المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابع في العزيمة والرخصة - المهذب في علم أصول الفقه المقارن - جـ ١

[عبد الكريم النملة]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول في المقدمات

- ‌الفصل الأول في مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه

- ‌المبحث الأول في تعريف أصول الفقه

- ‌المطلب الأول في تعريف الأصول

- ‌المطلب الثاني في تعريف الفقه

- ‌المطلب الثالث في تعريف أصول الفقه

- ‌المبحث الثالث في الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية

- ‌المبحث الرابع في موضوع أصول الفقه

- ‌المبحث الخامس في حكم تعلم أصول الفقه

- ‌المبحث السادس في فوائد علم أصول الفقه

- ‌المبحث السابع الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتها

- ‌المبحث الثامن هل يُقدَّم تعلُّم أصول الفقه أم تعلُّم الفقه

- ‌المبحث التاسع في بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقه

- ‌المبحث العاشر في نشأة علم أصول الفقه

- ‌المبحث الحادي عشر طرق التأليف في أصول الفقه وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقة

- ‌الفصل الثاني مقدمة في المصطلحات التي يحتاج إليها دارس علم أصول الفقه

- ‌المبحث الأول في بيان التصوّر والتصديق

- ‌المبحث الثاني في بيان كيف أن الحد والبرهان هما الآلة التي بها تدرك العلوم

- ‌المبحث الثالث في الحد وأقسامه

- ‌المطلب الأول في تعريف الحد، وبيان أقسامه، وسبب ذلك

- ‌المطلب الثاني في الحد الحقيقي وشروطه وأقسامه

- ‌المطلب الثالث الحد الرسمي، وشروطه، وأقسامه

- ‌المطلب الرابع الحد اللفظي، وشرطه

- ‌المبحث الرابع في البرهان وما يتعلق به

- ‌المطلب الأول في تعريف البرهان

- ‌المطلب الثاني مم يتكون البرهان

- ‌المطلب الثالث في وجه لزوم النتيجة من المقدمتين

- ‌المطلب الرابع هل تسمية البرهان بالقياس تسمية حقيقية

- ‌المطلب الخامس كيف يتطرق الخلل إلى البرهان

- ‌المطلب السادس في أسباب مخالفة نظم البرهان

- ‌المطلب السابع في أقسام البرهان

- ‌المطلب الثامن في اليقين ومداركه

- ‌المطلب التاسع في الاستقراء

- ‌المطلب العاشر في التمثيل

- ‌المبحث الخامس في الألفاظ

- ‌المبحث السادس في المعاني وأقسامها

- ‌المبحث السابع في تأليف مفردات المعاني

- ‌الباب الثاني الحكم الشرعي، والتكليف به

- ‌الفصل الأول في حقيقة الحكم الشرعي وما يتعلق بها

- ‌المبحث الأول في تعريف الحكم الشرعي

- ‌المبحث الثاني في إطلاق الحكم الشرعي بين الأصوليين والفقهاء

- ‌المبحث الثالث هل ينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي

- ‌الفصل الثاني في الحكم التكليفي وأنواعه

- ‌المبحث الأول في اختلاف العلماء في التعبير عن أقسام الحكم التكليفي

- ‌المبحث الثاني في بيان سبب انحصار الحكم التكليفي

- ‌المبحث الثالت في بيان الحكمة من تنوع الأحكام التكليفية إلى واجبومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام

- ‌المبحث الرابع في أقسام الحكم التكليفي عند الحنفية

- ‌المبحث الخامس في بيان الأحكام التكليفية الخمسة عند الجمهور بالتفصيل

- ‌المطلب الأول في الواجب

- ‌المطلب الثاني في المندوب

- ‌المطلب الثالث في المباح

- ‌المطلب الرابع في المكروه

- ‌المطلب الخامس الحرام

- ‌الفصل الثالث في التكليف وشروطه

- ‌المبحث الأول في حقيقة التكليف

- ‌المبحث الثاني في شروط التكليف

- ‌الفصل الرابع في الحكم الوضعي وأنواعه

- ‌المبحث الأول في تعريف الحكم الوضعي

- ‌المبحث الثاني في الفروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي

- ‌المبحث الثالث في بيان أنه قد يجتمع خطاب التكليف مع خطابالوضع وقد ينفرد خطاب الوضع عن خطاب التكليف

- ‌المبحث الرابع في أنواع الحكم الوضعي

- ‌المطلب الأول في السبب

- ‌المطلب الثاني في الشرط

- ‌المطلب الثالث في المانع

- ‌المطلب الرابع في العزيمة والرخصة

الفصل: ‌المطلب الرابع في العزيمة والرخصة

‌المطلب الرابع في العزيمة والرخصة

ويشتمل على المسائل التالية:

المسألة الأولى: في تعريف العزيمة.

