بالثالثة لا في إرادة تأكيد الأولى بالثانية كما قلنا في قوله أنت طالق وطالق وطالق والله أعلم.
فائدة:
جزم النحويون ومنهم أبو حيان في كتبه بأن فائدة التأكيد كل ونحوها هو واقع احتمال التخصيص.
إذا تقرر هذا فيتفرع على ذلك ما قاله الأصحاب.
إذا قال: كل عبد لي أو ملكي حر فإنه يعتق عليه جميع عبيده قال صاحب الترغيب نوى العموم أو لم ينو نوى بعضهم دون بعض أو لا نص عليه قال لأن النية لا أثر لها في الصريح على الصحيح والله أعلم.
1 تمام البيت:
فقددت الأديم لراهشيه
…
فألقى قولها كذبا ومينا
البيت لعدي بن زيد لسان العرب ج "6" ص "4311" طبعة دار المعارف.