الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في شروط التكليف
شروط التكليف تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شروط ترجع إلى المكلَّف وهو المحكوم عليه.
القسم الثاني: شروط ترجع إلى الفعل المكلَّف به، وهو المحكوم فيه.
القسم الأول في شروط المكلَّف
ويشتمل على مسائل.
المسألة الأولى: بيان شروط المكلف.
المسألة الثانية: تكليف الجن.
المسألة الثالثة: هل الصبي غير المميز مكلَّف؟
المسألة الرابعة: الصبي المميز هل هو مكلَّف؟
المسألة الخامسة: المجنون المميز هل هو مكلَّف؟
المسألة السادسة: المعتوه هل هو مكلَّف؟
المسألة السابعة: هل الناسي والساهي والغافل والنائم والمغمى عليه مكلفون؟
المسألة الثامنة: هل السكران مكلف؟
المسألة التاسعة: تكليف المكره.
المسألة العاشرة: تكليف الكفار بفروع الإسلام.
المسألة الأولى: بيان شروط المكلَّف:
الشرط الأول: أن يكون بالغاً.
الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً.
الشرط الثالث: أن يكون فاهماً للخطاب.
فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة في شخص أصبح هذا الشخص
مكلَّفاً بأحكام الشرع.
والبلوغ: هو الوصول إلى الحدِّ الذي إذا وصله الشخص فإنه
تحسب له الحسنات، وتحسب عليه السيئات.
والبلوغ يكون إما باستكمال خمس عشرة سنة، أو بالاحتلام
- وهو إنزال المني -، أو بإنبات شعر من قبل، هذا بالنسبة للذكر.
أما الأنثى فيعرف بلوغها بأحد الأمور التي تخص الذكر، وتزيد
أمراً رابعاً وهو: الحيض.
والمقصود بالعقل: آلة التمييز والإدراك.
والفهم هو: جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص كل ما يرد عليه
من المطالب.
والمراد بالخطاب: هو خطاب الشارع، سواء كان أمراً أو نهياً أو
تخييراً.
وفرَّقنا بين اشتراط البلوغ، واشتراط العقل مع أن بعض العلماء
قد جعلوا البلوغ يدخل ضمن اشتراط العقل، وقالوا: إن البلوغ
وضعه الشارع حداً للعقل الذي يتفاوت الناس فيه، لكننا فرَّقنا بينهما
وأفردناه عن شرط العقل، لاختلاف حكم الصبي عن المجنون
وغيره، وذلك لأن اشتراط البلوغ أخرج الصبي، واشتراط العقل
أخرج المجنون.
وفرقنا بين اشتراط العقل واشتراط الفهم، مع أن بعض العلماء لم
يُفرِّقوا بينهما؛ لأنا أردنا بالعاقل ما يخالف المجنون، وأردنا بالفاهم
ما يخالف النائم والغافل والساهي.
الحاصل: أنه يشترط في الشخص المراد تكليفه: أن يكون قدى
وصل إلى الحدِّ الذي نعرف بواسطته خروجه عن مرحلة الصبا، وأن
يتوفر فيه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والطيب والخبيث،
وأن يتوفر فيه الفهم الذي يستطيع به أن يدرك المراد والمطلوب من ذلك
الخطاب الموجه إليه، ويفهم كيفية امتثاله، ويفهم المقصود من
التكليف حتى تصح النية، حيث لا عمل إلا بنية.
***
المسألة الثانية: تكليف الجن:
الجني البالغ، العاقل، الذي يفهم الخطاب هل هو مكلَّف أو لا؟
أقول: إن الجن مكلَّفون بفروع الشريعة كأصولها، لما يلي من
الأدلة:
الأول: قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
الثاني: قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) .
الثالث: قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) .
الرابع: الإجماع، حيث أجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل
بالقرآن إلى الإنس والجن، وجميع أوامره ونواهيه تتوجه إليهما،
وهي تشمل الأوامر والنواهي في الأصول والفروع.
لكن تكليفهم يختلف عن تكليف الإنس؛ لأن طبيعة كل واحد
تختلف محن طبيعة الآخر، فالجن يخالفون بالحد والحقيقة الإنس،
وإذا خالفوهم في ذلك فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف.
فمثلاً: الجني يقصد البيت الحرام للحج طائراً؛ لأنه قد أعطي
قوة الطيران في الهواء، أما الإنسان فلا يخاطب بذلك لعدم وجود
تلك القوة عنده.
ولقد نقل بعض العلماء كابن نجيم في الأشباه والنظائر أحكاما
خاصة تتعلق بالجن ومنها: هل تصح الصلاة خلفه، ونحو ذلك.
***
المسألة الثالثة: هل الصبي غير المميز مكلَّف؟
الصبي غير المميز هو: الذي لا يميز ولا يفرق بين الأشياء، فلا
يميز بين الحق والباطل، وبين الطيب والخبيث، وبين الجيد والرديء.
ومدته سبع سنوات، وهو من ولادته إلى تمامه سبع سنوات من
عمره، والسبب في هذا التحديد ما رواه ابن عمر - رضي الله
عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" مروا أولادكم لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرَّقوا بينهما في المضاجع "، فقد أمر الشارع - هنا -
الولي بأن يأمر الصبي البالغ سبع سنوات بالصلاة للتمرين والتدريب،
ويفهم منه أن الصبي غير البالغ هذا السن لا يؤمر ولا ينهى؛ لأنه لا
يفرق بين الأمور.
وهذا الصبي قد اختلف في تكليفه على مذهبين:
المذهب الأول: أن الصبي غير المميز غير مكلَّف.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق عندي الذي لا يجوز
غيره؛ وذلك لأن الذي لا يفهم الخطاب الوارد من الشارع لا يتصور
منه قصد مقتضاه، والصبي غير المميز لا يفهم شيئاً من الخطابات،
فلذلك سقطت عنه المطالبة بمقتضى ذلك الخطاب، بيان ذلك:
أن المقصود والغرض من تكليف الشارع لعباده بالتكاليف الشرعية
هو: أن يمتثلوا بفعل المأمور به وترك المنهي عنه؛ لتحقيق امتحان الله
للمكلَّف، ولا يصح ذلك الامتثال وتلك الطاعة إلا بوجود النية
والقصد، ولا تصح النية إلا بوجود شرطها وهو: أن يعلم المكلَّف
بالفعل المكلَّف به، وكيفية امتثاله، والمقصود منه، وأن يعلم من هو
المكلِّف - بكسر اللام - وغرضه من هذا التكليف وما يتعلق بذلك
من رغبة ورهبة، ووعد ووعيد، وهذه الأمور لا يمكن أن يدرك
حقائقها الصبي غير المميز، فلذلك رفع التكليف عنه.
فعدم معرفته لتلك الأمور وعدم فهمه للخطابات قد منع من
تكليفه، فلا يمكن تكليفه مع قيام المانع، وهذا ينزل منزلة تكليف
المقعد بالقيام وذلك مستحيل.
المذهب الثاني: أن الصبي غير المميز مكلَّف.
ذهب إلى ذلك بعض الناس كما نقل ذلك أبو البركات ابن تيمية
في " المسودة ".
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الصبي قد وجه إليه الخطاب بدفع الزكاة من
ماله إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول، ودفع أروش الجنايات،
وقيم المتلفات، وهذا تكليف من جهة الشرع، فلو كان غير مكلَّف
لما لزمه دفع تلك الواجبات من ماله، فلما لزم ذلك دلَّ على تكليفه.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن وجوب تلك الواجبات عليه ليس من
باب خطاب التكليف، وإنما هو من باب خطاب الوضع؛ حيث إنه
من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فالشرع وضع أسبابا تقتضي أحكاما
تترتب عليها، تحقيقا للعدل في خلقه، ومراعاة لمصالحهم تفضلاً منه
سبحانه، فهذه لا تكليف فيها.
فبلوغ المال النصاب سبب لوجوب الزكاة في هذا المال، بعد
حولان الحول عليه سواء كان مالكه صبيا أو بالغا.
فإذا بلغ ذلك المال النصاب وحال عليه الحول، فقد وجب في ذمة
الصبي إخراج الزكاة.
كذلك الإتلاف سبب لوجوب قيمة المتلَف - بفتح اللام - على
المتلف بقطع النظر عن المتلف - بكسر اللام - أي: سواء كان صغيراً
أو كبيراً.
كذلك إذا جرح الصبي شخصا بجرح صغير: فإن هذا سبب
لإخراج أرش هذا الجرح من مال الجارح، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
الخلاصة: أن بلوغ المال النصاب، ونفس الإتلاف، والجنايات
بالجراح أسباب لثبوت حقوق في ذمة الصبي.
ولكون اللَّه سبحانه قد حفظ للناس حقوقهم، ونظراً لأن حكمته
اقتضت عدم ظلم الفقير، وظلم الآخرين، فإن هذه الأسباب تكون
خطابات لولي الصبي، أو الوصي عليه، بحيث يخرج هذه الحقوق
من ماله من زكاة، وقيم متلف، وأرش جناية.
وإن لم يمكن ذلك فإن بلوغ النصاب والإتلاف والجنايات تكون
أسباباً لخطاب الصبي بعد بلوغه؛ لتمكنه في تلك الحال من فهم
الخطاب.
أي: إما أن يتوجه الخطاب بتلك الأسباب في الحال إلى الولي أو
الوصي.
أو يتوجه في المآل؛ لأن مآل الصبي هو البلوغ،
الدليل الثاني: أن الزكاة، وقيمة المتلف، وأرش الجناية تثبت في
ذمة الصبي، وهذا يفيد أنه مكلَّف، إذ لو كان غير مكلَّف لما ثبت
في ذمته شيء.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن ثبوت تلك الأحكام في ذمة الصبي ليس
بسبب كونه مكلفاً، بل إن الصبي صار أهلاً لثبوت الأحكام في ذمته
بسبب توفر صفة الإنسانية فيه التي بها يكون مستعداً لقبول قوة العقل
الذي بواسطته يستطيع فهم التكليف، وذلك بعد البلوغ.
فصفة الإنسانية الموجودة في الصبى هى التى جعلته أهلاً للتكليف
بالقوة لا بالفعل.
بخلاف البهيمة، فلا يمكن أن يكون لها أهلية فهم الخطاب ولا
التكليف لا بالقوة ولا بالفعل؛ لعدم صفة الإنسانية فيها، فلذلك لا
تثبت في ذمتها الأحكام، ولم تهيا لذلك.
