الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول في الواجب
ويشتمل على المسائل التالية:
المسألة الأولى: تعريف الواجب:
أولاً: الواجب لغة.
ثانياً: الواجب اصطلاحاً.
المسألة الثانية: هل يوجد فرق بين الواجب والفرض؟
المسألة الثالثة: صيغ الواجب.
المسألة الرابعة: تقسيمات الواجب.
المسألة اتامسة: الواجب المعين والواجب المخير:
أولاً: تعريفهما والأمثلة عليهما، وبيان حكمهما.
ثانياً: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم، أو أنه
متعلق بكل فرد من الأفراد المخير بينها؟
ثالثاً: شروط الواجب المخير.
رابعا: هل يجوز الجمع بين الأمور المخير بينها؟
المسألة السادسة: الواجب غير المؤقت:
أولاً: بيانه والأمثلة عليه.
ثانية: متى يتضيق الوقت في هذا الواجب؟
ثالثا: هل يعصي بالموت - هنا -.
المسألة السابعة: الواجب المضيق والواجب الموسع:
أولاً: أقسام الوقت الذي حدده الشارع.
ثانياً: تعريف الواجب المضيق، والواجب الموسع مع الأمثلة عليهما.
تالثاً: الواجب الموسع هل هو ثابت.
رابعاً: في بيان فرق منكري الواجب الموسع ودليل كل فرقة مع
الجواب عنه.
خامساً: الاختلاف في اشتراط العزم.
سادساً: حالات تأخير الواجب الموسع إلى آخر وقته.
سابعاً: إذا فعل المكلف الفعل في الوقت الذي غلب على ظنه أنه
لا يعيش إليه، فهل هذا الفعل أداء أو قضاء.
ثامناً: متى يتضيق الوقت في الواجب الموسع؟
المسألة الثامنة: الواجب المحدد، والواجب غير المحدد:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وحكمهما.
ثانياً: حكم الزيادة على أقل الواجب.
المسألة التاسعة: الواجب العيني، والواجب الكفائي:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وسبب التسمية بذلك.
ثانياً: متى يتحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني؟
تالقاً: شروط فرض الكفاية.
رابعاً: هل فرض الكفاية أفضل من فرض العين؟
خامساً: في بيان أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه.
سادساً: من هو المخاطب بفرض الكفاية؟
المسألة العاشرة: ما لا يتم الواجب إلا به، هل هو واجب.
المسألة الأولى: في حقيقة الواجب:
أولاً: الواجب لغة:
الواجب لغة هو: الساقط، يقال:" وجب الحائط ": إذا سقط
ويقال: " وجب الميت " إذا سقط ومات، ومنه قوله تعالى:
(فإذا وجبت جنوبها) أي: سقطت على الأرض.
ومعنى الوجوب لغة: السقوط، حيث إنا نتخيل الحكم أو الشيء
الواجب جزماً سقط، أي: وقع على المكلف من اللَّه تعالى.
ويطلق الواجب على اللازم والثابت، يقال:" وجب الشيء "
أي: لزم.
ثانياً: الواجب اصطلاحا:
هو: " ما ذُمَ تاركه شرعاً مطلقاً ".
شرح التعريف وبيان محترازته:
قولنا: " ما " موصولة بمعنى " الذي "، وهو صفة لموصوف
محذوف تقديره " الفعل "، لأن الواجب هو: الفعل الذي تعلق
به الإيجاب، والمقصود:" فعل المكلف ".
و" ما " التي تعود إلى " فعل المكلف " جنس في التعريف يشمل
الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح.
قولنا: " ذم " الذام هو الشارع، والمراد بالذم: اللوم والاستنقاص.
وهو قيد في التعريف أخرج المندوب، لأن المندوب لا ذم على
تركه.
وأخرج المكروه، لأن المكروه لا ذم على فعله، وأخرج المباح،
لأن المباح لا ذم على تركه، ولا على فعله.
وعبَّرنا بلفظ: " ذم " - على أنه فعل ماض -، لأن هذه المذام
قد وقعت، ووردت فى الكتاب والسُّنَّة.
ولو ذكرنا اللفظة " ذم " بلفظ " يُذَم " - فعل مضارع - لأشعر
بأن تلك المذام لم تقع.
قولنا: " تاركه " اسم فاعل مشتق من الترك، وقد أخرج بهذا
اللفظ " المحرم "، لأن المحرم يذم على فعله، لا على تركه.
قولنا: " شرعاً " منصوب على التمييز، فيفيد أن الذام هو
الشارع فقط، أي: أن الذم يعرف من جهة الشرع، لا من جهة
العقل، خلافاً لما زعمه أكثر المعتزلة في قولهم: " التحسين والتقبيح
العقليين ".
والمراد: ما ورد ذمه في كتاب اللَّه، وسُنَّة رسوله، وإجماع
الأُمَّة.
قولنا: " مطلقا ": قيد في التعريف يفيد أن الذي يترك الواجب
مطلقاً هو الذي يذم.
أما من تركه؛ لأنه سيقضيه في آخر الوقت، أو من تركه ليقضي
نوعا آخر مثله، أو من تركه، لأن بعض المسلمين فعله، فإن هذا لا
يذم.
وقلت ذلك؛ لأن من أقسام الواجب: " الواجب الموسع "،
و"الواجب المخير "، و " الواجب الكفائي ".
فالواجب الموسع هو: ما كان فيه الوقت أزيد من الفعل كالصلاة.
والواجب المخير هو: ما صح للمكلف أن يفعل أي فرد من أفراده
التي حصل فيها التخيير كخصال الكفارة في اليمين وهي: الإطعام،
أو الكسوة، أو الإعتاق.
والواجب الكفائي هو: ما سقط بفعل بعض المكلفين كصلاة
الجنازة.
فترك الواجب الموسع يوجب الذم إذا ترك في جميع الوقت، ولا
يوجب الذم إذا ترك في بعض الوقت، وعزم على فعله في آخر
وترك الواجب المخير يوجب الذم، إذا ترك جميع الخصال، ولا
يوجب الذم إذا ترك خصلة من الخصال المخير بينها، وعزم على فعل
الخصلة الأخرى.
وترك الواجب الكفائي يوجب الذم إذا تركه جميع المكلفين.
ولا يوجب الذم إذا ترك من البعض وفعل من البعض الآخر.
وهناك تفصيلات واعتراضات على هذا التعريف ذكرتها مع
الأجوبة عنها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "،
و" الواجب الموسع عند الأصوليين " فراجعهما إن شئت.
المسألة الثانية: هل يوجد فرق بين " الواجب " و " الفرض "؟
اتفق العلماء - من حيث اللغة - على: أن مفهوم هذين اللفظين
- الفرض والواجب - مختلف، ومعناهما متباين:
فالفرض لغة: التقدير والحز والقطع.
والواجب لغة: الساقط، والثابت.
أما من جهة الشرع، فقد اختلف العلماء في الفرض والواجب
هل هما مترادفان، أو مختلفان على مذهبين:
المذهب الأول: أن الفرض والواجب غير مترادفين، بل يدلان
على معنيين مختلفين.
ذهب إلى ذلك الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو
اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي إسحاق بن شاقلا، والحلواني،
وحكاه ابن عقيل عن كثير من الحنابلة.
وهذا هو الصحيح عندي فيكون الفرض: اسم لما ثبت وجوبه
بطريق مقطوع به، أي: أن الفرض: ما ثبت حكمه بدليل قطعي
مثل: الآية التي قطع بدلالتها على الحكم، والحديث المتواتر الذي
قطع بدلالته على الحكم، والإجماع الصريح الذي نقل إلينا نقلاً
متواتراً.
والواجب هو: اسم لما ثبت من طريق غير مقطوع به، أي: أن
الواجب: ما ثبت حكمه بدليل ظني كخبر الواحد، والقياس،
والإجماع السكوتي،. ودلالات الألفاظ الظنية.
وقد صححته؛ لأدلة، من أهمها:
الدليل الأول: أن هناك فرقا بين الفرض والواجب عند أهل اللغة.
فالفرض في اللغة: الحز في الشيء والتأثير فيه.
أما الوجوب فهو في اللغة: السقوط.
فإذا ثبت هذا: فالتأثير آكد من السقوط؛ لأن الشيء قد يسقط
ولا يؤثر.
فكل من الفرض والواجب لازم، إلا أن تأثير الفرضية أكثر من
تأثير الوجوب، ومنه سمي الحز في الخشبة فرضاً لبقاء أثره على كل
حال، وسمي السقوط على الأرض وجوباً؛ لأنه قد لا يبقى أثره في
الباقي.
وإذا كان الأمر كذلك: وجب اختصاص الفرض بقوة في الحكم
كما اختص بقوة في اللغة؛ حملاً للمقتضيات الشرعية على
مقتضياتها اللغوية؛ لأن الأصل عدم التغيير.
