الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس الحرام
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: في مناسبة وضع الحرام هنا.
المسألة الثانية: في حقيقة الحرام:
أولاً: الحرام لغة.
ثانياً: الحرام اصطلاحا.
المسألة الثالثة: في صيغ الحرام.
المسألة الرابعة: هل يجوز أن يكون الواحد بالنوع حراما واجباً؟
المسألة الخامسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجبا من
جهة واحدة؟
المسألة السادسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجبا من
جهتين؟
المسألة السابعة: في مقدمة الحرام.
المسألة الثامنة: في الحرام المخيَّر.
المسألة التاسعة: هل الأمر بالشيء المعيَّن نهي عن ضدِّه؟
المسألة الأولى: مناسبة وضع الحرام هنا:
مناسبة وضع الحرام بعد المكروه هي: أنهما يشتركان في شيء
واحد وهو: أن كلًّا منهما مطلوب تركه، لكن المكروه مطلوب تركه
طلباً غير جازم، والحرام مطلوب تركه طلباً جازماً.
المسألة الثانية: في حقيقة الحرام:
أولاً: الحرام لغة:
الممنوع، يقال:" حرمه الشيء ": إذا منعه إياه، ومنه قوله
تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي: حرمناه رضاعهن
ومنعناه منهن.
ثانيا: المحرم اصطلاحا:
هو: ما ذُمَّ شرعاً فاعله.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " ما " جنس في التعريف، والمراد منه:" الفعل "،
والتقدير: " الفعل الذي يذم شرعاً فاعله "، والمقصود: فعل
المكلَّف.
ودخل في ذلك كل أقسام الحكم التكليفي وهي: الواجب،
والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام.
قولنا: " ذُمَّ " الذم هو: الاستنقاص من الشارع الذي يصل إلى
حدِّ العقاب، وهو قيد في التعريف، أخرج المندوب، والمكروه،
والمباح، بيان ذلك:
أنه أخرج المندوب؛ لأن المندوب لا ذم على تركه.
وأنه أخرج المكروه؛ لأن المكروه لا ذم على فعله.
وأنه أخرج المباح؛ لأن المباح لا ذم على فعله ولا على تركه.
قولنا: " شرعا " قيد في التعريف لبيان أن الذم المعتبر هو الذم
الوارد من الشارع فقط، بخلاف ما تقوله المعتزلة من أن العقل يذم
ويقبح، ويمدح ويحسن.
قولنا: " فاعله " أخرج الواجب؛ لأنه الواجب يذم على تركه.
والمراد بالفعل هو: كل ما يصدر من الشخص، وذلك يشمل
فعل الجوارح كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، ويشمل
الأقوال المحرمة كالكذب، والنميمة، والغيبة، ويشمل الأعمال
القلبية المحرمة كالحقد، والحسد، والنفاق.
***
المسألة الثالثة: في صيغ الحرام:
الحرام له صيغ وأساليب، ومنها:
الأولى: لفظة " التحريم " ومشتقاتها، مثل قوله تعالى:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)، وقوله:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) .
الثانية: صيغة النهي المطلق، مثل قوله تعالى:(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) .
الثالثة: التصريح بعدم الحل، مثل قوله تعالى:(وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)، وقوله عليه الصلاة والسلام:
" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ".
الرابعة: أن يذكر الشارع فعلاً ثم يرتب عليه عقوبة، فهذا يدل
على أن الفعل حرام، ومنه قوله تعالى:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) .
الخامسة: صيغة الأمر التي تطلب الترك والمنع من الفعل، كقوله
تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)، وقوله:(وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ، فإن هذه الصيغة تعتبر من أساليب النهي؛ ترجيحاً لجانب
المعنى على جانب اللفظ؛ حيث إن معنى هذه الأوامر: النهي.
وبعضهم اعتبرها من أساليب الأمر؛ حيث إنها تفيد الطلب بصيغة
الأمر.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في الصيغة الخامسة خلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأن المعنى
- وهو الحكم الشرعي - متفق عليه، وهو - هنا - تحريم قول
الزور وتحريم الربا.
لكن بعضهم عبَر عنه بالأمر باجتناب قول الزور، والأمر بترك
الربا.
