الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول في السبب
ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في حقيقة السبب:
أولاً: السبب لغة.
ثانيا: السبب اصطلاحا.
المسألة الثانية: في تقسيمات السبب.
المسألة الثالثة: في إطلاقات السبب عند الفقهاء.
المسألة الرابعة: في العلَّة:
أولاً: العِلَّة لغة.
ثانيا: العِلَّة اصطلاحاً.
ثالثا: هل يوجد فرق بين السبب والعِلَّة؟
المسألة الخامسة: الصحة والفساد:
أولاً: الصحة والفساد لغة.
ثانياً: الصحة والفساد اصطلاحاً.
ثالثا: هل الصحة والفساد من الأحكام الشرعية،
أو هما من الأحكام العقلية؟
رابعاً: هل الصحة والفساد من الأحكام الوضعية،
أو هما من الأحكام التكليفية؛؟
خامساً: المقصود بالصحة في العبادات.
سادساً: المقصود بالصحة في المعاملات.
سابعاً: هل الفاسد والباطل مترادفان؟
المسألة السادسة: التقديرات الشرعية والحجاج.
المسألة السابعة: الأداء والإعادة والقضاء:
أولاً: تعريف الأداء.
ثانيا: تعريف الإعادة.
ثالثاً: تعريف القضاء.
رابعاً: إذا حاضت المرأة، أو سافر مكلف، أو مرض آخر في رمضان فافطروا، فلما انقضى رمضان صاموا تلك الأيام التي
أفطروها، فهل يسمى فعلهم هذا قضاء أو أداء؟
خامسا: هل يتعلق القضاء بالمندوب كالواجب؟
سادساً: الدليل الموجب للقضاء.
المسألة الأولى: حقيقة السبب:
أولاً: السبب في اللغة هو:
كل ما يتوصل به إلى مقصود " ما " لذلك تسمى الطريق،
والحبل، والباب أسبابا؛ لأن الطريق موصل إلى المكان المقصود،
والحبل موصل إلى الماء ونحوه، والباب موصل إلى داخل البيت.
ثانيا: السبب في الاصطلاح:
لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف السبب، وأقرب
تعريفات السبب إلى الصحة وأبعدها عن الخطأ هو: " ما يلزم من
وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم لذاته ".
شرح التعريف وبيان محترزاته:
السبب هو وصف ظاهر منضبط جعله الشارع علامة على الحكم،
وربط وجود الحكم بوجوده، وعدم الحكم بعدمه، فيلزم من وجود
السبب وجود الحكم، ويلزم من عدم السبب عدم الحكم، كدخول
الوقت، وبلوغ النصاب، فيلزم من وجود دخول الوقت وجوب
الصلاة، ويلزم من عدم دخول الوقت عدم وجوب الصلاة، ويلزم
من وجود بلوغ النصاب وجوب الزكاة، ويلزم من عدم البلوغ عدم
وجوب الزكاة، وهكذا.
وقولنا: " ما يلزم من وجوده الوجود " أخرج الشرط؛ لأن
الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم كالطهارة فإنها شرط
لصحة الصلاة، ولكن قد توجد الطهارة ومع ذلك لا يلزم صحة
الصلاة؛ لاحتمال عدم دخول الوقت، أما السبب فيلزم من وجود
دخول الوقت وجوب الصلاة طى هذا المكلف الذي دخل عليه
الوقت، ويلزم من وجود السرقة: وجود الحكم وهو قطع اليد.
وخرج بهذه العبارة أيضا المانع؛ لأن المانع يلزم من وجوده العدم.
وخرج المانع - أيضاً - من قولنا: " ولا يلزم من عدمه العدم "،
لأن المانع لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم مثل " الذين " يلزم من
وجوده عدم الزكاة، ولكن لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، فلو
لم يكن على المسلم دين فلا يلزم من ذلك وجوب الزكاة عليه؟
لاحتمال فقره مع عدم الدين، ولا يلزم عدم وجوب الزكاة؟
لاحتمال أن يكون عنده نصاب قد حال عليه الحول فتلزمه الزكاة.
وقولنا: " لذاته " أي: لذات السبب، وأخرجنا به ما لو قارن
السبب فقدان شرط، أو وجود مانع مثل: أن يملك النصاب، لكن
لم يدر عليه الحول، فهنا لا تجب عليه الزكاة لا لأن ذات السبب لم
يتوفر، بل توفر ووجد، ولكن انتفى الشرط وهو حولان الحول،
كذلك لو ملك النصاب وحال عليه الحول، لكن عليه دين، فهذا لا
تجب عليه الزكاة مع توفر السبب.
فهنا لا يلزم من وجود السبب وجود الحكم، ولكن لا لذاته،
بل لأمر خارج عنه وهو انتفاء الشرط، أو وجود مانع.
***
المسألة الثانية: في تقسيمات السبب:
السبب ينقسم بالنظر إلى اعتبارات وجهات مختلفة إلى خمسة
تقسيمات:
التقسيم الأول: باعتبار قدرة المكلف:
ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب مقدور عليه "،
و" سبب غير مقدور عليه ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المقدور عليه - فهو: ما كان
داخلاً تحت كسب المكلف وطاقته.، بحيث يستطيع فعله أو تركه
كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر بالنسبة لما يترتب عليها - من
العقوبات، وكذا عقد البيع؛ لانتقال الملك وحل الانتفاع، وكذا:
عقد النكاح لحل الاستمتاع.
فهذه يجتمع فيها خطاب التكليف والوضع، كما قلنا سابقا.
أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المقدور عليه - فهو: ما لم
يكن من كسبه ولا دخل له في تحصيله، أو عدم تحصيله مثل: زوال
الشمس، أو غروبها، سبب لوجوب الصلوات، والموت سبب
لانتقال الملك، فهذه الأمور لا يتعلق بها خطاب تكليف؛ لأن
التكليف لا يكون إلا بمقدور، كما قلنا سابقا.
التقسيم الثاني: باعتبار المشروعية:
ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب مشروع "،
و"سبب غير مشروع ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المشروع - فهو: ما كان سببا
للمصلحة أصالة، وإن كان مؤديا إلى بعض المفاسد تبعا مثل: الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالجهاد في سبيل اللَّه، فإنهما سببان
لإقامة الدين، وإعلاء كلمة اللَّه، وإظهار شعائر الإسلام، وإن أدى
في الطريق إلى نوع من المفاسد كإتلاف نفس، وإضاعة أموال، كذا
إقامة الحدود والقصاص سبب للمصلحة أصالة.
أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المشروع - فهو: ما كان
سببا للمفسدة أصالة، وإن ترتب عليه نوع من المصلحة تبعا مثل:
القتل، فإنه سبب غير مشروع، وإن ترتب عليه بعض المصالح
كميراث ورثة المقتول.
الئقسيم الثالث: باعتبار المناسبة:
ينقسم السبب باعتبار المناسبة للحكم وعدم ذلك إلى قسمين:
" سبب مناسب للحكم "، و " سبب غير مناسب للحكم ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المناسب للحكم - فهو: الذي
يترتب على شرع الحكم عنده تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة يدركها
العقل مثل: السرقة بالنسبة لعقوبة القطع، حيث إنها تحقق مصلحة
حفظ الأموال وتدفع مفسدة ضياعها، وكذا عقوبة الزنا، فإنها تحقق
مصلحة حفظ الأنساب والأعراض، وكذا الإسكار لتحريم الخمر،
فإن الإسكار - يتضمن ضياع العقول فنهى عن شرب الخمر لمصلحة،
وهي حفظ العقول.
أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المناسب - فهو: الذي لا
يترتب على شرع الحكم عنده تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة، مثل
دلوك الشمس، فهو سبب لوجوب الظهر، وشهود الشهر بالنسبة
لوجوب صومه.
التقسيم الرابع: باعتبار مصدره:
السبب ينقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام: " سبب شرعي "،
و" سبب عقلي "، و " سبب عادي ".
أما القسم الأول - وهو: السبب الشرعي - فهو: ما كان
مستمداً من الشرع فقط كالوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، وبلوغ
النصاب بالنسبة لوجوب الزكاة.
أما القسم الثاني - وهو: السبب العقلي - فهو: ما كان مستمداً
من العقل، ولم يكن ثابتاً عن طريق الشرع كوجود النقيض، فإنه
سبب في انعدام نقيضه عقلاً، لعدم اجتماع النقيضين كالموت سبب
لعدم الحياة، وهكذا.
أما القسم الثالث - وهو: السبب العادي - فهو: ما كان
مستمداً من العادة الألوفة المتكرر وقوعها كالذبح، فإنه عادة يتسبب
في إزهاق الروح في العادة.