المسألة الثانية: في تعريف الرخصة.

المسألة الثالثة: هل الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم التكليفي،

أو من أقسام الحكم الوضعي؟

المسألة الرابعة: في أقسام الرخصة.

المسألة الخامسة: أيهما أفضل الرخصة أو العزيمة؟

المسألة السادسة: حكم الرخصة.

ص: 447

المسألة الأولى: في تعريف العزيمة:

أولاً: العزيمة لغة:

مشتقة من العزم، وهو القصد المؤكد، ومنه قوله تعالى

(فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، أي: قصداً بليغا متأكداً في العصيان.

وعزائم اللَّه: فرائضه التي أوجبها اللَّه وأمرنا بها.

وأولوا العزم من الرسل: هم الذين عزموا على إمضاء أمر الله

فيما عهد إليهم، وسموا بذلك لتأكد قصدهم في طلب الحق.

ثانيا: تعريف العزيمة اصطلاحا هو:

" الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح "،

وهو أقرب تعريفات العلماء للعزيمة إلى الصواب.

شرح التعريف وبيان محترزاته:

قولنا: " الحكم الثابت ": أخرج الحكم غير الثابت كالمنسوخ،

فلا يسمى عزيمة؛ حيث إنه لم يبق مشروعا أصلاً.

وهذه العبارة وهي: " الحكم الثابت " عام وشامل لجميع الأحكام

التكليفية؛ لأن كلًّا منها حكم ثابت.

قولنا: " بدليل شرعي ": أخرج ما ثبت بدليل عقلي، فإن ذلك

لا يستعمل فيه العزيمة.

قولنا: " خال عن معارض ": أخرج ما ثبت بدليل شرعي،

ولكنه معارض بدليل مساو، أو دليل راجح؛ لأنه إن كان المعارض

مساويا لزم الوقف، وحينئذِ يجب طلب المرجح الخارجي.

ص: 449

وإن كان المعارض راجحاً، فإنه يجب العمل بمقتضاه، وتنتفي

العزيمة.

قولنا: " راجح ": أخرج الرخصة؛ لأن الرخصة حكم ثابت

على خلاف الدليل لمعارض راجح وهو العذر - فمثلاً: " تحريم

الميتة " حكم ثابت من غير مخالفة دليل شرعي، فإذا وجدت

المخمصة حصل المخالف لدليل التحريم، وهو قوله تعالى:(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ،

وهو راجح على دليل التحريم، وهو قوله:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ،

وذلك لحفظ النفس، فجاز الأكل من الميتة وحصلت الرخصة؛ لأن

مصلحة إحياء النفس، والمحافظة عليها مقدمة على مفسدة الميتة وما

فيها من الخبث.

***

المسألة الثانية: في تعريف الرخصة:

أولاً: الرخصة لغة:

مشتقة من الرخص، وهو: اليسر والسهولة، يقال: " رخص

لنا الشرع في كذا ": إذا يسَّره وسهَّله علينا، وهو - أيضا - مشتق

من اللين والمسامحة.

ثانيا: الرخصة اصطلاحا هي:

الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر.

وهذا التعريف هو ما اخترته في كتابي: " الرخص الشرعية

وإثباتها بالقياس " من أكثر من عشرة تعريفات له.

ص: 450

شرح التعريف وبيان محترزاته:

قولنما: " الحكم ": جنس يشمل العزيمة والرخصة.

قولنا: " الثابت ": يوضح أنه لا بد من دليل على الرخصة،

فإن لم تثبت الرخصة بدليل لم يجز الإقدام والعمل بها، وإلا لزم

ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، وهذا باطل.

قولنا: " على خلاف الدليل ": يشمل الدليل الخاص، وهو ما

يقتضي الحرمة والوجوب والندب، كما يشمل الدليل العام كدليل

الأصل في نحو قولهم: " الأصل كذا "، والأصل من الأدلة

الشرعية.