وبعضهم عبَّر عنه بالنهي عن الزور والربا، فكان الخلاف في
التعبير فقط.
المسألة الرابعة: هل يجوز أن يكون الواحد بالنوع (1) حراماً واجباً؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
(1) إليك بيان الواحد بالجنس، والواحد بالنوع، والواحد بالعين؛ لأن هذه المسألة والمسألتين
الآتيتين لها صلة بذلك فأقول:
الواحد بالجنس هو لفظ واحد دلَّ على جنس كالحيوان، وهو شامل للواحد بالنوع
كالإنسان، والواحد بالعين كزيد.
والواحد بالنوع هو لفظ واحد دلَّ على نوع كالإنسان، وهو شامل للواحد بالعين كزيد.
أما الواحد بالعين فهو لفظ واحد دلَّ مفهومه على شخص معين كزيد.
المذهب الأول: يجوز أن يكون الواحد بالنوع واجبا وحراما طاعة
ومعصية.
وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح، وذلك بالإضافة والاعتبار
والنسبة.
فيكون الواحد بالنوع واجبا وحراما باعتبار أشخاصه أي: واجب
باعتبار بعض الأشخاص، وحرام باعتبار بعض الأشخاص الآخرين.
فاختلاف الإضافات والاعتبارات والنسب والصفات جعل الواحد
بالنوع يكون واجبا باعتبار -، وحراما باعتبار.
مثال ذلك: " السجود " هو واحد بالنوع، فمنه: سجود واجب
وهو السجود لله تعالى، ومنه سجود حرام، وهو: السجود لغير
الله تعالى.
فهذا السجود واحد بالنوع، أي: نوع من الأفعال وأشخاص
كثيرة، فيجوز أن ينقسم إلى " واجب " و " حرام "، ولا تناقض في
ذلك؛ وذلك نظراً لتغايرهما بالشخصية، فيكون بعض أفراده واجبا
كالسجود لله تعالى، وبعضها حراما كالسجود للصنم، قال تعالى
- في ذلك -: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) .
المذهب الثاني: لا يجوز أن يكون الواحد بالنوع واجبا حراما.
ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة، منهم: أبو هاشم الجبائي.
دليل هذا المذهب:
قد استدل هؤلاء بقولهم: إننا لو قلنا بجواز كون الواحد بالنوع
واجبا حراما للزم من ذلك التناقض، وذلك لأن السجود نوع واحد
مأمور به، فيستحيل أن يكون منهياً عنه.
أي: أن السجود واجب يستحيل أن يكون محرما.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن ذلك غير صحيح، لأنه
إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لا يوجد تناقض، فيكون الواحد بالنوع
- وهو هنا السجود - واجبا باعتبار، وحراما باعتبار آخر، فلا
تناقض فالسجود للصنم غير السجود لله تعالى، بدليل: أن المأمور
به ليس هو النهي عنه في قوله تعالى: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) .
وقد انعقد الإجماع على أن الساجد للصنم والشمس عاص بنفس
السجود والقصد جميعاً، وأن الساجد لله تعالى مطيع بالسجود
والقصد جميعاً.
إذاً: لا تضاد في كون الواحد بالنوع واجباً حراما، إنما التضاد
يكون في الواحد بالشخص.
المسألة الخامسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً
واجبا من جهة واحدة؟
أقول: يستحيل ويمتنع أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا طاعة
ومعصية من جهة واحدة، كما لو قال: " صل صلاة الظهر ولا
تصل صلاة الظهر "، أو قال: " اعتق هذا العبد لا تعتق هذا العبد"
وهو يشير إلى واحد معين.
وقلنا: إن ذلك مستحيل؛ لتضادهما وتنافيهما وتناقضهما، وهو
من باب تكليف ما لا يطاق، وهو لا يجوز كما سبق؛ لقوله
تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
***
المسألة المسادسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً
واجباً من جهتين؟
مثل: الصلاة في الدار المغصوبة، أي: صلاة زيد في دار
مغصوبة من عمرو؛ حيث إن حركة زيد في الصلاة فعل واحد بعينه.
اختلف العلماء في صحة تلك الصلاة على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا من
جهتين، وعليه فتصح الصلاة في الدار المغصوبة.