والمراد بالسبب في الحكم الوضعي هو السبب الشرعي فقط.
التقسيم الخامس: باعتبار ذاته:
ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب قولي "،
و"سبب فعلي ".
أما القسم الأول - وهو: السبب القولي - فهو: ما كان عماده
القول كصيغ العقود مثلاً من بيع، وشراء، وهبة، وصدقة، وصيغ
التصرفات كالطلاق، والعتاق، والظهار، والرجعة، والنكاح.
وأما القسم الثاني - وهو: السبب الفعلي - فهو: ما كان ناشئاَ
عن الفعل كالقتل، وشرب الخمر، والسرقة، وإحياء الموات،
ونحو ذلك.
فإن قلت: هل يوجد فرق بين السبب القولي والفعلي؟
أقول: نعم بينهما فرق في الحكم؛ حيث إن الأسباب القولية لا
تصح من السفيه، والمحجور عليه، أما الأسباب الفعلية فإنها تصح
منه، فمثلاً: لو وطأ المحجور عليه أمته فإنها تصير أم ولد، كذلك
لو احتطب، أو اصطاد، أو قتل، أو سرق، أو نحو ذلك فإنه
يترتب على تلك الأسباب آثارها.
بخلاف ما لو أعتق عبده، وكذا لو اشترى، أو وهب، أو باع،
أو تصدق، ونحو ذلك من الأسباب القولية، فإنه لا يترتب عليها
أثر.
وتعليل ذلك: أن أقواله يمكن إلغاؤها - كما قال ابن القيم في
"بدائع الفوائد " -: فإنها مجرد كلام لا يترتب عليه شيء، وأما
الأفعال فإنها إذا وقعت فلا يمكن إلغاؤها؛ فلا يمكن أن يقال لمن
سرق، أو قتل، أو وطأ أمَته وولدت، أو أتلف: إنه لم يسرق،
ولم يقتل، ولم يستولد له ولد، ولم يتلف شيئاً، وقد وجدت منه
هذه الأفعال فأجرى ذلك مجرى المأذون له في صحة أفعاله.
التقسيم السادس: باعتبار اقتران السبب بالحكم وعدم ذلك:
السبب ينقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب متقدم على
الحكم "، و " سبب مقترن به ".
أما القسم الأول - وهو: السبب المتقدم على الحكم - فهو:
الأصل، وهو أكثر الأحكام مثل الأسباب الموجبة للصلوات،
والزكاة، والحج، والبيع، والنكاح.
أما القسم الثاني - وهو: السبب المقارن للحكم - فهو: يقع
كثيراً في الشريعة مثل: شرب الخمر، والزنا، والسرقة، وقطع
الطريق، ومثل: قتل الكافر في الحرب، فإنه سبب لاستحقاق سلبه
فوراً، ومثل إحياء الموات، فانه سبب فوري للملك وهكذا.
المسألة الثالثة: في إطلاقات السبب عند الفقهاء:
الأصول لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له ومحققاَ
للاجتهاد فيه، وإذا كان كذلك، فالتوقع أن يكون الفقهاء تابعين
للأصوليين في اعتبار حقيقة السبب.
لكن الواقع من الفقهاء غير ذلك فهم في كتب الفروع يطلقون
لفظ " السبب " على عدة أمور قد تبدو مخالفة لما اصطلح عليه
الأصوليون في مفهوم السبب، لذلك أتيت بهذه المسألة تنبيهاً على
ذلك فأقول: إن الفقهاء يطلقون لفظ " السبب " على أربعة إطلاقات
هي كما يلي:
الإطلاق الأول: أنهم يطلقونه في مقابل المباشرة فقالوا: لو حفر
زيد بئراً، ثم جاء عمرو ودفع محمداً في البئر، فتردى فيها، فهلك
محمد، فإن الحافر - وهو زيد - صاحب سبب، والمردي - وهو
عمرو - صاحب علَّة، لأن الهلاك بالتردية، لا بالحفر، ولكن وقع
ذلك عند وجود البَئر فسموا الحافر سبباً، والدافع مباشراً، وكذلك
لو ألقى شخص شخصاً آخر من شاهق فتلقاه آخر بسيف، فإن
الضمان على المتلقي بالسيف لأنه مباشر، وهناك أمثلة كثيرة على هذا
تجدها مبسوطة في قواعد ابن رجب، والأشباه والنظائر للسيوطي
وغيرهما.
الإطلاق الثاني: أنهم يطلقونه على عِلَّة العلَّة، حيث سمّوا الرمي
سبباً للقتل من جهة: أنه سبب للعلَّة، فَكان على التحقيق عِلَّة
العلَّة، لأنه علَّة للإصابة، والإصابةَ عِلَّة لزهوق النفس، ولكن لما
حصل الموت بالإصابة التوسطة بين الرمي والزهوق لا بالرمي كان
الرمي شبيهاً بالسبب في وضع اللسان وهو: ما كان مفضياً إلى
الشيء وطريقاً إليه فسمَّوه سبباً لذلك.
وحكم هذا السبب حكم العلَّة من كل وجه، فيضاف أثر الفعل
إليه؛ لأنه لما أضيفت العلَّة إليه كان بمنزلتها، ولهذا سمي " علَّة
العِلَّة "، ويسميه الحنفية السبب في معنى العِلَّة ".
الإطلاق الثالث: أنهم يطلقونه على العِلَّة الشرعية بدون شرطها
كملك النصاب دون حولان الحول، فإنَّ ملك النصاب سبب في
وجوب الزكاة، لكنه لا بد من حولان الحول في وجوبها، فيطلق
السبب على ملك النصاب دون حولان الحول مع أنه لا بد منهما في
الوجوب.
وكذا اليمين دون الحنث فإنها سبب في وجوب الكفارة، لكنه
لابد من الحنث في وجوب الكفارة، فيطلق السبب على اليمين دون
الحنث مع أنه لا بد منهما في الوجوب.
ويراد بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه كما يقال: " نصاب
الزكاة "، و " كفارة اليمين ".
ويسميه الحنفية بالسبب المجازي.
الإطلاق الرابع: أطلقوه على العلَّة الشرعية الكاملة التي توجب
الحكم وهي: المجموع المركب من مقتضي الحكم - وهو المعنى
الطالب له - وشرطه وانتفاء المانع، ووجود الأهل - وهو المخاطب
به - ووجود المحل - وهو: ما يتعلَّق به الحكم - فالسبب - على
هذا - بمعنى العلة يقال: " سبب الحكم كذا "، والمراد بذلك علته.
ووجه إطلاق السبب على العِلَّة الشرعية الكاملة: أن العلَّة في
معنى العلامة المظهرة للحكم؛ إذ أنها لا توجب الحكم لذاتهاً، بل
بإيجاب اللَّه تعالى لها فأشبهت السبب من هذه الناحية.
والخلاصة: أن الإطلاق الأول المراد به إيجاد الشرط؛ لأن حفر
البئر شرط لوقوع الهلاك؛ لكونه إزالة للمانع؛ إذ لولا الحفر
لاستمسكت الأرض ولم يقع الهلاك، فيكون المراد بالمباشرة هنا:
إيجاد العِلَّة، وبالتسبب إيجاد الشرط، وهكذا.
أما الإطلاقات الثلاثة الباقية فهي تنتظم في سلك العِلَّة؛ فالرمي
عِلَّة العلَّة؛ لكونه علَّة للإصابة، والإصابة علَّة للزهوقَ، والنصاب
بدون الحول عِلَّة، وَلكن تخلَّف شرطها، والإطلاق الرابع أطلقوه
على العِلَّة الكاملة.
***
المسألة الرابعة: العِلَّة:
نظراً إلى أن العلَّة تعتبر قسما من أقسام السبب، فقد جعلناها من
مسائل السبب، وإليك بيانها فأقول:
أولاً: العِلَّة لغة:
تطلق على إطلاقات، ولكن أقربها إلى الصحة هو: أنها بمعنى
الأمر المغير للشيء، ومنه سمي المرض عِلَّة؛ لأن حالة المريض تتغير
به من الصحة والقوة والنشاط إلى المرض والضعف والسقم.
وهذا أنسب التعاريف اللغوية للعلَّة؛ لتناسبه مع المعنى
الاصطلاحي وهو: التغيير، فكما يتغير الَجسم حالة حصول العلَّة،
وهي المرض من القوة إلى الضعف، فكذلك إذا وجدت العِلًّة في
المحل، فإنها تغير حكمه مما كان عليه في الأول.
ثانيا: العلة اصطلاحا:
لقد اختلفت عبارات العلماء في تعريف العِلَّة:
فقيل: إن العِلَّة هي: المعرِّف للحكم.