وهذه العبارة - أعني: " على خلاف الدليل - أخرجت أمورا

هي:

الأول: العزيمة؛ لأنها على وفق الدليل، لا على خلافه.

الثاني: الأحكام الثابتة على وفقِ الدليل مثل إباحة الأكل والشرب

والنوم، حيث إنه لم يوجد دليل على منع هذه الأشياء حتى تكون

إباحتها ثابتة على خلافه، فلا تكون رخصة وإن وجد فيها نوع من

اليسر والسهولة.

الثالث: الحكم الثابت بدليل ناسخ لحكم ثبت بمنسوخ، لأن

المنسوخ لا يسمى دليلاً مثل: إيجاب ثبات الواحد من المسلمين أمام

اثنين من الكفار في الحرب، فإنه ثبت بقوله تعالى:(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ،

وهذا الدليل ناسخ لوجوب ثبات الواحد أمام العشرة،

فإيجاب ثبات الواحد أمام الاثنين لا يعتبر رخصة؛ لأنه لم يثبت

على خلاف الدليل.

ص: 451

الرابع: الحكم الثابت بدليل راجح في مقابلة حكم ثبت بمرجوح،

فإن المرجوح لا يسمى دليلاً، وحينئذ فالحكم الثابت بالدليل الراجح

لا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل.

الخامس: الأحكام التي كانت على الأمم السابقة ثم وضعت عنا

كالإصر - وهو: الحمل الثقيل الذي يأصر صاحبه فيلاقي في تحمله

أشد المشقة - وكالأغلال - وهي: الأعمال الشاقة المغلظة - فإن هذا

الوضع لا يسمى رخصة حقيقية؛ لأنها لم تخالف دليلاً من الأدلة،

وإن كان بعضهم يسميها رخصة مجازية؛ لما في ذلك من التخفيف

واليسر عند مقارنة حالنا بحالهم، كما قال الخبازي، والنسفي،

وقد تكلمت عن هذا بتوسع في كتابي: " إتحاف ذوي البصائر بشرح

روضة الناظر "، و " الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس " فارجع

إليهما إن شئت.

قولنا: " لعذر ": المراد بالعذر: المشقة الشاملة للضرورة والحاجة.

أي: أن العذر يشمل الاضطرار من أكل الميتة ونحوها، ويشمل

أحكام السفر والمرض ونحوه، وكذلك بعض أنواع العقود من

السلم، والمساقاة، والإجارة، والقراض، والعرايا، ونحو ذلك مما

يخالف القياس والقواعد المقررة.

واشترط الشاطبي للعذر أن يكون شاقاً، حيث قال في تعريفه:

" الرخصة: ما شرع بعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع

مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ".

والحق أن هذا الشرط غير صحيح؛ لأننا لو اشترطناه في العذر

للزم من ذلك خروج أكثر الرخص التي كانت كالسلم، والمساقاة،

والقراض.

ص: 452

والمانع الشرعي لا يدخل في العذر كالحيض والنفاس؛ لأن

المشروعية لا تتحقق معه، ومن هنا لا يسمى إسقاط الصلاة عن

الحائض والنفساء رخصة؛ لأنهما مانعان من المشروعية كما قلنا في

مبحث المانع.

***

المسألة الثالثة: هل الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم التكليفي

أو من أقسام الحكم الوضعي؟

اختلف في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أنهما من أقسام الحكم الوضعي.

ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والغزالي،

والشاطبي، وابن قدامة، والأنصاري.

وهو الصحيح عندي؛ لأمرين:

أولهما: أن الرخصة في حقيقة أمرها هي وضع الشارع وصفا

معيناً سببا في التخفيف، والعزيمة هي: اعتبار مجاري العادات سبباَ

للأخذ بالأحكام الأصلية العامة، والسبب حكم وضعي.

ثانيهما: أن اعتبار كل من السفر والمرض والضرورة أو غيرها

أسبابا للترخص، أو مانعة من التكليف بحكم العزيمة، كل ذلك

- لو فكرنا فيه - لوجدنا أنه لا طلب فيه ولا تخيير، بل فيه وضع

وجعل واعتبار، وهذه كلها أحكام وضعية، وكانت من أحكام

الحكم الوضعي.

المذهب الثاني: أن العزيمة والرخصة من أقسام الحكم التكليفي.

ص: 453

ذهب إلى ذلك ابن الحاجب، وتاج الدين ابن السبكي، والعضد

والزركشي.