ذهب إلى ذلك: أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية، وهو قول الإمام
مالك، وبعض الحنابلة كأبي بكر الخلال، وابن عقيك.
وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لا مانع من صحة الصلاة، وإن أوقعت في
مكان مغصوب؛ لأن فعل الصلاة في مكان مغصوب هو فعل واحد
له جهتان متغايرتان:
إحدى الجهتين مطلوب الفعل - وهو الصلاة والأمر بها -.
والجهة الأخرى مطلوب الترك - وهو الصلاة في الدار المغصوبة.
فإذا كان للفعل الواحد جهتان متغايرتان، فيجوز أن يكون مطلوب
الفعل من إحدى الجهتين مطلوب الترك، ولا مانع من الصحة -
والحالة هذه - ولا يقع في ذلك محال، ولكن المحال إذا كان الشيء
مطلوب الفعل ومطلوب الترك من جهة واحدة.
ولعلي أبين ذلك أكثر فأقول: إن الفعل - وهو الصلاة - مطلوب
الفعل، ومن حيث إن المكان المصلى فيه مغصوب: مطلوب الترك.
فيكون متعلق الأمر والنهي غير متحد.
أي: أن الصلاة من حيث هي صلاة مأمور بها - بقطع النظر عما
يلحقها من مكان أو غيره -، والغصب من حيث هو غصب منهي
عنه - بقطع النظر عما يلابسه من أفعال الصلاة.
وعلى هذا: تكون الصلاة معقولة بدون الغصب، والغصب
معقول بدون الصلاة، فيمكن وجود أحدهما بدون الآخر " قياسا
على من صلى ولم يغصب، أو غصب ولم يصل، فكما أن من
صلى ولم يغصب له أجر، ومن غصب ولم يصل عليه الإثم،
فكذا هاهنا، فإذا جمع المكلَّف بين الصلاة والغصب - أي: صلى
في مكان مغصوب - لم يخرجهما عن حكمهما في حال انفرادهما
وهو الأمر بالصلاة وكونها طاعة، والنهي عن الغصب وكونه
معصية، فيجب أن يثبت للصلاة والغصب ما يثبت لهما منفردين،
فالجمع بينهما لا يقلب حقيقتهما في أنفسهما.
اعتراض:
إن اعترض معترض قائلاً: إن قولكم هذا يلزم منه صحة صوم
يوم النحر؛ لأن الصوم من حيث هو صوم مطلوب، وإنما المنهي
عنه إيقاعه في هذا الزمن المنهي عن الصوم فيه، وأنتم تقولون: إنه
لا يصح صوم يوم النحر، وهذا تناقض.
جوابه:
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن هذا الإلزام صحيح،
فلو لم يرد نص في النهي عن صوم يوم النحر لصح صيام يوم النحر،
ويأثم بإيقاعه في هذا اليوم المنهي عن الصيام فيه، كما قلنا في
الصلاة في الدار المغصوبة، ولكن الذي منعنا هو النص كما سبق.
الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " خط هذا الثوب ولا
تدخل هذه الدار، فإن امتثلت أعتقتك، وإن دخلت الدار عاقبتك "
فخاط الثوب في تلك الدار المنهي عن دخولها، فإن العبد يعتبر
مطيعا لسيده من جهة، وعاصيا من جهة أخرى، فيحسن من السيد
عتقه ومعاقبته؛ نظراً للجهتين، حيث كان العبد مطيعا من جهة امتثال
أمر سيده - وهو: خياطة الئوب - فيستحق العتق من السيد على
ذلك، وكان عاصيا من جهة دخوله للدار المنهي عن دخولها،
فيستحق العقوبة.
وإذا ثبت ذلك هنا، فكذلك الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن
المكلَّف جمع بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة، كما جمع بين
خياطة الثوب ودخول الدار المنهي عنها.
الدليل الثالث: لو أن مسلما رمى سهما واحداً إلى كافر فمرق
السهم من الكافر وأصاب مسلماً فقتله: فيثاب من جهة، ويعاقب
من جهة أخرى.
بثاب ويملك سلب الكافر من جهة قتله كافرا محاربا لإعلاء كلمة
الله، وقد أمره اللَّه تعالى بذلك، ويستحق سلب هذا الكافر الذي
قتله.