وهو تعريف فخر الدين الرازي، والبيضاوي، وكثير من العلماء.
وقيل: إن العِلَّة: المؤثر أو الموجب للأحكام بجعل اللَّه تعالى.
ذهب إلى ذلك الغزالي، وأكثر الحنفية.
وقيل: إن العِلَّة: الباعث على الحكم.
ذهب إلى ذلك ابن الحاجب والآمدي.
بيان نوع الخلاف:
الحق: أن الخلاف بين تلك الأقوال الثلاثة خلاف لفظي - كما
ذكرت ذلك في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فهو
راجع إلى تفسير كل أصحاب مذهب لما قالوه.
فكل أصحاب مذهب نظروا إلى جهة معينة غير ما نظر إليها
الآخر، ففسَّر العِلَّة باعتبار تلك الجهة.
فمن قال بأن العِلَّة: المعرِّف للحكم: نظر إلى أن الحكم يضاف
إليها، فيقال: وجب القصاص للقتل، ووجب القطع للسرقة، وهكذا.
ومن قال بأن العلَّة: المؤثر أو الموجب للأحكام بجعل اللَّه لها:
يرى أن العِلَّة تستلزمَ الحكم استلزاما عاديا بجعل اللَّه تعالى، أي:
أن كلًّا منَ الوصف والحكم من اللَّه، وقد جرت العادة بأنه متى ما
وجد السبب وجد المسبب.
ومن قال بأن العلَّة: الباعث على الحكم: يرى أنها لا بدَّ وأن
تكون مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع.
وأصحاب هذه الأقوال متفقون على أن الموجب للحكم - حقيقة
هو اللَّه ت تعالى - وهو: المؤثر الحقيقي وحده، دون العلل والأسباب.
واتفقوا على أن اللَّه حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر وناطه
به، ورتبه عليه.
واتفقوا - أيضاً - على أن الأحكام معللة بمصالح العباد، وإن
اختلفت العبارات في مؤدى ذلك حسب ما يؤدي إليه التصور، ويدل
على ذلك: أن الكل يقول بالقياس. فالخلاف - إذاً - في العبارة
- فقط - دون المعنى.
ثالثاً: هل يوجد فرق بين السبب والعِلَّة؟
لقد اختلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن العِلَّة تعتبر من أقسام السبب.
وهو من التقسيم الثالث من تقسيمات السبب السابقة، وعلى هذا
فإن السبب يكون أعم من العِلَّة.
وهذا مذهب أكثر العلماء.
وهذا هو الصحيح عندي، ولهذا جعلتها من مسائل السبب،
وإليك بيان ذلك:
أن السبب ينقسم إلى قسمين: " سبب معقول المعنى "، و " سبب
غير معقول المعنى ".
فإن كان الأول - أي: كان السبب مما يدرك العقل ارتباط الحكم
به -: كان سبباً وعلَّة كقطع يد السارق، فإن السرقة تسمى سببا
وعلَّة للقطع، وكذاً: السفر المبيح للفطر، فإن السفر يُسمَّى سببا
وعِلَّة لإباحة الفطر.
وإن كان الثاني - أي: إن كان السبب مما لا يدرك العقل ارتباط
الحكم به -: فإنه يسمى سببا لا عِلَّة، مثل: دخول الوقت،
وشهود الشهر.
فدخول الوقت يسمى سبباً لوجوب الصلاة، ولا يسمى عِلَّة "
لعدم إدراكنا للمناسبة بين دخول الوقت ووجوب هذه الصلاة بعينها،
كذلك شهود شهر رمضان يسمى سببا لوجوب الصوم، ولا يسمى
عِلَّة؛ لعدم إدراكنا للمناسبة بين شهود الشهر ووجوب رمضان.
فالسبب - على ذلك - يشمل الوصف المناسب وغير المناسب،
فيكون أعم من العِلَّة.
المذهب الثاني: أن السبب والعِلَّة متفقان، وهما اسمان لمسمى
واحد.
هذا مذهب بعض العلماء.
واحتجوا بقولهم: إننا لما دققنا النظر فيهما وجدنا أوجه التشابه
بينهما واضحة، وهي كما يلي:
الوجه الأول: أن كلًّا منهما ينبني عليه الحكم ويرتبط به وجوداً
وعدماً.
الوجه الثاني: أن كلًّا منهما أمارة وعلامة على وجود الحكم.
الوجه الثالث: أن للشارع حكمة في ربط الحكم بكل واحد منهما
وإضافته إليه، وبنائه عليه.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن معناهما واحد، فالسفر يطلق عليه
سبب، ويطلق عليه عِلَّة لإباحة الفطر، ودخول الوقت سبب وعلَّة
على وجوب الصلاة.
فأصحاب هذا المذهب: جعلوا السبب مرادفا للعلَّة، واسما من
أسمائه التي تطلق عليه دون فرق بينهما.
المذهب الثالث: أن السبب والعِلَّة متغايران تمام التغاير، فهما
وصفان متباينان.
ذهب إلى ذلك الحنفية؛ حيث عرفوا السبب بأنه: " ما يكون
طريقا إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ولا وجود، ولا
يعقل فيه معاني العلل ".
فهنا قد صرَّحوا بأن السبب لا يضاف إليه وجود الحكم،
ولا يعقل فيه معنى التعليل، بخلاف العِلَّة، فإنه يضاف إليها الحكم
أصالة عندهم، ويكون بين هذا الوصف الذي ورد مع الحكم وبين
الحكم مناسبة ظاهرة.
إذن: لا يطلق أحدهما على الآخر - عند الحنفية - إلا مجازاً -.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي في هذه المسألة، لا يترتب عليه أي أثر، وذلك
لأنا عرفنا أن كثيراً من العلماء يقسمون السبب إلى قسمين: " سبب
مناسب للحكم " و " سبب غير مناسب للحكم "، وبهذا التقسيم
تلتقي المفاهيم، ويتحد المدلول لدى الجميع.
المسألة الخامسة: الصحة والفساد:
نظراً لكون الصحة والفساد يدخلان في السبب من جهة: أن
الفعل إذا استوفى أركانه وشروطه، فإن هذا سبب لصحته عند الله
وترتب آثاره عليه، وأن الفعل إذا لم يستوف أركانه أو شروطه، فإن
هذا سبب لفساده وعدم ترتب آثاره عليه، أقول: نظراً لذلك فإنا
جعلناهما من مسائل السبب، وإليك بيانهما فأقول:
أولاً: الصحة والفساد لغة:
الصحة لغة: خلاف السقم، وهي: عبارة عن السلامة وعدم
الاختلال، فيقال:" صح فلان من عِلَّته "، أي: أصبح لا سقم
فيه.
والفساد لغة: عبارة عن تغير الشيء عن الحالة السليمة إلى حالة
سقيمة، والمفسدة نقيض المصلحة.
ثانيا: الصحة والفساد اصطلاحا:
الصحة في الاصطلاح هي: موافقة الفعل ذي الوجهين لأمر الشارع.
والمقصود بالوجهين: " موافقة الشرع "، و " مخالفته ".
ومعناه واضح وهو: أن الصحة هي: صفة للفعل الذي يقع
موافقا للشرع؛ نظراً لاستجماعه ما يعتبر فيه شرعا من الشروط
والأركان، وانتفاء الموانع.
وأما الفساد فهو عكس الصحة، فيكون هو: مخالفة الفعل ذي
الوجهين لأمر الشارع.
فيكون الفساد: صفة للفعل الذي يقع مخالفا للشرع؛ نظراً لعدم
استجماعه ما يعتبر فيه شرعا من الشروط والأركان، أو وجود مانع.
فالصلاة فعل يوصف بأنه صحيح إذا وافق أمر الشارع بأن يكون
مستجمعا للشروط والأركان التي وضعها الشارع، مع عدم المانع،
وفعل الصلاة يوصف بأنه فاسد إذا لم يوافق أمر الشارع بأن تخلف
ركن أو شرط، أو وجد مانع.
ثالثا: هل الصحة والفساد من الأحكام الشرعية أو هما من الأحكام
العقلية؟
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما من الأحكام الشرعية.
وهو مذهب جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن معرفة اشتجماع الفعل لشروطه وأركانه،
وارتفاع موانعه موقوفة على معرفة الركن، والشرط، والمانع،
ومعرفة هذه الأمور الثلاثة موقوفة على خطاب الشارع اتفاقا، فتكون
الصحة والفساد لا يعرفان إلا من طريق الشرع.
المذهب الثاني: أن الصحة والفساد من الأحكام العقلية:
ذهب إلى ذلك ابن الحاجب، والعضد، وبعض العلماء.
