المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌27 - باب المستثنى - المساعد على تسهيل الفوائد - جـ ١

[ابن عقيل]

فهرس الكتاب

- ‌1 - باب شرح الكلمة والكلام وما يتعلق به

- ‌2 - باب إعراب الصحيح الآخر

- ‌3 - باب إعراب المعتل الآخر

- ‌4 - باب إعراب المثنى والمجموع على حده

- ‌5 - باب كيفية التثنية وجمعي التصحيح

- ‌6 - باب المعرفة والنكرة

- ‌7 - باب المضمر

- ‌8 - باب الاسم العلم

- ‌9 - باب الموصول

- ‌10 - باب اسم الإشارة

- ‌11 - باب المعرف بالأداة

- ‌12 - باب المبتدأ

- ‌13 - باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر

- ‌14 - بابُ أفعال المقاربة

- ‌15 - باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر

- ‌16 - باب لا العاملة عمل إنَّ

- ‌17 - باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر

- ‌18 - باب الفاعل

- ‌19 - باب النائب عن الفاعل

- ‌20 - باب اشتغال العامل عن الاسم السابق بضميره أو بملابسه

- ‌21 - باب تعدي الفعل ولزومه

- ‌22 - باب تنازع العاملين فصاعداً معمولاً واحداً

- ‌23 - باب الواقع مفعولاً مطلقاً من مصدر وما يجري مجراه

- ‌24 - باب المفعول له

- ‌25 - باب المفعول المسمى ظرفاً ومفعولاً فيه

- ‌26 - باب المفعول معه

- ‌27 - باب المستثنى

الفصل: ‌27 - باب المستثنى

‌27 - باب المستثنى

لم يقل الاستثناء كما قال سيبويه ومَنْ بعده، لأن الكلام في المنصوبات، ولذا قال: الواقع مفعولاً مطلقاً، والمفعول له، والمفعول المسمى ظرفاً، والمفعول معه.

(وهو المُخْرَجُ تحقيقاً أو تقديراً من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها بشرط الفائدة) - فشمل المخرج المستثنى والمخرج بالصفة والشرط وغيرهما من المخصصات.

ومثال المخرج تحقيقاً: قام إخوتك إلا زيداً؛

والمخرج تقديراً هو المستثنى في الاستثناء المنقطع نحو: "ما لهم به من علم إلا اتباع الظن". فالظن مستحضر بذكر العلم لقيامه مقامه في كثير من المواضع، فهو في تقدير الداخل فيه.

والمخرج من مذكور نحو: قام القومُ إلا زيداً.

ومن متروك نحو: ماضربتُ إلا زيداً، التقدير: ما ضربت أحداً

ومذهب سيبويه وجمهور البصريين أن الأداة تخرج الاسم الثاني من الاسم الأول، وحكمه من حكمه.

وذهب الكسائي إلى أنه مخرج م الاسم وهو مسكوت عنه لم يحكم عليه بشيء؛ فإذا قلت: قام القومُ إلا زيداً، فيحتمل أن زيداً قام وأنه لم يقم.

ص: 548

وذهب الفراء إلى أنه لم تخرج الاسم من الاسم، وإنما أخرجت الوصف من الوصف، لأن القوم في المثال موجبٌ لهم القيام، وزيد منفي عنه القيام، ورام بهذا أن يكون الاستثناء كله متصلاً. قاله الصفارُ، ونقل عنه لم يكن في الكلام فعل، فالإخراج من الاسم كما قال الكسائي، وفيما قاله بحث وهذه المذاهب إنما يه في الاستثناء المتصل.

والباء في "بإلا" متعلقة بالمُخْرَج. واحترز من إلا بمعنى غير الصفة نحو: "لو كان فهيما آلهةٌ إل الله لفسدتا". وبمعنى الواو نحو: "إلا الذين ظلموا منهم" أي ولا الذين

قاله الأخفش؛ وبمعنى إن لم نحو: "إلا تفعلوه":

والزائدة كالأولى في قوله:

(560)

أرى الدهر إلا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذبا

ص: 549

أي يتقلب بهم، فتارة يخفضهم وتارة يرفعهم؛ كذا قال ابن جني.

والتي بمعنى إلا هي الأدوات التي سيذكرها. ونبه بشرط الفائدة على أن النكرة لا يستثنى منها في الموجب ما لم تُفِدْ؛ فلا يقال: جاء قومٌ إلا رجلاً. فإن وجدت فائدة جاز نحو: "ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً".

(فإن كان) - أي المُخْرَجُ.

(بعض المستثنى منه حقيقةً فمتصلٌ) - نحو: قام القومُ إلا زيداً.

(وإلا فمنقطعٌ) - أي وإلا يكن المُخْرَج بعض المستثنى منه حقيقة فمنقطعٌ، سواء كان من جنس الأول نحو: قام بنُوك إلا بان زيد، أم لم يكن نحو: قام القومُ إلا حماراً.

وما ذكره المصنف مذهب الشلوبين، وهو أولى مما ذكر الفارسي من أن المنقطع هو ما لا يكون المستثنى فيه من جنس المستثنى منه، لما سبق في المثال الأول، ولأن قولك: رأيتُ زيداً إلا وجهه، متصل بالاتفاق.

ومقتضى قول الفارسي أن يكون منقطعاً، واعترض على ما قال الشلوبين، بقوله تعالى:"لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى". فالموتة الأولى بعض الموت، والاستثناء مع ذلك منقطع، ويحتمل كونُه متصلاً بجعل الذوق بمعنى العلم من قولهم: أمر مستذاق أي مجرب معلوم: والمعنى أنهم لا يتعلق علمهم فيها بشيء من مسمى الموت لعدمه فيها، لأنها دار لبقاء، إلا الذي سبق علمهم به في الدنيا، والمقصود بذلك أنهم لا

ص: 550

يحصل لهم شعور بهادم اللذات إلا شعور بتقضيه وانفصاله، فتفيد الآية نفيه عن أهل الجنة على أبلغ وجه، والسرور بتخطي المنغص وعدم عوده. وفي التعبير بالذوق إشارة إلى أنهم لا يتخيلون من هذا المنغص شيئاً البتة، إذ قول القائل: فلان لم يذق طعام زيد، أبلغ في النفي من قوله: لم يأكله.

ونبه المصنف بقوله: "حقيقةً" على ما سبق من أن المستثنى في الاستثناء المنقطع مُخْرَجٌ تقديراً، فهو على هذا بعض لا على سبيل الحقيقة.

(مقدرُ الوقوع) - أي الاسم المخرج في الاستثناء المنقطع.

(بعد "لكن" عند البصريين) - فإذا قلت: ما في الدار أحدٌ إلا حماراً، فالمعنى: لكن فيها حماراً، وذلك لأنه في حكم جملة منفصلة عن الأولى مستدركة، وليس مستثنى مما قبله حقيقةً، ولهذا لا يصح أن يقال: استثنيت الحمار منهم، وإنما انتصب لأنه اسم واقع بعد إلا مخالف حكهم لما قبله كالمتصل فأعطي إعرابه.

(وبعد "سوى" عند الكوفيين) - وحكاه ابن العلج عن الفراء: والتقدير في المثال: سوى حمار. وكأنهم لما رأوا تخالف إلا ولكن في وقوع المفرد بعد إلا، وأنه لا يقع بعد لكن إلا كلام تام، إلا أن تكون عاطفةً، ولا يمكن حمل إلا هنا عليها لمخالفتها لها في أن ما بعدها معربٌ بغير إعراب ما قبلها نحو: ما فيها أحدٌ إلا حماراً، بالنصب، وجاءني القومُ إلا حماراً، ومررتُ بهم إلا كلباً: عدلوا إلى التقدير بسوى، لموافقة إلا لها في وقوع المفرد بعدها، ولأنها من ألفاظ الباب كما سيأتي،

ص: 551

وتفيد بدلالتها على المغايرة ما تفيده لكن من المخالفة، لأن معناها معنى غير؛ صرح بذلك سيبويه.

وعن ابن العلج عن الكوفيين أنهم ذهبوا إلى أن سوى قد تكون اسماً بمنزلة غير، وحينئذ تكون موافقة لها معنى واستعمالاً.

ويرجح ما قاله البصريون أن مقصود الاستثناء المنقطع بمقتضى وضعه المخالفة في الحكم، إذ الاسم الأول لا يتناول مسمى الثاني حقيقةً، وليس المقصود الإخراج منه، وإذا كان كذلك فتفسير إلا في الاستثناء المنقطع بلكن هو الموافق لمعناها حينئذ، بخلاف تفسيرها بسوى، لأنها وإن كانت بمعنى غير لا تستلزم المخالفة في الحكم، إذ المغايرة من حيث هي مغايرة لا تستلزمه، وفيه بحث. والذي يظهر أنه لا يُحتاج إلى تفسير إلا في المنقطع بلكن ولا بسوى بعد تقرير أن المستثنى هو المُخْرَجُ تحقيقاً أو تقديراً بإلا وأخواتها، لأن إلا حينئذ تفيد الإخراج المقصود بدون هذا التقدير، فلا حاجة إليه.

(وله) - أي الاسم المخرج.

(بعد إلا من الإعراب) - احترز من وقوعه بعد غير إلا، فإنه لا يعطى ما ذكر، بل يُجرُّ أو يُنْصَب.

(إن تُرك المستثنى منه) - وهو ما أخرج منه المستثنى كالمقدر في نحو: ما جاءني إلا زيد، أي أحد.

واحترز من ألا يترك نحو: ما جاءني أحد إلا زيدٌ.

فإنه لا يتعين حينئذ فيه ما نذكره كما سيأتي.

ص: 552

(وفُرِّغَ له العامل) - أي لم يستعمل بالعمل في غير ما بعد إلا، وذلك كالمثال السابق ونحو: ما ضربتُ إلا زيداً، وما مررت إلا بزويدٍ.

واحترز من أن يترك المستثنى منه ولا يفرغ العامل لما بعد إلا، بل يعمل في غيره، فلا يكون الحكم كما يذكر، وذلك نحو: ما قام زيدٌ إلا عمراً، أي ولا غيره، فالمستثنى منه محذوف وهو غيره، والعامل قد شغل بزيدٍ، فلا يُرفع والحالة هذه عمرو بل يُنْصب. وكذلك إذا قلت: ما قام إلا بكر إلا خالداً. لم يفرغ ما قبل إلا لخالد، لاشتغاله ببكر، وإن كان قد تُرك المستثنى منه، فعمرو في المثال الألو، وخالد في المثال الثاني غير داخلين في الضابط المذكور، وبكر داخل فيه.

(ما له مع عدمها) - ولذلك تقول: ما جاءني إلا زيدٌ، بالرفع، وما ضربتُ إلا زيداً، بالنصب، وما مررتُ إلا بزيد. فتأتي بالجار والمجرور.

