الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني في تعريف الفقه
أولاً - تعريف الفقه لغة:
عرف الفقه لغة بعدَّة تعريفات، من أهمها:
الأول: الفقه هو: الفهم مطلقاً.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والباجي، وابن
عقيل، والإسنوي، وصفي الدين الهندي، والشوكاني.
وهو الصحيح عندي؛ لأنه ثبت بعد تتبع واستقراء النصوص
الشرعية أن لفظ " الفقه " ورد بمعنى الفهم من ذلك: قوله تعالى:
(فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) أي: لا يكادون
يفهمون.
ومن ذلك قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)
أي: يفهموا قولي.
ومنه قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) أي:
ما نفهم كثيراً من قولك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " نضَّر
الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما وعاها، فرب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه ".
وقلنا: الفهم مطلقاً أي: سواء كان عالِماً أو لا، وسواء فهم
الغرض من خطاب الشخص، أو فعله، أو إشارته، أو إيمائه، أو
غير ذلك.
الثاني: أن الفقه لغة هو: العلم، أي: إذا كان الشخص عالماَ
بأشياء لا يعلمها غيره من الناس فهو الفقيه، وإن لم يفهم ما يعلمه،
ذهب إلى ذلك ابن فارس في " المجمل "، وإمام الحرمين في
"البرهان "، وأبو يعلى في " العدة "، والكيا الهراسي.
الثالث: الفقه لغة هو: العلم والفهم معاً، يقال: فلان يفقه
الخير والشر، و " يفقه الكلام " أي: يعلمه ويفهمه، ذهب إلى
ذلك الغزالي في " المستصفى "، والآمدي فى " منتهى السول "،
وابن سيده في " المحكم ".
الجواب عنهما:
أقول - في الجواب عنهما -: إن هذين التعريفين يدخلان ضمن
التعريف الأول " حيث إن المراد بالفهم مطلقاً هو: معرفة الشيء،
ومعرفة الشيء بالقلب هو: العلم به.
الرابع: الفقه لغة هو: إدراك الأشياء الدقيقة.
ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، يقال:
" فقهت كلامك " أي: أدركت دقائقه، ويقال: " فلان فقيه في
الخير وفقيه في الشر " إذا كان يدقق النظر في ذلك، لكن لا يقال:
" فقهت أن السماء فوقي والأرض تحتي، وأن الماء رطب، والتراب
يابس ".
وكان الشعراء يُسمَّون في الجاهلية فقهاء " لإدراكهم المعاني الدقيقة
في أشعارهم، وتعبيرهم بها.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا من تعريفات الفقه اصطلاحاً؟
وذلك لأنه لم يرد في كلام أهل اللغة.
وإذا كان هذا من تعريفات الفقه اصطلاحا، فإنه تعريف ضعيف؟
لأنه يفضي ويؤدي إلى أن من علم الأشياء الظاهرة مثل ما علم من
الدين بالضرورة، ككون الصلاة واجبة، والزنا حرام، ونحو ذلك
من الأحكام الفقهية لا يُسمى فقيهاً. وليس كذلك؛ حيث إن كل
عالم بالأحكام عامة عن طريق الاستنباط يُسمَّى فقيهاً - وسيأتي بيان
هذَا إن شاء اللَّه.
الخامس: الفقه لغة: فهم غرض المتكلم من كلامه.
ذهب إلى ذلك أبو الحسين البصري في " المعتمد "، وفخر الدين
الرازي في " المحصول ".
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا التعريف للفقه بعيد؛ لأمرين:
أولهما: أنه مخالف لما نقل عن أهل اللغة؛ حيث إنه نقل عنهم:
أن الفقه هو مطلق الفهم.
ثانيهما: أن ما قيل في هذا التعريف هو تقييد للمطلق،
وتخصيص للعام بدون مقيد، وبدون مخصص.
ثانيا - تعريف الفقه اصطلاحاً:
1 -
الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: حفظ طائفة من مسائل
الأحكام الشرعية العملية الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وما استنبط
منهما، سواء كان قد حفظها مع أدلتها، أو مجرداً عنها.
أو تقول: إن الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: مجموع الأحكام
والمسائل التي نزل بها الوحي، والتي استنبطها المجتهدون، أو أفتى
بها أهل الفتوى، أو توصل إليها أهل التخريج، وبعض ما يحتاج
إليه من مسائل الحساب التي ألحقت بالوصايا والمواريث.