ويعاقب هذا المسلم الرامي للسهم؛ لأنه قتل مسلما، وقد نهى
الله سبحانه عن قتله، فيدفع الدية، لأنه قتل خطأ.
فهذا فعل واحد عوقب وأثيب عليه، وذلك لتضمنه الأمر والنهي
من جهتين مختلفتين، فهو مأمور به من جهة قتل الكافر المحارب،
وهو منهي عنه من جهة قتل المسلم من غير قصد.
فإذا ثبت ذلك فالصلاة في الدار المغصوبة مثله؛ لأن المكلَّف جمع
بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة، كما جمع بين قتل الكافر
المأمور به وقتل المسلم المنهي عنه.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا
من جهتين، وعليه: فالصلاة في الدار المغصوبة لا تصح.
ذهب إلى ذلك الإمام مالك في رواية عنه، وهو وجه لأصحاب
الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره أكثر الحنابلة، وهو
مذهب أهل الظاهر والزيدية، وبعض المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم.
دليل هذا المذهب:
استدل هؤلاء بقولهم: إن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل
المكلَّف، لا بما ليس من فعله، والأفعال الموجودة من المصلي في
الدار المغصوبة أفعال اختيارية محرمة عليه، وهو عاصٍ بها، آثم
بفعلها، وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه، فلا يتصور أن
تكون طاعة ولا يثاب عليها متقربا بها إلى اللَّه - تعالى -؛ لأن
الحرام لا يكون واجبا، والمعصية لا تكون طاعة مثابا عليها، ولا
تكون متقربا بها مع أن التقرب والنية شرط في صحة الصلاة.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن المحكوم بأنه حرام ليس
هو ذات الفعل من حيث هو فعل، ولكن حكم عليه بالحرمة من
جهة كونه غصبا، وإذا كان الأمر هكذا فلا يلزم منه امتناع الحكم
عليه بالوجوب من جهة كونه صلاة؛ ضرورة اختلاف الجهتين.
تنبيهان:
الأول: لم أستدل على المذهب الذي اخترته - وهو: أن الصلاة
في الدار المغصوبة صحيحة - بما تناقله الأصوليون وهو: أن السلف
رحمهم الله لم يكونوا يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء
الصلوات التي أدوها في الأماكن التي غصبوها، وهذا يدل على أنها
صحيحة، ولو لم تكن صحيحة لأمروهم بقضاءها.
فلم أذكر ذلك؛ لأمرين:
أولهما: أن حقيقة الإجماع الصريح لم توجد؛ حيث إنه لم ينقل
عن السلف أنهم اتفقوا على أن الظلمة تسقط عنهم الصلوات التي
أدوها في أماكن مغصوبة لا عن طريق التواتر، ولا عن طريق
الآحاد، وعدم النقل عن السلف لا يعتبر نقل الاتفاق، فمن زعم
الإجماع بعد ذلك فهو جاهل بحقيقته.
ثانيهما: إن زعموا: أن ذلك جاء عن طريق الإجماع السكوتي،
فهذا - أيضا - لا تقوم الحجة به لهم؛ حيث إنه معروف أن الإجماع
السكوتي لا يعتبر إجماعا ولا حجة عند بعض العلماء.
وأيضا روي عن الإمام أحمد: أنه يبطل الصلاة في الدار المغصوبة
- وهي رواية مشهورة عنه - وهو إمام النقل، وأعلم بأحوال
السلف، فمخالفته تنقض الإجماع.
التنبيه الثاني: قد ذكر بعض العلماء مذهباً ثالثا في المسألة وهو:
أن الصلاة في الدار المغصوبة ليست صحيحة، ولكن يسقط الطلب
عندها لا بها، وهو منسوب للقاضي أبي بكر الباقلاني.
ولقد ذكرت في " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " دليل
هذا المذهب، وبيَّنا أنه قريب من المذهب القائل: إن الصلاة في
الدار المغضوبة لا تصح، فراجعه من هناك.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين المذهبين الأول والثاني خلاف معنوي، وهو واضح؟
حيث إن من صحح الصلاة في الدار المغصوبة لم يأمر من فعلها على
هذه الصفة بالقضاء، ومن لم يصححها فإنه يأمر من فعلها في دار
مغصوبة بالقضاء.