ويدخل تحت قوله: طالعامل" الابتداء، ولذلك تقول: ما في الدار إلا زيدٌ. برفع زيد.

والحاصل أن الاسم في الاستثناء المفرغ يكون على حسب ما يقتضيه العامل الذي قبل إلا من رفع وغيره.

(ولا يُفعل ذلك) - أي يفرغ العامل لما بعد إلا.

(دون نهي أو نفي صريح) - نحو: "ولا تقولوا على الله إلا الحق"، "وما محمد إلا رسولٌ".

ص: 553

(أو مُؤوَّل) - فالشرط الذي يكون فيه معنى النهي في هذا كالنهي نحو: "ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة"، أي لا تُولوا الأدبار إلا متحرفين لقتال، أو متحيزين إلى فئة. والاستفهام الذي فيه معنى النفي كالنفي نحو:"فهل يُهلك إلا القومُ الفاسقون"؟ وكذا قولك: زيدٌ غيرُ آكل إلا الخبز.

ودل قوله: "ولا يُفعل إلى آخره، أن الاستثناء المفرغ لا يقع في كلام موجب فلا تقول: قام إلا زيدٌ. ولا: ضربتُ إلا زيداً. ولا: مررتُ إلا بزيدٍ. لأنه كذب. كذا قيل.

(وقد يُحذفُ على رأي عاملُ المتروك) - كقوله:

(561)

تنوط التميم وتأبى الغبو

ق من سنة النوم إلا نهاراً

خرجه الفارسي على أنه يريد: لا تغتذي الدهر إلا نهاراً.

فحذف لا تغتذي، وهو عامل في المستثنى منه متروك وهو الدهر.

قال المصنف: وأولى من هذا التقدير أن يكون أراد:

وتأبى الغبوق والصبوح، فحذف المعطوف وأبقى المعطوف عليه، وهو كثير.

ومعنى تنوط تُعلق. ناط الشيء ينوطه نوطاً علقه. والتميم ما يعلق على الإنسان من عوذة. وفي الحديث: "من علق تميمةً فلا أتم الله له".

ص: 554

ويقال: التميمة خرزة، والغبوق الشرب بالعشي، يقال منه: غقبت الرجل أغبقُه بالضم فاغتبق.

والشاعر يصف امرأة بالتنعُّم وكثرة الراحة، فهي تأبى أن تغتبق أي تغتذي بالعشي لئلا يعوقها عن الاضطجاع للراحة.

(وإن لم يترك المستثنى منه فللمستثنى بإلا النصب مطلقاً) - أي في الموجب نحو: قام القومُ إلا زيداً، وفي غيره نحو: ما قام أحد إلا زيداً؛ لكن في الموجب لا يشارك النصبُ عند إرادة الاستثناء، وفي غير الموجب يشاركه الإتباع كما سيأتي.

(بها) - أي بإلا نفسها، فهي الناصبة عنده للمستثنى، وذلك لأنها مختصة بالاسم وليست كالجزء منه، فعملت كسائر الحروف التي هي كذلك، ما لم تتوسط بين عامل مفرغ ومعمول فتلغى وجوباً إن كان التفريغُ محققاً نحو: ما قام إلا زيدٌ.

وجوازاً إن كان مقدراً نحو: ما قام أحد إلا زيدٌ.

والفعل في قولهم: أنشدك الله إلا فعلت، ونحوه في موضع الاسم ومعنى هذا: ما أسألك إلا فعلك.

وانفصل الضمير بعدها نحو: "ضل من تدعون إلا إياه"، وما في الأرض أخبث منه إلا إياه، لشبهها بما النافية في الإعمال مرة والإهمال مرة. ومعمول ما إذا كان مضمراً كان منفصلاً، فألحقت إلا بها في ذلك، ولم تعمل الجر لموافقتها الفعل معنىً كما.

ص: 555

(لا بما قبلها معدى بها) - ونسب إلى سيبويه وجماعة من البصريين، ومنهم السيرافي، والفارسي في التذكرة. فالناصب لما بعد إلا عندهم ما قبلها من فعل او غيره بتعدية إلا. وكأنه على هذا مشبه بالمفعول به.

ورُدَّ بقولهم: قبضت عشرة إلا ثلاثةً إلا أربعةً. فإنه يلزم من قولهم اتصال عامل واحد بحرف واحد إلى معمول بمعنى وإلى آخر بضده، إذ الثلاثة خارجة والأربعة داخلة.

(ولا به مستقلاً) -أي من غير أن تكون إلا معديةً له. وهذا مذهب ابن خروف، وزعم أن ذلك كنصب غير نحو: قام القومُ غير زيدٍ، بلا واسطة.

ويُردُّ بما يُردُّ به القول الأول، إذ يلزم منه في المثال المذكور ونحوه اتصال عامل واحد إلى معمولين بمعنيين متضادين. وأما نصب غير فعلي الحال، وفيها معنى الاستثناء.

(ولا بأستثني مضمراً) - كما حكاه السيرافي عن المبرد والزجاج. ويرد بأنه لاي جمع بين فعل وحرف يدل على معناه بإظهار ولا بإضمار. ولو جاز هذا النصب لأولي ليت بأتمنى.

(ولا بأن مقدرة بعدها) - كما عزاه السيرافي وابن بابشاذ إلى الكسائي؛ والتقدير عنده: إلا أن زيداً لم يقم. فأضمر أنَّ وحذف خبرها. ورُدَّ بأن العرب لا تضمر أنَّ وأخواتها وتبقى عملها، لضعفها عن العمل.

ص: 556

(ولا بإنْ مخففةً مركباً منها ومن لا إلا) - كما عزاه السيرافي إلى الفراء؛ فإذا قلت: قام القوم إلا زيداً. انتصب زيدٌ عنده بإنْ المخففة وخبرها محذوف ولا نافية عنده، والتقدير: إن لا زيداً لم يقم.

وإذا قلت: قام القوم إلا زيدٌ؛ بالرفع غلبتَ حكم لا، فعطفتَ بها زيداً على القوم، والتقدير: قام القومُ لا زيدٌ.

ورُدَّ بقولهم: ما قام القوم إلا زيدٌ. بالرفع. ولا يتأتى فهي ما ذكر من تغليب لا، إذ لا يعطف بها بعد النفي وبأن التركيب دعوى لا دليل عليها.

(خلافاً لزاعمي ذلك) - وقد سبق ذكرهم.

(وفاقاً لسيبويه والمبرد) - والمازني والزجاج والجرجاني أيضاً. وقد تقدم توجيه هذا المذهب. وكون مذهب المبرد أن إلا هي العاملة نص عليه في المقتضب، وإن كان السيرافي حكى عنه أن النصب باستثنى مضمراً كما سبق ذكره.

(فإن كان المستثنى بإلا) - يحترز مما يستثنى بغيرها، وسيأتي حكهم.

(متصلاً) - بحترز من المنقطع، فالنصب فيه راجح، أو واجب كما سيأتي.

(مؤخراً عن المستثنى منه) - يحترز من أن يتقدم عليه فإنه ينتصب مطلقاً، فتقول: قام إلا زيداً القومُ، وما قام إلا زيداً القومُ. هذا مذهب

ص: 557

البصريين. وسنعود إلى المسألة عند قوله: "وقد يُجعل المستثنى متبوعاً".

(المشتمل عليه نهي) - نحو: لا يقُمْ أحدٌ إلا زيدٌ. وقال: المشتمل، ولم يقل: الكائن معه أو نحوه، تنبيهاً على أنه إذا انتقض النهي نحو: لا تأكلوا إلا اللحم إلا عمراً، أو النفي نحو: ما شرب أحدٌ إلا الماء إلا زيداً، لم يكن له حكم، ولا يرفع عمرو ولا زيد، لأن هذا بمنزلة ما لا نهي فيه ولا نفي، إذ المعنى: كلوا اللحم إلا عمراً، وشربوا الماء إلا زيداً.

(أو معناه) - أي معنى النهي، كقول عائشة رضي الله عنها "نُهي عن قتل جنان البيوت، إلا الأبترُ وذو الطفيتين"، فهو محمول على تقدير: لا تُقتَلُ جنانُ البيوت إلا الأبترُ

جنان جمع جانّ كحائط وحيطان، وهو هنا حية بيضاء، والأبتر المقطوع الذنب، تقول منه: بَتِرَ بالكسر يبترَ بتْراً، وأما ذو الطفيتين فقال الجوهري: ألطفا بالضم خوص المُقْل، الواحدة طُفْية، وفي الحديث:"اقتلوا من الحيات ذا الطفيتين والأبتر"، كأنه شبه الخطين على ظهره بالطفيتين. وربما قيل لهذه الحية طفية على معنى: ذات طفية، قال الشاعر:

(562)

كما تذل الطفا من رقية الراقي

أي ذوات الطفا، وقد يسمى الشيء باسم ما يجاوره. انتهى. وصدر هذا العجز:

ص: 558

وهم يذلونها من بعد عزتها

(أو نفي صريح) - نحو: ما جاءني أحدٌ إلا زيدٌ.

(أو مؤول) - نحو: "ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ ) أي لا يغفرها أحدٌ إلا الله، فهو استفهام في اللفظ نفي في المعنى: ومن النفي المؤول قراءة بعض السلف: "فشربوا منه إلا قليلٌ" بالرفع، أي لم يتركوه، لأن قبله: "فمن شرب منه فليس مني".

(غير مردودٍ به كلام تضمن الاستثناء) - فإذا قال قائل: لي عندك مائة إلا درهمين، فأردت جحْدَ ما ادعاه قلت: ما لك عندي مائة إلا درهمين، بالنصب، فيكون هذا بمنزلة قولك: ما لك عندي الذي ادعيته؛ ولو رفعت الدرهمينْ لكنت مقراً بالدرهمين جاحداً لثمانية وتسعين، إذ الرفع بمنزلة قولك: ما لك عندي إلا درهمان؛ وهذا الشرط مأخوذ من كلام ابن السراج، ولم يتعرض لهذا سيبويه ولا المغاربة.

(اختير فيه متراخياً النصبُ) - نحو: ما ثبت أحدٌ في الحرب ثباتاً نفع الناس إلا زيداً، فينصب اختياراً لضعف التشاكل لطول الفصل بين المبدل والمبدل منه؛ والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يُخْتَلى خلاها، ولا يُعْضَدُ شوكها"، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر؟ إلا الإذخر.

ص: 559

وعلل هذا قوم بعروض الاستثناء، وعلى هذا يكون لاختيار النصب بعد النفي سببان: التراخي وعروض الاستثناء؛ ولم يتعرض لهذا سيبويه ولا المغاربة.

(وغير متراخٍ الإتباعُ) - نحو: ما قام القومُ إلا زيدٌ، وما ضربت أحداً إلا زيداً، وما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٍ، فيعرب ما بعد إلا بإعراب المستثنى منه.

