الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن في اليقين ومداركه
البرهان: ما كانت مواده يقينية، وهي التي يجب قبولها بديهياً
كانت أو نظرية تنتهي إلى البديهيات، وسواء كانت تلك المقدمات
عقلية أو سمعية، فإن السمع يفيد اليقين كأن يكون خبر من يمتنع عليه
الكذب كخبر اللَّه تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع.
وإليك بيان حقيقة اليقين، والأشياء التي تفيد اليقين، فأقول:
أولاً: اليقين لغة هو: العلم الذي لا شك فيه.
واليقين اصطلاحاً هو: اعتقاد الشيء بأنه كذا، مع اعتقاد أنه لا
يمكن إلا كذا مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال.
ثانياً: الأشياء التي تفيد اليقين أو مداركه، أو أصول اليقينيات
- كما يسميها بعضهم - هي كما يلي:
الأول: الأوليات، وهي قضايا يجزم العقل بها بمجرد التصوُّر،
ولا يحتاج إلى واسطة مثل: علمك بأن الواحد نصف الاثنين، وأن
الكل أعظم من الجزء، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر.
الثاني: المحسوسات الظاهرة، وهي القضايا التي يحكم بها
بواسطة الحواس الخمس وهي: السمع، والبصر، والشم،
واللمس، والذوق، مثل: النار حارة، وهذا الجبل كبير، ورائحة
هذا طيبة، وطعم هذا حلو، وهكذا.
الثالث: المشاهدات الباطنة، وهي قضايا يحكم بها بواسطة
القوى الباطنة، ولا تحتاج إلى العقل، ولا إلى الحس، مثل:
علمك جوع نفسك، وشعورك بالألم، والعطش، ونحو ذلك.
والفرق بين هذا وبين المدرك الأول - وهو الأوليات -: أن المدرك
الأول لا تدركه الصبيان ولا البهائم ولا المجانين؛ لأن الأوليات قضايا
حصلت بمجرد العقل، والعقل مفقود بالنسبة لهؤلاء.
أما هذا المدرك وهو: المشاهدات الباطنة، فإن البهائم، والصبيان
والمجانين تدركه؛ لأن تلك الأحوال وهي الجوع، والعطش، لا
تفتقر إلى عقل.
الرابع: التجريبيات، أو اطراد العادات، وهي القضايا التي
يحكم بها بواسطة تكرار المشاهدة، وهي لا تخلو عن قياس خفي
مع تكرار المشاهدة، وهو أن تعلم أن الوقوع المتكرر على نهج واحد
لا يكون اتفاقاً.
مثل: حكمنا بأن الإهليلج مسهل، فإنه بعد التجارب وتكرار
الاستعمال لهذا الدواء حكمنا بأنه مسهل، وحكمنا بأن الحجر هاو
إلى أسفل، وحكمنا بأن النار صاعدة إلى فوق، وهذه الأحكام
والمعلومات يقينية عند من جربها من الناس.
الخامس: المتواترات، وهي: قضايا حكم بها بواسطة إخبار
جماعة يستحيل عقلاً وعادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، مثل:
حكمنا بوجود مكة، والمدينة، والهند، وغيرها من البلدان.
فالمستفاد من تلك المدارك الخمسة يصلح لصناعة البرهان.
ثالثأ: بيان أمور توهم بعضهم أنها من مدارك اليقين، وليست منها:
ما سبق هي مدارك اليقين التي تصلح لمقدمات البراهين، وهناك
أمور توهم بعضهم أنها من مدارك اليقين وليست منها، وهما:
1 -
الوهميات
2 -
المشهورات.
أما الوهميات فهي: قضايا الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون
مشاراً إلى جهته، وأن موجوداً لا متصلاً، ولا منفصلاً، ولا
خارجاً، ولا داخلاً محال، لأن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات
الست خالية عنه محال، وهذا عمل قوة في التجويف الأوسط من
الدماغ، وتسمى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات، ومتابعتها
والتصرف فيها.
وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي لا تتميز عن الأوليات
القطعية.
مثل قولك: لا يكون شخص في مكانين، بل تشهد به أول
الفطرة، كما تشهد بالأوليات القطعية، وليس كل ما تشهد به
الفطرة قطعاً هو صادق، بل الصادق هو ما تشهد به قوة العقل
الصحيح فقط.
أما المشهورات فهي آراء محمودة توجب التصديق بها، إما بشهادة
الكل، أو بشهادة الأكثر، أو بشهادة جماهير من الأفاضل مثل:
"الكذب قبيح "، و " كفران المنعم قبيح "، و " شكر المنعم حسن "
و" إنقاذ الذين شارفوا على الهلاك حسن "، و " إيلام البريء قبيح "
وهذه الأحكام قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، فلا يعول عليها
- في مقدمات البراهين، لأنها لم تكن من مدارك اليقين.