دليل أصحاب هذا المذهب:
استدل هؤلاء بقولهم: إن كون الفعل موافقا لأمر الشارع، أو
مخالفا له، وكون ما فعل تمام الواجب حتى يكون مسقطا للقضاء،
أو عدم كونه كذلك لا يحتاج إلى توقيف من الشارع، بل يعرف
ذلك بمجرد العقل، فهو ككونه مؤديا للصلاة أو تاركا لها سواء
بسواء، فلا يكون حصوله في نفسه ولا حكمنا به شرعيا، بل عقلي
مجرد.
جوابه:
يجاب عن ذلك بأن الصحة والفساد والحكم بهما أمور شرعية،
وكون الفعل مسقطا للقضاء، أو موافقا للشرع هو من فعل الله
تعالى، وتصييره إياه سببا لذلك، فما الموافقة، ولا الإسقاط
بعقليين، لأن للشرع مدخلا فيهما، ولو لم تكن الصحة شرعية لم
يصح أن يقضي القاضي بها عند اجتماع شرائطها، لكنه يقضي بها
بالإجماع، فدل على أنها شرعية؛ لأنه لا مدخل للأقضية في
العقليات، وليس للقاضي أن يحكم إلا بما يصح أن يكون حكما من
الشارع.
بيان فوع الخلاف:
الخلاف بين أصحاب المذهبين لفظي، لأن كلًّا من الفريقين أقر
الصحة والفساد، لكن أصحاب المذهب الأول أقروهما على أنهما
حكمان شرعيان، والآخرون أقروهما على أنهما حكمان عقليان.
رابعاً: هل الصحة والفساد من الأحكام الوضعية، أو من التكليفية؟
اختلف القائلون بأن الصحة والفساد من الأحكام الشرعية - فيما
بينهم -: هل هما من الأحكام الوضعية، أو هما من الأحكام
التكليفية على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما من الأحكام الوضعية.
وهو ما ذهب إليه كثير من العلماء كالغزالي، والآمدي،
والإسنوي، والشاطبي، وابن السبكي، والزركشي، والفتوحي
الحنبلي.
وهو الصحيح؛ لأمرين:
أولهما: أن الصحة والفساد قد ثبت أنهما من الأحكام الشرعية
- كما سبق -.
والحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين فقط: " حكم تكليفي "،
و"حكم وضعي ".
ولا يمكن أن يكونا من الحكم التكليفي؛ لأنه بعد النظر في
الصحة والفساد تبين عدم وجود اقتضاء ولا تخيير فيهما، حيث إن
الحكم بصحة العبادة وبطلانها، والحكم بصحة المعاملة وبطلانها لا
يفهم منه اقتضاء ولاتخيير.
فلم يبق إلا أن الصحة والفساد من الحكم الوضعي.
ثانيهما: أن الفعل إذا توفرت فيه جميع أركانه وشروطه، فإنه
يوصف عند الشارع بالصحة، وما يتبع ذلك من الآثار المترتبة عليه،
والفعل إذا لم يستوف أركانه وشروطه، فإنه يوصف بالفساد وعدم
ترتب آثاره عليه، وهذه المعاني تدخل في خطاب الوضع حقيقة؟
لأنها تكون بذلك من معاني السبب، والسبب حكم وضعي،
ووصف بعض الأصوليين كالغزالي في " المستصفى " السبب بالصحة
والفساد، فثبت بذلك: أن الصحة والفساد من أحكام الشرع
الوضعية، وهذا هو الذي جعلنا نبحث الصحة والفساد ضمن مسائل
السبب.
المذهب الثاني: أن الصحة والفساد من الأحكام التكليفية:
ذهب إلى ذلك فخر الدين الرازي وكثير من أتباعه، والبيضاوي.
دليل أصحاب هذا المذهب:
أن الصحة والفساد يرجعان - في الحقيقة - إلى خطاب التكليف،
ولا يخرجان عن مضمونه ومدلوله؛ حيث إن معنى صحة الشيء:
إباحة الانتفاع به، ومعنى الفساد: حرمة الانتفاع به والإباحة والحرمة
من الأحكام التكليفية.
جوابه:
يجاب عنه بأن إرجاع الصحة والفساد إلى الحكم التكليفي أمر فيه
عسر وتكلف لا يخفى، فهو لا يساعد عليه اللفظ، ولا ينتظمه
المعنى.
أما قولهم: إن الصحة هي إباحة الانتفاع فمنقوض - كما قال
الإسنوي في " نهاية السول " - بالمبيع إذا كان الخيار فيه للبائع، فإنه
صحيح، ولا يباح للمشتري الانتفاع به.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن كلًّا من أصحاب المذهبين أقر
بالصحة والفساد وبحثهما على أنهما من الأحكام الشرعية، لكن
أصحاب المذهب الأول جعلوهما داخلين ضمن الأحكام الوضعية،
وأصحاب المذهب الثاني جعلوهما داخلين ضمن الأحكام التكليفية،
وتابعين لتلك الأحكام، وهذا مجرد اختلاف في التعبير والمنهج فقط
ولا أثر له في الفروع.
خامسا: المقصود بالصحة في العبادات:
لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن الصحة في العبادات هي: إسقاط القضاء.
أي: أن الصحة في العبادات: ما وافق الأمر، وأجزأ، وأسقط
القضاء.
فمعنى سقوط القضاء: عدم المطالبة بالفعل مرة ثانية؛ بناء على
المطلب الأول كالصلاة إذا وقعت بجميع واجباتها مع انتفاء موانعها،
فعدم وجوب قضائها هو: صحتها.
هذا ما ذهب إليه الفقهاء.
وهو الصحيح؛ لأنه موافق للغة؛ فإن الآنية إذا كانت صحيحة
من جميع الجهات، فإن العرب تسميها صحيحة، وإذا كانت
صحيحة من جميع الجهات إلا من جهة واحدة، فإن العرب
لا تسميها صحيحة، وهذه الصلاة - مثلاً - قد تطرق إليها الخلل من
جهة ذكر الحدث، فلا تكون صحيحة كالآنية المكسورة من جهة.
المذهب الثاني: أن الصحة في العبادات هي موافقة الأمر الشرعي
في ظن المكلف، لا في الواقع، سواء وجب القضاء، أو لم
يجب، وعليه فكل من أمر بعبادة فوافق الأمر بفعلها بأن أتى بها على
الوجه الذي أمر به، فإنه يكون قد أتى بها صحيحة، وإن اختل
شرط من شروطها، أو وجد مانع.
ذهب إلى ذلك المتكلمون، وقالوا: إن صلاة من ظن أنه متطهر
صحيحة عند المتكلمين، وذلك لأن المعتبر في الموافقة للأمر شرعاً هو
حصول الظن - فقط -؛ لأنه هو الذي في وسع المكلَّف.
أما على مذهب الفقهاء، فإن تلك الصلاة غيو صحيحة؛ لكونها
لم تسقط القضاء؛ لاحتمال ظهور بطلان الظن فيجب القضاء.
وكذلك فاقد الطهورين إذا صلى على حسب حاله على الوجه
الذي أمر به في ذلك الوقت، فإن صلاته صحيحة عند المتكلمين؟
لأنه موافق للأمر الشرعي، وهي فاسدة عند الفقهاء؛ لأن شرط
الصلاة عند الفقهاء الطهارة ولم توجد في نفس الأمر.
جواب الفقهاء عما قاله المتكلمون:
قال الفقهاء: إن مذهب المتكلمين باطل؛ لأنه لو كانت الصحة
هي موافقة الأمر - فقط - لكان الحج الفاسد صحيحا؛ لأنه مأمور
بإتمامه، والمضي - فيه، فالمتمم له موافق للأمر بإتمامه، فيجب أن
يكون صحيحاً على زعمكم، لكنه فاسد بالاتفاق.
اعتراض المتكلمين على ذلك الجواب:
قال المتكلمون: لا نُسَلِّمُ أن الحج الفاسد قد وقع على موافقة
الأمر، بل إنه وقع على مخالفته، حيث فعل فيه ما أفسده، وحينئذ
فانتفاء صحته، إنما هو لانتفاء موافقته للأمر، وأما كون المفسد له
مأموراً بإتمامه، فلا يلزم منه أن يكون امتثاله الأمر يوجب الصحة؛ الأمر بإتمامه طرأ على الأمر الأول؛ حفظاً لحرمة الوقت من
الهتك بعد انعقاد الإحرام، أو أنه عقوبة للمفسد له على إفساده بمنعه
من التخفيف عليه، ومعارضته له بنقيض قصده؛ قياساً على من وطأ
امرأته في نهار رمضان، فإنه مأمور بالإمساك بقية يومه مع وجوب
القضاء والكفارة.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة قد اختلف فيه على قولين:
القول الأول: إن الخلاف لفظي.