(إبدالاً عند البصريين) - وهو مذهب سيبويه، لصحة حلوله محله، فتقول في: ما قام القومُ إلا زيدٌ: ما قام إلا زيدٌ، وهو بدل بعض من كل؛ ولم يؤت بالضمير معه إلا قليلاً نحو:"ما فعلوه إلا قليلٌ منهم"، "ولم يكن لهم شهداءُ إلا أنفسهم"، وإن كان بدل البعض لابد فيه من ضمير يعود على المبدل منه، وحذفه إن حذف قليل، وذلك لقوة تشبث المستثنى بالمستثنى منه بالأداة؛ إذ معلوم في المثال أن زيداً من القوم وأنه أوجب له ما نفي عنهم، فاستغنى لذلك عن الضمير في أكثر الكلام؛ وقيل: هو بدل شيء من شيء، لأن البدل مجموع إلا زيد أي غير زيد.

(وعطفاً عند الكوفيين) - فهو تابع عندهم على العطف لا على البدلية، وإلا إذ ذاك حرف عطف، وذلك لأن البدل يوافق المبدل منه في المعنى، وهذا يخالفه، إذ الأول منفي عنه الحكم، والثاني مثبت له

ص: 560

والعطف توجد فيه المخالفة نحو: ما قام زيدٌ بل عمروٌ؛ ورد مذهبهم بأن إلا لو كانت عاطفة لم تباشر العامل في نحو: ما قام إلا زيدٌ.

(ولا يُشترط في جواز نصبه تعريفُ المستثنى منه، خلافاً للفراء) - إذ السماع بخلاف ما ذهب إليه؛ روى سيبويه عن يونس وعيسى جميعاً أن بعض العرب الموثوق بعربيتهم يقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيداً، وما أتاني أحدٌ إلا زيداً، بالنصب بعد النكرة.

(ولا في جواز الإبدال عدمُ الصلاحية للإيجاب، خلافاً لبعض القدماء) - وهذا المذهب حكاه سيبويه ولم يُسم القائل به، واستدل قائله بأن الأصل قبل دخول الثاني النصب فإذا دخل لا يتغير ما كان، وإنما يجوز عندهم الإبدال فيما لا يصلح للإيجاب نحو: ما جاءني أحدٌ إلا زيدٌ؛ والسماع يرد مذهبهم؛ قرأ الجمهور: "ما فعلوه إلا قليلٌ منهم"، وحكى يونس عن أبي عمرو أن الوجه في اللغة: ما قام القومُ إلا عبدُ الله، بالرفع.

(وإتباع المتوسط بني المستثنى منه وصفته أولى من النصب، خلافاً للمازني في العكس) - فإذا قلت: ما جاءني أحد إلا زيدٌ خيرٌ منك، وما مررتُ بالقوم إلا زيد الشعراء؛ كان إتباع زيد أولى من نصبه على الاستثناء.

هذا ظاهر مذهب سيبويه، واختاره المبرد، والمشهور عن المازني تجويز الوجهين، واختيار النصب كما ذكر المصنف، وكذا ابن عصفور في بعض تصانيفه، وذكر عنه في بعضها أنه يوجب النصب، وكذا ذكر ابن الخباز

ص: 561

عنه في النهاية؛ ووجه ترجيح الإتباع أن الصفة فضلة فلا اعتداد بالتقدم عليها، ووجه خلافه أن حك البدل إذا اجتمع مع الصفة أن تكون الصفة مقدمة على البدل، ويعارض هذا بأن البدل مبين كالنعت، فالفصل به بين النعت والمنعوت أسهل من الفصل بالاستثناء بينهما لأن الاستثناء لا يشبه النعت.

(ولا يُتبع المجرورُ بمنْ والباء الزائدتين ولا اسم لا الجنسية إلا باعتبار المحل) - فتقول: ما في الدار من أحدٍ إلا زيدٌ أو إلا امرأةٌ من بني فلان، بالرفع، لأن أحداً في موضع رفع بالابتداء، ولا يجوز الجر حملاً على اللفظ، خلافاً للأخفش، لأنهما موجبان، وزيد معرفة، ومِنْ الزائدة لا تجر عند البصريين- إلا الأخفش - إلا منكراً غير موجب.

ويجوز على رأي الكوفيين، إلا امرأةٍ بالجر، وتقول: ليس زيدٌ بشيء إلا شيئاً لا يعبأ به، أو إلا لاشيء الذي لا يعبأ به، بنصب المبدل من شيء، لأنه في موضع نصب بليس، ولم تجره حملاً على اللفظ، لأن الباء الزائدة لا تعمل في خبر موجب.

وتقول: لا إله إلا الله، ولا رجل في الدار إلا رجل من بني تميم، برفع المبدل من اسم لا، لأنه في موضع رفع بالابتداء، ولم تنصبه حملاً على اللفظ، لأنهما موجبان، والأول معرفة، ولا إنما تعمل في منكر منفي، ويجوز النصب على الاستثناء في هذه الصور وأشباهها.

(وأجاز بنو تميم إتباع المنقطع المتأخر) - فيقولون: ما فيها أحد إلا حمارٌ، بالرفع، وإن كان الأفصح عندهم ما أوجبه الحجازيون فيه النصب، هكذا قيل؛ وذكر المصنف أن بني تميم يقرؤون: "ما لهم به من علم إلا

ص: 562

اتباعُ الظن" بالرفع، إلا مَنْ لُقِّن النصب؛ وهذا مخالف لما قيل من أن الأفصح عندهم النصب.

واحترز بالمتأخر من خلافه نحو: ماف ي الدار إلا حماراً أحدٌ، فلا يجوز فيه على مذهب البصريين إلا النصب كالاستثناء المتصل نحو: جاء إلا زيداً القومُ، وسيأتي الكلام عليه.

(إن صح إغناؤه عن المستثنى منه) - كما يصح في المثال المذكور أن تقول: ما فيها إلا حمارٌ؛ فإن لم يصح إغناؤه، أي لم يجز تفريغ ما قبل إلا للاسم الواقع بعدها تعين النصب، ومنه:

(563)

ألا لا مجير اليوم مما قضت به

صوارمُنا إلا أمراً دان مُذْعنا

وكذا قوله تعالى: "لا عاصم اليوم من أمر الله إلا منْ رحم" فمن في موضع نصب. لأنك لو حذفت المستثنى منه، وهو عاصم، واستغنيت بالمستثنى عنه لم يصح.

(وليس) - أي ما ذكر في المنقطع.

(من تغليب العاقل على غيره فيختص بأحد وشبهه) - مما هو خاص بمن يعقل، فيقع على ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل نحو مَنْ.

(خلافاً للمازني) -قال ابن خروف رداً عليه: لا يتوهم ذلك محصوراً

ص: 563

في لفظ أحد وما يشبهه، لأن ما جاء مما ليس بلفظ أحد أكثر من أن يحصى. انتهى. ومنه:

(564)

عشية لا تغني الرماحُ مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقال:

(565)

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلي وضرب الرقاب

وغير وسوى في المنقطع كإلا، ولا يستثنى بالفعل فيه، فلا يقال: ما في الدار أحدٌ ليس حماراً.

قال الجوهري: المشرفية سيوف، قال أبو عبيدة: نسبت إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، يقال: سيف مشرفي، ولا يقال: مشارفي، ومشارف الأرض أعاليها؛ ويقال: صمم السيف إذا مضى في العظم وقطعه، وإذا أصاب المفصل وقطعه يقال: طبق، قال الشاعر يصف سيفاً:

(566)

يصمم أحياناً وحيناً يطبق

(وإن عاد ضمير قبل المستثنى بإلا الصالح للإتباع على المستثنى منه، العامل فيه ابتداء) - نحو: ما أحدٌ يقول ذلك إلا زيدٌ، وما فيهم أحدٌ يقول ذلك إلا زيدٌ.

ص: 564

(أو أحدُ نواسخه) - نحو: ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيداً، وما ظننت فيهم أحداً يقول ذلك إلا زيداً، وكذا كان وباقي النواسخ.

(أتبع الضمير جوازاً) - لأن النفي متوجه عليه من حيث المعنى، فيجوز في زيد أن يجعل بدلاً من الضمير في "يقول" في الصور كلها، وكذا ما أشبهها.

وشمل كلامه الاستثناء المنقطع أيضاً نحو: ما أحد يقيم بدارهم إلا الوحش، وما حسبت أحداً يقيم بها إلا الوحش؛ وشمل النكرة كما مثل، والمعرفة نحو: ما القوم يقولون ذلك إلا زيداً، وما ظننت القوم يقولون ذلك إلا زيداً، لكن لم يمثل النحويون ذلك إلا بالنكرة، والظاهر عدم الاختصاص بها.

واحترز بقبل المستثنى من أن يكون بعده نحو: ما أحد إلا زيدً يقول ذلك، فإنه لا يأتي فيه ما ذكر، بل ينصب على الاستثناء.

وقوله: بإلا أخرج ما استثنى بغيرها، فإن المستثنى حينئذ إما ان يجر أو ينصب، ولا يأتي فيه ما ذكر، لكن يصح أن يعامل غير معاملة ما بعد إلا، فإذا قلت: ما أحدٌ يقول ذلك - أو ما ظننت أحداً يقول ذلك - غير زيد، جاز في غير ما كان يجوز في زيد، ولم يمثل النحويون هنا إلا بإلا؛ والظاهر أن غيراً لا يمتنع فهيا ما ذكر، وعموم قولهم أن غيراً تعرب بما كان يعرب به الاسم الواقع بعد إلا يعطي ذلك.

ص: 565

وخرج بقوله: الصالح للإتباع ما لا يصلح له لكونه مما لا يتوجه إليه العامل من الاستثناء المنقطع نحو: ما أحد ينفع إلا الضر، وما ظننت مال زيد يزيد إلا النقص؛ فلا يجوز في هذا إلا النصب على الاستثناء. ولا يجوز إبداله من الظاهر ولا من الضمير؛ وكذلك يخرج ما لا يصلح للإتباع لكون الكلام موجباً لفظاً نحو: الناسُ يقولون ذلك إلا زيداً، وحسبتُ الناس يقولون ذلك إلا زيداً، أو معنى نحو: ما زال الناسُ يأتوننا إلا زيداً؛ فلا يجوز فيه الإبدال لعدم شطره، وهو اشتمال الكلام على ما يدل على نهي أو نفي.

واحترز بالعامل فيه ابتداءٌ من أن يكون العامل فيه غيره نحو: ما شكر رجلٌ أكرمته إلا زيدٌ، وما مررت بأحدٍ أعرفه إلا زيد، فإنما يُتبع فيه الظاهرُ لا المضمر، إذ لا تأثير للنفي فيما اتصل به، لأن المعنى: ما شكر ممن أكرمتهم إلا زيدٌ، وما مررت بمن عرفتهم إلا بزيد.