دليل هذا المذهب:

استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العزيمة والرخصة

يرجعان في الحقيقة إلى الاقتضاء والتخيير، فالعزيمة تحمل معنى

الاقتضاء، والرخصة تحمل معنى التخيير، فهما من صفات الأحكام

التكليفية.

أي: أن كلًّا من تلك الأحكام إما أن يكون عزيمة ومطلوبا، وإما

أن يكون رخصة ومخيراً، ولا يخرجان عن ذلك فكانا من الأحكام

التكليفية؛ لكونهما اسمين لما طلبه الشارع، أو أباحه على وجه

العموم، والطلب والإباحة حكم تكليفي.

جوابه:

يجاب عنه: بأن التصاق الرخصة والعزيمة بالحكم الوضعي أقوى

من التصاقهما بالحكم التكليفي، وهذا لا يخفى على المدقق في

حقيقتهما، بيان ذلك:

أن الرخصة ترجع في الحقيقة إلى جعل الأحوال الطارئة غير

الاعتيادية أسباباً للتخفيف عن المكلَّفين؛ لأن الحكم المشروع فيها هو

جعل الضرورة أو الإكراه سببا في إباحة المحظور، وطروء العذر سببا

في التخفيف بترك الواجب، وهكذا فإن ذلك وأمثاله - في الحقيقة -

هي وضع أسباب لمسببات، والسبب من أنواع الحكم الوضعي.

وإذا دققت في العزيمة وجدتها ترجع إلى جعل الشارع الأحوال

العادية للمكلفين سبباً لبقاء الأحكام الأصلية واستمرارها في حقهم.

ص: 454

بيان نوع الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة لفظي يرجع إلى النظر إلى كل من

الرخصة والعزيمة، فاختلف الفريقان بحسب هذا النظر.

فمن نظر إلى أن كلًّا من الرخصة والعزيمة متصفة بالوجوب، أو

الندب، أو الإباحة، وأنه يوجد في العزيمة معنى الاقتضاء، ويوجد

في الرخصة معنى التخيير، فإنه عدهما من الأحكام التكليفية.

ومن نظر إلى أن الرخصة - في الحقيقة - هي وضع الشارع وصفاَ

معيناً سبباً في التخفيف، وأن العزيمة - في الحقيقة - هي: جعل

الشارع الأحوال العادية للمكلفين سببا لبقاء الأحكام الأصلية

واستمرارها في حقهم، فإنه عدَّهما من الأحكام التكليفية؛ لأنه

اعتبر السبب، والسبب من الأحكام الوضعية.

فاختلفت أنظار كل من الفريقين لاختلاف المنظور إليه، فكان هذا

الخلاف خلافا لفظيا. في المسألة الرابعة: في أقسام الرخصة:

الرخصة تنقسم إلى عدة أقسام هي كما يلي:

القسم الأول: رخصة واجبة، أي: يجب الأخذ بالرخصة، فإن

امتنع عن ذلك، ثم مات، أو لحقه ضرر، فإنه يأثم بذلك، ومن

أمثلة ذلك:

1 -

أكل الميتة للمضطر، وقلنا ذلك؛ لأنه حكم ثابت على

خلاف الدليل وهو قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) لعذر،

وهو الاضطرار.

- 455 -

ص: 455

2 -

شرب الخمر لمن غص بلقمة، وخشي علي نفسه الهلاك،

ولم يجد ما يسيغها إلا به، وقلنا ذلك لقوله تعالى:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) .

وجه الدلالة: أنه لو لم يدفع هذه الغصة بجرعة من الخمر، ثم

مات، لكان قاتلاً لنفسه، لذلك يجب عليه شرب الخمر لإساغة

هذه اللقمة؛ إبقاء لحياته.

3 -

التيمم للمريض، أو الذي به جراحة مع القدرة على

استعمال الماء، وقلنا ذلك لقوله تعالى:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ،

وقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، حيث إن المريض، أو

من به جراحة لو استعمل الماء لكان مؤديا بنفسه إلى التهلكة؛ لأنه

يحتمل احتمالاً راجحاً أن المرض يتزايد، والجراحة تتسع باستعماله

لهذا الماء، فلذلك أوجبنا عليه التيمم إبقاء على نفسه.

القسم الثاني: رخصة مندوبة، أي: إن أخذ بتلك الرخصة فله

أجر.

ومن أمثلة ذلك:

1 -

قصر الصلاة الرباعية للمسافر، وقلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:

"صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ".