ومما يؤيد ذلك: القياس على النطفة في الرحم، فإنه يثبت لها
الملك بالإرث والوصية مع أن الحياة التي هي شرط الإنسانية والتي
تثبت بها الملكية مفقودة، وليست موجودة بالفعل، ولكن هذه
النطفة تملك بالقوة؛ لأن مصير هذه النطفة - غالبا - إلى الحياة،
فلذلك صلح أن تملك تلك النطفة، ولكن هذا الملك بالقوة لا بالفعل.
فكذلك الصبي مصيره إلى العقل والبلوغ وفهم الخطاب، فصلح
لأن يثبت في ذمته بعض الأحكام من إخراج الزكاة، ودفع قيمة
المتلفات ونحو ذلك، والجامع: أن كلاً منهما لا يستطيع التصرف في
الحال فيما يملكه.
***
المسألة الرابعة: الصبي المميز هل هو مكلَّف؟
الصبي المميز هو: من تجاوز سن السابعة من عمره - وقيل: هو
من تجاوز سن السادسة - وهو يدرك حقائق الأمور ويميز بين الأفعال
والأقوال، والجيد والرديء، والحق والباطل.
فهو في هذه الحالة قد توفر فيه العقل، وفهم خطاب الشارع فهل
هو مكلَّف؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه غير مكلف مطلقا.
وهو قول جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن كون الصبي
المميز عاقلاً يفهم الخطاب ويميز بين حقائق الأمور جعل تكليفه
ممكن، لكن الشارع وضع وحط عنه التكليف؛ رفعا للحرج؟
حيث إن العقل والفهم يتزايدان تزايداً غير واضح، فلا يعلم هو
بنفسه ولا غيره ذلك التزايد، فلا يمكن الوقوف على أول وقت فهم
فيه خطاب الشارع، وأول وقت عرف حقيقة المرسل - بكسر السين -
والمرسَل - بفتح السين -، والغرض من إرسال الرسل، فنظراً
لعدم معرفة ذلك بالتحديد، جعل الشارع وقتاً محدداً للتكليف، ألا
وهو: البلوغ، فهو علامة واضحة جلية لظهور العقل وفهم الخطاب
على الغالب، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ
…
".
والبلوغ يكون إما باستكمال خمس عشرة سنة، أو بالاحتلام، أو
بإنبات شعر من قبل، وتزيد الأنثى بخروج الحيض.
فوضع الشارع ضابطاً يضبط الحد الذي تتكامل فيه بنيته وعقله وهو
" البلوغ "، ولهذا فإن أكثر الأحكام تتعلق به.
قال بعض العلماء: كأن الشارع لم يلزم الصبي قضايا التكليف؟
لأمرين:
أولهما: أن الصبي مظنة الغباوة، وضعف العقل، فلا يستقل
بأعباء التكليف.
ثانيهما: أنه عري عن البلية العظمى، وهي الشهوة.
المذهب الثاني: أن الصبي المميز مكلف مطلقاً.
وهو رواية عن الإمام أحمد.
دليل هذا المذهب:
أن الصبي المميز عاقل، يفهم خطاب الشرع، مميز بين الأقوال
والأفعال، ويميز بين الخير والشر، والجيد والرديء، والحق
والباطل، وما دام الأمر كذلك فما المانع من تكليفه، وقد توفر فيه
الشروط التي تشترط في البالغ وهو العقل والفهم؛
جوابه:
يجاب عنه بأنا لا نعلم متى فهم وأدرك وعقل حتى يكلف
بالتكاليف الشرعية ويطالب بها، وذلك لأن نمو العقل وتزايد الفهم
وتطوره خفي عنا، ويصعب علينا - إن لم يستحيل - الوقوف على
الحدِّ الذي به يمكن أن نحكم عليه بأنه عاقل وفاهم للخطاب.
ثم إن الصبيان يختلفون باختلاف تنشأتهم، وبيماتهم، ومعاملتهم،
ونحو ذلك، وقد يكون عقل وفهم هذا الصبي يختلف عن عقل
وفهم صبي آخر، مما يلزم منه اختلاف الحكم باختلاف الصبيان.
فسداً لذلك ورفعا للحرج: بيَّن الشارع علامة لا نختلف عند
وجودها وهي: " البلوغ "، فإذا بلغ الشخص كان مكلَّفا، أما قبل
البلوغ فلا يمكن تكليفه.
المذهب الثالث: الفرق بين الصبي المميز البالغ عشر سنين وبين
الصبي المميز غير البالغ عشر سنين.
فالبالغ عشر سنين يكلف بالصلاة، أما من هو أقل من ذلك فلا
يكلف، ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وابن سريج من
الشافعية.
دليل هذا المذهب:
قوله صلى الله عليه وسلم:
"مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر".
وجه الاستدلال: أن الصبي المميز مأمور بالصلاة ومعاقب على
تركها، وهذا يدل على تكليفه، ولو لم يكن مكلَّفا لما ضُرِب على
تركها.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الأمر بصلاة الصبي المميز والأمر بضربه ليس من
جهة الشارع، وإنما هو من جهة الولي، والعبارة تدل على ذلك
حيث قال: " مروا
…
وأضربوهم " يعني: أيها الأولياء مروا
أولادكم، واضربوهم
…
، وقلنا ذلك لأن الصبي يفهم خطاب
الولي، ويخاف ضربه، فصار أهلاً لذلك، ولكنه لا يفهم خطاب
الشارع أصلاً، ولا يفهم عقابه، فالصبي مأمور ومعاقب من قبل
الولي.
ثم الأمر والضرب هنا: للتأديب والتهذيب.
المسألة الخامسة: المجنون هل هو مكلَّف؟
المجنون مأخوذ لغة من جن يجن: إذا استتر، ويقال: جن
يجن، جناً، وجنوناً، ومجنة، أي: زال عقله، ومنه قوله
تعالى: (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)، والجنون معناه: زوال العقل، أو فساد فيه.
والجنون اصطلاحاً هو: اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة
والقبيحة المدركة للعواقب، بأن لا يظهر آثارها وتتعطل أفعالها.
وهو نوعان: " جنون أصلي "، و " جنون عارض ".
أما الجنون الأصلي فهو: أن يولد الإنسان فاقد العقل، ويستمر
على ذلك.
أما الجنون العارض فهو: أن يبلغ الإنسان سليم العقل، كامل
الفهم، ثم يطرأ له الجنون.
والمجنون اختلف في تكليفه على مذهبين:
المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الحق: لعدم فهمه للخطابات الواردة من الشارع، وعدم
إدراكه وعلمه للفعل المكلَّف به، وكيفية امتثاله، وعدم وجود النية
والقصد منه، وهو يصدق عليه الدليل الدال على عدم تكليف الصبي
غير المميز.
المذهب الثاني: أنه مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك بعض الناس كما حكى ذلك ابن تيمية في " المسوَّدة ".
أدلة أصحاب هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الجنون قد وجه إليه الخطاب بدفع الزكاة،
ودفع قيمة المتلف، ودفع أروش الجنايات، ولو لم يكن مكلَّفا لما
وجه إليه خطاب، ولما أخذت تلك الحقوق من ماله.
جوابه:
قد سبق الجواب عنه، وهو جوابنا عن الدليل الأول من أدلة
القائلين: إن الصبي غير المميز مكلَّف.
الدليل الثاني: أن الزكاة، وقيمة المتلفات، وأرش الجناية قد
ثبتت في ذمة المجنون، وهذا يفيد أنه مكلَّف، إذ لو لم يكن مكلَّفاَ
لما ثبت في ذمته شيء.
جوابه:
قد سبق الجواب عنه، وهو جوابنا عن الدليل الثاني من أدلة
القائلين بأن الصبي غير المميز مكلَّف.
المذهب الثالث: الفرق بين المجنون المطبق، والمجنون غير المطبق،
فالمجنون المطبق - وهو الذي لا يفيق - غير مكلف مطلقاً.
أما المجنون غير المطبق - وهو الذي يفيق أحياناً - فهذا مكلَّف،
وقد حُمِل على هذا المذهب ما روي عن الإمام أحمد: أن المجنون
يقضي الصلاة والصوم.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن دليل عدم تكليف المجنون المطبق هو دليل الجمهور في المذهب
الأول.
أما دليل تكليف المجنون غير المطبق فهو: أنه يعقل ويفهم خطاب
الشارع في إفاقته، فينبغي تكليفه بناء على ذلك.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأن إفاقته ليست واضحة جلية حتى نكلفه أثناء
تلك الإفاقة، فلا يمكننا الوقوف على أول وقت الإفاقة وأول وقت
فهمه للخطاب، ونظراً لعدم معوفتنا لذلك بالتحديد فإنه يستحيل
تكليفه.
***
المسألة السادسة: هل المعتوه مكلَّف؟
المعتوه لغة مأخوذ من العته، وهو نقص العقل من غير جنون.
وهو في الاصطلاح: آفة ناشئة عن الذات توجب خللاً في العقل
فيصير صاحبه مختلط الكلام، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء،
وبعضه كلام المجانين.
وقلنا بأنه: " آفة ناشئة عن الذات " لإخراج الآفة الناشئة بسبب
عارض كالمخدرات والخمور وغيرها.
الفرق بين المجنون والعتوه:
يوجد بين المجنون والمعتوه فروق إليك أهمها:
الفرق الأول: أن المعتوه له عقل ولكنه ضعيف عن إدراك وفهم
الخطاب، أما المجنون فإنه لا عقل له.
الفرق الثاني: أن المعتوه قد يكون مميزا، وقد يكون غير مميز،
بخلاف المجنون، فلا يكون مميزا أبداً.
الفرق الثالث: المعتوه لا يصاحبه تهيج واضطراب، بخلاف
المجنون فقد يصاحبه تهيج واضطراب.
فالمعتوه الذي يفهم خطاب الشارع - هل هو مكلف؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقا.
وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ قياسا على المجنون،
وعلى الصبي غير المميز، والجامع: ضعف العقل عن إدراك حقائق
الأمور، وعن فهم خطابات الشارع على ما هي عليه.
المذهب الثاني: أنه مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك بعض الناس.
دليل هذا المذهب:
استدلوا بنفس الأدلة التي استدل بها القائلون: إن الصبي والمجنون
مكلَّفان من حيث وجوب دفع الزكاة، وقيمة المتلفات، وأروش
الجنايات عليه، ومن وجوب ذلك في ذمته.
جوابه:
الجواب عن ذلك هو نفس ما أجبنا به عن الدليلين السابقين،
فاستحضرهما من هناك.
المذهب الثالث: الفرق بين العبادات وغيرها.
فالمعتوه تجب عليه العبادات ويكلف بها دون غيرها من الأحكام.
ذهب إلى ذلك أبو زيد الدبوسي من الحنفية.