والمسائل التي يجوز فيها البدل من الظاهر والضمير يجوز فيها النصب على الاستثناء أيضاً.

وظاهر كلام سيبويه أن البدل أحسن منه، ونص عليه السيرافي وغيره، قيل: ويظهر من كلام ابن عصفور أنهما مستويان.

(وفي حكمهما) - أي حكم الضمير وصاحبه المذكورين في الإتباع المذكور.

ص: 566

(المضافُ والمضاف إليه في نحو: ما جاء أخو أحدٍ إلا زيدٌ) - فيجوز رفعُ زيد إتباعاً للمضاف، وجرُّه إتباعاً للمضاف إليه، وكذلك ما أشبههما من المتضايفين في النفي نحو: ما فيها غلامُ رجلً إلا زيد.

(وقد يُجعل المستثنى متبوعاً والمستثنى منه تابعاً) - حكى سيبويه عن يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: مالي إلا أبوك أحدٌ، فيجعلون أحداً بدلاً. انتهى.

ولا يمكن جعل أحد بدلاً من الأب وحده، إذ يلزم منه استعمال أحد في الإيجاب، وإنما هو بدل من الاسم مع إلا مجموعين، وهو بدل شيء من شيء؛ فقولك: ما قام إلا زيدٌ أحدٌ، في قوة: ما قام غير زيدٍ أحدٌ. قال ابن الضائع: والمشهور في اللغة عند تقدم المستثنى على المستثنى منه النصب؛ ولهذا قال المصنف: وقد ورد رفعه. قال ابن عصفور فيه مرة إنه من القلة بحيث لا يقاس عليه، ومرة إنه لُغَيَّة ضعيفة، وأجازه الكوفيون، كما نقل ابن عصفور، والبغداديون كما نقل ابن إصبع.

(ولا يقدم دون شذوذ المستثنى على المستثنى منه والمنسوب إليه معاً) - فلا يجوز عند الجمهور تقديمه أول الكلام، فلا تقول: إلا زيداً قام القوم، لأنه كالمعطوف بلا.

وقوله:

(567)

خلا الله لا أرجو سواك وإنما

أعد عيالي شعبة من عيالكا

شاذ: ويظهر من كلام المصنف منع: ما إلا زيداً في الدار أحدٌ، ونص عليه

ص: 567

ابن الضائع، وظاهر كلام الأبدي جوازه، وكذا يظهر من كلام المصنف منع: القومُ إلا زيداً قاموا، إذ هو مستثنى من الضمير، لكنه مثل للجواز نحو: القوم إلا زيداً ذاهبون، مع أنه مستثنى من الضمير المستكن في "ذاهبون"، اللهم إلا أن يجعل المستثنى منه الظاهر، فينبغي جوازهما، ويكون هذا مثالاً لتقدم المستثنى على المنسوب إليه، وتأخره عن المستثنى منه.

وفي توسيط المستثنى بين جزءي كلام متقدم على المستثنى منه والعامل فيه ثلاثة مذاهب: ثالثها، وهو مذهب الأخفش، الجواز إن تصرف العامل نحو: القومُ إلا زيداً جاءوا، والمنع إن لم يتصرف، نحو: القومُ إلا زيداً في الدار؛ واختاره شيخنا، لأن السماع ورد مع التصرف، قال:

(568)

ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ

وصحح بعضهم الجواز مطلقاً.

(بل على أحدهما) - فتقول: قام إلا زيداً القوم، وهو اتفاق،

ص: 568

واحتُمل هذا، وإن كان الاستثناء كالعطف بلا كما سبق، لتقدم ما يشعر بالمستثنى منه، فكأنه تقدم.

وشمل قوله: أحدهما المستثنى منه كهذا المثال، والمنسوب إليه، وقد سبق الكلام فيه، وإنما حسُن تقديمه على المستثنى منه في المرفوع، ولا يحسن في المنصوب نحو: ضربتُ إلا زيداً قومك نص عليه الرماني، لأن تقدم ما يطلب العمدة كتقدم العمدة، بخلاف طالب الفضلة.

(وما شذ من ذلك) - أي من تقدم المستثنى على المستثنى منه والمنسوب إليه معاً كالبيت المتقدم، وكقول العجاج:

(569)

وبلدةٍ ليس بها طوري

ولا خلا الجن بها إنسيُّ

يقال: ما بها طوري أي أحد.

(فلا يقاس عليه، خلافاً للكسائي) - والزجاج، ونقله ابن الخباز في النهاية عن الكوفيين، وابنُ العلج في البسيط عن طائفة منهم؛ وإنما لم يُقس عليه لشذوذه، مع أن القياس المنع، لأن إلا مشبهة للا العاطفة وواو مع ولا يتقدمان، فكذلك ما أشبههما.

فصل: (لا يُستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان) - فلو قلت: قام القومُ إلا زيداً وعمراً، جاز، ولو قلت: أعطيت الناس إلا عمراً الدنانير،

ص: 569

قال ابن السراج: لم يجز، لأن حرف الاستثناء إنما يستثنى به واحد، بل تقول: أعطيت الناس الدنانير إلا عمراً.

(وموهم ذلك بدل ومعمول عامل مضمر) - فإذا قلت: ما أعطيت أحداً درهماً إلا عمراً دانقاً. وأردت الاستثناء لم يجز، وإن جعلت عمراً بدلا من أحد، وأضمرت للثاني ناصباً أي: أعطيته دانقاً، جاز، كما يقدر خافض للثاني في قوله:

(570)

أكل امريء تحسبين امرأ

ونار توقدُ بالليل ناراً؟

(لا بدلان) -فلا يبدل في المثال المذكور عمراً من أحد، ودانقاً من درهم، ويكون التقدير كما قال ابن السراج: ما أعطيت إلا عمراً دانقاً، لأن البدل على نية تكرار العامل، وإلا دخلت لقصد إيجابه بالنسبة إلى المذكور بعدها.

وإنما امتنع أن يكونا بدلين، لأن البدل من المنفي في الاستثناء إذا قصد إيجابه لزم اقترانه بإلا، فأشبهت إلا العاطف المقتضي للإيجاب بعد النفي كبَلْ، ولا يقع بعد عاطف معطوفان، فلا يقال: جاء زيدٌ وخالدٌ بكرٌ، كذلك لا يقع بعد إلا بدلان، فلا ينتصب دانق بدلا، بل ينتصب بعامل مضمر كما تقدم.

وأما ضرب زيدٌ عمراً وبكرٌ خالدً، فيجوز أن يقال فيه ما قيل في

ص: 570

دانق، من النصب بمضمر، أي: ضرب خالداً، ولا يكون قد عُطف بعاطف واحد معطوفان، بل يكون المعطوف بالواو بكر وحده، وخالد من جملة أخرى هي جواب سؤال مقدر كما في دانق.

(خلافاً لقوم) - في جَعْل عمرو ودانق بدلين، كما ذهب إليه ابن السراج، وقد ذكرنا وجه منعه. ولقوم في جعلهما مستثنيين بناء على جواز أن يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان؛ وبالمنع قال الأخفش والفارسي، فلا يجوز عندهما ما أجازه القائلون بذلك من نحو: ما أخذ أحدٌ إلا زيدٌ درهماً، وما ضرب القومُ إلا بعضهم بعضاً، وتصحيحهما عند الأخفش بتقديم المرفوع على إلا نحو: ما أخذ أحدٌ إلا درهماً، وما ضرب القومُ بعضهم إلا بعضاً؛ وعند الفارسي منصوب قبل إلا نحو: ما أخذ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً، وما ضرب القومُ أحداً إلا بعضهم بعضاً.

ثم يحتمل قوله أن يكونا حينئذ بدلين، كما قال ابن السراج، وأن يكون أحدهما بدلاً والآخر معمول عامل، كما قال المصنف.

(ولا يمتنع استثناء النصف خلافاً لبعض البصريين) - ويتعين عند هذا البعض منهم أن يكون المستثنى أقل من النصف، ولا يكون مساوياً ولا أكثر؛ وبجواز استثناء المساوي قال بعض البصريين وبعض الكوفيين، واستدل له بقوله تعالى:"قم الليل إلا قليلا، نصفه"، فنصفه بدل من قليل، بدل شيء من شيء، والتقدير: قم الليل إل نصفه، والضمير لليل لا للقليل، لأنه غير معلوم القدر، فلا يعلم نصفه.

(ولا استثناء الكثر، وفاقاً للكوفيين) - وبه قال أبو عبيد والسيرافي،

ص: 571

واختاره ابن خروف والشلوبين، ومنعه البصريون. واستدل للجواز بقوله تعالى:"إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين" والغاوون أكثر من الراشدين، ولا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقاً ولا زائداً، فلا يقال: لي عشرةٌ إلا عشرةً، ولا إلا أحد عشر.

ونقل المغاربة اتفاق النحاة على منع ذلك، ويجوز كون المستثنى أقل من النصف باتفاق من البصريين والكوفيين، وهو ظاهر.

(والسابقُ بالاستثناء منه أولى من المتأخر عند توسط المستثنى) - كقوله تعالى: "قم الليل إلا قليلاً، نصفه" فقليلاً مستثنى من الليل لا من النصف، لأن تأخر المستثنى عن المستثنى منه هوا لأصل، فلا يعدل عنه إلا بدليل.

(فإن تأخر عنهما فالثاني أولى مطلقاً) - أي سواء كان فاعلاً أم مفعولاً، نحو: غلب مائة مؤمن مائة كافر إلا اثنين.

(وإن تقدم فالأولى أولى، إن لم يكن أحدهما مرفوعاً لفظاً أو معنى) - نحو: استبدلتُ إلا زيداً من أصحابنا بأصحابكم، فزيداً مستثنى من أصحابنا.

(وإن يكنه) - أي إن يكن أحدهما مرفوعاً لفظاً أو معنى.

(فهو أولى) - ومثال المرفوع لفظاً: ضرب إلا زيداً قومُك أصحابنا.

ص: 572

قال الرماني: إن استثنيت من قومك جاز، ومن أصحابنا لم يجز؛ والفرق أن الفاعل أصل في الجملة، وكذا قال الأخفش، لا يجوز في مثله إلا أن يكون مستثنى من الفاعل، ومثال المرفوع معنى: ملكتُ إلا الأصاغر أبناءنا عبيدنا، فالأصاغر مستثنى من الأبناء، لأنهم هم الفاعل من حيث المعنى، لأنهم المالكون.

(مطلقاً) - أي سواء تقدم بعد إلا الفاعل لفظاً أو معنى على المفعول، كما مثل، أم تأخر، كما لو قدمت الأصحاب على القوم، والعبيد على الأبناء.