وهذا هو الصحيح عندي؛ حيث إنه بعد التحقيق والتدقيق قد
ثبت أنه لا يترتب على هذا الخلاف أي أثر، لأن أصحاب المذهبين
قد اتفقوا على الأحكام: فالمصلي الذي ظن نفسه أنه متطهر، ثم
تبين بعد فراغه أنه لم يكن متطهراً اتفقوا على أنه موافق لأمر الله
- تعالى - واتفقوا - أيضا - على أنه مثاب على فعله؛ لقصده امتثال
أمر اللَّه تعالى.
واتفقوا - أيضاً - على أنه لا يجب على المصلي القضاء إذا لم
يطلع على الحدث، واتفقوا على أنه يجب عليه القضاء إذا اطلع على
الحدث.
فالفقهاء والمتكلمون يقولون بوجوب إعادة الصلاة على من صلى
ظاناً أنه متطهر، فبان خلافه، ولكنهما، يختلفان في وصف هذه
الصلاة قبل إعادتها.
فالفقهاء يقولون: إنها لا توصف بالصحة؛ لأنها لم تسقط
القضاء؛ لأن المكلف لا يزال مطالبا بفعلها مرة ثانية.
والمتكلمون يقولون: إنها توصف بالصحة؛ نظراً لموافقتها لأمر
الشارع، وذلك لأن الشرع قد أمر المصلي أن يصلي بطهارة متيقنة،
أو مظنونة، وقد جعل ذلك على حسب حاله، لذا قالوا: إنها
توصف بالصحة نظراً لهذه الموافقة، وقالوا: أما إعادتها فقد جاء
من أمر آخر وهو: تبين الخطأ في الظن.
القول الثاني: أن الخلاف معنوي؛ حيث قال أصحاب هذا القول:
إن الخلاف قد ترتب عليه آثار في بعض المسائل الفقهية، ومنها:
1 -
صلاة من ظن نفسه أنه متطهر ثم تبين بعد فراغه أنه لم يكن
متطهراً.
فعلى المذهب الأول وهو مذهب الفقهاء: الصلاة غير صحيحة؟
لكونها لم تسقط القضاء.
وعلى المذهب الثاني - وهو مذهب المتكلمين: فإن الصلاة
صحيحة؛ لأن المعتبر في الموافقة للأمر شرعا هو حصول الظن؟
حيث إنه هو الذي في وسع المكلَّف.
2 -
صلاة فاقد الطهورين - الماء والتراب - إذا صلى على حسب
حاله غير صحيحة عند الفقهاء، وعليه إعادتها مرة ثانية إذا وجد ماء
أو ترابة على الأرجح، أما عند المتكلمين فصلاته صحيحة.
جوابه:
قلت: ما رتبه أصحاب القول الثاني من المسائل الفقهية للدلالة
على أن الخلاف معنوي غير مسلم؛ حيث إن الفقهاء والمتكلمين
اتفقوا على أن المصلي وهو قد ظن نفسه أنه متطهر، فبان أنه غير
متطهر يجب عليه القضاء.
والقائلون: إن المتكلمين لا يوجبون القضاء بنو ذلك على فهمهم
من تصريح المتكلمين بالصحة في صلاة من ظن الطهارة، وهو
محدث.
وهذا البناء غير صحيح؛ لأنه لا يلزم من وصف المتكلمين للصلاة
بالصحة أنهم لا يوجبون قضاءها، فإنه لا تلازم بين الوصف
بالصحة وسقوط القضاء، فليس كل صحيح يسقط، فالمتكلمون
- أنفسهم - صرحوا بوجوب القضاء، ولكن بأمر جديد، وهو تبين
خطأ الظن، ويؤيد ذلك: أن صلاة المتيمم لبرد، أو في الحضر
موصوفة بالصحة، ومع ذلك يجب قضاؤها.
وهذا الكلام يجاب به عن كل مثال ذكره أصحاب القول الثاني
لبيان أن الخلاف معنوي.
أما المثال الثاني - وهو مثال فاقد الطهورين، فالكل قد اتفقوا
على أنها غير موافقة لأمر الشارع بالصلاة بالوضوء، أو التيمم.
ولكن من قال: إنها صحيحة - وهم المتكلمون - أرادوا أنه مأمور
بها تشبيهاً بالمصلين احتراماً للوقت.
ومن قال: إنها باطلة أراد أنها غير موافقة لأمر الشارع بالصلاة مع
الوضوء عند القدرة على الماء أو التيمم عند العجز، فهي باتفاق غير
مسقطة للقضاء.
سادسا: المقصود من الصحة في المعاملات:
الصحة في المعاملات: ترتب أحكامها المقصودة عليها، وذلك
لأن العقد لم يوضع إلا من أجل إفادة مقصوده، كملك المبيع،
وملك البضع في النكاح، فإذا أفاد مقصوده فهو صحيح، وحصول
مقصوده هو: ترتب آثار حكمه عليه؛ لأن العقد مؤثر لحكمه
وموجب له، وإن لم يكن الأمر كذلك فهو فاسد.
إذن يكون الفاسد من العقود: كون الشيء لا يترتب عليه أثره
المطلوب منه؛ لوجود خلل في ركنه أو شرطه كبيع المجنون، أو بيع
المعدوم، أو بيع الميتة، فكل عقد أو تصرف يفقد ركناً أو شرطاً،
فهو فاسد باطل لا يترتب عليه أثره الشرعي من حل، أو ملك، أو
انتفاع.
فالخلاصة: أن الصحيح هو الذي له ثمرة من حل أو ملك أو
انتفاع.
والفاسد أو الباطل هو الذي لم يثمر شيئاً ولا يترتب عليه أثر
شرعي من حل، أو ملك، أو انتفاع.
سابعا: هل الفاسد والباطل مترادفان؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنهما مترادفان.
ذهب إلى ذلك الجمهور.
وهو الصحيح؛ لأن الباطل لغة بمعنى الفاسد والساقط، يقال:
" بطل الشيء ": إذا فسد وسقط حكمه، فإذا لم يفرق بينهما لغة،
فوجب عدم التفريق بينهما في الشرع؛ حملاً للمقتضيات الشرعية
على مقتضياتها اللغوية؛ لأن الأصل عدم التغيير.
وعلى هذا: فتعريف الباطل هو نفس تعريف الفاسد السابق
الذكر، فالباطل والفاسد اسمان لمسمى واحد، ولفظان مترادفان،
فكل فاسد باطل، وكل باطل فاسد، ومعناهما اصطلاحاً:
" مخالفة الفعل ذي الوجهين لأمر الشارع ".
فيكون الفساد والبطلان في العبادات: مخالفة أمر الشارع، أو
عدم سقوط القضاء بالفعل كالصلاة التي تخلف فيها شرط أو ركن،
أو وجد مانع فإنها باطلة وفاسدة.
والفساد والبطلان في عقود المعاملات هو: تخلف الأحكام عنها
وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام كالعقد الذي لم يستجمع
شروطه وأركانه، فإنه باطل وفاسد، لكونه غير مثمر، ولا يمكن أن
تترتب عليه آثاره، أي: أنه غير محصل شرعا للأملاك واستباحة
الأبضاع، وجواز الانتفاعات، ونحو ذلك.
فلا فرق بين الباطل والفاسد مطلقا عندنا.
المذهب الثاني: التفصيل:
أما في باب العبادات وباب النكاح من العقود، فإن الفاسد
والباطل مترادفان.
أما في باب المعاملات، فإنه يوجد فرق بين الباطل والفاسد.
هذا ما ذهب إليه الحنفية.
أي: أن الحنفية قدْ أثبتوا فرقاً بين الباطل والفاسد في المعاملات،
حيث رتبوا على العقود الفاسدة بعض الآثار الشرعية، وجعلوا
الفاسد مرتبة متوسطة بين الصحيح والباطل، فهو قسم ثالث مغاير
- عندهم - للصحيح والباطل، فقالوا:
الصحيح هو؛ ما كان مشروعا بأصله ووصفه جميعاً، أي: ما
استجمع أركانه وشروطه، بحيمسا يكون معتبراً شرعاً كالبيع الصحيح.
والباطل هو: ما لم يكن مشروعاً بأصله، ولا بوصفه.
أي: ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة، وذلك
إما لانعدام معنى التصرف كبيع الدم والميتة، وإما لانعدام أهلية
التصرف كما في بيع الصبي والمجنون.
والفاسد: ما كان مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه كبيع الدرهم
بالدرهمين، فإنه مشروع بأصله من حيث إنه بيع ولا خلل في ركنه،
ولا في محله، ولكنه غير مشروع بوصفه، وهو: الفضل؛ لأنه
زيادة في غير مقابل، فكان فاسداً، لا باطلاً، لملازمته للزيادة وهي
غير مشروعة، ولكن لو حذفت تلك الزيادة لصح البيع ولم يحتج
إلى عقد جديد.
