الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيضاً إمكان المصالحة بينهما قبل ايقاع الفرقة بينهما، ولذلك جاء بتشريع محكم لا يتطرق اليه الخلل لو نفذ بنصه وروحه، وتقيد الناس بأحكامه وتعاليمه.
مبادئ عامة في الطلاق
سلك الاسلام في معالجة الخلاف العائلي بين الزوجين الطرق التالية:
1 -
دعا الزوجين الى أن يشعر بمسؤوليته نحو الآخر ونحو أولادهما أمام الله سبحانه وتعالى، فهو المطلع على حسن سلوكهما أو انحرافه، وقد جعل كلاً منهما راعياً ومسؤولاً، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" إلى أن يقول: والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته".
2 -
فإذا بدأ الخلاف بينهما أوصاهما بأن يتحمل كلّ أخلاق الآخر ويصبر على ما يكرهه منه، فالحياة لم تسو بين الناس في عقولهم وأخلاقهم وطباعهم، ولا بد من اغضاء الانسان عما لا يرضيه، وكثيراً ما يكون الخير فيما يكرهه الانسان ويتأذى به. وفي ذلك يقول الله تعالى:{وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} [النساء: 19].
3 -
فإذا لم يعد أحدهما يحتمل الآخر. ويصبر على الخلاف معه، واشتد الخلاف بينهما بحيث يخشى من الشقاق والافتراق، أوجب الاسلام أن يُحكّم أهلهما في هذا الخلاف، فيختار الزوج واحداً يمثله، وتختار الزوجة واحداً يمثلها ويجتمعان كمحكمة عائلية ينظران في أسباب الخلاف وعوامله، ويحاولان إصلاح الأمور بينهما بما يستطيعان، ولا ريب في أن كلاً من الزوج والزوجة إذا كان راغباً في انهاء الخلاف وعودة الوئام بينهما الى سابق عهده فان الحكمين سينجحان في مهمتهما، وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم بقوله:{وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء: 25].
4 -
فإذا لم ينفع التحكيم وأصر كل من الطرفين على موقفه، أجاز
الاسلام أن يقع الطلاق بين الزوجين لمرة واحدة تعتد فيها الزوجة في بيت الزوجة مدة تقارب ثلاثة أشهر - ويعرف تفصيل ذلك من محله في كتب الفقه (1) - وفي خلال العدة تعيش الزوجة في بيت الزوجية، إلا أن زوجها لا يعاشرها معاشرة الأزواج، والحكمة من جعل العدة بهذا الشكل هو ترك الفرصة الكافية لاعادة الصفاء بين الزوجين، بعد أن تهدأ أعصاب كل منهما، ويريان نتيجة الانفصال وآثاره السيئة على حياتهما وحياة أولادهما، فلعلهما يعودان عن الخصام والنزاع، ويعود الهدوء والحب الى جو الأسرة.
هذا ومع أن الاسلام أجاز ايقاع الطلاق في هذه الحالة كأمر لا مفر منه فإنه يراه مكروها، وينفر منه أشد التنفير. وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"أبغض الحلال الى الله الطلاق".
ثم إن الطلقة التي أوقعها تعتبر طلقة رجعية ما دامت المرأة في العدة، بمعنى أن الزوج يستطيع أن يرجع اليه من غير مهر ولا عقد ولا شهود بل يكفي أن يتعاشرا معاشرة الأزواج لينتهي أثر هذه الطلقة، وتعود الحياة الزوجية الى سابق عهدها، وفي مذهب الشافعي لا بد من المراجعة بالقول كأن يقول لها:"راجعتك" فتحل له رأساً.
5 -
اذا انتهت العدة ولم يراجع الزوج زوجته أصبحت الطلقة بائنة بمعنى أن الزوج لا يستطيع أن يعود اليها الا بمهر وعقد جديدين، وان المرأة لو رفضت العودة اليه وفضلت أن تقترن بزوج آخر، لا يملك الزوج الأول إجبارها على العودة، ولا منعها من الزواج بالثاني.