(إن لم يمنع مانع) - فإنه إن كان كذلك لم يلحظ تقديم ولا تأخير ولا غيرهما، بل ينظر إلى ما يقتضيه المعنى، فيعلق المستثنى باللائق به نحو: طلق نساءهم الزيدون إلا الحسينات، فالحسينات مستثنى من النساء لا من الزيدين؛ وأصبى الزيدين نساؤهم إلا ذوي النهي، فذوي مستثنى من الزيدين لا من النساء، وضرب إلا زيداً بنونا بناتنا، واستبدلت إلا زيداً من إمائنا بعبيدنا، وهو واضح.

(وإذا أمكن أن يشترك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يُقتصر عليه إن كان العامل واحداً) - نحو: اهجر بني فلان وبني فلان إلا مَنْ صلح؛ فمن مستثنى من الجميع إذ لا موجب للاختصاص، فإن لم يمكن الاشتراك اختص بمن يليق به نحو: لا تحدث النساء ولا الرجال إلا زيداً.

(وكذا إن كان) - أي العامل.

(غير واحدٍ، والمعمولُ واحداً في المعنى) - كقوله تعالى: "والذين

ص: 573

يرمون المحصنات .. إلى قوله: إلا الذين تابوا" فيعلق الاستثناء بجميع ما تقدم مما يصلح له، وهو مذهب مالك والشافعي، كما يتعلق بالاتفاق الشرط بجميع ما تقدم كذلك نحو: لا تصحب زيداً ولا تزره ولا تكلمه إن ظلمني، للإجماع على سد كل منهما مسد الآخر، نحو: اقتل الكافر إن لم يسلم، واقتله إلا أن يسلم، هذا كلام المصنف.

والمهاباذي في شرح اللمع، زعم أنه يختص بالجملة الأخيرة كما هو مذهب أبي حنيفة، وأن تعليقه بالجميع خطأ، لأنه زعم أنه لا يجوز أن يكون معمولاً لعاملين مختلفين، ويستحيل ذلك. انتهى.

وهذا يقتضي أن عامل المستثنى ما عمل في المستثنى منه، وما قاله المصنف هو على تقدير كون العامل في المستثنى إلا كما اختاره، ويجوز أن يكون على تقدير أن العامل فيه تمام الكلام الذي قبله، كما زعم ابن الضائع أنه ظاهر كلام سيبويه، لأن العطف يصير الأشياء كالشيء الواحد.

(فصل): (تُكرر إلا بعد المستثنى بها توكيداً) - أي على سبيل الجواز.

(فيبدل ما يليها مما تليه، إن كان مغنياً عنه) - نحو: قام القومُ إلا محمداً إلا أبا بكر، إذا كان كنية لمحمد، وكذلك النفي، وهو مغن عنه

ص: 574

والحالة هذه، لو قلت: قام القومُ إلا أبا بكر لصح.

(وإلا) - أي وإلا يكن مغنياً عنه.

(عطف بالواو) - نحو: قام القومُ إلا زيداً وإلا جعفراً؛ وأجاز الصيمري طرح العاطف وقال: إلا قامت مقامه.

(وإن كررت لغير توكيد، ولم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض، شغل العامل ببعضها إن كان مفرغاً ونُصب ما سواه) - فتقولك ما قام إلا زيدٌ إلا عمراً إلا بكراً، برفع زيد في موضعه، أو عمرو أو بكر كذلك، ونصب الآخرين، لكن الذي يلي العامل أولى لشغله به؛ وكلامه يقتضي وجوب نصب ما سوى المشغول به العامل.

وذكر بعض المغاربة أنه إذا تقدم المشغول به أو توسط جاز في ما بعده إتباعه على بدل البداء، ونصبه على الاستثناء، ولا يجوز في ما تقدم عليه إلا النصب على الاستثناء. وحكم التفريغ في النصب نحو: ما ضربت إل زيداً إلا عمراً إلا خالداً، وفي الجر نحو: ما مررت إلا بزيدٍ إلا عمراً إلا خلداً، حكمه في حالة الرفع فيما تقدم.

(وإن لم يكن مفرغاً، فلجميعها النصب إن تقدمتْ) - نحو: قام إلا زيداً إلا عمراً إلا بكراً القومُ، وكذا النفي، ونصبها على الاستثناء، خلافاً لابن السيد في تجوزيه الحال بناء على جواز كونه إذا تأخر صفة، وهو خلاف قول النحويين؛ ويجيء على قوله جواز الحال مع التأخر نحو: قام القومُ إلا زيداً، أي غير زيد، أي مغايرين زيداً.

ص: 575

ويُبطل قوله أن إلا لم تتمكن في الوصف تمكن غير، فلا تكون كغير إلا تابعة للموصوف. ولهذا امتنع: قام إلا زيدا، وإن جاز: قام غير زيد.

(وإن تأخرت فلأحدها ماله مفرداً، وللبواقي النصب) - فإن كان الكلام غير موجب أبدلت واحداً منها اختياراً، ونصبت الباقي، فتقول: ما قام أحد إلا زيدٌ إلا عمراً إلا بكراً، وقال الأبدي، يجوز فيها الرفع بدلاً أو نعتاً، والنصب استثناء، أو رفع أحدها بدلاً أو نعتاً، ونصب الباقي استثناء. انتهى.

وإن كان الكلام موجباً نحو: قام القومُ إلا زيداً إلا عمراً إلا بكراً، فمقتضى كلام المصنف نصب الجميع، وأنه يجوز التبعية على الصفة، حيث يصح أن تكون إلا عنده صلة كما سنذكره.

وقال الأبدي: يجوز رفعها نعتاً، ونصبها استثناء، ورفع أحدها نعتاً، ونصب الباقي استثناء، واتبع في جعل المكرر صفةً ابن السيد ومنع ابن الضائع جواز الصفة في المكرر.

(وحكمها في المعنى حكم المستثنى الأول) - فما بعد الأول من المستثنيات كالأول، في الدخول إن كان الاستثناء من غير موجب، وفي الخروج إن كان من موجب.

(وإن أمكن استثناءُ بعضها من بعض، استثنى كل من متلوه، وجُعل كل وتر خارجاً، وكل شفع داخلاً، وما اجتمع فهو الحاصل) - فإذا قلت: له مائة إلا عشرة إلا ثلثة، إلا اثنين، إلا واحداً، فالأول والثالث خارجان،

ص: 576

وكذا ما أشبههما في الوترية، والثاني والرابع داخلان، وكذا ما أشبههما في الشفعية، فيكون المقر به في المثال اثنين وتسعين، وهذا مذهب أهل البصرة والكسائي، وذهب بعضهم إلى جواز هذا، وجواز عَوْدها كلها إلى الاسم الأول، وصححه بعض المغاربة، لكن قال: الأظهر فيه أن يكون استثناء من الاستثناءات للقرب. انتهى. وعلى ما أجازه يكون المقر به في المثال المذكور أربعة وثمانين: وعين بعضهم هذا الذي أجازه، وهو قول أبي يوسف القاضي.

(وكذا الحكم في نحو: له عشرةٌ إلا ثلاثةً إلا أربعةً) - فيجري على ما تقدم من جعل الوتر خارجاً والشفع داخلاً، فيكون المقر به أحد عشر.

وهذا مذهب الفراء، وهو عنده من الاستثناء المنقطع، والمعنى عنده: سوى الأربعة التي كانت له عندي. والمراد بنحوه، ما كان بعض المستثنيات فيه أكثر مما قبله.

وهذا الذي اختاره المصنف في هذه المسألة مخالف لما سبق منه في الفصل، من أنه إذا لم يمكن استثناء بعضها من بعض، يكون حكمها في المعنى حكم المستثنى الأول، إذ مقتضاه أن الأربعة تكون خارجة كالثلاثة، إذ لا يمكن استثناء الأربعة من الثلاثة، وبهذا قال أكثر النحويين.

فإذا قلت: له عندي عشرة إلا واحداً، إلا ثلاثة، يكونان معاً مستثنيين من الاسم الأول، فيكون المقر به ستة، وإليه أشار بقوله:

(خلافاً لمن يخرج الأول من الثاني) - ووجهه بما سبق، من أنه جارٍ

ص: 577

على القاعدة السابقة، من جعل الأول خارجاً، والثاني داخلاً، وضعفُ ما ذكر ظاهر.

(وإن قثدر المستثنى الأول صفة لم يعتد به، وجُعل الثاني أولاً) - فإذا قلت: قبضت منه مائة إلا عشرين، إلا عشرةً، إلا خمسةً، وقدر كون إلا عشرين صفة لمائة، فكأنه قال: مائة تغاير عشرين، فالعشرون غير خارجة، لأن إلا إذا كانت صفة لا يكون فيها معنى الاستثناء. وكذلك غير؛ هذا هو المفهوم من كلام سيبويه، ونص على ذلك ابن السراج، وعلى هذا، فإلا عشرة في المثال المذكور أول، فتكون العشرة خارجة، وإلا خمسة ثان، فتكون داخلة، فالمقبوض خمسة وسبعون.

(فصل): (تؤول إلا بغير) - فتُحمل في جعلها مع ما بعدها صفة على غير، كما حُملتْ غير عليها في الاستثناء، وأصلُ غير الصفة، وإلا الاستثناء.

(فيوصف بها وبتاليها) - فليست إلا وحدها هي الصفة، لأن الحرف لا يوصف به، وقول من قال: يوصف بها، تجوُّز، والوصف إنما يحصل من إلا وما بعدها، كما في نحو: دخلت إلى رجل في الدار، ومررت برجل لا قائم ولا قاعد. والمفهوم من كلام الأكثرين أن المراد الوصف الصناعي، وقال بعضهم أيضاً: إنما يعنون أنه عطف بيان.

(جمعٌ أو شبهه، منكر، أو معرف بأداة جنسية) - فيوصف بها

ص: 578

وبتاليها ما يمكن وصفه بغير؛ فالجمع المنكر كقوله تعالى: "لو كان فيهما آلهةً إلا الله لفسدتا"، والمعرف بأداة جنسية كقوله:

(571)

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدةٍ

قليل بها الأصوات إلا بُغامُها

أي غير بغامها، قاله سيبويه: وجاز هذا لأن التعريف باللام الجنسية كلا ترعيف، وكما وصف ما هما فيه بغير في قولهم: إني لأمر بالرجل غيرك فيكرمني، وصف بإلا الواقعة موقعها وبما بعدها، وشبه الجمع كقوله:

(572)

لو كان غيري سليمي الدهر غيره

وقعُ الحوادث إلا الصارمُ الذكر

فغيري شبيه بالجمع المنكر، ووصف بقوله: إلا الصارمُ الذكر، والتقدير: لو كان غيري غير الصارم الذكر غيره؛ ويجوز في: ما جاءني أحد إلا زيدٌ. أن يجعل إلا زيد صفة لأحد.

وفهم من كلامه أنه لا يوصف بها وبتاليها مفرد محض فلا يقال: قام رجلٌ إلا زيدٌ، ولا معرفة محضة، فلو قلت: جاء الرجال، تريد جماعة معهودين، لم يجز: إلا زيدٌ بالرفع.

