الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأن الإنسان إذا قال: رأيت الناس ثم قال بعد شهر: إلا زيدا، ثم قال أردت به الاستثناء من الكلام الذي قلته منذ شهر قبح ذلك عندهم وعدوه لغوا.
ثم قال: دليل ثان: أن الاستثناء غير مستقل بنفسه وهو كالخبر مع المبتدأ، والجزاء مع الشرط فإنه قد ثبت أنه لو قال: زيد ثم قال: بعد شهر منطلق، أو قال: من دخل الدار، ثم قال بعد شهر: فله درهم. لم يحسن ذلك، كذلك الاستثناء.
دليل ثالث: أنه لو جاز ذلك وصح لم يستقر عقد ولا إيقاع طلاق ولا عتاق، ولم يوثق بأحد في وعد ولا وعيد، لجواز أن يستثني بعد زمان ما يسقط حكم الكلام، وفي اتفاق الناس على خلاف هذا دليل على بطلانه.
دليل رابع: أن من جوزه إلى سنة لم ينفصل عمن جوزه إلى سنتين وأكثر، فبطل الجميع).
توجيه أثر ابن عباس:
ومن أقوى ما استدل به القائلون بالجواز (1) أثر ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني ولو إلى سنة وإنما نزلت هذه الآية في هذا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) قال إذا ذكر استثنى) (2).
(1) وقد ذكر شبههم وفندها الكلوذاني في التمهيد (2/ 75 - 76)، والآمدي في إحكامه (2/ 311: 313).
(2)
إسناده ضعيف - أخرجه الطبري في "تفسيره"(17/ 645)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 336) حديث رقم (7833)، والبيهقي في "الكبرى"(10/ 48) من طريق الأعمش عن مجاهد عنه به، وهذا إسناد ضعيف فيه عنعنة الأعمش، وهو مدلس، وقال يعقوب بن شيبة في " مسنده ":(ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة، قلت لعلى ابن المدينى: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إلا ما قال سمعت، هي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبى يحيى القتات)، وقال ابن حجر في "إتحاف المهرة" (8/ 41):(هو معلول، فقد رواه أبو معاوية، عن الأعمش، وقال فيه: قيل للأعمش: سمعته من مجاهد؟ قال: لا، حدثني به الليث، عن مجاهد)، وله طريق أخرى بنحوه فروى الطبراني في "الأوسط"(7/ 68) حديث رقم (6872)، وفي "الصغير" (2/ 115) حديث رقم (876) من طريق محمد بن الحارث الجبيلي حدثنا صفوان بن صالح ثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن بن عباس: في قوله عز وجل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) قال: (إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت) قال: (هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يستثني إلا في صلة يمين)، وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء فيه صفوان يدلس ويسوي، وكذا الوليد بن مسلم، وفيه ابن حصين قال عنه أبو حاتم: ليس بقوي منكر الحديث، وقال عنه أبو زرعة: لا يكتب حديثه، وابن أبي نجيح لم يسمع من مجاهد إلا أن بعض أهل العلم قبلوا روايته عنه في التفسير.
وهذا الأثر ضعيف، وعلى فرض صحته فيوجه بأحد الوجوه التالية:
1 -
أنه على فرض صحة إسناده، فهو مضطرب المتن فقد ورد عنه الأثر بلفظ: ولو بعد حين، ولفظ: إلى أربعة أشهر، وشهر، وسنة، وعنه أبدا (1).
2 -
أنه لم يقصد الاستثناء، وإنما قصد امتثال الآية، وقد ذهب إلى هذا التوجيه جماعة منهم: أبو عبيد (2)، والطبري، والبيهقي، والقرافي، وابن الملقن، وغيرهم.
قال ابن الملقن في "البدر المنير"(8/ 124): (قال - أي البيهقي -: ويحتمل قول ابن عباس أن يكون المراد به أنه كان مستعملا للآية، وإن ذكر الاستثناء بعد حين، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) لا فيما يكون يمينا قلت: وهذا ما قرره القرافي في «الأصول» في تعليقه على الحنث، حيث قال: المروي عن ابن عباس إنما هو في استثناء المشيئة، لقوله تعالى:(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)[الكهف: 24](فإنه قال: إن سبب نزولها ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستثناء بالمشيئة وتقديرها كما قال ابن العصري في التفسير (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي إذا شئت الاستثناء): أي إذا تذكرت ولو بعد سنة فقل: إن شاء الله؛ فإنه يسقط عنك المؤاخذة في ترك الاستثناء، وقدره العراقي بأن: الذكر في زمن النسيان محال، فدل على أنه أراد طرف بمنع النسيان في جزء منه، والذكر في جزء آخر، ولم يحدده الشرع، فجاز على التراخي).
3 -
أنه محمول على أنه نوى الاستثناء عند بداية كلامه فيدان به.
قال الغزالي في "المستصفى"(ص/258): (ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح عنه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه وأن صح فلعله أراد به إذا
(1) انظر: "الفتح"(11/ 603).
(2)
نقله عنه ابن حجر في "الفتح" الموضع السابق.
نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه وبين الله فيما نواه ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما).
قال الزركشي في "البحر المحيط"(2/ 431): (وقال ابن ظفر في الينبوع إذا حققت هذه المسألة ضعف أمر الخلاف فيها وتحقيقها أنه لا يخلو الحالف التارك للاستثناء من أحد ثلاثة أمور إما أن يكون نوى الجزم وترك الاستثناء فما أظن الخلاف يقع في مثل هذا أو يكون نوى أن يستثني ولم ينطق بالاستثناء ثم ذكر فتلفظ به فلا يحسن أن يعد استثناؤه لغوا وإما أن يكون ذاهلا عن الأمرين معا فهذه الصورة صالحة للاختلاف ولا يظهر فيها قول من صحح الاستثناء).
الترجيح:
وعليه فالأقوى هو قول جمهور العلماء من أهل اللغة والأصول من أنه لابد وأن يكون الاستثناء متصل بحيث لا يفصل بينه وبين صدر الكلام فاصل من كلام آخر، أو سكوت يعد فاصلا عرفا، ولا يضر الفصل بالسعال، أو التنفس، ونحوهما مما لا يعد فاصلا عرفا (1).
وأما الاستدلال بحديث استثناء الإذخر فقيل فيه أن الاستثناء فيه كان منقطعًا، وأن الإذخر لم يكن من الخلا ولم يتناوله الكلام بداية، وإنما أراد العباس رضي الله عنه تأكيد ذلك فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى فرض كونه من الاستثناء المتصل فيجمع بينه وبين أدلة الجمهور بأن هذا الفصل هنا كان يسيرا، ولا يعد فاصلا عرفا.
وعلى هذا الوجه تتجه الرواية المنقولة عن الإمام أحمد بجواز الفصل بزمان يسير ما دام في المجلس (2)، وقد اختار هذه الرواية ابن تيمية (3) مع أنها خلاف الرواية الصحيحة في المذهب.
(1) انظر: "تخصيص العام" للشيخ علي الحكمي (ص/138).
(2)
انظر التمهيد (2/ 73).
(3)
انظر المسودة (ص/137).