فاسم الفقيه عند الفقهاء لا يختص بالمجتهد - كما هو عند
الأصوليين - بل يشمله ويشمل غيره من المشتغلين في هذه المسائل.
2 -
أما الفقه في اصطلاح الأصوليين فهو: " العلم بالأحكام
الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية ".
شرح التعريف، وبيان محترزاته:
قولنا: " العلم " هو: مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن.
أي: مطلق إدراك الحكم، سواء كان عن دليل قطعي، أو عن
دليل ظني راجح، فيكون المراد بالعلم هو: ما علمناه بالشرع إما
بيقين أو غالب الظن.
هذا هو القول الحق " لأن الأحكام الفقهية منها ما هو قطعي،
ومنها ما هو ظني، فحمل الفقه على واحد منهما ليس بسديد.
والمقصود بالظن - هنا - هو ظن المجتهد الذي توفرت فيه شروط
الاجتهاد، وليس ظن كل أحد من العوام، أو طلاب العلم الذين
لم يبلغوا درجة الاجتهاد.
وبقولنا: إن العلم هو مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن،
نسلم من اعتراض أبي بكر الباقلاني المشهور وهو: أنه قال: إنكم
عرفتم الفقه بأنه " العلم بالأحكام.. "، والعلم معناه: الإدراك
الجازم المطابق للواقع عن دليل قطعي؛ الأحكام الفقهية لم تثبت
عن طريق أدلة قطعية، بل إن الأقل من تلك الأحكام ثبت عن دليل
قطعي، وغالب الأحكام الفقهية ثبتت عن أدلة ظنية، فإدخال لفظ
"العلم " في تعريف الفقه مع أن الفقه من باب الظنون باطل.
وإليك بيان كيف كان الفقه ظنياً:
الفقه من باب الظنون؛ لأنه مستفاد من الأدلة الظنية، وإليك بيان
ذلك:
الأدلة تنقسم إلى قسمين: " أدلة متفق عليها "، و " أدلة مختلف
فيها".
والمتفق عليها من حيث الجملة: " الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع،
والقياس ":
أما القياس: فإنه لا يفيد إلا الظن، وهو واضح.
وأما الإجماع: فإنه يتنوع إلى نوعين:
النوع الأول: الإجماع السكوتي، وهو لا يفيد إلا الظن، سواء
نقل إلينا عن طريق التواتر، أو الآحاد.
النوع الثاني: الإجماع الصريح فيه تفصيل:
إن نقل إلينا بطريق الآحاد، فهو لا يفيد إلا الظن.
وإن نقل إلينا بطريق التواتر، فهو يفيد القطع، لكنه في غاية البعد.
أما السُّنَّة، ففيها تفصيل:
إن نقلت الأحاديث عن طريق الآحاد، وهذا أكثر السُّنَّة، فلا
يفيد إلا الظن، سواء كانت دلالته قطعية أو ظنية.
وإن نقلت الأحاديث عن طريق التواتر - وهو قليل جداً - ففيه
تفصيل:
إن كانت دلالة الحديث على المعنى قطعية، فيفيد القطع، وهو
قليل، وإن كانت دلالة الحديث على المعنى ظنية، فلا يفيد إلا الظن.
وأما الكتاب، ففيه تفصيل:
إن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة ظهية، فلا تفيد إلا الظن.
وإن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة قطعية، فإنها تفيد القطع.
وما هو مقطوع الدلالة من الكتاب والسُّنَّة المتواترة، يكون من
ضروريات الدين.
أما الأدلة المختلف فيها كالمصالح، والاستصحاب، والعرف،
وسد الذرائع، وقول الصحابي، وشرَع من قبلنا، والاستحسان،
فإنها لا تفيد إلا الظن عند القائلين بها.
إذاً يكون غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، فيكون
الفقه ظنياً على الغالب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن يقال:
إن الفقه هو " العلم بالأحكام.. "، بل يقال: " إن الفقه: الظن
بالأحكام الشرعية.. "، فإيراد العلم مكان الظن يكون إيراداً لضد
الشيء مكانه في التعريف، فيكون التعريف باطلاً.
هذا هو اعتراض الباقلاني المشهور.
وبتفسيرنا " العلم " بأنه مطلق الإدراك، ومطلق الإدراك يشمل
القطع والظن، نسلم من هذا الاعتراض للباقلاني.