وما شرطه المصنف في ما يوصف بإلا وبتاليها شرطه ابن السراج، وباشتراط التنكير أو التعريف بال الجنسية صرح المبرد في المقتضب.

ص: 579

قال بعض المغاربة: الوصف بإلا يخالف سائر الأوصاف، فإنه يجوز أن يوصف بها الظاهر والمضمر والمعرفة والنكرة.

وقال بعضهم: يجوز أن تجري على المعرفة والنكرة والمفرد والمجموع، كم تجري غير، وجرت على المعرفة لأن غيراً من أخوات مثل، يصح فيها التعريف، وإلا بمعناها.

(ول تكون كذلك دون متبوع موصوف) - فلا يحذف الموصوف وتقام هي وما بعدها مقامه، نص على ذلك سيبويه، فلا يقال: قام إلا زيد. أي قام القوم إلا زيد، وإن جاز: قام غيرُ زيد، أي قام القوم غير زيد، وذلك لأن الوصف بإلا غير متأصل.

(ولا حيث لا يصلح الاستثناء) - وهذا كالمجمع عليه من النحويين، قيل: وفي كلام سيبويه ما يقتضي ظاهره خلاف ذلك، فإنه جعل إلا زيد من قولك: لو كا معنا رجل إلا زيد لغلبنا، صفة، ورجل ليس بعام استغراقي، بل عمومه عموم بدل. فلا يصح الاستثناء منه، وعلى هذا فمعنى قولهم: إنها تقع حيث يتصور الاستثناء ولو كان منقطعاً، وهو يمكن في المثال، ويكون المعنى: لكن معنا زيد فلا نغلب، وكذا يقال في قوله: طإلا الله لفسدتا"، لكن فيهما الله فلم يفسدا. وهذا وما قبله خالفت فيه إلا غيراً، فاشترطا في إلا صفةً دونها كذلك.

(ولا يليها نعتُ ما قبلها) - فلا يفصل بين الصفة والموصوف كما لا يفصل بها بين الصلة والموصول، فلا يقال: ما مررتُ برجلٍ إلا راكبٍ، على الصفة لرجل، وصرح بالمنع الأخفش في المسائل والفارسي في التذكرة.

ص: 580

(وما أوهم ذلك فحالٌ أو صفةُ بدل محذوف) - فإذا قلت: ما لقيت رجلاً إلا راكباً، فراكباً ليس نعتاً للرجل المذكور، بل هو حال منه، أو صفة لبدل منه أي إلا رجلاً راكباً.

قال الأخفش في المسائل: ونحو: ما جاءني رجلٌ إلا راكبٌ، تقديره: إلا رجلٌ راكبٌ، وفيه قبح لجعل الصفة كالاسم.

(خلافاً لبعضهم) - أي في جعله صفة للمذكور، ونقله المصنف وغيره عن الزمخشري، فإنه قال في: ما مررت بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه، إن ما بعد إلا جملة ابتدائية صفة لأحد، وتابع الزمخشري صاحب البديع وابن هشام.

(ويليها) -أي إلا.

(في النفي فعل مضارع بلا شرط) - أي سواء تقدم اسمٌ أم فعلٌ، فتقول: ما زيدٌ إلا يفعل كذا، وما كان زيدٌ إلا يفعل كذا، وما خرج زيدٌ إلا يجر ثوبه؛ وذلك لشبه المضارع بالاسم الذي هو أولى بإلا. لأن المستثنى لا يكون إلا اسماً أو مؤولاً به.

(أو ماضٍ مسبوقٌ بفعل أو مقرونٌ بقد) - كقوله تعالى: "وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون"، وقول الشاعر:

(573)

ما المجد إلا قد تبين أنه

بندى وحلمٍ لا يزال مؤثلا

وإنما ساغ بتقديم الفعل وقوع الماضي بعد إلا، لأن تقدمه مقروناً بالنفي

ص: 581

جعل الكلام بمنزلة: كلما كان كذا كان كذا، فكأن فيه فعلان كما مع كلما، وأغنى اقترانه بقد عن تقدم فعل لأن اقترانه بها يقربه من الحال فيصير مُشْبهاً للمضارع.

وفهم من كلامه أنه لا يجوةز: ما زيدٌ إلا قام، وهو كذلك: وأما إجازته مع قد فحكاه الخِدَبُّ عن المبرد، وقال في البديع: أجازه قوم.

ولا يلي غيراص ما ولي إلا من المضارع والماضي بشرطه، وكذلك لا يليها الجملة الاسمية، فلا تقول: ما رأيت أحداً غير زيد خير منه. برفع زيد، ويجوز: إل زيدٌ خيرٌ منه. ويقال: مجد مؤثل وأثيل أي مؤصل، والتأثيل التأصيل.

(ومعنى: أنشدك الله إلا فعلت: ما أسألك إلا فعلك) - ولولا أنه محمول على هذا لما صح، لأنه كلام موجب، فقياسه ألا تدخل إلا، لأنه مفرغ ولا يتكلم بالفعل بعدها لعدم النفي، لكنه حمل على المعنى، فصورته واجب، والمعنى على النفي المحصور فيه المفعول، وقُدر الفعلُ بالمصدر بلا سابك لضرورة افتقار المعنى إلى ذلك، فهو نظير: قمتُ حين قام زيدٌ. وأمثاله.

ويقال: نشدتك الله، أي سألتك بالله، ونشدتك فلاناً أنشده نشداً، إذا قلت له: نشدتك الله.

(ولا يعمل ما بعد إلا فيما قبله مطلقاً) - أي في جميع الأحوال،

ص: 582

بخلاف عمل ما قبلها فيما بعدها، فإنه يصح في المسائل الثلاث التي سيذكرها، وفي غيرها عند من أجازه، على ما يأتي.

ومثال عمل ما بعد إلا فيما قبلها قولك، ما قومُك زيداً إلا ضاربون، فيجب تأخير زيد، فتقول: ما قومُك إلا ضاربون زيداً. قال الرماني: لأن تقدم الاسم الواقع بعد إلا عليها ممتنع، فكذا معموله.

(ولا ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى) - أي فُرغ له العامل نحو: ما قام إلا زيدٌ؛ هذا إن قلنا إن ناصب المستثنى إلا. وإن قلنا ناصبه ما تقدم، فلا فرق بين المفرغ، كما مثل، غيره نحو: قام القومُ إلا زيداً، إذ عمل في الصورتين ما قبل إلا فيما بعدها.

(أو مستثنى منه) - نحو: ما قام إلا زيداً أحدٌ.

(أو تابعاً له) - نحو: ما مررت بأحدٍ إلا زيداً خيرٍ من عمرو.

(وما ظُنَّ من غير الثلاثة معمولاً لما قبلها قُدر له عامل) - فإذا وجد مثل: ما ضرب إلا زيدٌ عمراً، قدر لعمرو عامل، أي: ضرب عمراً، لأنه ليس واحداً من الثلاثة المذكورة، أعني: المستثنى والمستثنى منه والتابع له، وسبب ذلك أن حق المذكور بعد إلا في الاستثناء المفرغ أن يكون مختوماً به.

(خلافاً للكسائي في منصوب ومخفوض) - نحو: ما ضرب إلا زيد عمراً، وما مر إلا زيدٌ بعمرو.

(وله) - أي للكسائي.

(ولابن الأنباري في مرفوع) - نحو: ما ضرب إلا زيداً عمرو. وفرق

ص: 583

ابن الأنباري بين المرفوع منوي التقديم، فيصير كأن الواقع بعد إلا في الاستثناء المفرغ مختوم به، وقد ذكر المصنف ما ذكره هنا عن الكسائي وابن الأنباري في آخر باب النائب عن الفاعل، وسبق الكلام فيه.

(فصل): (يستثنى بحاشا وعدا وخلا، فيجررن المستثنى أحرفاً، وينصبنه أفعالاً) - وجر الاسم ونصبه بعد الثلاثة ثابتان بالنقل الصحيح عن العرب، وزعم النحويون أن الثلاثة عند جر ما بعدها حروف، لانتفاء الاسمية بعدم مباشرتها العوامل كما تباشرها غير، والفعلية بمباشرة الجر، وأنها عند نصب ما بعدها أفعالن لانتفاء الاسمية لما سبق، والحرفية لكونها لا تلي العوامل، فلا يقال: ما قام خلا زيد، كما يقال: ما قام إلا زيدٌ.

(ويتعين الثاني) - أي النصب.

(لخلا وعدا بعد ما، عند غير الجرمي) - فإذا قلت: قام القوم ما خلا زيداً، أو ما عدا زيداً، تعين عند الجمهور النصب بهما، فيكونان فعلين، وما مصدرية لا زائدة، لأن زيادة ما قبل الفعل لا تنقاس، وهي وصلتها في موضع نصب على الحال، إجراء لها مجرى المصدر عند السيرافي، وعلى الاستثناء، كانتصاب غير في قولك: جاءني القومُ غير زيد، عند ابن خروف، وعلى الظرفية، أي: قام القوم في وقت مجاوزتهم زيداً، ودخله معنى الاستثناء، عند ابن الضائع، وأجاز الجرمي والفارسي والربعي الجر بعد ما خلا وما عدا. فتكون ما زائدة، وهما حرفا جر، وهو قول الكسائي، وحكاه الجرمي عن العرب.

(والتزم سيبويه فعلية عدا وحرفية حاشا) - فلم يعرف سيبويه الجر

ص: 584

بِعَدا، وكذلك خلا، وإنما نقل الجر بهما الأخفش، وكذا لم يحفظ سيبويه النصب بعد حاشا، وأجازه الأخفش والجرمي والمازني والمبرد والزجاج، وحُكي بالنقل الصحيح عن العرب.

(وإن وليها) - أي حاشا.

(مجرور باللام) -نحو: حاشا لله، وليس معناها الاستثناء، وإنما يؤتى بها لقصد التنزيه والبراءة.

(لم تتعين فعليتها، خلافاً للمبرد، بل اسميتها، لجواز تنوينها) - وليست حرفاً اتفاقاً، إذ لا يدخل حرف جر على مثله في الكلام، والصحيح أنها اسم، وهو ينتصب انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل، فمن قال: حاشا لله، فكأنه قال: تنزيهاً لله، ويدل على هذا قراءة:"حاشا لله" بالتنوين، فهو نحو: سقياً لزيد، وقراءة:"حاشا الله" بالإضافة، وهو نحو: سبحان الله وأما القراءة المشهورة: "حاشا لله" بلا تنوين، فوجهها بناء حاشا لشبهها لفظاً ومعنى بالتي هي حرف، فجرت في البناء مجراها، كما أجرى عن في قوله:

(574)

مِنْ عَنْ يميني تارةً وأمامي

مجرى عن في: رويت عنه.