***
المسألة السابعة: في مقدمة الحرام:
مقدمة الحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما كان من أجزاء الحرام فهذا محرم بالتأكيد، مثاله:
الإيلاج والإخراج في عملية الزنا، فإنه لا فرق - هنا - بين المقدمة
والحرام، فإن حكمهما واحد؛ حيث إنه لا فرق بين أن يقول
الشارع: " لا تزن " أو أن يقول: " لا تولج ".
الثاني: ما كان من أسباب الحرام فهذا حرام مثل: محادثة
الأجنبيات بشهوة " لأن ذلك سبب في الوقوع في الزنا.
الثالث: ما كان من ضرورات الحرام مثل: اختلاط أخته بعدد من
الأجنبيات عنه في بلدة صغيرة، وعسر تمييزها من بينهن، فهنا يحرم
نكاح الجميع ضرورة، حتى لا يوصل به هذا إلى نكاح أخته.
المسألة الثامنة: في الحرام المخيَّر:
الحرام المعيَّن معروف وهو الثابت بالإجماع، وهو الذي تعين
المنهي عنه بشيء واحد كتحريم شرب الخمر، والزنا، والربا،
ونحو ذلك.
أما الحرام المخيَّر وهو الذي لم يتعين المنهي عنه بشيء واحد، بل
تعلق النهي بأشياء متعدِّدة ومحصورة، فهل يجوز ذلك؟
أي: هل يجوز أن يحرم واحداً لا بعينه؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز أن يُحرم واحداً لا بعينه.
ذهب إلى ذلك الآمدي، وابن الحاجب، وأكثر الفقهاء.
وهو الحق عندي؛ لدليلين:
الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن يقول الشارع: " لا تكلم زيداً
أو. عمرأ، وقد حرمت عليك كلام أحدهما لا بعينه، ولست أحرم
عليك كلام الجميع، ولا واحداً بعينه "، فهذا كلام معقول، ولا
يلزم من تصوره محال.
الدليل الثاني: الوقوع الشرعي، ومنه: تحركيم إحدى الأختين لا
بعينها، وكذلك لو أسلم وتحته أكثر من أربع نساء، فإنه ممنوع مما
زاد عن الأربع من غير تعيين.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز تحريم واحد لا بعينه.
ذهب إلى ذلك أكثر المعتزلة، وبعض العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن النهي عن الشيء قبيح، فإذا نهي عن أحدهما
لا بعينه ثبت القبح لكل منهما، فيمتنعان جميعاً.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن قولكم هذا مبني على قاعدة " التحسين
والتقبيح العقليين "، ونحن لا نوافقكم عليها جملة وتفصيلاً.
الدليل الثاني: أن التحريم ينافي التخيير، فمعنى كونه محرماً:
أنه لا يجوز فعله، ومعنى كونه مخيراً: أنه يجوز فعله وتركه.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن اللَّه عز وجل يعلم الأشياء على ما هي
عليه، فيعلم الحرام الذي ليس بمعين غير معين، وإذا أتى بها المكلَّف
كلها سقط العقاب عنه.
الدليل الثالث: أن حرف " أو " إذا ورد في النهي اقتضى الجمع
دون التخيير، ومثلوا لذلك بقوله تعالى:(وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) ، فالشارع نهى عن الطاعة لكل منهما.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن الترك في الآية قد تعلق بمفهوم أحدهما،
فلذلك أفاد التعميم.
المسألة التاسعة: هل الأمر بالشيء المعين نهي عن ضده؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب:
المذهب الأول: أن الأمر بالشيء المعيَّن نهي عن ضدِّ ذلك الشيء
المعيَّن من جهة المعنى، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد.
ذهب إلى ذلك: الأئمة الثلاثة - أبو حنيفة، ومالك، والشافعي -
وأكثر أتباعهم، وهو رواية عن الإمام أحمد وكثير من أتباعه،
واختاره فخر الدين الرازي وأكثر أتباعه، والقاضي عبد الجبار بن
أحمد، والكعبي، وأبو الحسين البصري.