دليله: الاحتياط، حيث إن العبادات يحتاط لها أكثر من غيرها.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا غير صحيح، لأن العبادات لازمة في حق
من يفهم الخطاب عند سماعه به وتوجيهه إليه، والمعتوه لا يفهم
الخطاب، فاختل شرط المكلف وهو:" فهم الخطاب "، وإذا
اختل شرط من شروط المكلف فإنه لا تكليف مطلقا.
وبناء عليه لا تجب العبادات ولا غيرها من الأحكام الشرعية.
المسألة السابعة: هل الناسي والساهي والغافل والنائم والمغمى
عليه مكلَّفون؟
الناسي مأخوذ من النسيان - بكسر النون وسكون السين - وهو:
ضد الذكر والحفظ، هذا لغة.
وهو اصطلاحاً: عاهة تنشأ عن اضطراب أو عطب في المخ، أو
عن اضطراب شديد في الحياة العقلية يسببه القلق والصراع النفسي.
وقيل: معنى يعتري الإنسان بدون اختياره، فيوجد الغفلة عن
الحفظ.
وقيل: هو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه.
أما السهو: فهو أخف من النسيان؛ لأن النسيان هو: زوال
الصورة عن المدركة والحافظة معاً، فيحتاج - حينئذٍ - إلى سبب
جديد بخلاف السهو، فإنه زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في
الحافظة، فيتنبه بأدنى تنبه.
أما الغفلة فهي قريبة من السهو.
أما النوم فهو لغة: السكون، والهدوء، والكساد.
وهو اصطلاحاً: فترة طبيعية تحدث بالإنسان بلا اختيار منه، وتمنع
الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها، وتمنع استعمال
العقل مع قيامه.
أما المغمى عليه فهو في اللغة: فقد الحس والحركة.
وهو في الاصطلاح: فتور يزيل القوى ويعجز ذو العقل عن
استعماله فترة مع قيامه حقيقة.
إذا عرفت ذلك فهل هؤلاء مكلَّفون؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الغافل والناسي والساهي والنائم والمغمى عليه
غير مكلَّفين حال الغفلة، والنسيان، والسهو، والنوم، والإغماء.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن هؤلاء وهم في حالتهم تلك قد فقدوا شرط
التكليف وهو: الفهم، فالغافل في حالة غفلته، والناسي في حالة
نسيانه، والساهي في حالة سهوه، والنائم في حالة نومه، والمغمى
عليه في حالة الإغماء لا يدركون معنى الخطاب، فكيف يخاطبون
ويقال للواحد منهم " افهم " مع أن الفهم منعدم وهم في حالتهم
تلك؛ فلو كلفوا الامتثال وهم لا يفهمون الخطاب لكان تكليفاَ
بالمحال.
المذهب الثاني: أن الغافل، والناسي، والساهي، والنائم،
والمغمى عليه مكلّفون مطلقا.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: إن تكليف هؤلاء بالإتيان بالفعل امتثالاً هو تكليف
بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق جائز، فتكليفهم جائز.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ لكم جواز تكليف ما لا يطاق
لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وقوله:(لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، ولأن الأمر استدعاء وطلب، والطلب
يستدعي مطلوباً وينبغي أن يكون مفهوماً.
ولو فرضنا - مع الفرض الممتنع -: أن تكليف ما لا يطاق جائز -
وهو رأي كثير من العلماء - فإنهم أجازوه إذا أمكن أن يكون له فائدة
اختبار اللَّه تعالى للعبد هل يأخذ في مقدمات ما كلف به؟
والغافل، والساهي، والناسي، والنائم، والمغمى عليه،
لا يمكنهم الامتثال بما كلَّفوا به - ولا بمقدماته - وهم في حالتهم تلك
- فكان - تكليفهم محالاً.
الدليل الثاني: إن هؤلاء لو أتلفوا شيئاً - وهم في حالة الغفلة،
والسهو، والنسيان، والنوم، والإغماء، لوجب ضمان المتلف
ودفع قيمته، والوجوب من الأحكام التكليفية، وهذا دليل على
تكليفهم، إذ لو لم يكونوا مكلَّفين لما وجب عليهم شيء ولما لزمتهم
تلك الحقوق.
جوابه:
يجاب عنه: إن إلزامهم بدفع قيمة ما أتلفوه ليس من باب "الحكم
التكليفي "، وإنما هو من باب " الحكم الوضعي "؛ لأنه من قبيل
ربط الأحكام بأسبابها.
أي: أن السبب وجد وهو الإتلاف، فلا بد من وجود المسبب
وهو الحكم، وهو - هنا - دفع قيمة المتلف بقطع النظر عن كونه
غافلاً، أو ساهياً، أو ناسياً، أو نائماً، أو مغماً عليه، أو كونه
غير ذلك.
المسألة الثامنة: هل السكران مكلَّف؟
السكران مأخوذ لغة من السكر، وهو في اللغة: غيبوبة العقل
واختلاطه.
وهو في الاصطلاح: حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من
الأبخرة التصاعدة من الخمر، وما يقوم مقامها، فيتعطل معه عقله،
فلا يميز بين الحسن والقبيح.
فمن هذه حالته هل هو مكلَّف؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن السكران في حالة سكره لا يفهم الخطاب،
فكيف يوجه إليه خطاب لا يفهمه، ويقال له:" افهم "؛ فهو زائل
العقل كالمجنون، والصبي غير المميز.
فلو طلب منه امتثال ما يقتضيه الخطاب - وهو في حالته تلك -:
لكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق؛ حيث وجه إليه خطاب وهو لا يفهم
المقصود منه، وطلب منه امتثاله، وهذا محال.
المذهب الثاني: أن السكران مكلَّف مطلقاً.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء من الحنفية والشافعية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن السكران لو أتلف شيئاً، - لوجب عليه دفع قيمة
المتلف، ولو طلق السكران لوقع طلاقه، وهذا يدل على أنه مكلَّف،
ولو لم يكن مكلَّفا لما لزمه دفع قيمة المتلف، ووقوع الطلاق منه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن إلزامه بدفع قيمة ما أتلفه، ووقوع طلاقه وهو
في حالة سكره من باب الحكم الوضعي، وليس من باب الحكم
التكليفي، فهو من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، وقد سبق.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه - هنا - قد وجَّه الخطاب إلى
السكران، فلو لم يكن السكران مكلَّفا لما صح توجيه الخطاب إليه.
جوابه:
يجاب عنه: بأن استدلالكم بتلك الآية على أن السكران مكلَّف
غير صحيح، لوجهين:
الوجه الأول: أنا لا نُسَلِّمُ بأن الآية خطاب للسكران، بل هي
خطاب للصحابة رضي الله عنهم في ابتداء الإسلام قبل أن يحرم
الخمر، حيث إن الصحابة خوطبوا في حال الصحو بأن لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى، وليس الخطاب موجَّه إليهم في حال السكر،
فقوله: (وأنتم سكارى) جملة حالية من قوله: (لا تقربوا) ،
فالسكر متعلق بقربان الصلاة، لا بخطاب اللَّه تعالى للمصلين.
والتقدير: أيها المؤمنون، لا تقربوا الصلاة وأنتم في حالة سكر
حتى لا يأتي عليكم وقت الصلاة وأنتم لا تعلمون ما تقولون فيها،
فتختلط عليكم صلاتكم نتيجة لتأثير الخمر عليكم، فكأنه قال:
"استمروا على الصحو حتى تدخلوا الصلاة وتفرغوا منها ".
قياساً على قولك - ناصحاً غيرك -: " لا تقرب التهجد وأنت
شبعان " أي: استمر على خفة البدن، ولا تشبع حتى إذا أتى وقت
التهجد تقوم به بكل خفة ونشاط.
فكذا هنا كأنه قال: " لا تقرب الصلاة وأنت سكران " أي:
استمر على الصحو، وعدم تناولك للمسكر حتى إذا أتى وقت
الصلاة تقوم بها وأنت تعلم ما تقول.
الوجه الثاني: سلمنا أن تلك الآية خطاب للسكران، لكن
السكران عندنا قسمان:
القسم الأول: سكران زال عقله كلياً، فهذا لا يفهم شيئاً.
القسم الثاني: سكران لم يزل عقله، بل هو في مبادئ الطرب
والنشاط، فهذا يفهم الخطاب.
فالآية خطاب للقسم الثاني، أي: خطاب لمن وجد منه مبادئ
النشاط والطرب، وما زال عقله موجوداً، قال أبو إسحاق في
"شرح اللمع ": " خطاب لمن شرب ولم يبلغ قدر السكر ".
بيان نوع الخلاف في تلك المسائل الست السابقة.
الخلاف في تكليف المجنون، والصبي، والغافل، والساهي،
والناسي، والنائم، والمغمى عليه، والسكران، والمعتوه، هذا
الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأنه راجع إلى مقصد ومراد كل من
الطرفين المختلفين في كل مسألة.
فمن قال: إن هؤلاء غير مكلَّفين: أراد أنهم ليسوا مخاطبين ولا
مكلَّفين حال عدم فهمهم خطاب التكليف؛ لاستحالة ذلك وهم في
تلك الحالة.
ومن قال بأنهم مكلَّفون: أرادوا أنهم مكلَّفون حكماً، أي:
تجري عليهم أحكام المكلَّفين، ولكن هذا الجريان جاء من باب الحكم
الوضعي، لا من باب الحكم التكليفي، أي: من باب ربط
الأسباب بمسبباتها، وهذا متفق عليه، فلم يكن هناك خلاف حقيقي.
المسألة التاسعة: تكليف المكره:
قد يوجد شخص بالغ، وعاقل، ويفهم الخطاب، ولكنه أكره
على فعل محرم، أو ترك واجب، فهل يعاقب على فعل المحرم،
وعلى ترك الواجب؛
أي: هل هو مكلَّف؟
أقول: المكره نوعان:
النوع الأول: مكره ملجأ، وهو: من حمل على أمر يكرهه ولا
يرضاه، ولا تتعلق به قدرته واختياره كمن ألقي من شاهق على
مسلم فقتله، أو من ربط بحبل وحمل على مسلم فقتله، أو ألقي
على مال فأتلفه، فهذا غير مكلَّف اتفاقاً، لأنه مسلوب القدرة غير
مختار كالآلة.
أي: لا اختيار له في ذلك، ولا هو بفاعل له، وإنما هو آلة
كالسكين في يد القاطع، وكحركة المرتعش.