(وكثر فيها حاش، وقلُ حشا وحاشْ) - أي في التي تستعمل

ص: 585

للتنزيه: قال الصفار في شرح سيبويه: يقال: حاشا وحشا وحاش، إلا أن حاش لا تستعمل في الاستثناء.

(وربما قيل: ما حاشا) - ومنه:

(575)

رأيت الناس ما حاشا قريشاً

فإنا نحن أفضلهم فعالا

وسيبويه منع من دخول ما على حاشا؛ قال: لو قلت: أتوني ما حاشا زيداً، لم يكن كلاماً؛ وأجازه بعضهم على قلة.

(وليس أحاشي مضارع حاشا المستثنى بها، خلافاً للمبرد) - في استدلاله على فعلية حاشا في الاشتقاق بتصريف الفعل نحو: حاشيتُ زيداً أحاشيه، لأن حاشيت مشتق من حاشا حرف الاستثناء، كما اشتق سوف من سوف، قاله السيرافي.

(والنصب في: ما النساء وذكرهُن، بعدا مضمرة) - فالتقدير في ما روى من قول العرب، كل شيء مهه ما النساء وذكرهن؛ ما عدا النساء، فحذف الفعل الواقع صلة ما، وبقي معموله، كما حذف الفعل الواقع صلة إن [من قول] من قال: إما أنت منطلقاً انطلقت.

قال الجوهري والأحمر والفراء: يقال في المثل: كل شيء مهه ما النساء وذكرهن. أي أن الرجل يحتمل كل شيء حتى يأتي ذكر حُرَمه فيمتعض حينئذ فلا يحتمله. قال: وقولهم: مهه أي يسير. ويقال أيضاً: مهاهٌ أي

ص: 586

حسن؛ ونصب النساء على الاستثناء، أي: ما خلا النساء؛ وإنما أظهروا التضعيف في مهه فرقاً بين فعَل وفَعْل. وكان ذكر قبل هذا أن المهاه الطراوة والحسن، وبهذا فسر غيره المهه أيضاً، ومنه:

(576)

إن سيمي زانها مههُهَا

والمهاه كالمهه بهاءين وصلاً ووقفاً.

(خلافاً لمن أول ما بإلا) - وليس بشيء، لأن كون ما بمعنى إلا لم يثبت في شيء من كلامهم، بخلاف كونها مصدرية، وزعم السهيلي أن ما في المثل بمعنى ليس، والتقدير: ليس النساء وذكرهن.

وقال بعض المغاربة: زعم الفراء والأحمر أن العرب تستثني بما، وحكيا: كل شيء

المثل. انتهى.

وهذا محتمل لكون ما بمعنى إلا أو بمعنى ليس.

(ويستثنى بليس ولا يكون، فينصبان المستثنى خبراً) - فتقول: قام القومُ ليس زيداً، أو لا يكون زيداً. ولا يستعمل يكون في الاستثناء إلا مع لا النافية. ولو نفيت بغيرها كما وإنْ وغيرهما لم يصح: ويكون مضارع كان الناقصة، والمنصوب بعدها خبرها، وكذا المنصوب بعد ليس.

(واسمهما بعض مضاف إلى ضمير المستثنى منه) - والتقدير: ليس بعضهم زيداً، ولا يكون بعضهم زيداً، فحذف اسمها لأنه مبتدأ في الأصل، والمبتدأ يحذف لدلالة الكلام عليه.

وما زعمه المصنف من الحذف قال به ابن العلج في البسيط، والذي ذهب إليه البصريون والكوفيون أنه مضمر لا محذوف، وجعله البصريون

ص: 587

عائداً على البعض المفهوم مما سبق، والتقدير في: قام القوم ليس زيداً، ليس هو أي بعضهم زيداً، وجعله الكوفيون عائداً على الفعل المفهوم مما سبق، والتقدير في المثال: ليس هو زيداً، أي ليس فعلهم فعل زيد، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يطرد للكوفيين هذا التقدير بدليل: القومُ إخوتُك ليس زيداً، ولا يكون زيداً.

(لازمُ الحذف) - على رأيه ورأي ابن العلج، والإضمار على رأي غيرهما، وذلك لجريان الفعل مجرى إلا، فكما لا يظهر بعد إلا إلا اسم واحد، كذلك ما جرى مجراها، وتقول: قام القوم ليس زيداً أو الزيدين أو الزيدين أو هنداً أو الهندات، وكذا لا يكون فيفرد لأن الاسم للبعض أو ضميره.

(وكذا فاعل الأفعال الثلاثة) - وهي حاشا وخلا وعدا.

والتقدير في "قام القوم حاشا زيداً، حاشا بعضهم زيداً، فحذف على ظاهر ما قال في ليس ولا يكون، وأضمر كما قال غيره؛ واختار في الشرح أن الفاعل مصدر ما عمل في المستثنى منه، والتقدير في: قاموا عدا زيداً، عدا هو، أي جاوز قيامهم زيداً، لأنه يلزم من تقرير البعض أن يراد بالبعض الجميع إلا واحداً، إذ المعنى: جاوز أكثرهم زيداً، وهذا وإن صح فلا يحسن لقلته في الاستعمال، وهذا لا يرد في ليس ولا يكون، إذ البعض المقدر فيهما هو زيد في المعنى.

وهذه الجمل، أعني المفتتحة بالأفعال الخمسة، قيل إنها في موضع

ص: 588

الحال، وقيل: لا محل لها من الإعراب، وصحح هذا ابن عصفور.

(وقد يوصف، على رأي، المستثنى منه منكراً أو مصحوباً بال الجنسية، بليس ولا يكون، فليلحقهما ما يلحق الأفعال الموصوف بها من ضمير وعلامة) - فتقول: أتاني القوم ليسوا إخوتك، وأتتني امرأة لا تكون فلانة، وهما من أمثلة أبي العباس.

وفي قوله: وقد، إشعار بالقلة، وكذا لفظ سيبويه قال: وقد يكون صفة، وهو قول الخليل: وفي قوله: على رأي إشعار بخلاف، ولم يذكر غيره خلافاً، ولعله فهمه من قول أبي العباس: فإن جعلته وصفاً فجيد، وكان الجرمي يختاره.

وقوله: المستثنى منه معناه ما كان مستثنى منه قبل جعلهما صفتين، وإلا فهو في هذه الحالة غير مستثنى منه، وهو مشعر بأنهما لا يكونان كذلك إلا حيث يصح الاستثناء، وتمثيل المبرد بقوله: أتتني امرأة لا تكون فلانة، كما سبق ذكره، يدل على خلاف ذلك.

وقوله: أو مصحوب الـ الجنسية مبني على مذهبه في جواز كون الجمل تقع صفة لمثله، ولم يمثل سيبويه في مسألتنا إلا بالنكرة، وعلى المنع تكون الجملة المصدرة بليثس ولا يكون بعد ذي الـ في موضع نصب على الحال، وتخصيصه ذلك بليس ولا يكون يدل على أنه لا يكون في غيرهما من بقية أفعال الباب نحو حاشا وخلا وعدا، وهو كذلك، فلا يقال: أتتني امرأة عدتْ هنداً.

والمراد بقوله: فيلحقهما إلخ أنه يطابق بما في ليس أو يكون من

ص: 589

إضمار ما جعلت الجملة صفة له في التذكير والإفراد وغيرهما، وهو ظاهر، لأنها صفة. فيفعل فيها ما يفعل في قولك: ما أتاني رجال لا يقولون ذلك، لأنها حينئذ بمنزلتها، ويلزم في الخبر المطابقة للضمير، لأنه مخبر به عنه، فيقال: ما أتاني رجال ليسوا الزيدين.

والمراد بالعلامة علامة التأنيث نحو: ما أتتني امرأة لا تكون فلانة، وما أتتني امرأة ليست فلانة، وهما من أمثلة سيبويه.

(فصل): (يستثنى بغير) - وإن كان الأصل فيها أن تكون صفة، عكس إلا كما تقدم.

(فتجر المستثنى معربة بما له) - أي للمستثنى.

(بعد إلا) - فتقول: جاءوني غير زيدٍ، بنصب غير، وما أتاني أحدٌ غير زيدٍ، برفع راجح على النصب، وما لزيدٍ علمٌ غير ظن، فتجيء فيه لغة الحجاز ولغة تميم، وما جاءني غيرُ زيد، فيتعين أن يكون على حسب العامل.

(ولا يجوز فتحها) - أي فتح غير.

(مطلقاً) - أي تم الكلام قبلها أم لم يتم، أضيفت إلى مبني أم إلى غيره.

(لتضمن معنى إلا، خلافاً للفراء) - في ذلك، فتقول على رأيه: ما قام غير زيد، أو غيرك، بفتح الراء.

قال الفراء: بعض بني أسد وقضاعة إذا كانت غير في معنى إلا صبوها، تم الكلام قبلها أم لم يتم، فيقولون: ما جاءني غيرك، وما جاءني أحد غيرك.

ص: 590

(بل قد تفتح في الرفع والجر لإضافتها إلى مبني) - إذ لم يذكر الفراء في الاحتجاج لذلك من كلام العرب غير مضاف إلى مبني كما رأيت، وكأن حامله على العموم جعل سبب البناء تضمن غير معنى إلا، وذلك عارضٌ، فلا يُجعل وحده سبباً للبناء، بل إذا أضيفت غير إلى مبني جاز بناؤها، صلح موضعها لإلا أو لم يصلح، إلا أن البناء إذا صلح أقوى منه حيث لا يصلح. والأول كقوله:

(577)

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في سحوق ذات أوقال

والثاني كقوله:

(578)

لُذْ بقيس حين يأبى غيره

تُله بحراً مفيضاً خيره

والسحوق بفتح السين الشجرة العالية.

(واعتبار المعنى في المعطوف على المستثنى بها وبإلا جائز) - ومثاله في المستثنى بها: ما جاءني غير زيد وعمرو، وجا ءالقوم غير زيد وعمرو؛ فيجوز فيهما جر عمرو على اللفظن ويجوز في الأول رفعه لأنه في معنى: ما جاءني إلا زيدٌ وعمروٌ، وفي الثاني نصبه لأنه في معنى: جاء القومُ إلا زيداً

ص: 591

وعمراً، وليس عمرو في الرفع في الأول والنصب في الثاني معطوفاً على غير عند هذا القصد، وهو واضح. بل هذا العطف على الموضع عند بعض، وعلى التوهم عند الشلوبين.

وفي قوله: في المعطوف، ما يقتضي تخصيص ذلك بالعطف، وهكذا كلام غيره، وعلى هذا فلا يجوز في بقية التوابع إلا مراعاة اللفظ، فتقول: ما جاءني غير زيد العاقل أبي حفص نفسه أخي عمرو، بالجر، والقياس يقتضي جواز الرفع كما في العطف، وفي كلام ابن خروف ما يدل على هذا.