وإنما انغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا،
وذلك بأن تكرر على الصبي، ويكلف اعتقادها، ويحسن ذلك عنده
وربما يحمل على اعتقادها حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما تنشأ
من الحنان ورقة القلب والطبع، فترى أقواماً يصدِّقون بأن ذبح البهائم
قبيح حتى وصل بهم الأمر إلى الامتناع عن أكل لحومها، وربما يحيل
على التصديق بها الاستقراء والتتبع الكثير، وربما كانت القضية
صادقة، ولكن بشرط دقيق لا يتفطن الذهن لذلك الشرط، ويستمر
على تكرير التصديق، فيرسخ في نفسه كمن يقول - مثلاً -:
"التواتر لا يفيد العلم "، وعلّل ذلك بقوله: " إن خبر كل واحد
من المخبرين لا يفيد العلم، فخبر الجميع لا يفيد العلم؛ لأنه لا
يزيد على الآحاد "، وهذا معروف غلطه؛ لأن كل واحد لا يفيد
خبره العلم بشرط الانفراد، وعند التواتر فات هذا الشرط، فهذا
القائل: ذهل وغفل عن هذا الشرط، وذلك لدقته، فصدَّق به
مطلقاً واعتقده.
فالمستفاد من الوهميات لا يصلح لصناعة البرهان، والمشهورات
تصلح للفقهيات الظنية، والأقيسة الجدلية، ولا تصلح لأن تكون
مقدمات للبراهين.
رابعاً: أضداد اليقين:
لما عرفنا فيما سبق اليقين وهو: العلم القطعي بالأشياء التي لا
تحتمل النقيض، أو ما قطعت به النفس، وعرفنا مداركه، وما لا
يفيده: كان لا بد لنا أن نعرف أضداد اليقين؛ ليعرف اليقين أكثر
والفرق بينه وبين غيره، فأقول:
أضداد اليقين هي: " الظن "،. و " الشك "، و " الوهم "،
و"السهو"، و " الجهل "، وإليك بيانها:
1 -
الظن هو: ترجيح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من
غير قطع، وقيل: تجويز أمرين، أحدهما أقوى من الآخر.
والظن طريق للحكم إذا كان عن أمارة قد اقتضت الظن، ولهذا
وجب العمل بجميع الأدلة المظنونة، ويجب العمل بشهادة الشهادين
وبخبر المقوِّمين للشيء، سواء كانت تلك الأحكام مبنية على أدلة
ظنية أو أمارة صحيحة.
ويطلق العلم على الظن والعكس.
فمثال إطلاق العلم على الظن: قوله تعالى: (فإن علمتموهن
مؤمنات) ، فهنا عبَّر بالعلم عن الظن؛ لأن العلم القطعي في
ذلك لا سبيل إليه.
ومثال إطلاق الظن على العلم: قوله تعالى: (الذين يظنون
أنهم ملاقوا ربهم) أي: يعلمون.
2 -
الشك هو: التردد في أمرين متقابلين، لا ترجيح لوقوع
أحدهما على الآخر في النفس، وقيل: هو: تجويز أمرين لا مزية
لأحدهما على الآخر.
والشك ليس بطريق للحكم في الشرع، وبناء على ذلك يجب
استصحاب الحال السابق مثل: الشك في الحدث بعد الطهارة،
والشك بالطلاق بعد النكاح، لأن الظاهر بقاء ذلك، وعدم حدوث
المشكوك فيه.
3 -
الوهم هو: الطرف المرجوح فهو المقابل للظن.
4 -
السهو هو: الذهول عن المعلوم.
5 -
الجهل هو: اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو عليه، وهو ضد العلم.
وهو قسمان:
القسم الأول: جهل بسيط وهو: انتفاء إدراك الشىء بالكلية،
أي: عدم العلم مطلقا.
القسم الثاني: جهل مركب وهو: تصور الشيء على غير هيئته.
وسمي مركباً، لأنه مركب من أمرين، أولهما: عدم العلم
بالشيء، ثانيهما: الاعتقاد الذي هو غير مطابق لما في الخارج.
فمثلاً: إذا سئل إنسان وقيل له: إذا أكل مسلم ناسياً في رمضان
فهل يفسد صومه أو لا؟
فإن قال: نعم يفسد صومه، وعليه القضاء، فهو جاهل مركب.
أما إذا قال: لا أعلم، فإنه يكون جاهلاً بسيطاً.