وهو الصحيح عندي، فعلى هذا يكون الأمر بالصلاة: نهي في
المعنى عن الأكل والشرب والنوم، والأمر بالجلوس في البيت يكون
نهياً في المعنى عن الجلوس في الطريق وغير ذلك من المواضع التي
يضاد الجلوس فيها الجلوس في البيت.
ولقد صحَّحته للأدلة التالية:
الدليل الأول: أنه لا يمكن أن نتوصل إلى فعل المأمور به إلا بترك
ضده، فوجب أن يكون الأمر به نهياً عن ضده، فلو قال - مثلاً -:
" قم " لا يمكنه فعل القيام إلا بترك القعود، فوجب أن يكون نهياً
عن القعود، والاضطجاع، والركوع، ونحو ذلك، قياسا على
الأمر بالصلاة لما لم يمكنه فعل الصلاة إلا بتقديم الطهارة كان الأمر
بالصلاة أمراً بالطهارة، وجلب الماء، وتوفير كل الأسباب التي
يتوصل بها إلى صحة الصلاة، فكذا هاهنا.
الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " قم " فقعد حسن ذمه
وتوبيخه على القعود، فيقول له:" لِمَ قعدت؛ "، ولو لم يكن
الأمر بالقيام اقتضى النهي عن القعود: لما حسن توبيخه وذمه على
القعود.
الدليل الثالث: أن من أذن لغيره في دخول الدار ثم قال له:
"اخرج " تضمن هذا القول منعه من القيام فيها، واللفظ إنما هو أمر
بالخروج، وقد عقل منه المنع من المقام الذي هو ضده.
المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء هو بعينه طلب ترك الضد، فهو
طلب واحد: بالإضافة إلى جانب الفعل: أمر، وبالإضافة إلى
جانب الترك: نهي.
فالسكون هو عين ترك الحركة، وطلب السكون هو عين طلب
ترك الحركة، فالأمر بالسكون طلب واحد، هو بالإضافة إلى
السكون أمر، وبالإضافة إلى الحركة نهي.
ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني في أول أقواله، وتبعه
على ذلك بعض المتكلمين.
وبنى هؤلاء مذهبهم على أساس أن الأمر لا صيغة له، وإنما هو
معنى قائم بالنفس، فالأمر - عندهم - هو نفس النهي من هذا
الوجه، فاتصافه بكونه أمراً ونهيا كاتصاف الكون الواحد بكونه قريبا
من شيء بعيداً من شيء آخر.
جوابه:
يمكن أن يجاب عنه بأن يقال: إن مذهبكم هذا مبني على أن الأمر
بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ، وهذا غير صحيح؛ لأن
العرب فرقت بين لفظ الأمر، ولفظ النهي، فجعلت لفظ الأمر
موضوعا للإيقاع والحث على الفعل، ولفظ النهي لنفي الفعل،
وطلب الترك، فلم يجز أن يجعل أحدهما للآخر كما لا يجوز ذلك
في الخبر.
المذهب الثالث: أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده: لا بمعنى
أنه عينه، ولا بمعنى أنه يتضمنه، ولا بمعنى أنه يلازمه.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كالغزالي، وروي عن القاضي أبي
بكر الباقلاني، وجمهور المعتزلة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن صيغة الأمر تختلف عن صيغة النهي، فصيغة
الأمر " افعل " وصيغة النهي " لا تفعل "، فلا يجوز أن تكون صيغة
أحدهما مقتضية للآخر.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إنما لا يجوز ذلك ويمتنع لو
جعلنا الأمر بالشيء نهياً عن ضده من طريق اللفظ، فيكون اختلاف
صيغتهما مانعا لكون أحدهما مقتضيا للآخر، لكنا نقول: إن الأمر
بالشيء يقتضي النهي عن ضده من طريق المعنى - كما سبق بيانه -.
الدليل الثاني: أن النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده،
فكذلك الأمر بالشيء وجب أن لا يكون مقتضيا للنهي عن ضده.