النوع الثاني: مكره غير ملجأ وهو: من حمل على أمر يكرهه،
ولا يرضاه، ولكن تتعلق به قدرته، واختياره، وإرادته كمن قيل
له: " اقتل أخاك المسلم وإلا قتلناك "، أو قيل لمسلم: " اقطع يد
فلان المسلم وإلا قطعنا يدك "، فهذا قد اختلف العلماء في تكليفه
على مذهبين:
المذهب الأول: أنه مكلَّف.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن شروط التكليف قد توفرت، فيه، وهي:
البلوغ، والعقل، وفهم الخطاب، فما المانع من تكليفه؟
أي: أن المكره قد بلغ الحد الذي يمكن أن نكلفه عنده بالتكاليف،
وهو عاقل يفرق بين الحق والباطل والمحرم وغيره، وهو فاهم
لخطابات الشارع يفرق بين ما يقتضي التحريم، وما يقتضي الوجوب،
وأنه يلزم من ترك الواجب وفعل الحرام: العقاب، وهو أيضا قادر
على إيقاع ما أمر به وعدم إيقاعه، فهو مختار في الإقدام،
والانكفاف، وينسب إليه الفعل حقيقة.
إذن: المكره مكلَّف كغير المكره ولا فرق بجامع: توفر جميع
شروط التكليف إضافة إلى توفر القدرة وكمال البدن والذمة، ومجرد
الإكراه ليس سبباً لإسقاط الخطاب عن المكره بأي حال من الأحوال.
المذهب الثاني: أن المكره غير الملجأ غير مكلَّف.
ذهب إلى ذلك جمهور المعتزلة، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المكره قد أتى بالفعل المكره عليه بدافع الإكراه
لا غير، وهذا يقدح في قدرته على الامتثال؛ لأن الامتثال لا يكون
إلا بأن يأتي المكلَّف بالفعل اختياراً قاصداً الطاعة لأمر الشارع، وهنا
لم يفعل المكره الشيء الذي أكره عليه إلا من أجل استجابة أمر المكره
لا من أجل استجابة أمر الشارع.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأنا لا نُسَلِّمُ أن الإكراه ينافي القدرة، ويتعارض
معها، بل إن المكره قادر على فعل ما أكره عليه، وقادر - أيضا -
على ترك فعله، ولهذا أجمع العلماء على أنه إذا أكره المسلم على
قتل أخيه المسلم، فإنه يحرم ذلك عليه، فالمكره بالقتل مأمور
باجتناب ذلك القتل، وإن فعل ما أكره عليه فإنه يأثم بلا خلاف.
وإذا كان المكره مأموراً بذلك ويأثم إذا فعل: فيلزم من ذلك:
أن المكره مكلَّف، إذ لو لم يكن التكليف ثابتاً في حقه: لما أمر
بالكف عن القتل، ولما أثم بفعل القتل.
الدليل الثاني. أن من شرط الأمر بفعل " ما " أن يثاب المأمور
عليه، وإلا امتنع التكليف به، والمكره إن أتى بالفعل لداعي الإكراه
- فقط - فإنه لا يثاب عليه فيمتنع تكليفه به.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المكلَّف إذا فعل ما أُكرِه عليه وهو موافق للشرع،
وقصد ونوى أنه فعله لطاعة اللَّه، لا لطاعة المكرِه - بكسر الراء -
فإنه يثاب، فيكون ظاهر فعله أنه طاعة للمكرِه - بكسر الراء -،
وباطنه أنه فعله طاعة لله، وكل فعل قصد به طاعة اللَّه فله ثواب.
الدليل الثالث: أنه حال مباشرة المكرَه للفعل المكره عليه يمتنع
تكليفه بتركه، لأنه يلزم منه الجمع بين الفعل والترك في آنٍ واحد،
وهو جمع بين النقيضين، وهو ممنوع.
جوابه:
يجاب عنه: بأنه لا يمنع التكليف بنقيض المكرَه عليه قبل الإقدام
على فعل المكره عليه ومباشرته، لأنه لا يلزم من هذا الجمع بين
النقيضين " لعدم اتحاد الزمن.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره في كثير من مسائل الفروع،
ومنها:
1 -
أن المكرَه إذا قتل من يرث منه، فهل يمنع من ذلك الميراث؟
اختلف على قولين:
الأول: أنه يمنع من ذلك الميراث، وهو الصحيح؛ لأنه مكلَّف
قادر على الامتناع.
الثاني: لا يمنع من الميراث، بل يرث؛ لأنه غير مكلَّف،
فالإكراه سلب منه الاختيار والقدرة.
2 -
أنه إذا أكره على الوطء قبل التحلل الأول.
فعلى المذهب الأول - وهو تكليف المكرَه -: يفسد حجه.
وعلى المذهب الثاني - وهو عدم تكليف المكرَه -: لا يفسد.
3 -
إذا أكره المسلم على طلاق زوجته، فهل يقع طلاقه؟
على قولين:
القول الأول: إن طلاقه يقع؛ لأنه مكلَّف يتحمل مسؤولية ما
تلَّفظ به، والمكره عندما نطق بلفظة الطلاق نطق بها وهو مختار
وقاصد، كل ما هنالك أنه غير راض عن هذا التصرف.
القول الثاني: عدم وقوع طلاقه؛ لكونه غير قاصد وقوع الطلاق،
إنما الذي قصده هو دفع الأذى والضرر عن نفسه.
المسألة العاشرة: تكليف الكفار بفروع الإسلام:
تحرير محل النزاع:
أولاً: لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون بالإيمان، أي:
مكلَّفون بأصول الشريعة، وأن تركهم لهذه الأصول يوجب تخليدهم
في النار، كما قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) .
ثانياً: ولا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون. بالمعاملات
كالبيع، والشراء، والرهن، والإجارة.
ثالثا: ولا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون بالعقوبات
كالحدود والقصاص.
وبعض العلماء يعبر عما سبق بقوله: أجمع العلماء على أن
الكفار مخاطبون بخطاب الوضع مثل اعتبار جناياتهم سببا في وجوب
عقوباتهم عليهم، ولذلك تقام عليهم الحدود عند تقرر أسبابها،
كما يعتبر وقوع عقودهم على الأوضاع الشرعية سببا لترتب آثارها
عليهم كالبيع، والنكاح، ونحوهما، كما يعتبر الإتلاف منهم سببا
لوجوب الضمان عليهم.
والسبب في تكليفهم بالمعاملات: أن المعاملات قصد بها الحياة
الدنيا، فالكفار بها أنسب؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة.
والسبب في تكليفهم بالعقوبات: أن العقوبات قصد بها الزجر
عن ارتكاب أسبابها، والكفار أحق بالزجر وأوْلى به من المؤمنين.
رابعا: أن ما عدا ما ذكرنا من فروع الشريعة كالصلاة، والصوم،
والحج، والزكاة، وإيقاع طلاقه، وعتقه، وظهاره، وإلزامه
بالكفارات، ونحو ذلك، فقد اختلف العلماء هل الكفار مكلَّفون
بها أو لا؟
أي: إذا أمر الشارع بفعل شيء أو نهى عن فعل شيء،
واستعمل لفظا شاملاً وعاما، فهل يدخل الكفار في هذا الخطاب
فيكونون مكلَّفين بما كلِّف به المؤمنون؟
اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنهم مكلَّفون بفروع الشريعة مطلقا،
أي: بالأوامر والنواهي.
ذهب إلى ذلك: الإمام مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي،
وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره كثير من المالكية، والشافعية،
والحنابلة، وعامة أهل الحديث، وبعض الحنفية كالكرخي،
والجصاص، وهو مذهب أكثر المعتزلة.
وهو الصحيح عندي؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أنه لو لم يوجد في الكافر غير فقد شرط العبادة
وهما الشهادتان، فإن فقد شرط العبادة مع القدرة عليه لا يمنع من
توجه الخطاب بها.
يدل على ذلك: المحدَث فإنه فقد فيه شرط الصلاة، ولم يمنع
ذلك من وجوب الصلاة عليه وإلزامه بها بسبب قدرته على تحصيل
الشرط، كذلك الكافر فإنه قادر على تحصيل شرط العبادة وهو:
الإيمان.
بيان ذلك: أن المحدث - وهو في حال حدثه ونجاسته - يؤمر
بالصلاة بشرط تقديم الوضوء، كذلك الكافر - وهو في حال كفره -
يؤمر بالصلاة وغيرها من العبادات بشرط تقديم الشهادتين، ولا فرق
بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما لا يصح منه العمل وهو في حالته
تلك: فإذا أمر المسلم بالصلاة - وهو محدث - فإنه يكون مأموراً
بالشيء الذي لا تتحقق صحة الصلاة إلا به وهو الطهارة من باب:
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كذلك الكافر يؤمر بالصلاة
والزكاة والصوم، وغيرها، ومعروف أنه لا تتحقق صحة الصلاِة
وغيرها من العبادات إلا بتقديم الشهادتين، إذاً هو من باب ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب.
ما اعترض به على ذلك الدليل:
الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ الحكم في المقيس عليه؛ حيث إن
المسلم المحدث - وهو المقيس عليه - لا يؤمر بالصلاة مباشرة، بل
إنه يؤمر بالوضوء، فإذا توضأ أمر بالصلاة، بدليل: أن المحدث -
حال حدثه - لا يتصور أن يؤمر بالصلاة؛ لأنه حال حدثه لا يمكن
أن يمتثل الصلاة، بل يكون عاجزاً عن إيقاعها؛ لذلك قلنا: إنه يؤمر
بالوضوء والتطهر، فإذا تطهر أمر - حينئذٍ - بالصلاة.
جوابه:
يجاب عنه بأنا لو سلمنا لكم أن المحدث يؤمر بالوضوء، فإذا
توضأ أمر بالصلاة: للزم كما ذلك أمران باطلان:
أولهما: أن المحدث لو ترك الصلاة طول عمره، فإنه لا يعاقب
على تركها، بل يعاقب على ترك الوضوء - فقط -؛ لأنه ليس
مأموراً بغيره، ثم إذا فعله أمر بالصلاة، وهذا باطل؛ لأنه خلاف
الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن المحدث لو ترك الصلاة فإنه
يعاقب على ترك الصلاة، ولا يعاقب على ترك الوضوء.
ثانيهما: أنه يلزم - على كلام المعترض -: أن المحدث إذا توضأ
لا يصح أمره بالصلاة بعد ذلك، بل يؤمر بعد الوضوء بتكبيرة
الإحرام، فيشترط تقديمها، بل يؤمر بهمزة التكبيرة، ثم الكاف،
وهكذا، وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا
بالخطوة الأولى، ثم بالثانية وهكذا، وهذا لم يقل به أحد.