دليل هذا المذهب:
العلَّة التي جعلت الحنفية يفرقون بين الفاسد والباطل في باب
المعاملَات خاصة هي: أنه لما كان المقصود من العبادات هو التعبد
- فقط -، وهو لا يكون إلا بالامتثال والطاعة، فإن المخالفة فيها
تكون مفوتة للمقصود، فلا يظهر وجه للتفرقة بين باطل وفاسد فيها،
فذمة المكلف لا تبرأ بصلاة فاسدة، كما لا تبرأ بصلاة باطلة.
أما المعاملات فإنه لما كان المقصود منها أولاً وبالذات هو مصالح
العباد الدنيوية، فإن المجال مفتوح فيها، وتحققها في نفسها ممكن
حتى مع وجود خلل في وصفها، فلا تنعدم بالكلية إلا إذا كان الخلل
فيها راجعاً إلى الحقيقة والماهية.
فجعلوا الباطل فيما إذا كان الخلل فيه راجعاً إلى أركان العقد، أو
إلى العاقدين، أو إلى محل العقد، كما في بيع الملاقيح - وهي ما
في بطون الحوامل من الأجنة - وكما في بيع المضامين - وهي ما في
أصلاب الفحول من الماء، فإن بيع الحمل وحده، أو الماء وهو في
صلب الفحل غير مشروع ألبتة، وليس امتناعه لأمر عارض، فكان
باطلاً لذلك.
وجعلوا الفاسد فيما إذا كان الخلل فيه راجعاً إلى أوصاف العقد
الخارجية، لا إلى أركانه، وذلك كما في بيع الدرهم بالدرهمين؟
حيث إن الدراهم في ذاتها قابلة للبيع، وإنما امتنع هذا البيع، نظراً
لاشتمال أحد الجانبين فيه بالزيادة، فهو مشروع من حيث إنه بيع،
وممنوع من حيث انعقاد الربا، ولذلك قالوا: لو حذفنا تلك الزيادة
- وهي الدرهم - لصح البيع.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: إنا لا نُسَلِّمُ تفسير الحنفية للفاسد - وهو: ما كان
مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه -؛ لأن كل ممنوع بوصفه، فهو
بلا شك ممنوع بأصله، حيث إنه لا يثمر ولا يترتب عليه آثار.
فإذا كان الفاسد لا يثمر، والباطل لا يثمر - أيضاً - فهما
متساويان ولا فرق بينهما.
الجواب الثاني: أن هذا التفريق بين الفاسد والباطل غير مسلم من
جهة النقل، بيان ذلك:
أن مقتضى هذا التفريق هو: أن يكون الفاسد هو: الموجود على
نوع من الخلل، والباطل هو الذي لا تثبت حقيقته بوجه، وقد
سمى اللَّه تعالى الشيء الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسداً، حيث
قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، فسمى السموات
والأرض فاسدة على تقدير الشريك ووجوده، ودليل التمانع يقتضي
أن العالم على تقدير الشريك ووجوده يستحيل وجوده لحصول التمانع
لا أنه يكون موجوداً على نوع من الخلل، فقد سمى اللَّه تعالى
- هذا - الشيء الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسداً.
فالذي لا تثبت حقيقته بوجه يطلق على الفاسد والباطل فلم يكن
- على هذا - بينهما فرق.
بيان نوع الخلاف:
الحنفية لما فرَّقوا بين الباطل والفاسد بنوا على هذا التفريق فروعا
فقهية، ومنها:
1 -
أن الشخص لو باع داراً بشرط عدم سكناها، أو بيعها، فإن
هذا البيع فاسد؛ لأجل الشرط المخالف لمقتضى العقد، وهو غير
باطل؛ لأن البيع مشروع في أصله، ولا خلل في أركانه، وإنما لحقه
الفساد من جهة الوصف، وهو اشتماله على الشرط الفاسد.
2 -
بيع الدرهم بالدرهمين فاسد؛ لأنه مشروع من حيث كونه
بيعا، ولكنه ممنوع من اتصافه بالربا المنهي عنه.
وقالوا: إن النهي هذا قد ورد لمعنى في غير البيع، وهو الفضل
الخالي عن العوض، فلا ينعدم بذلك أصل المشروعية، فكان
فاسداً، لا باطلاً.
جوابه:
قلت: بعد التحقيق والتدقيق ثبت أنه مع تفريع الحنفية على هذا
التفريق بين الباطل والفاسد، فإن خلافهم مع الجمهور - وهو
مذهبنا - خلاف لفظي لا يترتب عليه آثار؛ فتفريق الحنفية بين الباطل
والفاسد في بعض الأحكام لا يعني أن الخلاف بينهم وبين الجمهور
معنوي؛ بل هو لفظي؛ لأن منشأ التفرقة في الأحكام ليس هو
التفرقة في التسمية، وإنما منشأه عندهم: كون النهي وارداً عن الفعل
لأصله، أو لوصفه، فما ورد النهي عنه لأصله لم يصح بحال.
وما ورد النهي عنه لوصفه يمكن أن يصح إذا زال هذا الوصف.
فلما اختلفت الأحكام - عندهم - رأوا أن يميزوا بينهما،
فاصطلحوا على تسمية أحدهما بالباطل، وتسمية الآخر بالفاسد،
إذن اختلاف التسمية نشأ عن اختلاف الأحكام.
المسألة السادسة: التقديرات الشرعية، والحجاج:
هذان النوعان من أنواع الحكم الوضعي داخلان ضمن السبب،
بيان ذلك:
أن التقديرات الشرعية هي: إعطاء الموجود حكم المعدوم، أو
إعطاء المعدوم حكم الموجود.
مثال الأول - وهو: إعطاء الموجود حكم المعدوم -: الماء في
حق المريض والخائف.
ومثال الثاني - وهو: إعطاء المعدوم حكم الموجود -: المقتول
خطأ تورث عنه ديته، حيث إنها لا تملك إلا بعد موته، وهي ليست
في ملكه قبل موته، فيُقدر دخوله في ملكه قبل موته حتى تنتقل إلى
ورثته، فقدرنا المعدوم - هنا - موجوداً للضرورة.
وأما الحجاج فهي التي يستند إليها القضاة في الأحكام كالشهود،
والإقرار، واليمين مع النكول، أو مع الشاهد الواحد، فإذا نهضت
تلك الحُجَّة عند القاضي وجب عليه الحكم.
وهذا لو دققت النظر فيه لوجدته يرجع إلى السبب؛ لأن هذه
التقديرات وهذه الحجاج إنما نشأت عن أسبابها، فكانت من قبيل
الأسباب.
المسألة السابعة: الأداء، والإعادة، والقضاء:
بعض العلماء جعل تلك الأمور تقسيماً للحكم باعتبار متعلِّقة،
وهو: الفعل؛ لأن هذه الأمور أقسام للفعل الذي تعلق به الحكم.
وجعلها فريق آخر من أنواع الحكم الوضعي.
والحق: أنها داخلة ضمن السبب؛ لأن دخول الوقت سبب
للأداء، وخروجه سبب للقضاء، وبطلان الفعل سبب للإعادة.
إذا علمت ذلك فاعلم أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أو لا.
أما العبادة التي لم يُعيَن الشارع لها وقتاً، فإما أن يكون لها سبب أو لا.
فالعبادة التي لم يعين الشارع لها وقتاً، والتي لها سبب كسجود
السهو سببها قراءة آية السجدة، والتي لا سبب لها، كفعل بعض
الأذكار المطلقة، فهذه العبادة لا توصف بأداء ولا بقضاء.
وأما العبادة التي عين الشارع لها وقتا محدداً، فهي إما أن تقع
قبل وقتها القدر شرعاً، أو في وقتها، أو بعد وقتها.
فإن وقعت قبل وقتها المقدر شرعا، حيث جوَّزه الشارع: فهو
تعجيل مثل إخراج الزكاة قبل تمام الحول، وإخراج زكاة الفطر في
أول شهر رمضان، فهذا الإخراج للزكاة يُسمَّى تعجيلاً؛ لأن وقت
إخراج الزكاة لا يكون إلا بعد مرور الحول، وإخراج زكاة الفطر
يكون في آخر ليلة منه.
أما العبادة التي تقع في وقتها القدر شرعا دون أن تسبق بأداء مختل
فهو أداء.
أما العبادة التي تقع في وقتها المقدر شرعاً، ولكن سبقت بأداء
مختل فهو إعادة.