2 -

الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر، فإنه رخصة مندوبة،

وقلنا ذلك لورود الأمر به مع ذكر العلَّة، وهي: أن شدة الحر من

فيح جهنم، حيث قال صلى الله عليه وسلم:

"ابردواً فإن شدة الحر من فيح جهنم ".

القسم الثالث: رخصة مباحة، ومن أمثلة ذلك:

1 -

العرايا، وهي: بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله

ص: 456

من التمر خرصاً فيما دون خمسة أوسق، فالقياس: عدم جواز مثل

هذا البيع؛ لما فيه من الجهالة والغرر، ولكن رخص الشارع في

العرايا للحاجة إليها.

2 -

السلم وهو: اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلاً،

وفي المثمن آجلاً، فالقياس: عدم جواز ذلك؛ لأنه بيع معدومِ،

وبيع المعدوم منهي عنه؛ لما فيه من الجهالة والغرر، ولكن رخص

الشارع في السلم لحاجة الناس إليه.

3 -

الإجارة، وهي: تمليك المنافع بعوض، والأصل: عدم

جواز الإجارة؛ لما فيها من الغرر والجهالة، ولكن رخص الشارع

في الإجارة لحاجة الناس.

4 -

التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره على ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان،

فإن هذا يعتبر من الرخص المباحة؛ حيث إن الدليل على وجوب

الإيمان قائم، وحرمة التلفظ بالكفر قائمة، وإنما أبيح التلفظ بكلمة

الكفر حالة الإكراه - فقط - مراعاة لحق نفسه؛ حيث يفوت ذلك

الحق عند الامتناع صورة ومعنى بتخريب بدنه، وإزهاق روحه، ثم

إن إجراء كلمة الكفر على اللسان لا يوجب خللاً في الإسلام؛ لأن

بقاء الإسلام ببقاء العقيدة، وأنها لا تفوت بهذا.

لكن لو صبر وامتنع عن التلفظ بكلمة الكفر فإنه يكون آخذاً

بالعزيمة وهو أفضل؛ حيث إنه إذا صبر وبذل نفسه في دين اللَّه وقتل

وهو صابر محتسب، فإن فعله هذا أفضل وأوْلى، يدل على ذلك ما

ورد من أن مسيلمة الكذاب قال لرجل مسلم: أتشهد أن محمداً

رسول اللَّه؛ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؛ قال: لا

أدري ما تقول فقتله، وقال لآخر: أتشهد أن محمداً رسول اللَّه؛

ص: 457

قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؛ قال: نعم، فخلى

سبيله، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:" أما الأول فقد أتاه اللَّه أجره مرتين، وأما الآخر فقد أخذ برخصة اللَّه فلا إثم عليه ".

5 -

رؤية الطبيب لعورة الرجل أو المرأة عند الحاجة.

فالدليل قائم على تحريم النظر إلى عورة المرأة والرجل، ولكن إذا

احتاج أي واحد منهما إلى طبيب لمعالجة، أو ولادة، فقد أبيح ذلك

رخصة، رفعاً للضرر الذي يلحقهما إذا لم يتم معالجتهما.

6 -

الجمع بين الصلاتين في السفر، فهذا من الرخص المباحة،

لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في سفره إلى تبوك بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جميعاً.

7 -

تعجيل الزكاة قبل تمام الحول؛ حيث رخص الرسول صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه في تعجيل الزكاة قبل أن تحل.

8 -

النظر إلى المخطوبة؛ حيث ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة ابن شعبة - لما علم أنه خطب امرأة -:

" انظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ".

القسم الرابع: رخصة خلاف أَوْلى، أي: أن ترك الأخذ

بالرخصة أوْلى وأفضل من فجلها، ومن أمثلة ذلك:

1 -

الإفطار في رمضان للمسافر الذي لا يشق عليه الصيام ولا

يتضرر به، وقلنا: إنه رخصة خلاف الأولى؛ لقوله تعالى: (وأن

تصوموا خير لكم) ، ولما روي عن أنس، وعثمان بن أبي العاص

الثقفي رضي الله عنهما أنهما قالا: " الصوم في السفر أفضل

لمن قدر عليه ".

ص: 458

2 -

التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره عليه قد سبق أن ذلك خلاف

الأولى، لأن الأولى والأفضل عدم التلفظ بكلمة الكفر.