الدليل الثاني: أن العلماء قد اتفقوا على أن الدليل القطعي ثبوتاً،
ودلالة يفيد علماً أقوى مما يفيده الدليل الظني ثبوتاً ودلالة، وبناء
على ذلك لا بد من التفريق بين الحكم الثابت بدليل قطعي، لإفادته
علماً يقينياً، وبين الثابت بدليل ظني المفيد ظناً قوياً، فيطلق على
الثابت بالأول اسم " الفرض "، ويطلق على الثابت بالثاني اسم
"الواجب " وذلك من أجل تسهيل التمييز بينهما لتصبح دلالة كل
اسم على نوعه أدق وأوضح دون حاجة إلى قرائن.
ولو لم يعتبر هذا التفريق لزم رفع الدليل المظنون إلى رتبة المقطوع
من جهة، وحط الدليل المقطوع به إلى رتبة المظنون من جهة أخرى.
الدليل الثالث: أن وجود التفاوت بينهما في الآثار والأحكام
يجعلنا نخص كل نوع باسم، بيان ذلك:
أن حكم الفرض يكفر جاحده، ويفسق تاركه بلا عذر.
أما حكم الواجب فلا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إذا استخف به
أما إذا تأول فلا.
وإن الحج يشتمل على فروض، وواجبات، وأن الفرض لا يتم
النسك إلا به، والواجب يجبر بدم.
وأن الصلاة مشتملة على فروض وواجبات، والفروض هي:
الأركان.
وأن الواجب يجبر إذا ترك نسياناً بسجود السهو، والفرض لا يقبل
الجبر..
أي: أن المكلف إذا ترك فرضاً كالركوع أو السجود بطلت صلاته،
ولا يسقط في عمد ولا سهو، ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة، أما إذا
ترك واجباً فإن صلاته صحيحة، ولكنها ناقصة.
الدليل الرابع: أن هناك فرقاً بين الفرض والواجب في عادة أهل
الشرع، فتجدهم يفرقون بين الفرض والواجب في التعبير عن
الأحكام الشرعية، فيقولون - مثلاً -: في الديون والشفعة:
واجبات، ولا يقولون: إنها فروض، وبقول القائل منهم:
"أوجبت على نفسي "، ولا يقول:" فرضت على نفسي "، فبان:
أن معنى اللفظين مختلف في عادة أهل الشرع.
الدليل الخامس: أن هناك فرقاً بينهما عن طريق العقل، حيث
إن كل عاقل يجد في عقله أن صلاة الظهر آكد من الصلاة المنذورة،
والزكاة آكد من النذر في الصدقة، وإن كانتا لازمتين.
وإذا كانت هذه الأمور يجدها كل عاقل في نفسه، فإنه ينبغي أن
يفرق ما هو آكد عما هو دونه باسم يعرف به، فيجعل اسم الفرض
عبارة عما كان في أعلى المراتب من الوجوب، ويجعل اسم
الواجب عبارة عما كان دونه، فرقاً بين الاثنين.
المذهب الثاني: أن الفرض والواجب مترادفان، أي: أنهما اسمان
لمسمى واحد، ولفظان يطلقان على مدلول واحد، وهو: الفعل
الذي ذم تاركه شرعاً مطلقاً، أو هو: طلب الشارع المقتضي
فعل المكلف طلباً جازماً، سواء كان هذا الطلب بدليل ظني، أو
قطعي.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قالوا فيه: إن اختلاف أسباب الوجوب، وقوة
بعضها على بعض لا يوجب اختلاف الشيئين في أنفسهما، بدليل:
أن النفل قد ثبت بأخبار متواترة، وثبت بأخبار الآحاد، والكل
متساو، فكذلك الفرض قد ثبت بأخبار متواترة، وأخبار آحاد،
والكل متساو.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن قوة بعض أسباب
الوجوب على بعضها الآخر توجب اختلافهما في أنفسهما؛ لأن ما
كان معلوماً أنه مراد اللَّه - تعالى - قطعاً، فإنه مخالف لما كان
مظنوناً، وكذلك ما يكفر جاحده مخالف لما لا يستحق هذه الصفة،
ومتى ما اختلفت الأشياء في أنفسها وأحكامها اختلفت الأسامي التي
تستعمل فيها، لاختلاف ما يستفاد بالعبارة منها.
الدليل الثاني: أنهما متساويان في الحد؛ حيث إن حد الواجب
- وهو: ما ذم تاركه شرعاً مطلقاً - ينطبق على الفرض تماماً، ولا
فرق، فإذا كانا متساويين في هذا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر،
كما أن الندب والنفل لما كان معناهما واحداً - وهو: ما يحمد فاعله
ولا يذم تاركه - لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن الفرض وإن ساوى
الواجب في ذم وعقاب تارك الفعل، فقد خالفه من وجه آخر،
وهو: أن ثبوته من طريق مقطوع به، فهذه المخالفة منعت من
المساواة في التسمية، قياساً على الندب والمباح، فإنهما تساويا في
سقوط الذم عن التارك لهما، واختلفا في التسمية، وذلك نظراً
لاختلافهما من وجه آخر، وهو: أن الندب يحمد فاعله ويثاب،
والمباح لا يحمد فاعله ولا يثاب.
فكذلك هنا، فإن الفرض والواجب وإن تساويا في الحد، فإنهما
اختلفا من وجه آخر، وهو طريق الثبوت، فالواجب ثبت عن
طريق مظنون، والفرض ثبت عن طريق مقطوع به، فلزم أن يختلفا
في التسمية.
بيان نوع الخلاف:
إن الخلاف في هذه المسألة قد اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: إن الخلاف معنوي له ثمرة، فقد رتب أصحاب
المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - على الحكم بفرضية الشيء:
كفر جاحده، وعدم إمكان جبره، أما الحكم بوجوب الشيء فلا
يكفر جاحده، ويمكن جبره، وكذلك قالوا: إن قراءة القرآن في
الصلاة فرض، لثبوته بدليل قطعي، وهو قوله تعالى:(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أما قراءة الفاتحة في الصلاة فهي واجبة، لثبوت
ذلك بالدليل الظني، وهو خبر الواحد الذي رواه عبادة بن الصامت:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
القول الثاني: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، لأنه لا نزاع بين
أصحاب المذهبين في انقسام ما أوجبه الشرع علينا وألزمنا إياه من
التكاليف إلى قطعي وظني، ولا نزاع بينهم - أيضا - على تسمية
الظني واجباً.
ولكن النزاع حصل في القطعي، فأصحاب المذهب الثاني يسمونه
" فرضاً "، و " واجباً " بطريق الترادف.
وأصحاب المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - يسمونه باسم
"الفرض "، وذلك مما لا يضر أصحاب المذهب الثاني، فليسم كل
فريق بما شاء، وهو مجرد اصطلاح.
والراجح عندي التفصيل:
فإن نظر إلى الأمر وأنه حقيقة للوجوب بمعنى الطلب الجازم بقطع
النظر عن كون الدليل قطعياً أو ظنياً، فإن الخلاف يكون لفظياً.
وإن نظر إلى أحكام كل منهما وما يفيده، فإن الخلاف يكون
معنوياً؛ فإن أصحاب المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - قد
ذكروا أحكاماً شرعية وفرَّقوا بينها وبين الأحكام الأخرى، وكان
سبب هذا التفريق هو تفريقهم بين " الفرض " و " الواجب ".
وقد بسطت القول في ذلك في كتابي: " إتحاف ذوي البصائر
بشرح روضة الناظر "، و " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "،
فارجع إليهما إن شئت.
المسألة الثالثة: في صيغ الواجب:
الصيغ التي تدل على الواجب هي ما يلي:
الأولى: فعل الأمر، كقوله تعالى:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتوا الز اة) .
الثانية: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، كقوله تعالى:
(وليطوفوا بالبيت العتيق) .
الثالثة: اسم فعل الأمر، كقوله تعالى:(عليكم أنفسكم) .
الرابعة: المصدر النائب عن فعل الأمر، كقوله تعالى:
(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) .
الخامسة: التصريح من الشارع بلفظ الأمر، كقوله تعالى:
(إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) .
السادسة: التصريح بلفظ الإيجاب أو الفرض، أو الكتب،
كقوله تعالى: (فريضة من الله)، وقوله:(كتب عليكم القصاص) .
السابعة: كل أسلوب في لغة العرب يفيد الوجوب، كقوله
تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) .
الثامنة: ترتيب الذم والعقاب على الترك، كقوله تعالى:
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
المسألة الر ابعة: تقسيمات الواجب:
الواجب ينقسم بالنظر إلى اعتبارات مختلفة إلى أربعة تقسيمات:
التقسيم الأول:
الواجب باعتبار ذاته - أي: بحسب الفعل المكلف به - ينقسم
إلى قسمين:
القسم الأول: " الواجب المعيَّن ".
القسم الثاني: " الواجب المخيَّر ".