وإن فعلت العبادة بعد وقتها المقدر شرعا فهو القضاء.
وإليك بيان حقيقة كل واحد من تلك الأقسام:
أولاً: تعريف الأداء:
الأداء هو: ما فعل أولاً في وقته المقدَّر له شرعاً.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " ما فعل " جنس يشمل الثلاثة كلها: الأداء، والإعادة،
والقضاء.
قولنا: " أولاً " أخرج الإعادة؛ لأنها تفعل ثانياً لخلل في الأول.
قولنا: " في وقته المقدر له " أخرج أمرين:
أولهما: القضاء؛ حيث إنه يفعل بعد الوقت المقدر.
ثانيهما: ما لم يقدر له وقت كالنوافل المطلقة، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فلا يوصف ذلك بأداء ولا قضاء، ولا إعادة.
قولنا: " شرعاً " أي: يجب أن يكون التعيين والتحديد صادراً
من الشارع، وخرج بهذا القيد: ما فعل في وقته المقدر له عقلاً كما
لو قضى الدين عند المطالبة به، فإنه فعل في وقته المقدر له، وهو:
ما يتسع له، ولكن هذا التقدير ليس بالشرع، بل بالعقل، وكذلك
الزكاة لو قدَّر الإمام شهراً معيَّناً مثلاً لإخراجها فيه، - فهو توقيت
عقلي، لا شرعي.
سؤال: هل يشترط وقوع جميع الفعل في وقته المحدد حتى يكون
أداء؟
جوابه: لا يشترط هذا، بل لو وقع بعضه في وقته القدر شرعاَ
كركعة من الصلاة مثلاً، فالصحيح أن الجميع أداء؛ لأن الركعة من
الصلاة مشتملة على معظم وغالب ما بعدها، فهو تكرار لها،
فيكون تابعا لها.
أما إذا أدرك أقل من الركعة، فالكل يكون قضاء عند الجمهور،
كما ذكره النووي في ""روضة الطالبين ".
وبعض العلماء يقول: إنه إذا أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن يخرج
الوقت، فإن الصلاة تكون أداء، وهذا رأي الحنفية، وكثير من
الحنابلة.
ثانيا: تعريف الإعادة:
الإعادة هي: ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الأول.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " مما فعل ": جنس يشمل الأداء، والإعادة، والقضاء.
قولنا: " ثانياً ": أخرج الأداء؛ لأنه يفعل أولاً.
قولنا: " في وقت الأداء ": أخرج القضاء؛ لأنه يفعل بعد
خروج وقت الأداء.
قولنا: " لخلل في الأول ": أخرج ما يفعل ثانياً، لكن بدون
خلل في الأول كالمنفرد إذا صلى مرة ثانية مع الجماعة، فإن صلاته
الأولى ليس فيها خلل، فلا توصف الثانية بالإعادة شرعا، بل هي
أداء كالأولى.
وعلى هذا فالإعادة قسم من الأداء، وليست قسيما له؛ لأن الأداء
في الحقيقة اسم لما يقع في الوقت المحدد شرعاً مطلقا، سواء كان
سابقاً أو مسبوقاً، أو منفرداً، فإن سبق بأداء مختل سمي إعادة،
وعلى ذلك فكل إعادة أداء، دون العكس.
فيكون فعل العبادة إما أن يكون في وقته المحدد شرعا أو لا.
فإن كان في وقته المجدد شرعاً فهو أداء، أو إعادة.
وإن لم يقع في وقته، بل بعد خروج الوقت فهو قضاء.
ثالثا: تعريف القضاء:
القضاء: ما فعل بعد خروج وقته المحدد شرعا مطلقاً.
شرح التعريف وبيان محترزاته:
قولنا: " ما فعل بعد خروج وقته المحدد شرعاً ": أخرج الأداء
والإعادة، لأنهما يفعلان في وقتهما المحدد شرعا كما سبق.
قولنا: " مطلقا " فيه بيان: أن اسم القضاء مخصوص بفعل
العبادة بعد فوات وقته المحدد له شرعاً مطلقاً، أي: سواء كان فوات
الوقت لعذر، أو لغير عذر، فإنه لا فرق في تأخير الواجب عن
وقت الأداء بين أن يكون التأخير بعذر أو لغير عذر، وسواء كان
التأخير مع التمكن من الفعل كالمسافر والمريض يستطيع الصوم مع
السفر والمرض.
أو كان مع عدم التمكن من فعله، إما لمانع شرعي كما في الحيض
والنفاس، لعدم صحة الفعل شرعاً، أو لمانع عقلي كنوم، أو
سهو، أو إغماء، فإنه لا يمكن عقلاً أداء الصلاة من النائم والساهي،
والمغمى عليه " لأنها تفتقر إلى النية والقصد، وذلك محال مع وجود
النوم والإغماء والسهو.
رابعا: إذا حاضت المرأة، أو سافر مكلف أو مرض آخر في رمضان
فأفطروا، فلما انقضى رمضان صاموا الأيام التي أفطروها، فهل يسمى
فعلهم هذا قضاء أوأداء؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أنه يُسمى قضاء.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الصحيح؛ لأمرين:
أولهما: إجماع العلماء على أنه إذا صام المسافر والمريض والحائض
بعد زوال عذرهم، فإنه تجب عليهم نية القضاء، لا نية الأداء،
وأي شيء وجبت فيه نية القضاء فهو قضاء؛ لأنه لو كان أداء لما جاز
أن ينووا القضاء؛ لأنهم - حينئذ - ينوون غير الواجب عليهم.
ثانيهما: أنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
"كنا نحيض على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ".
وجه الدلالة: أن عائشة - هنا - سمَّت فعل الصوم - بعد انتهاء
الشهر، وبعد زوال الحيض - قضاء، فلو كان أداءً لما سمته باسم
القضاء، والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اشتهر بهذه التسمية فلا يمكن أن يطلق عليه بأنه أداء.
المذهب الثاني: أن الحائض إذا فاتها أيام من رمضان، فإنه يجب
عليها أن تصومها بعد رمضان، وصيامها هذا لا يُسمَّى قضاء، وإنما
يُسمَّى أداءً.
دليل هذا المذهب:
أنه لا يجب على الحائض صيام رمضان حال حيضها، بل إن
صومها وهي في تلك الحال حرام، ومعلوم: أن فعل الحرام معصية،
ولا يمكن أن تؤمر أن تفعل ما تعصى في فعله، ولو ماتت قبل أن
تتمكن من صيام تلك الأيام التي تركتها لا تكون عاصية بالإجماع.
فلما لم تتمكن الحائض من أن توقع الصيام في وقته المقدَّر شرعا
للعذر - وهو الحيض - فإن فعْلها فيما بعد هو نفس الأداء الذي لم
تتمكن من فعله، وعلى هذا فلا يمكن أن يُسمَّى قضاء.
جوابه:
يجاب عنه بما ورد عن عائشة رضي الله عنها من أنها سمَّت
فعل الصوم - بعد انتهاء رمضان - قضاء، كما سبق.
والقضاء لا يمكن أن يطلق عليه أداء ولا العكس.
أما عدم وجوب الأداء أثناء الحيض فلأن التكليف تشريف، وعبادة
لله سبحانه وتعالى، ويمتنع ذلك مع حالتها المستقذرة تلك، والشيء
الذي لم يجب هو الأداء، أما جعل ذلك في الذمة، فهو واجب لا
شك فيه.
أما عدم العصيان إذا تركت الصيام حال الحيض وماتت: فهذا
مرجعه إلى كونها غير مكلفة بفعل الصيام أداء؛ للعذر وهو:
"الحيض "، فإذا زال رجع إليها التكليف، لكن تبقى ذمتها مشغولة
حتى تفعل ما وجب عليها قضاء.
المذهب الثالث: أن المسافر والمريض لا يلزمهما الصوم في شهر
رمضان، وإذا كان الصيام في الشهر لا يلزمهما، ولا يجب عليهما
حال السفر وحال المرض، ثم فعلا الصيام بعد رمضان سمي ذلك
الفعل أداء، وليس بقضاء.
ومستند عدم وجوب الصيام على المسافر قوله صلى الله عليه وسلم:
" ليس من البر الصيام في السفر "،
ومستند عدم وجوب الصيام على المريض:
وجود المشقة التي تحصل له عند صومه، والمشقة تجلب التيسير.
وكذا أجمع العلماء على أن من أخر رمضان لسفر أو لمرض من
غير تفريط، ثم مات - بعد ذلك - وقبل القضاء، فإنه لا يكون
عاصياً لتأخيره.