3 -

المسح على الخفين، رخصة خلاف الأوْلى؛ لأن الأَوْلى

والأفضل غسل الرجلين.

القسم الخامس: الرخصة المكروهة، ومن أمثلته:

1 -

السفر للترخص فقط، أي: يسافر لأجل أن يفطر أو يقصر،

وليس له غرض إلا ذلك، فهذا له أن يفطر ويقصر رخصة، ولكن

هذه الرخصة مكروهة، لأنه ضيع وقته بلا فائدة.

2 -

غسل الخف بدلاً من مسحه، فهذا يعتبر من الرخص

المكروهة؛ لأنه قد يفسد ماله، ومع ذلك فهو مجزئ؛ لأنه مسح

وهذه الأقسام، والأمثلة التي أوردتها عليها خالف فيها بعض

العلماء، وذكروا أدلة على مخالفتهم، وأجبت عنها، فراجع ذلك

- إن شئت - مع تفصيلات أخرى في كتابي: " الرخص الشرعية

وإثباتها بالقياس ".

كوفي بئرث

المسألة الخامسة: أيهما أفضل الرخصة أو العزيمة؟

لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:

المذهب الأول: أن الأفضل الأخذ بالعزيمة وترجيحها.

أدلة أصحاب هذا المذهب:

الدليل الأول: أن العزيمة هي الأصل المقطوع به،

الذي لا يختلف فيه، أما الرخصة فسببها ظني وهو: المشقة؟

حيث إن مقدار

ص: 459

المشقة الذي ثبت الترخص من أجلها غير منضبط؛ لأنها تتفاوت

بحسب الأشخاص والأحوال.

الدليل الثاني: أن العزيمة عامة وشاملة لجميع المكلَّفين، أما

الرخصة فهي خاصة لبعض المكلَّفين؛ حيث إنها ترجع إلى حالة

جزئية بحسب بعض المكلَّفين، ممن له عذر، أو بحسب بعض

الأحوال والأوقات.

الدليل الثالث: أن الأخذ بالرخص قد يصبح ذريعة ووسيلة إلى

انحلاك العزائم في التعبد، بخلاف الأخذ بالعزائم فإنه يعوِّد على

الثبات في التعبد والأخذ بالحزم في الأمور.

المذهب الثاني: أن الأفضل الأخذ بالرخصة.

أدلة أصحاب هذا المذهب:

الدليل الأول: أن الرخصة مقطوع بها، أما وجود الظن في سببها

فلا يؤثر؛ لأن الشارع أوجب العمل بالظن كما أوجب العمل

بالقطع.

الدليل الثاني: أن النصوص الدالة على رفع الحرج عن هذه الأمة

قد بلغت درجة القطع مثل قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)، وقوله:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ،

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخَيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فالشارع الحكيم قد قصد السهولة واليسر على المكلَّفين مما يدل على أن الأخذ بالرخصة مقدم على الأخذ بالعزيمة.

الدليل الثالث: أن ترك الترخص مع وجود السبب قد يؤدي إلى

الانقطاع عن العمل والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول في العبادة

ص: 460

وترك الدوام عليها؛ وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ترك الترخص في نصوص كثيرة منها: قوله:

" خذوا من العمل ما تطيقون، فإن اللَّه لن يمل حتى تملوا "،

ونهى رسول اللَّه عن صوم الوصال، وعن الصيام في السفر.

هذه أهم أدلة الفريقين.

بيان القول الحق:

والحق عندي - والله أعلم -: أنه لا تفضل الرخصة على

العزيمة، ولا العزيمة على الرخصة؛ وذلك لأن سبب الرخصة وهو

العذر - من مشقة، وحاجة، وضرورة - لا ضابط له معين واضح

جلي يتساوى فيه جميع المكلَّفين، فالعذر من مشقة وحاجة وضرورة

أمر إضافي نسبي، لا أصلي، فكل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها

ما لم يجد مانعا شرعيا يمنعه عن الأخذ بها، وهو داخل تحت قاعدة

" المشقة تجلب التيسير "، فالمشقة والكلفة التي يجدها المكلف عن

الإتيان بالحكم الشرعي الأصلي تكون سبباً شرعيا للتخفيف والتسهيل.