فالواجب المعيَّن، مأخوذ من التعيين، وهو: التخصيص،
فيكون الواجب المخصَّص.
وهو في الاصطلاح: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً بعينه،
دون تخيير بينه وبين غيره.
أي: أنه الذي تعين المطلوب به بشيء واحد لا خيار للمكلف في
نوعه، فلا يمكن أن تبرأ ذمته - وهو المطالب به - إلا إذا فعله بعينه.
ومن أمثلته: الصلوات المفروضة، وصيام رمضان، والزكاة،
والحج، وأداء الديون، والوفاء بالعهد، أو نذر عتق هذا العبد،
ونحو ذلك.
وأما الواجب المخيَّر فهو لغة من التخيير وهو: التفويض.
يقال: " خيرته بين الشيئين " إذا فوضت إليه الاختيار.
والمراد بالواجب المخيَّر هو الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً لا
بعينه، بل خيَّر في فعله بين أفراده المحصورة المعينة.
أي: أنه الذي لم يتعين المطلوب به بشيء واحد، وإنما كان له
أفراد، وخيَّر المكلف فيه بأن يأتي بما شاء منها.
مثاله: كفارة اليمين؛ حيث إن الشارع قد طلب من المكلف أن
يكفر عن يمينه بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث وهي:
" الإطعام " أو " الكسوة " أو " الإعتاق ".
ومثل التخيير في فدية الأذى الوارد في قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) .
والمكلف إذا فعل واحداً من الأفراد المعين بينها، فإن ذمته تبرأ،
فإن تركها جميعاً أثم بذلك، ويسميه بعضهم بـ " الواجب المبهم ".
التقسيم الثاني:
الواجب باعتبار وقته وزمن أدائه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول؛ الواجب غير المؤقت، وهو " الواجب المطلق ".
القسم الثاني: الواجب المؤقت.
أما الواجب المطلق فهو: لغة: مأخوذ من الإطلاق وهو:
التخلية والإرسال، والترك، يقال:" أطلقت الأسير ": إذا حللت
أسره وأخليت سبيله، ويقال:" أطلقت القول ": إذا أرسلته من
غير تقييد ولا شرط.
والمراد بالواجب المطلق هو: الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من
المكلف طلبا جازما، ولم يحدد وقتا معيناً لأدائه وإيقاعه فيه.
ومن أمثلته: كفارة اليمين؛ حيث إنها واجبة مطلقة.
وأما الواجب المؤقت: فهو الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من
المكلف طلبا جازما وحدد له وقتا معينا لأدائه وإيقاعه فيه.
وهو نوعان:
النوع الأول: الواجب المضيَّق، من ضاق يضيق ضيقا: خلاف
اتسع، يقال:" ضاق الرجل فهو مضيق عليه ": إذا ضاق عليه
معاشه ورزقه، بحيث يكفي يومه فقط بدون زيادة -
والواجب المضيَّق اصطلاحاً: هو الفعل الذي طلبه الشارع من
المكلف طلبا جازما محدِّداً وقت وزمن أدائه، بحيث يسعه وحده،
ولا يسع غيره من جنسه.
أو تقول: إن المراد منه: ما ألزم الشارع المكلف بفعله في وقت
مساو لوقت أدائه بلا زيادة ولا نقصان، ويطلق عليه الحنفية اسم
"المعيار".
مثل: صيام يوم من رمضان، فالشارع ألزم المكلف الذي لا عذر
له صيام ذلك اليوم، واليوم يبدأ من الفجر الصادق إلى غروب
الشمس، وهذا الوقت الذي بينهما له لوحده لا يتسع لفعل شيء
آخر معه.
ولا يصح فعله قبل دخول وقته، وإذا فعله بعد خروج وقته يكون
فعله هذا قضاء، ولا يمكن أن يقع معه في وقته غيره من جنسه.
ويمثل له الشافعية بوقت صلاة المغرب على القول الجديد؛ إنه
ليس لها إلا وقت واحد، وهو بمقدار ما يتطهر، ويستر العورة،
ويؤذن، ويقيم الصلاة، ويدخل فيها، فإن أخَّر الدخول عن هذا
الوقت أثم.
النوع الثاني - من نوعي الواجب المؤقَّت: " الواجب الموسَّع ".
والتوسيع لغة: بخلاف التضييق، يقال:" استوسع الشيء ":
وجده واسعا.
والمراد بالواجب الموسَّع هو: الفعل الذي يكون وقته واسعاً لأدائه
وأداء غيره من جنسه.
والمراد بالواجب الموسَّع: هو الفعل الذي طلب الشارع من
المكلف إيقاعه وأداءه طلباً جازماً في وقت يسعه ويسع غيره من جنسه.
كالصلوات الخمس، فصلاة الظهر مثلاً واجب موسَّع؛ حيث إنه
يجوز أن يصلي المكلف في أول الوقت، أو في وسطه، أو في
آخره.
التقسيم الثالث:
الواجب باعتبار تحديد الشارع للمكلَّف فيه وعدم تحديده
ينقسم إلى قسمين.
القسم الأول: الواجب المحدَّد.
القسم الثاني: الواجب غير المحدَّد.
أما الواجب المحدَّد فهو مأخوذ من الحد، وهو الفصل والمنع،
يقال: " حدَّ بين الشيئين " أي: فصل بينهما.
فالتحديد يكون هو: الفصل بين أشياء بفاصل.
فالمراد بالواجب المحدَّد هو: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً
وقد حدَّده الشارع، وقدَّره بمقدار معيَّن وفصله عن غيره.
مثل: الصلوات الخمس، فقد حُدِّدت كل صلاة بركعات محددة.
ومثل زكاة الأموال، وصيام رمضان، والنذر إذا كان محدداً.
وغسل الرجلين، واليدين، ونحو ذلك.
وأما الواجب غير المحدد فهو: الذي لم يعيِّن له الشارع مقداراً
معيناً، بل طلبه بغير تحديد.
مثل: الطمأنينة في الركوع والسجود.
التقسيم الرابع:
الواجب باعتبار فاعله، أي: باعتبار المخاطبين به ينقسم إلى قسمين:
القسبم الأول: " الواجب العيني ".
القسم الثاني: " الواجب الكفائي "..
فالواجب العيني هو: ما يتحتم أداؤه على مكلف بعينه.
أو هو: ما طلب الشارع حصوله من كل واحد من المكلفين مثل:
الصلاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك.
وسُمِّي بالواجب العيني، لأن الفعل الذي تعلَّق به الإِيجاب
منسوب إلى العين والذات باعتبار أن ذات الفاعل مقصودة.
فهذا الواجب يلزم الإتيان به من كل واحد من المكلفين بعينه،
بحيث لا تبرأ ذمته إلا بفعله.
أما الواجب الكفائى فهو: ما يتحتم أداؤه على جماعة من
المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد
أُدِّي الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين.
مثل: الجهاد في سبيل اللَّه إن لم يكن النفير عاماً، والصلاة على
الميت، وتغسيله، وتكفينه، ورد السلام، ونحو ذلك.
وسُمِّي بالواجب الكفائي، لأنه منسوب إلى الكفاية والسقوط من
حيث إن فعله من أي فاعل سقط طلبه عن الآخرين، فالقصد من
الوجوب الكفائي هو: وقوع الفعل نفسه؛ لما يترتب عليه من جلب
مصلحة، أو رد مفسدة بصرف النظر عمن يقع منه ذلك الفعل.
وسيأتي - إن شاء اللَّه - البيان التفصيلي لهذه التقسيمات في
المسائل الآتية:
المسألة الخامسة: الواجب المعيَّن، والواجب المخيَّر:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وبيان حكمهما:
الواجب المعيَّن - كما سبق بيانه - هو: ما طلبه الشارع بعينه،
دون تخيير بينه وبين غيره كالصلوات الخمس، والصيام، والزكاة،
ونحو ذلك.
وهذا النوع أكثر الواجبات.
وحكمه: عدم براءة ذمة المكلَّف إلا إذا فعله بعينه.
أما الواجب المخيَّر - أو المبهم - فهو ما طلبه الشارع لا بعينه،
بل خيَّر الشارع في فعله بين أفراده المعينة المحصورة.
أو هو: الذي لم يتعيَّن المطلوب به بشيء واحد، وإنما كان له
أفراد، وخيَّر المكلَّف فيه بأن يأتي بأي منها.
مثل كفارة اليمين، فقد طلب الشارع من المكلَّف أن يكفِّر عن
يمينه بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث وهي: " الإطعام "،
أو " الكسوةً "، أو " العتق "، قال تعالى:(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) .
ومثل: تخيير الإمام في حكم الأسرى بين المن والفداء، قال
تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) .
ومثل: التخيير في جزاء الصيد الوارد في قوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ)
ومثل التخيير في فدية الأذى الوارد في قوله تعالى: (فمن كان
منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) .