الاعتراض الثاني: أن قياسكم الكفر على الحدث من المسلم قياس
فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيانه:
أن المعنى في الحدث لا ينافي فعل الصلاة، ولهذا تصح صلاة
المتيمم وهو محدث، والكفر ينافي الصلاة بكل حال.
جوابه:
يجاب عنه بأن قياسنا الكفر على الحدث قياس صحيح، وذلك
لأن الحدث ينافي فعل الصلاة مع القدرة على الماء، ولا يمنع توجه
الخطاب إلى المحدث وهو في تلك الحال، فكذلك الكفر ينافي فعل
الصلاة، ولكن لا يمنع من توجه الخطاب إليه، وهو في تلك الحال.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) .
وجه الدلالة: أن لفظ " الناس " اسم - جنس معرف بأل
الاستغراقية، فيشمل جميع الناس، والكفار من جملة الناس،
فيدخلون في هذا الخطاب، ولا مانع من دخولهم تحت الخطاب "
لأنه لو وجد مانع لكان إما عقلياً، وإما شرعياً.
ولا يوجد مانع عقلي من دخول الكافر؛ لأن المانع العقلي هو:
فقد التمكن من الفعل، والكافر يمكنه أن يحج بأن يقدم قبله الإيمان،
كما أن المسلم المحدث يوصف بالتمكن من الصلاة بأن يقدم عليها
الطهارة.
ولا يوجد مانع شرعي " لأنه لو وجد لعرفناه عند الطلب.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر عنهم أنهم إنما عاقبهم يوم
القيامة، وسئلوا عما عاقبهم لأجله، فاعترفوا بأنهم عوقبوا على
ترك إقامة الصلاة، وإطعام الطعام، فدل على أن الخطاب متوجه
إليهم بالعبادات، وأنهم يعاقبون على تركها، فيعذبون على تركها
جميعاً، فدل ذلك على تكليفهم.
ما اعترض به على ذلك:
الاعتراض الأول قيل فيه: إن هذه حكاية قول الكفار، فلا يكون حُجَّة.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الأمة أجمعت على أن اللَّه تعالى ذكر ذلك في
معرض التصديق لهم، وبه يحصل التحذير للمؤمنين من مواقعة ذلك.
الجواب الثاني: أن اللَّه تعالى لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول
النار بترك الصلاة: وجب أن يكون ذلك صدقاً.
ولا يمكن أن يكون ذلك كذباً؛ لأمور:
الأمر الأول: أنه لو كان كذبا لا حصل تحذير المؤمنين من مواقعة
ذلك.
الأمر الثاني: أنه لو كان كذباً لم يكن في رواية ذلك فائدة،
وكلام اللَّه متى أمكن حمله على ما هو أكثر فائدة وجب ذلك.
الأمر الثالث: أنه لو كان كذباً: لما صح أن يعطف عليه قوله
تعالى: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) ، فهنا عطف عليه ما ثبت عليه
العذاب - وهو التكذيب بيوم الدين - فثبت: أن اللَّه عذَّبهم لأنهم
تركوا فرعاً من فروع الشريعة وهي الصلاة، وإطعام الطعام،
والخوض.
الاعتراض الثاني: قوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
…
) إلخ،
معناه: لم نك ممن يعتقد الصلاة، وإطعام الطعام - وهو الزكاة -
لتركهم المِلَّة والدخول في الإسلام، وعندنا يستحقون العقاب على
ترك ذلك.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الأول: هذا خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر يقتضي تعلق العقاب
بترك نفس الصلاة دون اعتقادها؛ حيث إن اللفظ حقيقة في فعل
الصلاة، فمن حمل ذلك على الاعتقاد فقد عدل باللفظ عن الحقيقة
إلى المجاز، وهذا لا يجوز إلا بقرينة.
الجواب الثاني: أن العقوبة وجبت على ترك الاعتقاد بقوله تعالى:
(وكنا نكذب بيوم الدين) ، فلهذا يجب حمل الصلاة والإطعام
على مقتضاه الحقيقي، لئلا يكون هناك تكرار وإعادة.
الاعتراض الثالث: يحتمل أن معنى قوله تعالى: (لم نك من
المصلين) أي: لم نك من المؤمنين، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نهيت عن قتل المصلين " أي: المؤمنين.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا محتمل، لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل،
ولا دليل على أن المراد من المصلين: هم المؤمنون.
الاعتراض الرابع: سلمنا لكم أن التعذيب على ترك الصلاة،
فيجوز أن يكون قوله تعالى: (لم نك من المصلين) إخباراً عن قوم
كانوا أسلموا وارتدوا بعد إسلامهم، ولم يصلوا حال إسلامهم،
لأن قوله: (لم نك من المصلين) لا يفيد أنهم لم يصلوا في جميع
الزمان الماضي.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قوله تعالى: (لم نك من المصلين) هو جواب
المجرمين المذكورين في قوله تعالى - قبل ذلك -: (يتسائلون عن
المجرمين) ، وذلك عام في كل مجرم مرتد وغير مرتد.
الدليل الرابع - من أدلتنا على أن الكافر مكلَّف مطلقاً -: قوله
تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) .
وجه الدلالة: أن هذا عام في حق المسلمين والكفار، فلا يخرج
الكافر إلا بدليل، ولا يوجد دليل على ذلك، والكفر ليس برخصة
مسقطة للخطاب عن الكافر.
الدليل الخامس: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) .
وجه الدلالة: أن هذا نص في مضاعفة عذاب من جمع بين هذه
المحظورات، وهي الكفر، والقتل، والزنا، وهذا يدل على أن
الزنا والقتل يدخلان فيه، فثبت كون ذلك محظوراً عليه، مما يقتضي
أن الكافر مخاطب ومكلَّف بفروع الشريعة.
الدليل السادس: قوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى ذم - هنا - الكفار لتركهم الصلاة،
وهي من فروع الشريعة، مما يدل على أن الكفار مكلَّفون بالفروع.
الاعتراض على ذلك:
قال المعترض: إن المراد بذلك ترك الاعتقاد، دون الفروع.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا لا يصح؛ لأنه قدم على التكذيب الصلاة،
وهي فرع من فروع الشريعة، فدل ذلك على أن المراد الفعل دون
الاعتقاد.
الدليل السابع: قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) .
وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى توعَّد المشركين على شركهم، وعلى
ترك إيتاء الزكاة، فدل ذلك على أنهم مخاطبون بالإيمان، ومخاطبون
بإيتاء الزكاة؛ لأنه لا يتوعد على ترك ما لا يجب على الإنسان، ولا
يخاطب به، فدل ذلك على أن الكفار مكلَّفون بالفروع.
الدليل الثامن: إن صلاح الخطاب للكفار في اللغة كصلاحه
للمسلمين، فوجب أن يدخلوا تحته كما دخل المسلمون ولا فرق،
فإذا قال تعالى: (يا بني آدم) ، و (يا أولي الأبصار) ، و (لله
على الناس حج البيت) ، و (أقيموا الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، فإنهم
يدخلون حيث إنهم من جملة بني آدم، ومن أولي الأبصار، ومن
الناس، فينتج أنهم مكلَّفون بالفروع.
الدليل التاسع: أن الإجماع منعقد على أن الكافر معاقب على
قتل الأنبياء، وتكذيب الرسُل، كما يعاقب على الكفر بالله تعالى.
المذهب الثاني: أن الكفار غير مكلَّفين بفروع الشريعة مطلقا،
أي: ليسوا بمخاطبين في الأوامر والنواهي.
ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وهو قول للإمام
الشافعي، وهو مذهب ابن خويز منداد من المالكية، وهو اختيار أبي
حامد الإسفراييني من الشافعية، وهو مذهب كثير من الحنفية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه يستحيل من الكافر فعل الشرعيات عبادة وقربة
في حال كفره، فإذا كلف - مع ذلك - بالشرعيات، فإن هذا
تكليف بما لا يطاق، قياساً على المريض العاجز عن القيام لا يكلف
أن يصلي قائماً، وقياساً على الحائض لا تكلف أن تصلي مع حيضها.
جوابه:
يجاب عنه بأن المستحيل هو: تكليف الكافر بفعل الشرعيات
عبادة وقربة مع عدم استطاعته على فعلها، وهذا لم يكلف به.
ولكن لا يستحيل تكليفه بفعل الفروع ما دام أنه باستطاعته فعلها،
وذلك بأن يقدم الإيمان، ثم يفعل ما أمر به، قياسا على المحدث فقد
كلف بالصلاة لا مع حدثه، ولكن بأن يقدم عليها الطهارة ثم يفعل
الصلاة.
أما قياسكم الكافر على العاجز عن القيام، وعلى الحائض فإنه
قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، وذلك لأن الحائض والعاجز لا
يمكنهما إزالة الحيض والعجز بخلاف الكافر، فإنه يمكنه إزالة كفره
بأن يشهد الشهادتين ثم يفعل الفروع.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن -:
"أدعهم إلى شهادة أنْ لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه.، فإن هم
أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم خمس صلوات كل يوم
وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم صدقة
في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ".
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً أن يدعوهم أولاً إلى
الإيمان، فلو كان الخطاب يتوجه إليهم بغير ذلك الأمر لأمره أن
يدعوهم إليه.
ويفهم من هذا: أنهم إن لم يمتثلوا لا يدعوهم إلى الصلاة ولا
إلى الزكاة، وهذا يؤدي إلى أنهم غير مكلفين بها عند كفرهم؛ إذ
لو كانوا مكلَّفين بها حال كفرهم كما هم مكلَّفون بها حال إسلامهم
لأمرهم بها، وإن لم يجيبوه إلى الإيمان؛ لأنهم مكلَّفون بكل من
الإيمان والفروع استقلالا.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن الحديث لو دلَّ على ما تقولون للزم منه أن
يكون الحديث دالاً على أنه لا يؤمر الشخص بالزكاة إلا إذا أجابه إلى
الصلاة، ويكون هناك ترتيب في الدعوة بين الصلاة والزكاة ولم يقل
به أحد.
وإنما الغرض من الحديث هو التسهيل في الدعوة، ومراعاة أحسن
الطرق فيها، ومعروف أن من شأن من لم يجب الداعي إلى الإيمان
أنه لا يجيبه إلى غيره من الفروع، فتكون دعوته إلى الفروع عبثا.
الجواب الثاني: أن الحديث دلَّ على أن الكافر غير مكلَّف مطلقا
بطريق المفهوم المخالف، والآيات السابقة التي استدللنا بها على أن
الكافر مكلَّف مطلقا دلَّت على ذلك بالمنطوق، والمفهوم لا يقوى
على معارضة المنطوق.