6 -
اذا عادا الى الحياة الزوجية - سواء خلال العدة أو بعدها - ثم تكرر الخلاف نعيد ذات الخطوات السابقة، من ايصائهما بحسن معاملة احدهما الآخر، وتحمل احدهما لما يكرهه من الثاني، فاذا اشتد الخلاف ثانية لجأنا الى التحكيم العائلي، فاذا لم ينجح في الاصلاح بينهما كان للزوج أن يطلقها طلقة ثانية، ولها ذات الأحكام التي تأخذها الطلقة الأولى.
7 -
فإذا عاد الزوج الى زوجته بعد الطلقة الثانية وعاد الخلاف بينهما، عدنا الى اتخاذ الخطوات السابقة قبل ايقاع الطلاق، فاذا لم ينفع كل ذلك في
(1) انظر كتابنا الجزء الأول شرح قانون الأحوال الشخصية.
الاصلاح بينهما جاز للزوج أن يطلق زوجته الطلقة الثالثة والأخيرة، وتصبح بائنة منه بينونة كبرى بمعنى، أنه لا يستطيع أن يرجعها اليه بعد هذه الطلقة الا بعد اجراء شديد الوقع على نفس الزوج والزوجة معاً وهو أن تكون الزوجة قد تزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها من الأول، ثم وقع الخلاف بينهما وبين الثاني فطلقها، عندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود اليها بعد عدتها من طلاق الزوج الثاني ويجب أن يكون ذلك كله طبيعياً من غير احتيال ولا تواطؤ.
والحكمة من هذا الاجراء أن الزوج لا يقدم على ايقاع الطلقة الثالثة بعد كل ما سبق من محاولات التحكيم، وبعد طلقتين سابقتين اعتدت المرأة بعدهما، إلا بعد استفحال الخصومة بينه وبين زوجته، بحيث أصبح يعتقد أن استمرار حياتهما الزوجية على هذا الشكل: طلاق وافتراق ثم عودة والتقاء مرتين متتاليتين، أصبح جحيماً لا يطاق، وأنه قرر التخلص نهائياً من هذه الرابطة الزوجية، فأفهمه الشارع أن حين يوقع الطلقة الثالثة قد بانت عليه بينونة كبرى لا سبيل الى رجوعها اليه إلا بعد أن تجري الحياة الزوجية مع زوج آخر، ولو أبحنا له أن يعود الى الزواج منها بعد طلاقها للمرة الثالثة، ثم يعود فيطلقها حين يختلفان، ثم يعود فيرجعها حين يتفقان، لكان ذلك عبثاً في الحياة الزوجية، واستمرار لتعاسة الأسرة وشقائها الى ما لا نهاية، إذن فلا بد من حد يقف عنده الطلاق، وقد قدره الشارع بثلاث تخفيفاً لعذاب الزوج والزوجة والاولاد على السواء.
وحكمة أخرى، وهي أن زواج المرأة من زوج آخر، ثم عودتها الى زوجها الأول، أمر شديد الوقع على نفس كل من الزوج والزوجة وهو مما تنفر منه النفوس الكريمة، فكان تعليق إباحة عودتهما الى الحياة الزوجية بعد الطلقة الثالثة على الزواج بزوج آخر ثم طلاقها منه، منعاً في الحقيقة لايقاع الطلقة الثالثة بحيث لا يقدم عليها الزوج وهو يعلم ما وراءها من حكم قاس تشمئز منه نفسه، إلا وقد يئس نهائياً من استمرار حياته معها.
تلك هي أهم مبادئ الطلاق وخطواته في الاسلام، وهي كما ترى حريصة كل الحرص على أن لا تنقطع الحياة الزوجية لأول خلاف يقع بينهما، بل قد جعل الاسلام لها فرصاً "للهدنة" بينهما يستطيعان فيها إصلاح ما في نفسيهما إن أرادا الاصلاح والعيش معاً في حياة هانئة مستقرة.