وحكم الواجب المخيَّر: أن المكلف تبرأ ذمته بفعل أي واحد من
أفراده فإن تركها جميعاً أثم.
ثانياً: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم أو أنه
متعلق بكل الأفراد المخير بينها؟
اعلم أن الخطاب الطالب للفعل طلباً جازماً - وهو ما يعرف
بالإيجاب - قد يتعلَّق بفعل معين كالخطاب الطالب للصلاة،
والطالب للزكاة، وهو المسمى بالواجب المعين.
وقد يتعلق بفعل مبهم من أمور معيَّنة كالخطاب المتعلِّق بكفارة
اليمين، وهو المسمَّى بالواجب المخيَّر.
فأما الواجب المعيَّن: فلا شك في أن الخطاب المتعلِّق به يقتضي
إيجاب ذلك المعين بعينه من صلاة، وصيام وزكاة، وقد أجمع
العلماء على ذلك.
أما الواجب المخيَّر فقد اختلف العلماء فيه.
أي: اختلف العلماء في الخطاب الوارد في الواجب المخيَّر أين
يتعلق؟
أو تقول: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم من
الأمور المخير بينها، أو أنه متعلق بكل فرد من أفراده؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن الخطاب في الواجب المخيَّر إنما يتعلَّق بواحد
مبهم من الأمور المخير بينها.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الفقهاء والأصوليين، ونقل
القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع سلف الأُمَّة وأئمة الفقهاء عليه.
وهو الصحيح عندي، وعلى هذا فالمكلَّف مخير في تحقيق
الخطاب في أي فرد من هذه الأفراد المعينة المخيَّر بينها، فأيُّ فردٍ فعله
المكلَّف منها يسقط ما وجب عليه، فمثلاً في كفارة اليمين: لو فعل
" الإطعام " سقطت عنه " الكسوة " و " العتق "، ولو فعل "الكسوة"
سقط عنه الإطعام، والعتق، ولو فعل العتق سقط الإطعام والكسوة،
وهكذا، فالواجب منها واحد لا بعينه، أي: متعلق الإيجاب
والخطاب هو الواحد لا بعينه، ويتعين ذلك الواحد بالفعل.
فلا يوصف كل واحد من الأمور المخير بينها بأنه واجب بخصوصه.
بل يصح أن يوصف بأنه واجب من حيث إن الواجب يتحقق فيه.
وقد اخترته للأدلة التالية:
الدليل الأول: أن العقل لا يمنع منه: فلو أن السيد قال لعبده:
"أمرتك أن تخيط هذا القميص في هذا اليوم، أو تبني هذا الحائط
في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به، وأثبتك عليه، وإن تركت
الجميع عاقبتك، وأنا لا أوجب الخياطة والبناء معاً عليك، بل
أوجب أحدهما لا بعينه أيهما شئت ": كان هذا القول معقولاً.
فلا يمكن أن يقال: إن السيد لم يوجب على العبد شيئاً، وذلك
لأن السيد صرح بعقاب العبد لو ترك الكل.
ولا يمكن أن يقال فيه: إن السيد أوجب على العبد فعل الخياطة
والبناء معاً في اليوم نفسه، لأن السيد صرح بنقيض ذلك.
ولا يمكن أن يقال فيه: إن السيد أوجب على العبد واحداً معينا،
لأن السيد صرَّح بلفظة " أو " المفيدة للتخيير.
وإذا بطلت هذه الأمور الثلاثة: لم يبق إلا أن يقال: المأمور به
واحد لا بعينه: إما الخياطة، أو البناء، أيهما فعل فإنه سينال
الثواب من السيد.
الدليل الثاني: العقل لا يمنع من جهة أخرى، حيث لا يمتنع عقلاً
أن يتعلق غرض السيد بفعل واحد غير معين، لأن كلًّا من فعل
الخياطة، أو فعل البناء يفي بهذا الغرض، وهو: طاعة السيد وعدم
مخالفته، فأي واحد منهما فعله العبد، فإنه يكون قد سلم من
العقاب، وفاز بالثواب بسبب فعله، فإذا كان الأمر كذلك، فلا
مانع من أن يطلب السيد من العبد ما يفي بغرضه، وهو: فعل شيء
غير معن - فقط - ويكون التعيين - حينئذ - زيادة وفضلة لا يتعلق
بها غرض السيد، فلا يطلبه من العبد.
فينتج: أن إيجاب واحد غير معين من أمور محصورة لا مانع منه
عقلاً.
الدليل الثالث: الوقوع، حيث وقع التخيير بين أمور في الشرع
كما ورد في كفارة اليمين؛ حيث قال لعالى: (فكفارته إطعام
عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير
رقبة) .
وفي جزاء الصيد على المحرم؛ حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ)
وفي تخيير الشارع للإمام بين المن والفداء؛ حيث قال تعالى:
(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) .
وفي تخيير الشارع للحاج في فدية حلق الرأس لعذر؛ حيث قال
تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، وقال صلى الله عليه وسلم في كعب بن عجرة -:
" احلق رأسك، وانسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة
مساكين ".
وفي وجوب تزويج المرأة المستحقة للنكاح من أحد الكفؤين
الخاطبين.
وفي وجوب عقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين لها.
فعندنا ثلاثة احتمالات في هذه الأمثلة هي كما يلي:
الأول: إما أن يقال في هذه الأمثلة الستة: إن المراد وجوب جميع
المخيَّر بينها.
الثاني: إما أن يقال: إن المراد وجوب واحد بعينه.
الثالث: إما أن يقال: إن المراد وجوب واحد لا بعينه.
أما الأول - وهو: أن المراد وجوب جميع المخيَّر بينها - فهو
باطل؛ لأنه لو كان التخيير يوجب تعلُّق الوجوب بالجميع لترتب
على ذلك ما - يلي:
1 -
لزوم أن جميع خصال كفارة اليمين واجبة، وهذا خلاف
الإجماع.
2 -
ولزم - أيضاً -: الجمع بين جزاء الصيد، وهذا مخالف
للصحيح من أقوال العلماء.
3 -
ولزم - أيضا -: الجمع بين المن والفداء بالنسبة للأسرى،
وهذا ظاهر البطلان.
4 -
ولزم - أيضا -: الجمع بين الصيام، والصدقة، والنسك
في فدية الأذى، وهو خلاف الإجماع.
5 -
ولزم - أيضاً -: تزويج المرأة من الكفؤين الخاطبين معا،
وهذا خلاف الإجماع.
6 -
ولزم - أيضا -: عقد الإمامة للرجلين الصالحين لها - معاً -
وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى الفساد.
أما الثاني - وهو: أن المراد وجوب واحد بعينه - فهذا باطل
- أيضاً -، لأن الشارع صرح بلفظة " أو " المفيدة للتخيير.
فمثلاً: لو كان التخيير يوجب خصلة معينة من خصال كفارة
اليمين، أو يوجب تزويج واحد بخصوصه، أو عقد الإمامة لواحد
معين، لامتنع التخيير، وهذا باطل؛ ضرورة تحقق التخيير بكلمة
"أو"، فيلزم من ذلك بطلان وجوب واحد بعينه.
أي: أن التخيير لو كان موجباً لوجوب واحد بعينه، لكان موجباً
لنقيضه، لأن التخيير ينافي التعيين، حيث إن التخيير يجوِّز ترك
المعين، والتعيين لا يجوّزه فاختلفا.
ولا بطل الاحتمال الأول - وهو: أن المراد وجوب الجميع -
وبطل الثاني - وهو: أن المراد وجوب واحد بعينه - صح الثالث -
وهو: أن المراد وجوب واحد لا بعينه - أي: أن الخطاب متعلق
بواحد لا بعينه، ويتعين بفعل المكلف، فإذا فعل المكلَّف أحد الأفراد
المخيَّر بينها كان هو الواجب عليه، ويسقط عنه الباقي.
المذهب الثاني: أن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بكل فرد من
أفراده المحصورة، أي: أن جميع الأشياء المأمور بها في الواجب
المخير واجبة على طريق التخيير، ولم يتعلق الإيجاب بواحدٍ مبهم.
ذهب إلى ذلك جمهور المعتزلة، وعلى رأسهم الجبائيان: أبو
عليّ وابنه أبو هاشم، ونسب إلى ابن خويز منداد من المالكية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه يستحيل اجتماع الوجوب مع التخيير؛ لأن
التخيير ينافي الوجوب؛ لأن معنى وجوب الجميع: أنه لا تبرأ ذمة
المكلَّف إلا بفعل الجميع، ومقتضى التخيير: أن الذمة تبرأ بفعل أيها
شاء، وهما لا يجتمعان، فيلزم أن الجميع واجب على التخيير.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن هذا الدليل لكم منقوض
بخصال كفارة اليمين، والأمثلة التي ذكرناها سابقا.