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قيصر وكسرى وكتب إليهما في ذلك لم يدعهما إلا إلى التوحيد، ولم يدعهما إلى غيره؛ إذ
لم يذكر في ذلك الكتاب الفروع الفقهية، فدلَّ ذلك على أنهم غير
مكلَّفين بالفروع.
جوابه:
يجاب عنه: بأن صلى الله عليه وسلم لم يذكر في كتابه شيئاً من التكاليف الفرعية؛ لأنه لا يصح فعل أيِّ عبادةٍ وهما في حالة الكفر،
فدعاهما إلى ما يصح فعله وهو التوحيد.
الدليل الرابع: لو صح تكليفهم بالفروع لصحت منهم إذا أدوها،
لموافقة الأمر، ولكنها لا تصح منهم وهم على حالة الكفر.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المحدث مأمور بالصلاة لكن بشرط الطهارة.
فكذلك الكافر مأمور بالفروع لكن بشرط الإيمان، بيانه:
أن المحدث مأمور بالشرط - وهو الطهارة - ومأمور بفعل الصلاة
بعد حصول الشرط، فهو مأمور بهما في الحال، كذلك في مسألتنا
إذا كان مأموراً بالشرط ومأموراً بالفعل بعد حصول الشرط: وجب
أن يكون مأموراً بهما، لأنه لا مانع من الأمر بهما في هذه الحال.
الدليل الخامس: ْ أن الكفر يمنع صحة العبادة، ويمنع قضائها في
الثاني، فصار كالجنون.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياسكم الكفر على الجنون قياس فاسد؛ لأنه
قياس مع الفارق؛ حيث إن الكافر عاقل يفهم الخطاب، أما المجنون
فلا يدرك شيئاً من ذلك.
الدليل السادس: أن الصلاة لو وجبت على الكافر لوجبت عليه
إما حال الكفر، أو بعده.
والأول - وهو وجوبها حال الكفر - باطل؛ لأن الإتيان بالصلاة
في حال الكفر ممتنع، حيث يستحيل الجمع بين فعله للصلاة وبين
كفره، فكيف يجب على الكافر ما يستحيل أن يمتثله؛ هذا ممتنع،
والممتنع لا يؤمر به.
وأما الثاني - وهو: وجوب قضاء الصلاة بعد الكفر، أي: بعد
إسلامه - فهذا باطل - أيضا -، لإجماع العلماء على عدم أمر
الكافر عندما يسلم بقضاء ما فاته من الصلاة في زمن كفره.
جوابه:
يجاب عنه: بأن المستحيل والممتنع هو تكليف الكافر بفعل الصلاة
وغيرها من العبادات مع عدم قدرته على - فعلها، ولكن لا يمتنع
تكليفه بفعل الصلاة بشرط تقديم الإيمان؛ لاستطاعته فعل ذلك.
وأما عدم أمر الكافر عندما يسلم بقضاء ما فاته من الصلوات في
زمن كفره، فقد أجمع العلماء عليه، لأمرين:
أولهما: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام:
" أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ".
فهنا جعل الإسلام مسقطا لما قد سلف، أي: يقطع ما قبله من
أحكام الكفر حتى كأن الكافر بعد إسلامه لم يصدر منه معصية لله
تعالى أصلاً، وفي هذا ملحظ للشارع قد اهتم به، وهو تيسير
الدخول في الإسلام عليهم، وتحبيبه عندهم وتحسينه في أنظار
الكفار، إذ أن الكافر لو أراد الإسلام - وهو شيخ كبير أو هو في
منتصف العمر - وهو يعلم بأنه سيقضي ما فاته من العبادات من
صلاة وصيام وزكاة لنفر عن الدخول في الإسلام، ولكن إذا علم أنه
إذا أسلم فإنه لا يطالب بشيء من ذلك سهل عليه الدخول فيه.
أما حقوق الآدميين فلا يسقطها الإسلام؛ تحقيقا للعدل العام.
ثانيهما: أنه كان يسلم عند صلى الله عليه وسلم الجم الغفير من الكفار، ولم ينقل إلينا أنه أمر أحداً بأن يقضي ما فاته من صلاة ونحوها من
العبادات.
المذهب الثالث: أن الكفار مكلَّفون ومخاطبون بالنواهي، دون
الأوامر، أي: أنهم مكلَّفون بأن ينتهوا عن المنهي عنه مثل: الزنا،
والقتل، والسرقة، ونحوها، فإن فعل أحد الكفار واحداً من تلك
الأمور فإنه يعاقب كالمسلم، أما الأمور بها كالصلاة والصوم والزكاة
والحج ونحوها، فلا يكلفون بها فلا يعاقبون على تركها.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لا يمكن الجمع بين الإتيان بالمأمور به كالصلاة،
وبين كفره، وقد سبق بيانه والجواب عنه.
أما الانتهاء عن الشيء فإنه يمكن وهو في حالة كفره؛ حيث لا
يشترط في الانتهاء عن المنهيات التقرب، بل يكتفى بالكف عنه،
فجاز التكليف بالمنهيات، بخلاف المأمور بها فإنه يشترط فيها التقرب
فلا تصح من الكافر.
جوابه:
يجاب: بأن الفرق الذي ذكرتموه بين المأمور به، والمنهي عنه
باطل.
بيانه: أنه يقال لهم: إن عنيتم بقولكم: " إنه يمكنه الانتهاء عن
المنهيات، ولا يمكنه الإتيان بالمأمورات ": أنه يتمكن من تركها من
غير اعتبار النية، فهو أيضاً متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار
النية.
وإن عنيتم به: أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات لغرض امتثال
قول الشارع، فهذا متعذر حال عدم الإيمان.
فعلمنا من ذلك استواء المأمور والمنهي، من حيث إن الإتيان بهما
من جهة الصورة لا يتوقف على الإيمان، وأن الإتيان بهما لغرض
امتثال حكم الشارع يتوقف في كليهما على الإيمان.
الدليل الثاني: أن العقوبات تقع عليهم في فعل المنهيات، دون
ترك المأمورات، دلَّ على ذلك: أنهم يعاقبون على ترك الإيمان
بالقتل، والسبي، وأخذ الجزية، ويحد في الزنا والقذف والسرقة،
ولا يؤمر بقضاء شيء من العبادات إذا أسلم، وإن فعلها في كفره لم
تصح منه.
جوابه:
يجاب عنه بأن يقال.
أولاً: أما وقوع العقوبات عليهم وتمثيلكم على ذلك بأنه إذا ترك
الإيمان يعاقب بالسبي، والقتل، وأخذ الجزية، وأنه يحد في الزنا،
والقذف، والسرقة، فإن هذا ليس في محل النزاع؛ حيث إننا بيَّنا
- فيما سبق - أن الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات
باتفاق العلماء.
ثانياً: أما عدم وجوب قضاء شيء من العبادات إذا أسلم فقد بيَّنا
- فيما سبق - أن سقوط القضاء عنهم كان لسببين:
الأول: أن صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم من الكفار بقضاء ما فاتهم مع كثرتهم.
الثاني: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله ".
ثالثاً: أما عدم صحتها إذا فعلها في حال كفر: فلأن المانع من
الصحة موجود، وهو الكفر، لكن يستطيع أن يزيل هذا المانع
وذلك بالإيمان، فإذا فعلها بعد تقديم الإيمان تكون تلك الأفعال
صحيحة، وسبق بيان ذلك.
المذهب الرابع: أنهم مكلَّفون بالأوامر فقط، دون النواهي،
حكى هذا المذهب الزركشي في " البحر المحيط "، ولم ينسبه إلى
قائل، ولم أجد دليللً عليه.
جوابه:
هذا ضعيف؛ لأمرين:
الأول: أنه لا دليل على هذا التفريق، وما لا دليل عليه فلا
يلتفت إليه.
الثاني: أن هذا المذهب يرده ما حكيناه من الإجماع على أن
خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه على الكافر والمسلم معاً.
وترده - أيضاً - النصوص التي سقناها - في المذهب الأول -
على أن الكافر مكلَّف مطلقا.
المذهب الخامس: أنهم مكلَّفون بالفروع جميعاً إلا الجهاد في سبيل
الله، ذكر هذا المذهب إمام الحرمين في " النهاية "، والقرافي في
"تنقيح الفصول "، والإسنوي في " التمهيد "، ولم ينسبوه إلى أحد.
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بما استدل به أصحاب المذهب الأول
عى أن الكافر مخاطب بجميع الفروع، ولكنهم استثنوا الجهاد؟
لأنه يمتنع أن يقاتل الكفار أنفسهم.
جوابه:
يجاب عنه بأنه لا فائدة من هذا الاستثناء؛ لأنه لا يتصور الجهاد
منه، ولو حصل بعد الإيمان لخرج عن محل النزاع.
المذهب السادس: الفرق بين الكافر المرتد فيكلف بالفروع، وبين
الكافر الأصلي فلا يكلف.
حكى هذا المذهب عبد الوهاب المالكي في " الملخص "،
والقرافي في " شرح تنقيح الفصول "، وابن السبكي في " جمع الجوامع ".
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن الكافر المرتد ملتزم بأحكام الإسلام، ومنها قضاء ما فاته في
الردة من العبادات، بخلاف الكافر الأصلي فإنه غير ملتزم.
جوابه:
يجاب عنه بأن العبادات وترك المحظورات لازمة للكافر مطلقا:
"المرتد "، و " الأصلي " ولا فرق بينهما؛ لأن كلًّا منهما يطلق عليه
اسم " كافر " لغة.
وكذا الآيات السابقة التي ذكرناها في المذهب الأول لم تفرق
بينهما، فهذا التفريق زيادة لا دليل عليها.
المذهب السابع: التفريق بين الكافر الحربي فلا يكلف، والكافر
غير الحربي فيكلف.
حكى هذا المذهب الزركشي في " البحر الحيط ".
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن غير الحربي ملتزم بأحكام الإسلام بعقد الذمة فله ما للمسلمين،
وعليه ما عليهم.
أما الكافر الحربي فنظراً لكونه غير ملتزم، ولم يعقد معه عقد فإنه
لم يلتزم بشيء فلا يكلف بالفروع.
جوابه:
يجاب عنه بأن الأدلة النقلية التي ذكرناها في المذهب الأول قد
صرحت بأن الكافر مكلَّف مطلقاً، ولم تفرق بين الكافر الحربي،
وغير الحربي، وهذا التفريق بينهما زيادة بدون دليل.
المذهب الثامن: التوقف في المسألة.
حكى هذا المذهب أبو حامد الإسفراييني عن أبي الحسن الأشعري،
وحكاه سليم الرازي في " التقريب "، ولم ينسبه إلى أحد.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أنه لم يصح دليل على تكليفهم، ولم يصح دليل على عدم
تكليفهم فتوقفوا.