قولنا: " بالأحكام "، الباء متعلقة بمحذوف تقديره:" المتعلق"
ويكون الكلام بعد التقدير: " العلم المتعلق بالأحكام الشرعية ".
والمراد بتعلق العلم بالأحكام: التصديق بكيفية تعلقها بأفعال
المكلفين، كأن تعلم - مثلاً - أن الوجوب ثابت للصلاة، وأن الزنا
محرم.
والأحكام جمع " حكم "، والحكم يطلق على إطلاقات كثيرة
تختلف باختلاف الاصطلاحات، وهي كما يلي:
الاصطلاح الأول: أن الحكم يطلق على إدراك الوقوع أو عدم
الوقوع، أي: إدراك أن النسبة واقعة أو ليست واقعة، وهذا
اصطلاح المناطقة.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذا
الإطلاق؛ لأن العلم هو: الإدراك - كما سبق ذكره - فإذا كان
الحكم هو الإدراك فيكون التقدير: الفقه هو: إدراك الإدراك للوقوع،
أو عدم الوقوع، وهو معنى فاسد.
الاصطلاح الثاني: أن الحكم هو: خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل
المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وهذا اصطلاح الأصوليين.
جوابه -:
أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذا
الإطلاق " لأن ذلك يجعل قيد: " الشرعية " الوارد في تعريف الفقه
لغواً لا فائدة فيه، حيث إن الحكم بهذا الإطلاق لا يكون إلا
شرعياً، فيترتب على ذلك حصول التكرار.
الاصطلاح الثالث: أن الحكم هو: إسناد أمر إلى أمر آخر
إيجاباً، أو سلباً، أو هو ثبوت شيء لشيء آخر، أو نفيه عنه،
وهو اصطلاح اللغويين.
وهذا هو المراد بالحكم هنا عندي، لأمرين:
أولهما: لعمومه وشموله.
ثانيهما: أن الإطلاقات والاصطلاحات الأخرى ثبت عدم صحتها.
والحكم على هذا الإطلاق منقسم إلى ما يلي:
الحكم الشرعي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الشارع
نحو: الصلاة واجبة.
الحكم العقلي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من العقل نحو:
الخمسة نصف العشرة.
الحكم الحسي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الحواس
الخمس نحو: الثلج بارد.
الحكم التجريبي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من التجربة
نحو: الإهليلج مسهل.
الحكم الوضعي الاصطلاحي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة
من الوضع اللغوي كالحكم بأن الفاعل مرفوع، والمفعول به
منصوب.
وقولنا: " بالأحكام " دخلت " أل " على الأحكام، وهي هنا
تكون للعموم، فتعم شيئين:
أولهما: العلم بالأحكام بالفعل.
ثانيهما: العلم بالأحكام بالقوة.
أي: لا يراد من العلم بجميع الأحكام: معرفتها جميعها
بالفعل، بمعنى: أن يعرف حكم كل مسألة يسأل عنها، ولا يجهل
شيئاً من الأحكام.
بل المراد من العلم بالأحكام ومعرفتها: العلم ببعضها بالفعل،
والعلم بالباقي بالقوة، بحيث تكون عنده القدرة على تحصيلها
بالأخذ في أسباب الحصول، وهو ما يعرف بالملكة والتهيؤ، ولا شك
أن كل مجتهد عنده القدرة والملكة التي يستطيع بها استنباط الحكم
واستخراجه إذا لزم الأمر وحدثت حادثة تقتضي ذلك.
فيسمى فقيهاً نظراً لوجود الملكة عنده، فيكون عالماً ببعض
الأحكام بالفعل، والبعض الآخر بالقوة والاستعداد.
وقلنا ذلك لأن " أل " الداخلة على " الحكم ": لا يصح أن تكون
للعهد؛ لأنه لم يتقدم للحكم ذكر حتى تكون للعهد الذكري، ولا
يوجد بين المعرف والمخاطب معرفة وعهد حتى تكون للعهد الذهني.
ولا يصح أن تكون " أل " للجنس؛ لأن أقل جنس الجمع ثلاثة،
فيلزم من ذلك أن يسمى العامي فقيهاً إذا عرف ثلاث مسائل بأدلتها؟
لصدق اسم الفقيه عليه، وليس كذلك.