فالله عز وجل يعلم الأشياء على ما هي عليه، فيعلم الواجب
الذي ليس بمعيَّن غير معيَّن، وإذا أتى بها المكلَّف كلها سقط الفرض
بالأمر الذهني.
الدليل الثاني: أنه يستحيل التكليف بواحد مبهم؛ لأنه مجهول،
والتكليف بالجهول محال، فيلزم التكليف بكل - واحد من هذه الأمور.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عن ذلك -: إن الواحد المبهم ليس
مجهولا؛ لأن الواجب المخيَّر هو: القدر المشترك الذي يتحقق
حصوله بحصول جزء من جزئيات المخيَّر فيه، وحينئذ لا تكون هناك
جهالة.
الدليل الثالث: قياس الواجب المخيَّر على الواجب الكفائي،
بيان ذلك:
إنه كما أن الوجوب في الواجب الكفائي على الجميع ويسقط بفعل
بعضهم، فكذلك في الواجب المخيَّر نقول بوجوب الجميع، فإذا
فعل واحداً سقط الباقي.
جوابه:
يمكن أن يجاب - عنه - ويقال: إن هذا القياس فاسد؛ لأمرين:
الأول: أنه قياس مع النص؛ حيث وردت نصوص شرعية تفيد
وجوب واحد من عدة أمور كخصال كفارة اليمين، والتخيير في
الأسرى، والتخيير في جزاء الصيد، والتخيير في فدية الأذى،
ونحو ذلك مما سبق.
الأمر الثاني: أنه قياس مع الفارق، وذلك لأن تأثيم الواحد
المبهم في الواجب الكفائي بعيد، أما التأثيم بترك واحد مبهم في
الواجب المخيَّر فهو قريب وممكن.
المذهب الثالث: أن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بواحد معيَّن
عند اللَّه، غير معيَّن عند المكلَّف، إلا أن اللَّه تعالى علم أن المكلَّف
لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه، واختياره معرِّف لنا أنه
الواجب في حقه.
وهذا المذهب يطلق عليه قول التراجم، لأن الأشاعرة ينسبونه إلى
المعتزلة، والمعتزلة ينسبونه إلى الأشاعرة.
فكل فريق يرجم به الآخر ويتبرأ منه.
والصواب: أنه لا يُعرَف قائلُه.
وإنما نشأ من مبالغة المعتزلة في الرَّد على الأشاعرة في أسباب تعلُّق
الوجوب بالجميع - كما ذكر تاج الدين ابن السبكي في الإبهاج،
وذكر أن رواية الأشاعرة له عن المعتزلة لا وجه له، وذلك لأن هذا
المذهب ينافي قواعد المعتزلة، ومنها: إيجاب الأصلح على الله
تعالى، وعدم تكليف ما لا يطاق.
جوابه:
هذا المذهب فاسد، لأمرين:
أولهما: أن التخيير معناه: أن الشرع جوَّز للمكلَّف ترك كل
واحد من المخيَّر بينها بشرط الإتيان بالآخر، وكونه واجباً على التعيين
عند اللَّه يقتضي: أنه تعالى لم يجوِّز لنا تركه ألبتة، والجمع بين
الترك وعدم جواز الترك تناقض.
أي: أنه لو خير اللَّه - تعالى - بينه وبين غيره مع أنه جعله
واجباً على التعيين لكان قد جمع بين جواز الترك وبين المنع منه،
وهذا تناقض ظاهر.
ثانيهما: أن القول بأن الواجب معيَّن عند اللَّه، وليس معيناً عند
المكلَّف يجعل الواجب غير معلوم عند المكلف فلا يمكنه فعله، لجهله
فإذا كُلِّف به - مع ذلك -: كان تكليفاً بما لا يطاق، وقد اتفق
العلماء على أن التكليف بما لا يطاق غير واقع، وإن اختلفوا في
جوازه عقلاً - كما سيأتي إن شاء اللَّه -.
وقد ورد الخطاب بأمور معينة قد عطف بعضها على بعض بما يفيد
التخيير، وذلك في كفارة اليمين - وغير ذلك من الأمثلة - فالقول
بعدم تعيين الواجب للمكلف يلزمه وقوع تكليف ما لا يطاق، فيكون
باطلاً.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة قد اختلف فيه على قولين:
القول الأول: أن الخلاف لفظي لا ثمرة له، ولا يترتب عليه أيُّ
أثر، لأن الفريقين قد اتفقا على أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها،
ولا يجوز تركه كذلك.
واتفقا - أيضاً - على أنه إذا أتى بواحد منها كفى ذلك في سقوط
التكليف، وإذا كان الأمر كذلك فلا فرق في العمل.
القول الثاني: إن الخلاف معنوي، وقد أثر في بعض المسائل
الفقهية ومنها:
1 -
إذا طلَّق إحدى زوجتيه، أو أعتق أحد عبديه.
فعلى المذهب الأول: لا يقع الطلاق؛ لأن الواجب مبهم،
فالطلاق وقع مبهماً، فلا يقع إلا عند التعيين.
وعلى المذهب الثاني: فإن الطلاق وقع على كل واحدة.
2 -
إذا ترك جميع خصال الكفارة - وقلنا: للإمام المطالبة
بالكفارات - فعلى المذهب الأول: يجبر الإمام هذا المكلف على
فعل واحدة منها من غير تعيين.
وعلى المذهب الثاني: يجبر على فعل واحدة منها بعينها.
القول الثالث: التفصيل.
قال أصحاب هذا القول: إن كون الخلاف لفظيا، أو معنويا
راجع إلى تفسير مراد جمهور المعتزلة في قولهم: " إن الخطاب في
الواجب المخيَّر متعلِّق بكل فرد من أفراده ".
فمن قال: إن جمهور المعتزلة أرادوا بتعلُّقه بكل الأفراد: أنه لا
يجوز تركها - كلها -، وإذا فعل المكلَّف جميعها أثيب ثواب واجب
واحد، وإذا تركها كلها عوقب عقاب ترك واجب واحد، وإذا فعل
واحداً منها يكون قد فعل ما وجب عليه: فإن الخلاف لفظي عنده.
أي: من فسَّر قول جمهور المعتزلة بهذا: فإن قولهم يكون موافقاً
لقول جمهور العلماء في المعنى والمراد، فبكون الخلاف في اللفظ،
وهذا تفسير بعض العلماء كإمام الحرمين، وأبي الحسين البصري،
والبيضاوي.
أما من قال: إن جمهور المعتزلة أرادوا بتعلُّقه بكل الأفراد: أنه إذا
فعل الأمور كلها، فإنه يثاب عليها ثواب واجبات، هاذا تركها كلها
عوقب عليها عقاب تارك واجبات، وإذا فعل واحداً منها سقط عنه
غيره: فإن الخلاف معنوي عنده.
أي: من فسَّر قول جمهور المعتزلة بهذا: فإن الخلاف يكون
معنوياً، لأن مقصودهم يكون مختلفا عن مقصود جمهور العلماء.
وهذا تفسير بعض العلماء كابن فورك، والغزالي، وأبي الطيب
الطبري، وابن التلمساني، والتبريزي.
والراجح عندي هو القول الأول - وهو: أن الخلاف لفظي لا
ثمرة له؛ حيث إن مراد جمهور المعتزلة هو نفسه ما يريده جمهور
العلماء ولا فرق، لأن المعتزلة لا يخالفون في أمور ثلاثة:
1 -
أنه لا يجب الإتيان بجميع الخصال المخيَّر بينها.
2 -
أن من أتى بواحدة منها فقد برأت ذمته.
3 -
أنه لا يقع التخيير بين الواجب وغيره من مباح ومندوب.
وهذا هو قول جمهور العلماء، إذاً: لا خلاف في الحقيقة.
وأبو الحسين قد صرَّح بذلك في " المعتمد "، وهو الذي ينبغي أن
يعتمد في بيان مراد أصحابه المعتزلة، لأنه أعرف بمقاصدهم.
وصرَّح بذلك - أيضاً - المحققون الأصوليون ممن تصدى لتفسير
كلام المعتزلة، وممن التقى ببعضهم كأبي يعلى الحنبلي في " العدة "،
وإمام الحرمين في " البرهان "، وفخر الدين الرازي في " المحصول "
وابن برهان في " الوصول ".
وأما ما ذكر من فروع فقهية، فإن هذا ألزمهم إياه بعض العلماء؟
لقولهم: " إن الكل واجب "، ولم يكن هذا هو نفس قول المعتزلة.
ولقد أطلت الكلام في بيان نوع الخلاف في هذه المسألة في كتابي
" الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فإن شئت فارجع إليه.