وفي قوله: على المستثنى ما يشعر باختصاص ذلك بما إذا كانت غير استثناء. ومقتضاه أنها إذا كانت صفة لا يجوز ذلك، فتقول: ما جاءني أحدٌ غير زيدٍ وعمرو بجر عمرو فقط، إذا جعلت غيراً صفة، وأجاز ابن العلج الحمل على المعنى فيرفع لأن الموضع يصلح لإلا، قال: وقال قوم إنه خاص بالاستثناء، ومثاله في المستثنى بإلا: قام القوم إلا زيداً وعمراً، فيجوز في عمرو، على مقتضى ما ذكر المصنف نصب عمرو وجره على مراعاة غير، إذ يصح أن يقال: قام القومُ غير زيد، وهذا مذهب بعض منهم ابن خروف، وحمل عليه قوله:

(579)

وما هاج هذا الشوق إلا حمامةً

تغنتْ على خضراء سمر قَنُودها

ص: 592

روي برفع سمر على لفظ حمامة، وبجره.

وخرجه ابن خروف على ما سبق من مراعاة المعنى بتقدير: غير حمامة سُمّرِ قنودها. وهذا هو الدال من كلامه على أن غير العطف في ذلك كالعطف كما سبق، والصحيح منعه، والبيت مؤول بالخفض على الجوار، أو على نعت خضراء، والمراد بالقنود عروق الشجرة.

(ويساويها) - أي غيراً.

(في الاستثناء المنقطع بيد مضافاً إلى أن وصلتها) - ويقال: هو كثير المال، بيد أنه بخيل، والمشهور أن بيد بمعنى غير كما ذكر؛ وقال بعضهم: هي بمعنى على، وذكر قوله عليه الصلاة والسلام:"أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد".

وقد تبدل باؤها ميماً، وهي لازمة النصب، ولا تتصرف تصرف غير.

(ويساويها) - أي غيراً.

(مطلقاً) - أي في المتصل والمنقطع والوصف والتفريغ.

(سوى) - فتقول: قام القوم سوى زيد، وما في الدار أحد سوى حمار، وجاءني رجل سوى زيد، وما قام سوى عمرو.

(وينفرد) - أي سوى عن غير.

(بلزوم الإضافة لفظاً) - فلا ينفك عن الإضافة لفظاً، بخلاف غير كما سيأتي، وقوله تعالى:"مكاناً سُوِّى" بمعنى مستوٍ، فسوى لفظ مشترك.

(وبوقوعه صلة دون شيء قبله) - نحو: جاء الذي سواك. وهذا عند

ص: 593

من جعلها ظرفاً واضح، وأما من لم يجعلها ظرفاً، بل زعم أنه كغير، فيحتاج إلى الفرق بينها وبين غير، حيث لم يجز: جاءني الذي غيرك، فصيحاً إلا عند الكوفيين، وقد قال المصنف إن جاء الذي سواك من النوادر، كنصب غدوة بعد لدُن، أو نزل سوى لملازمته الإضافة لفظاً ومعنى منزلة عند. وموضع سوى بعد الموصول إما رفعٌ خبر مبتدأ مضمر، وإما نصب على الحال، وقبله ثبت مضمراً.

(والأصح عدمُ ظرفيته ولزومه النصب) - فليس بظرف فضلاً عن أن يلزم النصب على الظرفية، وذلك لأنه بمعنى غير، وهذا قول الزجاجي، ومذهب سيبويه والفراء وأكثر النحويين أنه لازم الظرفية، إذ معنى قولك: مررت برجل سواك: مررت برجل مكانك أي بدلك، ومكان بمعنى بدل لا يتصرف.

وذهب الرماني وغيره إلى أنه يستعمل ظرفاً كثيراً، وغير ظرف قليلاً، فيجوز على الأول: ما قام سواك، ويمتنع على الثاني، ويقل على الثالث، ومن رفعه:

(580)

أأترك ليلى ليس بيني وبينها

سوى ليلة، إني إذن لصبور

ومن نصبه غير ظرفٍ:

(581)

لديك كفيلٌ بالمنى لمؤمل

وإن سواك مَنْ يؤملهُ يشقَى

ص: 594

ومن جره:

(582)

ذكرك الله عند ذكر سواه

صارف عن فؤادك الغفلات

(وقد تُضم سينُه) - أي مع القصر كما في كسر السين، فيقال: قام القوم سُوى زيد، بضم السين، رواه الأخفش.

(وقد تفتح فيمد) - فيقال: قام القوم سواء زيد، وفتح السين والمد حكاه سيبويه، وحكى ابن الخباز وابن العلج وابن عطية والفارسي شارح الشاطبية كسر السين والمد، فصار في سوى أربع لغات: كسر السين وضمها مع القصر، وفتحها وكسرها مع المد.

(وقد يقال: ليس إلا، وليس غيرُ وغيرَ إذا فهم المعنى) - فيحذف بعد ليس ما بعد إلا وبعد غير جوازاً، فتقول: جاءني زيدٌ ليس إلا، وليس غير. ويجوز أن يجعل الواقع بعد إلا الخبر، فيكون التقدير: ليس هو أي الجائي إلا إياه.

ويجوز أن يجعله الاسم، فيكون التقدير: ليس الجائي إلا هو.

وأما ليس غير، بلا تنوين، فإن ضمت الرَّاء فقد نسب إلى سيبويه أن الضَّمة للبناء، للقطع عن الإضافة كقبلُ وبعد، وإليه ذهب الجرمي والمبرد وأكثر المتأخرين، وعلى هذا يجوز أن يكون الخبر، وأن يكون الاسم، على نحو ما سبق من التقدير.

وقال الأخفش: سقط التنوين لنية الإضافة، وعلى هذا تكون هي الاسم، والمحذوف الخبر، والتقدير: ليس غيره الجائي.

ص: 595

وإن فتحت الراء فهي الخبر، والتقدير: ليس هو الجائي غيره، وليس هذا من الاستثناء في شيء، ولهذا صح استعماله بعد ما لا تبعيض فيه كالعلَم كالمثال السابق.

(وقد ينون) - أي فيقال: ليس غيرٌ، وغيراً، بالتنوين، والمرفوع على هذا الاسمُ، والمنصوبُ الخبرُ، والمقدر في حالة الرفع الخبر، وفي حالة النصب الاسم، وهو واضح.

(وقد يقال: ليس غيرُه، وليس غيرَه) - أي بذكر المضاف إليه، والرفع والنصب على ما تقدم، والتقدير في الرفع: ليس غيرُه الجائي، وفي النصب: ليس هو أي الجائي غيرَه.

وقوله: وقد يقال، ربما أشعر بقلة هذا، وليس كذلك، بل هو أجود من: ليس غيراً، وغيرٌ، بالحذف.

(ولم يكن غيرُه، وغيرَه، وفاقاً للأخفش) - فيحذف الاسم إن نصبت، والخبر إن رفعت، كما فعل ذلك بعد ليس، فتقول: جاءني زيدٌ لم يكن غيرُه، أو غيرَه، ومنع ذلك السيرافي، لما فيه من الحذف للاسم أو للخبر، فلا يقاس على ما شذ من قولهم: ليس إلا، وليس غير.

(والمذكور بعد لا سيما منبه على أولويته بالحكم، لا مستثنى) - وهذا هو الصحيح، لأنك إذا قلت، جاء القومُ لا سيما زيد، كان جائياً، وإنما ذكرها سيبويه في باب: لا التي لنفي الجنس، ومنهم من نظر إلى مخالفته بالأولوية فعدها من أدوات الاستثناء، وهم الكوفيون وجماعة من البصريين منهم الزجاج وأبو علي، ورد قولهم، مع ما تقدم، بدخول الواو عليها، فتقول: ولا سيما زيد، وبعدم صحة وقوع إلا موقعها، ولا تدخل الواو على أدوات الاستثناء، ويصح وقوع إلا موقعها.

ص: 596

(فإن جُر فبالإضافة، وما زائدة) - فإذا قلت: قام القومُ لا سيما زيدٍ، بجر زيدٍ، فلا عاملة في سي اسماً لها وما زائدة بين المضاف والمضاف إليه؛ وهو مطرد في هذا، كما اطرد زيادة ما بعد إذا، ولم تتعرف سي لأنها بمعنى مثل، والخبر محذوف، والأصل: لا مثل قيام زيد قيام لهم؛ ويجوز حذف ما فتقول: لا سي زيدٍ، نص على ذلك سيبويه قال: وإن حذفت ما فعربي: فقول الخضراوي إن سيبويه قال: إن ما زائدة لازمة وهم؛ وقد قيل إن لا أيضاً زائدة، وهو غريب.

(وإن رُفع فخبرُ مبتدأ محذوف، وما بمعنى الذي) - فإذا قلت: لا سيما زيدٌ، برفع زيد. فزيد خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة ما إن كانت موصولة، والتقدير: لا سيٍّ الذي هو زيد. ويجوز كما قال ابن خروف، كون ما نكر موصوفة بالجملة، والتقدير: لا سيٍّ شخص أو شيء هو زيد.

وما ذكره المصنف من الجر والرفع يجوز في المعرفة والنكرة، وتزيد النكرة بجواز النصب، وروى قول امرئ القيس:

(583)

ألا رُب يومٍ لك منهن صالحٍ

ولا سيما يوم بدارة جلجل

بالأوجه الثلاثة.

فالنصب على التمييز لما، وهي نكرة تامة كأنه قال: ولا مثل سي، ثم فسره بالنكرة.

ص: 597

(وقد يوصل بظرف) - نحو: يعجبني الاعتكاف، لا سيما عند الكعبة، وقال الشاعر:

(584)

يسر الكريم الحمدُ لا سيما لدى

شهادة مَنْ في خيره يتقلبُ

(أو جملة فعلية) - نحو: يعجبني كلامك، لا سيما تعظ.

وقال الشاعر:

(585)

فُق الناس بالخير لا سيما

يُنيلُك مِنْ ذي الجلال الرضا

(وقد يقال: لا سيما، بالتخفيف) - حكاه الأخفش، ومن التخفيف قوله:

(586)

فِه بالعقود وبالأيمان لا سيما

عقد وفاء به من أعظم القرب

ونص الأخفش على جواز الخفض والرفع مع التخفيف.

(ولا سواء ما) - فتقول: قام القوم لا سواء ما زيد. وكلامه يقتضي جواز الرفع والجر بعدها كما في لا سيما.

وحكى ابن الأعرابي أن العرب تعامل لا مثل ما معاملة لا سيما في المعنى، ورفع ما بعدها وجره.

ص: 598

تم بفضل الله وتوفيقه الجزء الأول من شرح التسهيل لابن عقيل:

"المساعد على تسهيل الفوائد" بانتهاء باب المستثنى ويليه - إن شاء الله - الجزء الثاني

أوله: باب الحال، والحمد لله رب العالمين

ص: 599