ولا يصح أن تكون " أل " لمطلق الحقيقة -؛ لأنه يلزم من ذلك أن
من عرف حكماً واحداً بدليله يكون فقيهاً، وليس كذلك.
ولا يصح أن يكون " أل " لاستغراق الجنس؛ لأنه يلزم من كونها
لاستغراق الجنس أن الشخص لا يُسمَّى فقيهاً إلا إذا علم جميع
الأحكام الشرعية الفرعية، فمن لم يعلمها كلها: فإنه يخرج من
زمرة الفقهاء، وهذا باطل؛ لأن الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء
كانوا لا يعلمون كل الأحكام، إذ ما من إمام إلا وقد خفي عليه
بعض الأحكام، فقد ذكر الهيثم بن جميل عن الإمام مالك أنه سئل
عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: " لا
أدري ".
وذكر أبو القاسم بن يوسفما الحسني الحنفي: أن الإمام أبا حنيفة
قال في ثمان مسائل: " لا أدري ".
وذكر ابن جماعة: أن محمد بن الحكم سأل الإمام الشافعي عن
المتعة: أكان فيها طلاق، أو ميراث، أو نفقة؟ فقال: " والله ما
ندري ".
وذكر الأثرم: أنه كان يسمع الإمام أحمد يكثر من قول: " لا أدري ".
والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى.
قولنا: " الشرعية " أي: يجب أن تكون تلك الأحكام شرعية،
أي. مستفادة من الأدلة الشرعية، سواء كانت تلك الأدلة متفق
عليها، أو مختلف فيها.
فلفظ " الشرعية " أخرج الأحكام المستفادة من العقل، أو من
الحس، أو من الوضع اللغوي، أو من التجرية.
قولنا: " العملية ": يبين أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يكون فيها
عمل جوارح كالصلاة، والزكاة، والحج، والمعاملات، والجنايات
ونحو ذلك.
وليس المراد بـ " العملية " هو: أن جميع الأفعال هي عملية
وأفعال، بل المراد: أن أكثرها فعلي وعملي، لا كلها، وذلك
لوجود بعض الأحكام الفقهية الكائنة بالقلب دون عمل الجوارح؛ الفقيه كما يكون فقيهاً بالعلم بوجوب الصلاة والصيام والحج،
كذلك يكون فقيهاً بالعنم بوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياء
والحسد، وأمور كثيرة لا توجد إلا بالقلب، فيدخل عمل الجوارح،
وعمل القلب، وما هو وسيلة إلى العمل كعلم أصول الفقه.
وخرج بكلمة " العملية " الأحكام الشرعية العقائدية، وهو علم
التوحيد، كالعلم بأن اللَّه واحد سميع بصير، فهذا ليس من الفقه
في شيء.
اعتراض:
اعترض بعضهم كالإسنوي على هذا قائلاً: إن هذا تناقض،
حيث أدخلتم في لفظ " العملية " عمل القلب كوجوب النية، ولم
تدخلوا علم التوحيد فإنه عمل قلب أيضاً.
جوابه:
إن عمل القلب كوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياء،
والحسد، والحقد، ونحو ذلك تشبه عمل الجوارح أكثر من شبهها
بالاعتقاد " لكونها تظهر على المتصف بها ولو بعد حين، فألحقناها
بعمل الجوارح لكثرة شبهها به، فلو جالست شخصاً حاقداً، أو
حاسداً، أو لا إخلاص عنده، فإنك ستعلم ذلك عنه من خلال
عمله وتصرفاته، ولكنك لن تعلم أن جليسك هذا أشعري، أو
معتزلي من أي عمل عمله، لأنه بينه وبين اللَّه.
اعتراض آخر:
ذكر بعض العلماء كفخر الدين الرازي وتلميذه تاج الدين الأرموي:
أن كلمة: " العملية " خرج بها - أيضاً - أصول الفقه، لأن العلم
بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّة - مثلاً - ليس علماَ
بكيفية عمل.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: هذا ليس بصحيح، فلا يخرج
بكلمة " العملية " علم أصول الفقه، بل يدخل - كما سبق أن
قلناه -؛ لأن هذه القواعد - ككون الإجماع والقياس وخبر الواحد
حُجَّة - هي وسيلة إلى العمل، فالغاية المطلوبة منها العمل،
والموضوع عمل من أعمال المكلفين، وتلك هي مسائل المكلفين.