وهو أيضاً داخل في معنى قاعدة: " إذا ضاق الأمر اتسع "

قال ابن أبي هريرة: " وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت

اتسعت، وإذا اتسعت ضاقت "، فالحركة القليلة في الصلاة لما

اضطر إليها المكلف ويجد مشقة في تركها قد سومح فيها، والحركة

الكثيرة فيها لما لم تكن به حاجة لم يسامح بها، وكذا قليل دم

البراغيث يسامح به، دون كثيره.

وقلنا: إن كل مكلَّف يعتبر فقيه نفسه، هذا من حيث الجملة؛ العذر من مشقة، أو ضرورة، أو حاجة تختلف بحسب الأزمان

والأعمال، وقوة العزائم وضعفها، وليس كل الناس في تحمل

المشاق على حد سواء، فمثلاً: لو أصاب " زيداً " من المكلَّفين

ص: 461

مرض قد يتحمله دون حاجته إلى الأخذ بالترخيص، بينما لو أصاب

نفس المرض " عمراً "، فقد لا يتحمله فتكون الرخصة مشروعة

بالنسبة لعمرو، دون " زيد ".

وكذلك من كان من المضطرين معتاد على الصبر على الجوع، ولا

تختل حالته بسببه، فإنه لا يرخص له في أكل الميتة، بخلاف

الشخص الذي لا يستطيع الصبر على الجوع، فهذا يرخص له في

أكل الميتة؛ لأنه يخشى عليه من الهلاك، أو إلحاق ضرر به.

فعرفنا أن سبب الرخصة وهو العذر من مشقة، وضرر، وحاجة

ليس له ضابط معين، بل هو أمر إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب،

فهو راجع إلى تقدير المشقة والحرج الذي يحصل للمكلف وإلى

اجتهاده في ذلك بحسب طاقته الخاصة.

ثم إنه ينبغي للمكلَّف أن يحتاط في اجتناب الرخص على حسب

الإمكان، بحيث لا يفعل شيئاً مرخصا فيه إلا بعد التأكد التام أنه

مضطر إليه.

أما تتبع الرخص لغرض التخفيف والتهرب عن كامل التكاليف

فهذا غير جائز.

***

المسألة السادسة: حكم الرخصة:

الرخصة قد تكون مباحة، وقد تكون واجبة، وقد تكون مندوبة،

وقد سبق بيان ذلك في أقسام الرخصة، وهذا مذهب الجمهور.

ولكن الشاطبي رحمه الله ذكر أن حكمها: الإباحة مطلقا،

مستدلا على ذلك بما يلي:

الدليل الأول: قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، وقوله تعالى:(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) .

ص: 462

حيث إن هاتين الآيتين وغيرهما مما في معناهما قد دلَّت على رفع الإثم والحرج، ولم يرد فيها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل الذي ورد نفي الإثم والمؤاخذة على من ترك العزيمة.

الدليل الثاني: أن الرخص لو كانت مأموراً بها لكانت عزائم

لا رخصا، وإذا ثبت ذلك ظهر أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين

متنافيين.

الدليل الثالث: أن الرخصة لغة التيسير والسهولة، ولا يستقيم

ذلك إلا إذا كان حكم الرخصة الإباحة لا غير.

بيان نوع الخلاف:

قلت: وفهم بعض الباحثين مما ذكره الشاطبي أن رأيه يخالف رأي

الجمهور غير صحيح؛ لأن رأيه يطابق ما ذكره الجمهور تمام المطابقة؟

حيث إن الجمهور أيضا يقولون بأن حكم الرخصة هو: الإباحة

مطلقا؛ لأن معناها التيسير والسهولة، وذلك بحصول الجواز للفعل

أو الترك، يرخص في الحرام بالإذن في فعله، وبالواجب بالإذن في

تركه، أما وصف الرخصة بالوجوب أو الندب أو غيرهما، فإنه أمر

زائد على معنى الرخصة، حيث يؤخذ من أدلة أخرى، ولهذا اقتصر

الكتاب العزيز على مجرد نفي الإثم والجناح، فعلمنا من ذلك الجواز

فقط، وقد صرَّح بذلك كثير من العلماء كالغزالي، وتاج الدين ابن

السبكي، والزركشي، والآمدي، وقد درست هذه المسألة في

كتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فارجع إليه إن شئت.

-------------

هذا آخر المجلد الأول من كتاب " المهذب في علم أصول الفقه المقارن "

لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة

حفظه الله ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الثاني إن شاء الله

وأوله: " أدلة الأحكام الشرعية "، وهو الباب الثالث

ص: 463