سؤال: إذا كان الخلاف لفظياً، فإنه يكون مقصد المعتزلة هو نفسه
مقصد جمهور العلماء، فلماذا عبَّر جمهور المعتزلة بتعبير يخالف ما
عبَّر به جمهور العلماء؟
جوابه:
أقول - في الجواب عن ذلك -: إن جمهور المعتزلة وصفوا
الجميع بالوجوب - وهو تعبير يخالف ما ذكره جمهور العلماء -
فراراً من التسوية بين الواجب وغير الواجب؛ بناء على قاعدتهم في
" التحسين والتقبيح العقليين "، و " إيجاب الأصلح على اللَّه "؟
حيث قالوا: إن الحكم على الشيء يتبع حسنه أو قبحه، فإيجاب
شيء " ما " تابع لحسنه الخاص به، فلو كان الواجب واحداً لا بعينه،
والباقي غير واجب لخلا الباقي عن المقتضي للوجوب، وأصبح
التخيير بين ما هو واجب، وما ليس بواجب، وهذا لا يقول به
أحد، فلا بد من أن يكون واحد لخصوصه مشتملاً على صفة تقتضي
وجوبه، وحينئذٍ يوصف كل منها بالوجوب والتخيير.
أما نحن فلا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين ولا إيجاب الأصلح
على اللَّه، فلا مانع - عندنا - من إطلاق الوجوب على واحد منها لا
بعينه.
ثالثاً: شروط الواجب المخير:
إذا علمنا - في المسألة السابقة - أن الخطاب في الواجب المخيَّر
متعلِّق بواحدٍ غير معيَّن، ويتعين بفعل المكلَّف، فهو مخير بين أمور
محصورة، فمتى ما فعل واحداً فإنه هو الواجب في حقه، وهذا
هو التخيير.
ولكن ليس كل تخيير يصح، بل إن التخيير الصحيح له شروط
لا يصح إلا بها، هي كما يلي:
الشرط الأول: أن تكون الأشياء المخير بينها معلومة للمخاطب
ومحصورة ومعينة حتى يحيط بها المكلََّف ويوازن بينها، ويرى ما هو
الأصلح، فيختاره ويقوم به.
الشرط الثاني: أن تتساوى تلك الأشياء المخير بينها في الرتبة.
أي: تكون متساوية في الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فلا
يجوز التخيير بين واجب ومندوب، ولا بين واجب ومباح، ونحو
ذلك؛ فإن التخيير بين الوجوب وتركه يرفع الوجوب.
ولهذا لما استدل داود الظاهري على وجوب النكاح بقوله تعالى:
(فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) : ردَّه العلماء؛ لأن قوله
تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) فيه تخيير بين النكاح وبين ملك
اليمين، ومعروف أن ملك اليمين لا يجب إجماعا، فلذلك امتنع
التخيير بين النكاح وملك اليمين.
الشرط الثالث: أن تكون الأشياء المخير بينها متميزة للمكلَّف،
أي: أن يتميز بعض الأشياء عن بعض، فلا يجوز التخيير بين
متساويين من جميع الوجوه لا يتميز أحدها عن الآخر بوصف، كما
لو خيّر بين أن يصلي أربع ركعات وبين أن يصلي أربع ركعات مع
تساويهما في جميع الصفات.
الشرط الرابع: أن يتعلَّق التخيير بما يستطيع فعله، فلا يصح
التخييربين شيء يستطيعه، وشيء لا يستطيعه.
الشرط الخامس: أن يكون وقت المخيَّر بينها واحداً " حيث يتأتى
الإتيان بكل واحد منهما في وقت واحد، بدلاً عن التغاير، فإنه لو
ذكر للمكلَّف فعلان مؤقتان بوقتين مختلفين: فإن ذلك لا يكون
تخييراً؛ فإنه في وقت الإمكان من فعل الأول لا يتمكن من الفعل
الثاني، وفي الوقت الثاني لا يتمكن من الأول، فلا يتحقق وصف
التخيير أصلاً، وإنما يتحقق ذلك في شيئين يجوز ثبوت أحدهما بدلاً
عن الثاني مع تقدير اتحاد الوقت. نُسب هذا الشرط إلى القاضي
أبي بكر الباقلاني.
قلت: وهذا الشرط باطل من جهة العقل، ومن جهة الشرع.
أما بطلانه من جهة العقل فلأن السيد لو قال لعبده: " عليك
خياطة هذا الثوب يوم السبت، أو بناء هذا الجدار يوم الأحد،
أيهما فعلت: أثبتك، وإن تركت الجميع عاقبتك " كان هذا القول
معقولاً.
أما بطلانه من جهة الشرع فلأن الشرع ورد فيه التخيير بين شيئين
في وقتين مختلفين، وهو أن المسافر سفر طاعة، فإنه يخير بين أن
يصوم وأن يفطر ثم يصوم في وقت آخر.
رابعا: هل يجوز الجمع بين الأمور المخيَّر بينها؟
الأمور المعينة المحصورة المخيَّر بينها قد يحرم على المكلف الجمع
بينها، وقد يباح الجمع بينها، وقد يندب الجمع بينها.
فمثال الأول: وهو: ما يحرم فيه الجمع بين الأمور المخير بينها:
تزويج المرأة من كفؤين متساويين معاً، وكذا مبايعة إمامين للأمة.
ومثال الثاني: وهو: ما يباح فيه الجمع بين الأمور المخير بينها:
ستر العورة بثوب بعد سترها بثوب آخر، فستر العورة واجب،
والمكلف مخير بسترها بأي ثوب شاء متى تعددت عنده الثياب،
ويباح له سترها بأكثر من ثوب واحد، فيكون الجمع بين الأثواب في
الستر مباحاً.
ومثال الثالث: وهو ما يندب فيه الجمع بين الأمور المخير بينها:
خصال كفارة اليمين، فإننا نعلم أن الخطاب قد تعلَّق بها على سبيل
التخيير بينها، والواجب يسقط بفعل واحد منها، ولكن يندب له
الجمع بين " الإطعام " و " الكسوة " و " العتق " زيادة له في الثواب.
لكن هنا سؤال وهو: أن المكلَّف إذا جمع بين تلك الخصال -
وهي: الإطعام، والكسوة، والعتق - فثواب الواجب هل يكون
على أعلاها أو على أدناها، وما زاد نافلة، وكذلك إذا ترك الجميع
هل يأثم بترك أدناها، أو أعلاها؟
جوابه:
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب، إليك أهمها:
المذهب الأول: أنه إذا فعل الجميع أثيب ثواب أعلاها، والباقي
ندب، وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب، فانصرف الواجب
إلى أعلاها، تكثيراً لثوابه.
وإذا ترك فعل الجميع عوقب على أدناها " ليقل وباله ووزره.
دهب إلى ذلك ابن برهان، وابن السمعاني، وهو قول للباقلاني.
المذهب الثاني: أنه إذا فعل الجميع، فإن الذي يقع واجباً هو
العتق، فإنه أعظم ثواباً؛ لأنه أنفع وأشق على النفوس، وهو
محكي عن القاضي الباقلاني.
المذهب الثالث: أنه يثاب ثواب الواجب على أدناها؛ لأنه لو
اقتصر عليه أجزأه، ويثاب على ما زاد ثواب التطوع.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف هنا لفظي، حيث إن العمل لا يختلف باختلاف هذه
المذاهب.
المسألة السادسة: الواجب غير المؤقت:
أولاً: بيانه، والأمثلة عليه:
الفعل الواجب على المكلََّف قد يحدد الشارع وقتاً معينا لإيقاعه فيه.
وقد لا يحدد الشارع لفعله وقتاً معيناً.
فالأولى - وهو الذي حدد الشارع له وقتاً معيناً لأدائه وإيقاعه فيه
يُسمَّى " واجباً محدداً " أو " واجباً مؤقتاً ".
وسيأتي بيانه بالتفصيل.
أما الثاني، وهو: الذي لم يحدد الشارع وقتاً معيناً لفعله، فإنه
يُسمَى واجباً مطلقاً، أو " واجباً غير مؤقت ".
أي: أنه الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من المكلَّف طلباً جازماً،
ولم يحدد وقتاً معيناً لأدائه وإيقاعه فيه.
مثل: كفارة اليمين، حيث إنها واجبة مطلقة، أي: أن الشارع
لم يحدد وقتاً معيناً يجب على المكلَّف أن يؤديها فيه، بل أطلقها
وترك تحديد وقتها للمكلَّف.
كذلك الوفاء بالنذر، فإن الوفاء واجب مطلق، حيث لم يحدد
الشارع وقت هذا الوفاء، بل تركه لاختيار المكلََّف.
وكذلك الحج عند بعض العلماء، وقضاء العبادات التي فاتت من
غير تقصير من المكلََّف، فإن جميع ذلك تجب في جميع العمر،
وليست نهايته معلومة للمكلَّف.
ثانياً: متى يتضيق الوقت - هنا -؟
يتضيق الوقت إذا غلب على ظن المكلَّف عدم البقاء إلى آخر
الوقت، فيجب عليه - حينئذ - أن يفعل ذلك الواجب قبل ذلك
الوقت الذي غلب على ظنه عدم البقاء إليه، لأنه لا يمكن أن يؤخر
الفعل مطلقاً، لأنه يقتضي أن لا يكون واجباً.