جوابه:
يجاب عنه بأنه لا داعي لهذا التوقف مع ما أثبتناه من الأدلة القوية
على أن الكفار مكلَّفون بالفروع مطلقاً، وضعف أدلة المذاهب الأخرى.
ثم إن التوقف لا يعتبر مذهبا يعمل به لذلك يسقط.
بيان نوع الخلاف:
اختلف العلماء في هذا الخلاف في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الخلاف معنوي له ثمرة، وافترق أصحاب هذا
القول إلى فريقين:
الفريق الأول قالوا: إن لهذا الخلاف أثراً في الآخرة فقط، دون الدنيا.
ذهب إلى ذلك كثير من الأصوليين.
دليل هذا الفريق:
أن الكافر في حال كفره لا يمكنه فعل المأمورات، ولا يطالب
بفعلها، ولا يقضي ما فاته منها، إذن لا خلاف في العمل، وإنما
فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام كثرة عقابهم في الآخرة.
الفريق الثاني قالوا: إن لهذا الخلاف أثراً في الدنيا والآخرة،
وإليك بيان ذلك:
أما أثر الخلاف في الآخرة فهو كثرة عقابهم في الآخرة، أي: أن
الكفار يعذبون على ترك الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج،
وعلى شرب الخمر، والزنا، والسرقة، وغيرها من الفروع الفقهية
زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعاً، لا
على الكفر وحده.
أما أثر الخلاف في الدنيا، فقد. وردت بعض المسائل الفقهية قد
اختلف العلماء فيها، وكان سبب هذا الخلاف: هو الخلاف في
تكليف الكفار بالفروع، ومنها:
1 -
أن الكافر إذا زنى فهل يجب عليه الحد؟
اختلف فيه على رأيين
الرأي الأول: وجوب إقامة الحد عليه؛ لأن الكفار مكلَّفون
بالفروع.
الرأي الثاني: عدم وجوب إقامة الحد عليه؛ لأن الكفار غير
مكلَّفين بالفروع.
2 -
إذا نذر الكافر عبادة فهو صحيح، وهل يلزمه الوفاء به إذا أسلم؟
اختلف فيه على رأيين:
الرأي الأول: أنه يلزمه الوفاء به؛ لأنه مكلَّف بالفروع.
الرأي الثاني: أنه لا يلزمه الوفاء به؛ لأنه غير مكلَّف بالفروع.
3 -
هل يجوز للكافر لبس الحرير؟
اختلف على رأيين:
الرأي الأول: لا يجوز له ذلك؛ لأن الكافر مكلَّف بالفروع.
الرأي الثاني: يجوز له ذلك؛ لأن الكافر غير مكلَّف بالفروع.
القول الثاني: إن الخلاف لفظي.
وهو الصواب، لأنه لا خلاف في مخاطبة الكفار بخطاب الوضع
أي: لا خلاف في مخاطبتهم بخطاب المعاملات، والعقوبات.
ولا خلاف في أنه لا يطلب منهم إيقاع العبادات كالصلاة،
والصيام وهم في حال الكفر، وأنه لا يصح منها شيء.
ولا خلاف في أنهم لا يؤمرون بقضائها بعد الإسلام.
ولا خلاف في أنه يجب عليهم اعتقاد وجوبها، وأنهم معاقبون
على ذلك.
وإنما الخلاف في مقدار العقاب في الآخرة هل يعاقبون على الكفر
فقط، أو يعاقبون عليه وعلى ترك أداء الفروع.
فظهر بهذا أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا أثر له في حق
التكليف في الدنيا؛ حيث إن الخلاف فيها لا يتعلق بالحكم الناجز في
الدنيا الذي هو محل بحث الأصولي والفقيه، فحال الكافر في
الدنيا لا تتغير سواء قلنا بالتكليف أو لم نقل.
الجواب عما ذكره أصحاب القول الأول:
أما ما ذكره أصحاب القول الأول من زيادة العقاب على القول
بتكليفهم، فهذا أمره إلى اللَّه تعالى فهو أعلم به.
أما ما ذكروه من الآثار المترتبة على الخلاف في تكليف الكفار في
الدنيا فلا نسلمها، وذلك لأنه ظهر - بعد تدبرها - أنها ليست في
محل النزاع؛ فأكثرها يدور حول الحكم الوضعي، ولا خلاف في
أن الكفار مخاطبون بخطاب الوضع، وبعضها ثبتت عليهم بسب
أدلة أخرى.
وقد أفردت لهذا المسألة مصنَّفا خاصاً بها وسمَّيته: " الإلمام في
مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام "، وقد فصَّلت في بيان نوع
الخلاف في كتابي الآخر: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "،
فارجع إليهما إن شئت فهما مطبوعان.
القسم الثاني شروط الفعل المكلف به
معروف أنه لا تكليف إلا بفعل، والمقصود بالفعل المكلَّف فيه:
هو الفعل الذي تعلَّق خطاب الشارع به اقتضاء أو تخييراً.
والفعل يطلق على الفعل الذي أمر به الشارع وطلب أداءه كالصلاة
والصيام، ويطلق على الفعل المنهي عنه، وهو الذي طلب الشارع
الكف عنه.
وهناك يفروط لا بدَّ منها في الفعل المكلَّف فيه هي كما يلي:
الشرط الأول: أن يكون الفعل المطلوب معلوما للمكلَّف.
أي: أن يعلم المكلَّف حقيقة الفعل الذي كلَّفه الشارع بأن يعمله
ويؤديه، وذلك من أجل أن يتصور هذا الفعل الأمور به؛ إذ لا يعقل
التكليف بشيء مجهول الذات، فالصلاة - مثلاً - يجب أن يعلم
حقيقتها وطريقتها وشروطها، وأركانها وواجباتها، ونحو ذلك مما
يتعلق بها، كذلك الزكاة يجب أن يعلم حقيقتها وطريقتها، وعلى
من تجب، ولمن تجب، وهكذا، فإن المكلَّف لو لم يعلم حقيقة
الفعل المكلَّف به من الأفعال لم يصح منه الفعل؛ لعدم وقوعه على
ما يريده اللَّه تعالى.
الشرط الثاني: أن يعلم المكلَّف أن هذا الفعل مأمور به من قبل الله
- تعالى -؛ لأنه إذا علم ذلك تصور منه قصد الطاعة والامتثال
بفعله، لأن الطاعة: موافقة الأمر، والامتثال: جعل الأمر مثالَا
يتبع مقتضاه.
لكن إذا لم يتصور من المكلَّف قصد الطاعة لله تعالى بهذا الفعل،
فلا يكفي مجرد حصول الفعل منه من غير قصد ولا نية لامتثال أمر
الله تعالى بفعله لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمالى بالنيات "، فالعمل الخالي عن النية قد يوجد، ولكن لا يصح إلا بالنية وقصد التقرب
إلى اللَّه به.
وهذا الشرط يخص الفعل الذي يجب قصد الطاعة والتقرب فيه
إلى اللَّه تعالى مثل الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وغير
ذلك.
أما ما لا يجب قصد الطاعة فيه مثل: رد المغصوب، وتأدية
الديون، فإنه يكفي فيه مجرد حصول الفعل منه، وهو نفس الرد،
ونفس التأدية.
الشرط الثالث: أن يكون حاصلاً بكسب المكلََّف.
فلا يصح تكليف المسلم بما لا يحصل بكسبه، فلا يصح تكليفه
بكسب غيره؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ،
وقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) .
هذا هو المذهب الأولى في المسألة.
المذهب الثاني: أنه يجوز تكليف المسلم بكسب غيره،
ومن ذلك: التزام العاقلة خطأ غيرها.
جوابه:
يجاب عنه بأن التزام العاقلة ليس من باب التكليف بفعل الغير،
وإنما هو من باب خطاب الوضع، أي هو: من باب ربط الحكم
بسببه، فجناية الشخص سبب في دية العاقلة؛ لأن المصلحة اقتضت "
ذلك..
الشرط الرابع: أن يكون الفعل معدوماً.
أي: أن يكون الفعل الذي طلب من المكلََّف فعله معدوماً، أي:
لم يوجد، فمثلاً: يؤمر المسلم بصلاة الظهر قبل الزوال، فصلاة
الظهر فعل أمر الشارع بفعلها قبل وجودها، وكذا يؤمر الإنسان
بخياطة ثوب معدوم، فإن هذا الأمر صحيح؛ لأن كلًّا من صلاة
الظهر والثوب لم يوجد قبل الأمر.
أما ما هو موجود فيستحيل وقوعه من المكلَّف، فلا يحسن عقلاً
الأمر بفعل شيء موجود، وهذا عند جمهور العلماء وهو الصحيح،
لوجهين:
الوجه الأول: أن يجاد الشيء الموجود تحصيل حاصل، لا يرد به
الشرع، فهو مستحيل كاستحالة الجمع بين الضدين، وجعل الجسم
في مكانين في وقت واحد.
الوجه الثاني: أنه لا يحسن أن يؤمر من هو قائم بالقيام، ومن
هو يكتب بالكتابة؛ لوجود القيام، والكتابة قبل الأمر، فكذلك هنا.
هذا هو المذهب الأول في المسألة.
المذهب الثاني: أنه يجوز الأمر بفعل شيء موجود.
ذهب إلى ذلك بعض المتكلمين.
دليل هذا المذهب:
أنه لو لم يصح الأمر بفعل الموجود للزم من ذلك أمران:
أولهما: أنه لا يصح ذم الكافر على كفره - الذي هو فيه في
الحال -، لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجوداً.
ثانيهما: يوجب أن لا يكون المؤمن مأموراً بالإيمان؛ لأن ما وجد
منه لا يصح الأمر به وهو على هذه الصفة.
جوابه:
يجاب عنه ت بأن الكافر إنما يستحق الذم على فعله من اعتقاد
الكفر والبقاء عليه، فهذا ليس فيه دلالة على كونه مأموراً بما قد وجد
منه.
وأما أمر المؤمن بالإيمان فليس المقصود منه الأمر الحقيقي، وإنما
المراد بالأمر هنا هو: طلب الاستمرار على الإيمان، والله أعلم.
الشرط الخامس: أن يكون الفعل مقدوراً للمكلَّف.
فلا يجوز تكليف ما لا يطاق، بل لا بد أن يكون الفعل يستطيع
المكلَّف فعله والقدرة عليه، فإن كان محالاً كالجمع بين الضدين،
وقلب الأجناس، وإعدام القديم، وإيجاد الموجود، ونحو ذلك،
فلا يجوز التكليف به.