جوابه:
يمكن أن يجاب عنه: بأنا لا نسلِّم ذلك، بل: إن النهي عن
الشيء يقتضي الأمر بضده، فإن كان له ضد واحد كالنهي عن صوم
يوم النحر: فإنه يقتضي الأمر بضده وهو الإفطار، وإن كان له
أضداد كالزنا فإنه يقتضي الأمر بضد من أضداده، لأنه بفعل ضد
واحد يترك المنهي عنه، وهو أن يشتغل عنه بأكل أو شرب أو نوم أو
نحو ذلك من الأعمال، فإنه يصير بفعله لأحد تلك الأمور تاركا
للزنا.
الدليل الثالث: أن الأمر بالشيء قد يكون غافلاً وذاهلاً عن
ضده، والنهي عن الشيء مشروط بالشعور بالمنهي عنه، فكيف يكون
الآمر طالبا ما هو غافل عنه؛ وإذا كان الآمر لم يغفل عن ضد
الشيء المأمور به: فإن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن ضده من حيث
ذات الأمر، بل يكون الأمر نهيا عن ضده من باب ما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب.
جوابه:
يمكن أن نجيب عنه بجوابين:
الجواب الأول: لا نسلِّم أنه يصح منه إيجاب الشيء عند الغفلة
عن الإخلال به؛ لأن الأمر المقتضي إيجاب شيء مركب من قيدين:
" إيجاب الفعل "، و " المنع من الترك "، فالمتصور للإيجاب متصور
للمنع من الترك، فيكون - بذلك - متصوراً للترك لا محالة.
الجواب الثاني: سلَّمنا أن الضد قد يكون مغفولاً عنه، ولا يمنع
ذلك من أن يكون الضد منهياً عنه؛ قياسا على مقدمة الصلاة، فإن
الأمر بالصلاة أمر بمقدمتها، وإن كان مقدمتها قد تكون مغفولاً عنها،
فكذلك هنا.
بيان نوع الخلاف:
أولاً: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول والثاني خلاف لفظي؟
لاتفاق الفريقين على أن الأمر بالشيء نهي عن ضدِّه، لكن أصحاب
المذهب الأول يقولون: إنه نهي عن ضده من جهة المعنى،
وأصحاب المذهب الثاني يقولون: إنه نهي عن ضده من جهة اللفظ.
ثانياً: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول وأصحاب المذهب
الثالث خلاف معنوي، قد أثر في كثير من المسائل الفقهية، ومنها:
1 -
إذا قال لزوجته: " إن خالفت نهيي فأنت طالق " ثم قال
لها: " قومي " فقعدت، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، وكان
سبب خلافهم هو خلافهم في هذه القاعدة.
فقال بعض العلماء: إنها تطلق؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وقال آخرون: إنها لا تطلق بنإء على أن الأمر بالشيء ليس نهيا
عن ضده.
2 -
إذا سجد على مكان نجس فما حكم صلاته؛
اختلف في ذلك:
فذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته باطلة، فيجب أن يعيدها كلها؟
لأنه مأمور بالسجود على مكان طاهر، والأمر بالشيء نهي عن
ضده، فالسجود على مكان نجس منهي عنه، فوجب أن تبطل
صلاته؛ لفعله ما نهي عنه.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يؤمر بإعادة السجود على مكان طاهر
ويجزئه؛ لأن المأمور به السجود على مكان طاهر، وقد أتى به، أما
السجود على مكان نجس فليس بمنهي عنه، لأن الأمر بالشيء ليس
نهيا عن ضده.
وإن أردت الزيادة من هذه الأمثلة فراجع كتابي " إتحاف ذوي
البصائر ".
تنبيه: الحرام عند الجمهور يشمل ما ثبت النهي عنه بدليل
قطعي، وما ثبت النهي عنه بدليل ظني، فلم يُفرق بينهما، وقد
تكلمنا عنه فيما سبق.
أما الحنفية فإنهم يفرقون بين ما ثبت بدليل قطعي، وما ثبت بدليل
ظني.
فسموا الثابت بدليل قطعي بالحرام.
وسموا الثابت بدليل ظني بالمكروه تحريما.
وفرقوا بين " الحرام " و " المكروه تحريما " بفروق، من أهمها:
الأول: أن من أنكر الحرام الثابت بدليل قطعي اعتبر كافراً، أما
منكر المكروه تحريما، فإنه يعتبر فاسقا.
الثاني: أن العقاب في ارتكاب الحرام أشد من العقاب في ارتكاب
المكروه تحريما.