فلا بد من تأخير الفعل إلى زمن معين لا يجوز التأخير عنه، ولا
يمكن ذلك إلا إذا عين هذا الزمن بعلامة أو أمارة، ولا يوجد معين
لذلك سوى أن يغلب على ظنه عدم البقاء إلى آخر الوقت.
وبناء على هذا فإن المكلف يعصي في هذا بمجرد التأخير عن وقت
يظن عدم بقاءه بعده.
ثالثاً: هل يعصي بالموت هنا؟
إذا لم يغلب على ظنه الموت في وقت محدَّد، ثم أخَّر فعله بدون
عذر، فمات فهل يعصي؟
اخنلف في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول: أن المكلَّف إذا أخَّر الواجب غير المؤقت حتى مات
مع قدرته على فعله في حياته، فإنه يعصي.
ذهب إلى ذلك أكثر العلماء.
وهو الصحيح عندي " لأن المكلَّف كان يمكنه المبادرة، وفعل
الواجب أثناء حياته فلم يفعل، فالتمكن موجود، والوجوب محقق
مع التمكن فيعصي.
المذهب الثاني: أنه لا يعصي، وهو مذهب بعض العلماء.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أنه لما أخر فعل الواجب غير المحدد فإنه قد فعل ما
له فعله.
ذكر ابن السمعاني: أن هذا كان ينتظر تضييق الوقت غير المحدد
عليه بغلبة الظن، وذلك أمر معهود بيِّن في غالب أحوال الناس،
فإن اخترمته المنية من قبل أن يبلغ المعهود: لم يكن عليه عتب ولم
يعص، لأنه كان على عزم إذا تضيق لا يؤخر.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا المكلف قد ترك واجباً عليه إلى أن مات مع
قدرته على فعله قبل موته، فلا يوجد له عذر، فيكون عاصياً.
أما ما اعتاده الناس فلا يلزمنا.
الدليل الثاني: القياس على الواجب الموسَّع، بيانه:
أنه كما أن مؤخر الصلاة عن أول وقتها إلى آخر وقتها في الواجب
الموسع لا يعصي لو مات قبل الفعل، فكذلك مؤخر الواجب المطلق
لا يعصي لو مات قبل الفعل.
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق.
ووجه الفرق: أن وقت الواجب الموسَّع قصير، أما وقت
الواجب المطلق فهو طويل، لأنه العمر كله كما سبق.
المذهب الثالث: التفريق بين الشيخ والشاب.
فالشيخ الكبير يعصي إذا أخَّر ثم مات.
أما الشاب فلا يعصي إذا أخَّر ثم مات.
وهو اختيار الغزالي.
وفسَّر بعض العلماء التأخير المستنكر ببلوغه نحواً من خمسين، أو
ستين، لأن العمر في الأغلب من الناس ستون لقوله صلى الله عليه وسلم:"أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ".
جوابه:
يجاب عنه بأن هذا لا ضابط له، فقد يكون الشيخ أكثر صحة من
الشاب، وكم من شيخ قد ورث بعض أولاده، أو كلهم.
فإن قيل: إن هذا المذهب ورد على الأغلب في أحوال الناس.
قلت: هذا صحيح، ولكن مذهبنا - وهو المذهب الأول - أقوى
منه، لما قلناه من الاستدلال، ولما فيه من الاحتياط. والله أعلم.
المسألة السابعة: الواجب المضيًّق، والواجب الموسَّع:
أولاً: أقسام الوقت الذي حدده الشارع:
الفعل الواجب على المكلَّف قد لا يحدد الشارع وقتا معيناً لإيقاعه
فيه، وقد يحدد الشارع لفعله وقتا معينا.
فالأول - وهو الذي لم يحدد الشارع له وقتا معينا لأدائه وإيقاعه
فيه -: يُسمَّى واجباً مطلقا مثل كفارات الأيمان، وقضاء ما فاته من
صيام رمضان عند الحنفية، والواجب بالنذر المطلق - وقد سبق بيانه.
والثاني - وهو الذي حدد الشارع له وقتا معينا لأدائه فيه - يسمى
واجبا مؤقتاً.
والوقت الذي حدًّده الشارع لإيقاع وأداء الواجب فيه ينقسم إلى
ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون وقت الفعل أنقص من الفعل، بحيث إن
الوقت لا يمكن إيقاع الفعل كله فيه، فهذا لا يجوز التكليف به؟
لأنه تكليف بما لا يطاق، إلا إذا كان القصد من التكليف بالفعل في
هذا الوقت الناقص هو: ابتداء الفعل فيه، ثم إكماله بعد هذا
الوقت، بحيث إذا لم يبتد الفعل في هذا الوقت يكون قضاؤه واجبا
عليه، فالتكليف به من هذه الناحية جائز عقلاً، وواقع شرعا، فإن
الصبي إذا بلغ وقد بقى من الوقت ما يسع ركعة، والمجنون إذا أفاق
من جنونه وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، والحائض إذا انقطع
حيضها وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، فإن هؤلاء الثلاثة تجب
عليهم الصلاة، فإذا لم يبتدئها كل منهم في الوقت الباقي وجب
عليهم القضاء.
القسم الثاني: أن يكون وقت الفعل مساويا له، أي: أن يكون
الوقت الذي حدَّده الشارع لفعل الواجب فيه على قدر الفعل،
بحيث لا يزيد عن الفعل، ولا ينقص عنه كصوم رمضان، ويُسمَّى
هذا ب " الواجب المضيَّق ".
القسم الثالث: أن يكون وقت الفعل أزيد من الفعل، بحيث إن
الوقت يسع الفعل عدة مرات، وهذا الذي يُسمَّى بـ " الواجب
الموسَّع ".
ونظراً لعدم وقوع التكليف في القسم الأول، فإنه لم يبق إلا
القسمان: " الثاني ": وهو الواجب المضيق، والثالث: وهو
الواجب الموسَّع.
ثانياً: تعريف الواجب المضيق والواجب الموسع مع الأمثلة عليهما:
الواجب المضيق - كما قلنا فيما سبق -: ما كان وقته يسعه ولا
يسع غيره من جنسه.
أي: هو: ما ألزم الشارع المكلف بفعله في وقت مساو لوقت
أدائه وإيقاعه بلا زيادة أو نقصان مثل صيام يوم من رمضان، فالشارع
ألزم المكلف الذي لا عذر له بصيامه، واليوم يبدأ من الفجر الصادق
إلى غروب الشمس، وهذا الوقت الذي بينهما له لوحده لا يتسع
لفعل شيء آخر معه، ويكون الفعل باطلاً لو فعله قبل الوقت،
ويكون قضاء لو فعل بعد الوقت لعذر، ولا يقع معه في وقته غيره
من جنسه.
والواجب المضيَّق اتفق العلماء على ثبوته.
أما الواجب الموسع فهو: ما كان وقته واسعا لأدائه وأداء غيره من
جنسه.
أي: هو: " الفعل الذي طلب الشارع من المكلف إيقاعه وأداءه
طلبا جازما في وقت يسعه ويسع غيره من جنسه " مثل: صلاة
الظهر، فإن الشارع قد ألزم المكلف بفعلها في وقت محدد يزيد عن
وقت أدائها بحيث يمكن فعلها، وفعل غيرها من جنسها في ذلك
الوقت.
ثالثا: الواجب الموسع هل هو ثابت؟
لقد اختلف العلماء في ذلك الواجب الموسع هل هو ثابت أو لا:
على مذهبين:
المذهب الأول: أن الواجب الموسع ثابت، ويكون وقت أداء
الواجب الموسع هو جميع الوقت.
أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في أيِّ
جزء من أجزاء وقته على حسب اختيار المكلف.
فيكون المكلف مخيراً في أن يوقع الفعل في أول الوقت، أو في
وسطه، أو في آخره.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهذا هو الصحيح، للأدلة التالية:
الدليل الأول: قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) .
وجه الدلالة: أن هذا الأمر عام يتناول جميع أجزاء الوقت
المذكور من غير إشعار بالتخصيص ببعض أجزائه.
فليس المراد من الأمر تطبيق أول فعل الصلاة فى أول الوقت وآخر
الفعل في آخر الوقت؛ لأن هذا خلاف الإجماع.
وليس المراد من الأمر: إقامة الصلاة في كل وقت من أوقاته، فلا
يخلو جزء من الوقت من الصلاة، فهذا - أيضاً - خلاف الإجماع.
وليس المراد من الأمر: تعيين جزء من الوقت لاختصاصه بوقوع
الواجب فيه؛ لأن اللفظ الوارد في الآية عام، ولا يوجد مخصص.