ذهب إلى ذلك الغزالي، وأبو حامد الإسفراييني، وإمام الحرمين
وأبو بكر الصيرفي، وابن قدامة، وكثير من العلماء، وهو الصحيح
عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ،
وقوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه صرح في هاتين الآيتين على اشتراط
القدرة من المكلَّف فيما يكلف به من الأفعال، وهذا يدل دلالة
واضحة على أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، فلا يكلف اللَّه العباد
عملاً من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلََّف، وفي
مقتضى إدراكه.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .
وجه الدلالة: أن التكليف بما لا يطاق فيه حرج واضح للمكلَّفين،
والله عز وجل هنا - نفى أن يكلف أي إنسان بشيء فيه حرج عليه،
قال بعض العلماء: " وأي حرج فوق التكليف بما لا يطاق "،
وقال الآمدي في " الإحكام ": " ولا حرج أشد من التكليف بما لا
يطاق ".
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم:
"دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
وجه الاستدلال: أن الناس إنما كلَّفوا فيما يستطيعون من الفعل،
فثبت أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز.
الدليل الرابع: أن المحال - وهو: ما لا يطيقه المكلَّف لا تتصور
فيه الطاعة فلا يتصور استدعاء وطلب المحال من المكلَّف؛ قياساً على
أنه يستحيل من العاقل أن يطلب من الشجرة أن تخيط له ثوباً.
أي: كما أنه يستحيل أن يطلب العاقل من الشجرة الخياطة؟
لعدم تصور الطاعة منها، فكذلك يستحيل طلب المحال من المكلف
- وهو الذي لا يستطيع أن يفعله -؛ لعدم تصور الطاعة في ذلك:
الدليل الخامس: أن اشتراط كون الفعل ممكنا ومستطاعا أوْلى من
اشتراط كون المكلَّف عاقلاً فاهما للخطاب، ومن اشتراط كون الفعل
معدوماً؛ وذلك لأن الفعل المكلََّف به ممكن إيقاعه من غير العاقل،
وممكن إيقاعه من غير الفاهم، وممكن إيجاده مرة أخرى، أو يوقع
ما يماثله، ولكن يستحيل أن يوقع المكلََّف المحال، فكيف يطلب - من
المكلَّف إيقاعه، فثبت أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز.
تنبيه: المعتزلة يوافقوننا على أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز.
وقد استدلوا ببعض الأدلة السابقة، وأضافوا إليها دليلاً قويا
عندهم وهو قولهم: إن تكليف ما لا يطاق قبيح عقلاً، والله
سبحانه لا يكلف بالقبيح استناداً إلى قاعدتهم وهي: " التحسين
والتقبيح العقليين ".
هذا هو المذهب الأول في المسألة.
المذهب الثاني - في المسألة -: أنه يجوز تكليف ما لا يطاق.
ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، ونسب إلى أبي الحسن
الأشعري، واختاره فخر الدين الرازي، وذهب إليه كثير من العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) .
وجه الاستدلال: أن هذا تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة،
وهو يدل على جواز تكليف ما لا يطاق.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا لا يصح أن يحتج به على ما نحن فيه، وإنما
يصح الاحتجاج به أن لو أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى
التكليف، وليس كذلك للإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار
مجازاة، لا دار تكليف.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) .
وجه الاستدلال: أن هؤلاء سألوا اللَّه دفع ما لا يطيقون، ولو لم
يَكن تكليف ما لا يطاق جائزاً لما سألوا دفعه، ولا أقرهم عليه،
فلما سألوا دفعه، وحصل الإقرار على ذلك: دلَّ على جوازه.
جوابه:
يجاب عنه بجوابين:
أولهما: أن المراد بما لا يطاق في الآية هو: الشاق الذي يثقل
على الإنسان، وعلى هذا فهم سألوا اللَّه دفع ما فيه مشقة على
النفس بحيث يؤدي إلى هلاكها، وهذا متعارف عليه في اللغة،
فيقول الشخص لما يشق عليه: " لا أطيقه ".
ثانيهما: سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق، لكن هذه الآية معارضة بما
استدللنا به على عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وهو قوله تعالى:
(لا يكلف اللَّه نفساً إلا وسعها)، وقوله: (وما جعل عليكم في
الدين من حرج) ، وقوله:(لا نكلف نفسا إلا وسعها) ، فإن
هذه الآيات قد صرحت في عدم جواز تكليف ما لا يطاق،
أما ما ذكرتموه من قوله تعالى: (ولا تحملنا ما لاطاقة لنا به) ، فهي
ليست صريحة في جواز تكليف ما لا يطاق، لأنه يتطرق إليها عدة
احتمالات:
ومنها: ما قلناه في الجواب الأول.
ومنها: أن سؤال دفع ما لا يطاق حكاية حال الداعين، ولا حُجَّة
ومعلوم أن الصريح مقدم على غير الصريح.
الدليل الثالث: أن اللَّه عز وجل كلَّف أبا جهل بالإيمان، وأمره
به، ومن الإيمان تصديق اللَّه تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر
الله عن أبي جهل أنه لا يؤمن، فقد صار مكلَّفا بأنه لا يؤمن،
ومكلَّفا بأنه يؤمن، وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين وهو
محال، فجاز تكليف ما لا يطاق.
جوابه:
يجاب عنه: بأن تكليف أبي جهل غير مستحيل؛ لأمور ثلاثة:
الأول: أن الأدلة النقلية والعقلية على صدق ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم منصوبة، وموجودة وظاهرة لا لبس فيها.
الثاني أن أبا جهل له عقل حاضر، وفهم للخطاب.
الثالث: أن أبا جهل يستطيع أن يفعل ما كلف به من غير أن يمنعه
أحد فهو من - رؤساء الكفار.
وهذه الأمور جعلت تكليف أبي جهل غير مستحيل، وممكن أن
يؤمن، لكن علم اللَّه تعالى في علمه الأزلي أن يترك أبو جهل ما
يقدر عليه، وهو:" ما كلف به من الإيمان "، وذلك حسداً
للرسول صلى الله عليه وسلم وعناداً، وإذا علم اللَّه سبحانه أنه لا يؤمن صار عدم إيمانه معلوما، فلن يؤمن أبداً؛ لأن العلم يتبع المعلوم المقرر، ولا يمكن أن يغيره بأي حال.
مما يؤيد ذلك: أن اللَّه تعالى قادر على أن يقيم القيامة في وقتنا
هذا، وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن - حيث جعل لها علامات -
ويترك إقامتها مع القدرة على ذلك، وخلاف خبره سبحانه مستحيل.
ولكن هذه الاستحالة لا ترجع إلى نفس الشيء، بل مستحيل
لغيره، فلا يؤثر فيه.
الدليل الرابع: إن تكليف ما لا يطاق لا يستحيل من حيث صيغته،
حيث وردت صيغته في قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) ،
وقوله: (قل كونوا حجارة أو حديداً)، وقوله:(كن فيكون) ،
فإن هذه أوامر ظاهرها أنها مخاطبة للمكلَّفين بأن يكونوا قردة، أو
حجارة، أو أى شيء آخر، وهذا لا يستطيع المكلَّف فعله، فهذا
تكليف ما لا يطاق.
جوابه:
يجاب عنه بأنه ليس في تلك النصوص أوامر؛ حيث إن تلك
الأوامر ليست حقيقية، إذ ليس فيها مطالب.
فالمراد من قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) : التكوين من
أجل إظهار القدرة لله تعالى، وقيل: إن هذا للسخرية منهم.
والمراد من قوله تعالى: (قل كونوا حجارة أو حديداً) التعجيز؟
حيث أراد اللَّه تعالى أن يظهر قدرته عليهم وأن يعجزهم.
والمراد من قوله تعالى: (كن فيكون) ، إظهار القدرة عليهم،
لا بمعنى أنه طلب من المعدوم بأن يكون نفسه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا أثر له في الفروع، حيث لا
وقوع لها في الفروع، وإن كان لها أثر في أصول الدين في مسألة
"الاستطاعة "، وفي مسألة " القدر "، فإن شئت فارجع إلى ذلك
في كتب العقيدة فهو مبسوط هناك.
الشرط السادس: أن يكون - التكليف بفعل.
اعلم أن متعلق التكليف هو الأمر والنهي، وكلاهما لا يكون إلا
فعلاً، فلا يكلف إلا بفعل، ولا يطلب من المكلف إلا فعل.
والتكليف في الأمر تكليف بفعل بالاتفاق؛ لأن مقتضاه: إيجاد
الفعل المأمور به كالصلاة والزكاة والحج.
أما التكليف في النهي فقد اختلف العلماء فيه على مذهبين:
المذهب الأول: أن التكليف في النهي تكليف بفعل.
هذا مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن المكلف به في النهي هو كف النفس عن
الفعل، لا نفي الفعل؛ حيث إن كف النفس عن المنهي عنه فعل،
فمثلاً: الأمر بالصوم أمر بكف النفمس عن الفطر، والكف فعل
الإنسان وهو داخل تحت كسبه يؤجر عليه، وكذلك لما نهى عن
شرب الخمر، والسرقة، والزنا، فإنه اقتضى التلبس بضد من
أضداده، وهو: الترك، فيكون الترك داخلاً تحت كسب المكلف
فيثاب عليه، فالترك. - في الحقيقة - فعل، لكونه ضد الحال التي
هو عليها.
المذهب الثاني: أن التكليف في النهي ليس تكليفا بفعل.
ذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة، وعلى رأسهم أبو هاشم.
دليل هذا المذهب:
احتجوا - على ذلك بقولهم -: إن النهي عن الشيء معناه:
طلب تركه.
والترك نفي محض لا يدخل تحت التكليف، ولا يدخل تحت
كسب العبد، فلا يثاب عليه، فلا يسمى الكف عن الفعل فعلاً إلا
أن يتناول التلبس بضد من أضداده، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه
يثاب على ذلك الضد المتلبِّس به، لا على مجرد الترك والكفِّ فقط.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الترك ليس نفيا للفعل، وإنما هو فعل، فترك
الشيء هو: الأعراض البدني أو القلبي عنه، والأعراض فعل،
فمن ترك الزنا فقد أعرض عنه، وذلك الأعراض فعل، وهو من
كسب العبد، ويثاب عليه.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ لاتفاق أصحاب
المذهبين على المعنى والحكم وهو: وجوب الانتهاء عما نهى اللَّه عنه
سواء كان ذلك الانتهاء عن طريق فعل الضد وكف النفس، أو عن
طريق الإبقاء على العدم الأصلي من غير تغيير، فالخلاف كان في
العبارة والاصطلاح.