أي: أن حكم الشرع بكون الإجماع والقياس وخبر الواحد حُجَّة
معناه: أن نتعبد ونعمل بالحكم الذي يثبت عن طريق تلك الأدلة،
ويجب العمل بمقتضاه، والإفتاء بموجبه.
قولنا: " المكتسب من الأدلة ": لفظ " المكتسب " مرفوع،
حيث إنه وصف للعلم، أي: أن هذا العلم بالأحكام الشرعية
العملية مأخوذ بسبب النظر بالأدلة واستنباط الأحكام منها، فأي
شخص حصل على العلم بالأحكام بدون النظر بالأدلة لا يسمى فقيهاً
مهما كان.
وعلى هذا خرج بهذه الكلمة - أعني: " المكتسب من الأدلة " -
ما يلي:
1 -
علم اللَّه تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه أخذ من أدلة، حيث إنه
أزلي غير مكتسب.
2 -
علم الأنبياء عليهم السلام بالأحكام من غير اجتهاد، حيث
يتلقى ذلك عن طريق الوحي.
أما علم الأنبياء والرُّسُل الحاصل عن اجتهاد ونظر، فهو علم
مكتسب، لذلك يوصف بأنه فقيه في هذا الذي اجتهد فيه.
3 -
علم الملائكة؛ لأنه مأخوذ من اللوح المحفوظ.
4 -
علم المقلد الذي لم يجتهد في تحصيل واستنباط أي حكم من
الأحكام من أدلتها، بل أخذ الحكم عن المجتهد، فمعرفته ببعض
الأحكام ليست حاصلة عن دليل أصلاً لا إجمالي، ولا تفصيلي.
وقولنا: " التفصيلية " أي: آحاد الأدلة، بحيث يدل كل دليل
بعينه على حكم معين مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ،
وقوله: (ولا تقربوا الزنا) .
وقد جيء بلفظ " التفصيلية " لإخراج الأدلة الإجمالية الكلية
كمطلق الأمر، ومطلق النهي، والإجماع، والقياس، وقول
الصحابي ونحو ذلك، فالبحث عن هذه الأدلة الإجمالية من عمل
وشأن الأصولي.
وتعريف الفقه - السابق - يبين ويوضح أن أيَّ حكم شرعي عملي
أخذه هذا الشخص من دليل تفصيلي، فإنه يُسمَّى فقيهاً، سواء كان
ظاهراً جلياً، أو كان غامضاً خفياً.
اعتراض:
اعترض فخر الدين الرازي على ذلك قائلاً: إذا كان الحكم
معلوماً من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة، ووجوب الصوم،
وغيرهما مما يعرف من أدلة ظاهرة جلية، فإن العارف لذلك لا
يسمى فقيهاً، حيث إنه أخذ ذلك من غير نظر واستدلال.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: ماذا يعني فخر الدين بالضرورة؟
إن كان يعني بها: أن كل من تصور الدين الذي جاء به نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم حصل له العلم الضروري بوجوب الصلاة، ووجوب الصوم ونحوهما، فليس كذلك، لأنه في ابتداء الإسلام لم يكن
الأمر كذلك، فإن الفقه كان حاصلاً بها للصحابة - رضي الله
عنهم - ولم تكن ضرورية - حينئذٍ - وفقه الصحابة يجب أن يتناوله
حد الفقه.
وإن أراد بها: بعد اشتهار الإسلام وانتشاره، فإن أكثر الأحكام
كذلك تحريم الزنا، والغصب، والسرقة، والربا، ونحوها،
فلو خرجت هذه الأحكام وما شابهها مما اشتهر وعرفه أكثر الناس
لخرج أكثر الفقه عن أن يسمى فقهاً؛ لأن هذه المسائل هي المسائل
الأصلية في الفقه، وغيرها يتفرع عنها.
وبهذا يتبين: أن الفقيه هو العالم الذي علم الأحكام الشرعية
العملية المكتسب والمأخوذ من الأدلة التفصيلية، ولا يمكن أن يكون
كذلك إلا إذا توفرت فيه شروط المجتهد.
فمن حفظ المسائل الفقهية المدونة في كتب الفقه على مذهب
واحد، أو على المذاهب الأربعة بأدلتها، فلا يُسمَّى فقيها، ولكن
يُسمَّى ناقل للفقه عن غيره، ولو كان حافظاً للقرآن والسُّنَّة. والله
أعلم.