جوابه:
يجاب عنه بأن العلماء قد أجمعوا على أنه إذا صام المسافر والمريض
بعد زوال عذرهما، فإنه تجب عليهما نية القضاء؛ لا نية الأداء،
وما وجبت فيه نية القضاء فهو قضاء، ولو كان أداء كما زعم
أصحاب هذا المذهب لما نووا القضاء؛ لأن حقيقة الأداء غير حقيقة
القضاء، ولأنه يلزم من ذلك أنهم ينوون غير الواجب عليهم.
أما عدم لزوم الصوم أثناء العذر وهو السفر والمرض، فقد ثبت
نظراً لحالتهما فلا يطلب أداء الصوم وهما في حالتهما تلك، لكن
تبقى ذمتهما مشغولة بالواجب فلا تبرأ إلا بالقضاء؛ لخروج وقت
الأداء.
أما عدم العصيان لما تركا الصيام حال السفر والمرض، فهذا
مرجعه إلى أنهما غير مكلَّفين بفعل الصيام أداءً؛ لعذر السفر
والمرض، وهو من باب الرخص والتيسير ورفع الحرج عن الأمة،
لكن تبقى ذمتهما مشغولة حتى يفعلا ما وجب عليهما قضاء.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف لفظي - في هذه المسألة - كما هو واضح؛ حيث إن
أصحاب المذاهب اتفقوا على أن الحائض والمريض والمسافر إذا أفطروا
في نهار رمضان لعذر الحيض والمرض والسفر، فإنه يجب عليهم
صيام تلك الأيام التي تركوها بعد انتهاء شهر رمضان، ولكن
اختلفوا في تسمية هذا الفعل، فالجمهور يسمونه قضاء؛ لانطباق
حقيقة القضاء عليه، وأصحاب المذهبين الأخيرين يسمونه أداء،
فصار الخلاف في التسمية والتعبير فقط.
خامساً: هل يتعلق القضاء بالمندوب كالواجب؟
اتفق العلماء على أن الأداء والإعادة يتعلقان بالمندوب،
واختلفوا في القضاء هل يتعلق بالمندوب؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أن القضاء يتعلق بالمندوب إذا كان له وقت معين؟
بخلاف المندوب المطلق، فلا يتعلق به الأداء، ولا الإعادة، ولا
القضاء.
هذا مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح، وبناء عليه: فإنه إذا
فات المندوب المؤقت: فإنه يقضى مطلقا، كما قال العلماء: إن
قضاء السنة سُنَّة كما أن قضاء الواجب واجب، والقضاء في رتبة
المقضي.
دليل ذلك: القياس على الواجب؛ إذ لا فرق بينهما من هذه
الناحية، ويشملهما حد القضاء.
المذهب الثاني: أن القضاء لا يتعلَّق بالمندوب.
ذهب إلى ذلك الحنفية، وقالوا: يقصر القضاء على الواجب
فقط؛ تنزيلاً عن درجة الواجب بسبب: أن طلبه غير جازم.
واستثنى بعض علماء الحنفية من هذه القاعدة: قضاء السُّنة إذا
كانت شديدة التأكد بشروط، فقالوا في فروعهم: إذا فات المصلي
سُنَّة الصبح مع فرضها، فإنه يسن له قضاؤها، بخلاف ما إذا فاتته
السُّنَّة دون الفرض فلا قضاء لها.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف - هنا - لفظي؛ للاتفاق على أن المندوب إذا لم يقضه
المكلف فإنه لا تنشغل الذمة فيه، ولا يطالب به؛ لأن حقيقة المندوب
- كما سبق -: عدم العقاب على تركه.
سادساً: الدليل الموجب للقضاء:
اختلف العلماء في الدليل الموجب للقضاء هل هو أمر جديد،
ودليل مبتدأ، أو هو الأمر الأول الموجب للأداء ينسحب مع الواجب
ويلازمه في الوقت وبعده؛ على مذهبين:
المذهب الأول: أن وجوب القضاء ثابت بالأمر الأول، فالدليل
الذي أوجب الأداء هو ما أوجب القضاء، ولا يحتاج إلى نص
جديد.
ذهب إلى ذلك عامة الحنفية والمالكية، وكثير من الشافعية،
وجمهور أهل الحديث.
وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن الأداء قد كان واجبا مستحقا على المكلَّف في
الوقت المحدد شرعاً، وقد علمنا من قواعد الشرع بالاستقراء أن
الواجب لا يسقط عن المكلف إلا بالأداء، أو بإسقاط من له الحق،
أو بالعجز، ولم يوجد شيء من ذلك، وخروج الوقت ليس مما
يسقط الواحب، فتبقى الذمة مشغولة بهذا الواجب، لا يزول هذا
الشغل إلا بمزيل له، وهو أحد الأمور الثلاثة السابقة - فقط -.
الدليل الثاني: القياس على الدين، بيان ذلك:
أن الوقت للمأمور به كالأجل للدين، فكما أن الدين لا يسقط
بترك تأديته في أجله المعين، فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته
المعين، فإنه لا يسقط، بل يجب قضاؤه، ويكون ذلك مستفاداً من
الأمر الأول بدلالة التضمن، لا بدلالة المطابقة.
المذهب الثاني: أن وجوب القضاء ثابت بأمر جديد، ودليل مبتدأ.
ذهب إلى ذلك أكثر المتكلمين.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لو وجب بالأمر الأول لاقتضاه ذلك الأمر،
ولكان أداءً لا قضاء.
جوابه:
يجاب عنه بأن ذلك ممنوع؛ لأنه إذا فات الوقت بقي الواجب مع
نقص الواجب فيه، وهو الوقت المحدد، فكان إيقاعه بعد الوقت
قضاء، لا أداءً.
الدليل الثاني: قياس الزمان على المكان، بيانه:
أن الأمر لو علق بمكان معين كالأمر بالحج علق بمكان معين،
وهي المناسك المعروفة، فإذا تعذر فعله بهذا المكان وتلك المناسك،
فلا يجوز فعله بمكان آخر.
كذلك الأمر إذا علق بوقت معيَّن، وتعذَّر فعله بهذا الوقت فإنه
يسقط الأمر الأول، ويحتاج إلى أمر آخر.
جوابه:
يجاب عنه: بأن قياسكم الزمان على المكان قياس فاسد؛ لأنه
قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين تعلق الأمر بزمان، وبين
تعلقه بمكان من وجهين:
أولهما: أنْ الزمان يتعلق بعضه ببعض، حيث إن الزمان الثاني
تابع للأول، فالواجب الذي لم يفعل في الزمان الأول؛ فإنه
ينسحب هذا الوجوب إلى الزمان الثاني، ثم الثالث، وهكذا،
ولا تبرأ ذمة المكلف منه إلا بأدائه ولو في آخر العمر.
بخلاف المكان، فإنه لا ينسحب إلى مكان آخر، وما يجوز فعله
في مكان قد لا يجوز فعله في مكان آخر.
ثانيهما: أن المكان لا يفوت، فيمكن الفعل فيه، ولا يعدل إلى
غيره، بخلاف الزمان، فإنه يفوت فوجب القضاء في غيره.
الدليل الثالث: قياس ما بعد الوقت على ما قبل الوقت، بيانه:
إنه كما أنه لا يجب الفعل قبل الوقت؛ لعدم تناول الأمر إياه،
كذلك أن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر، فلا يجب فيه الفعل،
ويحتاج إلى أمر جديد.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا القياس قياس فاسد؛ لأن الكلام في الواجب،
ولا وجوب قبل الوقت.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له ثمرة وفائدة، وهي: جواز
الاستدلال بالأوامر في أداء العبادة على قضائها بناء على المذهب
الأول.
وعدم جواز ذلك بناء على المذهب الثاني.
ومن وجب عليه صوم يوم بعينه لأجل نذره فلم يصمه، أو أفسده
هل يجب عليه القضاء أو لا؟
فبناء على المذهب الأول - وهو: أن القضاء بالأمر الأول - فإنه
يجب القضاء بذلك الأمر، وهو الصحيح.
وبناء على المذهب الثاني - وهو: أن القضاء يحتاج إلى أمر
جديد - فإنه لا يجب عليه القضاء؛ لأنه لا يوجد أمر جديد.
وأيضا من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، فإنه يلزمه قضاؤها
بالأمر الأول، وهو الصحيح.
واختلف أصحاب المذهب الثاني على قولين:
القول الأول: أنه لا قضاء عليه؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر
جديد، ولا يوجد أمر.
القول الثاني: أنه يلزمه قضاء تلك الصلاة بعد خروج وقتها،
لورود الأمر الجديد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"فدين اللَّه أحق أن يقضى".
وبعضهم قال: يجب عليه القضاء بأمر جديد وهو: القياس على
النائم والناسي، لورود الأمر بوجوب القضاء عليهما.