فلم يبق إلا أن يكون المراد من الأمر هو: أن كل جزء من الوقت
صالح لوقوع الواجب فيه باختيار المكلف، ضرورة امتناع قسم آخر.
الدليل الثاني: أن جبريل عليه السلام قد صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم أول الوقت وآخره، ثم قال له - بعد ذلك -: " يا محمد: هذا
وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين "،
وفى رواية: "الوقت ما بينهما ".
وجه الدلالة: أن اللَّه - تعالى - حينما فرض الصلاة أتى جبريل
- علمه السلام - إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه أوقاتها وأفعالها، فصلى به مرة في أول وقتها، وصلى به مرة أخرى في آخر وقتها، فقال
- حينئذ -: " الوقت ما بين هذين "، وهذا يفيد تخيير المكلَّف في
أداء الصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت المحدد لها، أي: أن
الإيجاب يتناول جميع أجزاء الوقت، وليس تعيين بعض أجزاء
الوقت للوجوب بأوْلى من تعيين البعض الآخر.
الدليل الثالث: العقل دلَّ على ثبوت الواجب الموسَّع، بيانه:
أن السيد لو قال لعبده: " قد أوجبت عليك بناء هذا الجدار في
هذا اليوم في أي جزء منه، إن شئت في أوله، أو في وسطه، أو
في آخره، فمهما فعلت: تكون قد امتثلت أمري، وإن لم تفعل:
تكون قد خالفت أمري " كان هذا الكلام معقولاً، ولا يمكن أن
يقدح في صحته أحد.
فلا يمكن أن يقال: إن السيد لم يوجب على العبد شيئاً؛ لأن
العبارة واضحة أنه أوجب عليه فعل شيء.
ولا يمكن أن يقال: إن السيد قد أوجب على العبد بناء الجدار في
وقت واحد فقط فضيق عليه، لأنه صرح بالتوسع، حيث قال له:
" إن شئت في أوله، أو في وسطه، أو في آخره ".
فلم يبق إلا أنه أوجب عليه بناء الجدار في ذلك اليوم ووسع عليه
في هذا الإيجاب بدليل لفظه في المثال، مما يدل على تخييره في
الوقت.
الدليل الرابع: قياس الواجب الموسع على الواجب المخير، بيانه:
كما أنه جاز التخيير بين أفراد الواجب في الواجب المخير كخصال
كفارة اليمين - إما الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق - كذلك
يجوز التخيير بين أجزاء الوقت في الواجب الموسع كالصلاة، فإن
الصلاة في أول الوقت كالصلاة في وسطه، والصلاة في آخره، ولا
فرق بينها في سقوط الغرض وحصول المصلحة.
المذهب الثاني: إنكار الواجب الموسَّع.
أي: عدم وجود واجب موسع في الشريعة، بل إن الإيجاب
متعلِّق في وقت معين، وهو أول الوقت، أو آخره - كما سيأتي
تفصيل الخلاف فيه:
دليل هذا المذهب:
استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن التوسع ينافي ويناقض
الوجوب.
أي: أن الوجوب مع التوسعة يتنافيان؛ لأن الواجب لا يجوز
تركه، وهذا يجوز تركه عن الوقت الذي وصفتموه بالوجوب فيه،
وهو أول الوقت وآخره، فلا يكون للواجب الموسع حقيقة.
قال ابن العربي في " المحصول " - مبينا ذلك -: " إن جواز
التأخير مع خيرة المكلَّف بين الفعل والترك يضاد الوجوب ".
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أننا لم نجوِّز ترك الفعل في أول الوقت مطلقا،
بل جوَّزنا ترك الفعل في أول الوقت بشرط العزم على الفعل في آخر
الوقت.
الجواب الثاني: أن جواز التأخير إنما يضاد الواجب المضيَّق، أما
الواجب الموسع فلا، لأنه يجوز ترك فعل الواجب الموسع في أول
وقته، وفعله في وسطه، أو في آخره، حيث إنه مخير بين أجزاء
الوقت الموسع، قياسا على الواجب المخير، بيان ذلك:
أن الواجب الموسع يرجع - في حقيقته - إلى الواجب المخير
- كما قلنا سابقاً -، لأن الفعل واجب الأداء في وقت " ما ": إما
في أوله، أو وسطه، أو آخره، فجرى ذلك مجرى قولنا في
الواجب المخير: " إن الواجب إما هذا أو ذاك ".
فكما أنا نصف الخصال بالوجوب على معنى: أنه لا يجوز
الإخلال بجميعها، ولا يجب الإتيان بها جميعاً، وإنما تجب خصلة
واحدة غير معينة، فكذلك هنا: يجب على المكلف أن يفعل ما
وجب عليه في أي وقت شاء من هذا الوقت المحدَّد: إما في أوله،
أو في وسطه، أو في آخره، ونحن لم نوجب الفعل في أول
الوقت بخصوصه حتى يورد علينا جواز إخراجه عنه، بل خيَّرناه بينه
وبين ما بعده.
رابعاً: فرق منكري الواجب الموسع، وأدلة كل فرقة مع الجواب
عنها:
إن المنكرين للواجب الموسع قد اتفقوا على إنكاره، ولكنهم
اختلفوا - فيما بينهم - في أي جزء من الوقت يتعلق الإيجاب؟
على فِرَق:
الفرقة الأولى قالت: إن الوجوب متعلِّق بأول الوقت.
أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في
الجزء الأول من أجزاء الوقت، فإذا مضى من الوقت ما يسع الفعل
ولم يفعل المكلف الواجب فيه، وفعله في غيره من أجزاء الوقت:
كان هذا الفعل قضاء، لا أداء.
نسب هذا إلى بعض الشافعية، وإلى بعض المتكلمين:
قلت: لقد بيَّنت في كتابي " الواجب الموسع عند الأصوليين " أن
كثيراً من الشافعية قد أنكروا أن يكون هذا في مذهبهم، وذكرت أن
الشافعية قد اختلفوا في السبب الذي من أجله عزي هذا إلى
مذهبهم، وأطلت الكلام عن هذا، وحققت القول فيه، فارجع إليه
إن شئت.
أدلة هذه الفرقة على أن الوجوب متعلق بأول الوقت:
الدليل الأول: قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها كعرض السماء والأرض) ، وقوله:(فاستبقوا الخيرات)، وقوله:(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض) .
وجه الدلالة: أن اللَّه قد أمرنا في هذه الآيات بالاستباق إلى الخير،
والمسارعة إليه، ولا شك أن فعل الواجب في وقته مسارعة واستباق
إلى الخير، فمن أخَّره عن أول وقته يكون مخالفاً لذلك الأمر.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بأن تلك الآيات الدالة على الاستباق
والمسارعة لا دلالة فيها على المطلوب، وذلك لأن دلالتها على
المسارعة والاستباق إلى أسباب المغفرة ثبت عن طريق الاقتضاء،
والمقتضى لا عموم له.
ولئن سلمنا أن للمقتضى عموما، فإننا لا نسلِّم أن هذا الأمر
للوجوب، بل هو للندب؛ لأمرين:
أولهما: الإجماع على ذلك.
ثانيهما: أنه لو كان للوجوب للزم منه تخصيصات لا حصر لها،
وهو خلاف الأصل.
وإذا ثبت ذلك لم تكن الآيات دالة على اختصاص الوجوب بأول
الوقت، بحيث لا يجوز التأخير عنه، بل يجوز التأخير عنه بشرط
العزم على فعله في آخر الوقت، ونحن نقول به.
الدليل الثاني: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الصلاة في أول الوقت رضوان، وفي آخره عفو اللَّه ".
وجه الدلالة: أن هذا النص اقتضى أن فعل الصلاة في آخر
الوقت معصية تتطلب العفو، ولو كان المكلَّف مخيراً بأي جزء من
هذه الأجزاء وقع الفعل فيه: لما كان تأخيره للواجب عن أول الوقت
موجباً للعفو والغفران، لأن العفو إنما يكون عن ذنب أو معصية،
وبذلك يكون الحديث دالاً على أن وقت الفعل هو الجزء الأول منه،
وما بعده وقت لقضائه.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الحديث فيه يعقوب بن الوليد، وهذا قد
كذَّبه الإمام أحمد، وسائر الحُفَّاظ، وقال ابن حبان: " ما رواه إلا
يعقوب، وكان يضع الحديث على الثقات "، وأخرجه الدارقطني
بسند ضعيف.
فإذا ثبت ذلك فلا يصح الاحتجاج بالحديث على إثبات قاعدة
أصولية كهذه، وهي:" أن الوجوب متعلق بأول الوقت ".
الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث، فإنه يفيد الترغيب
في المبادرة لأداء الصلاة في أول وقتها، فيكون المراد بالعفو هنا: هو
العفو عن تقصير المكلَّف عن الأداء الأفضل للواجب.
الدليل الثالث: إن أوقات الصلوات أسباب، والأصل ترتب
المسببات على أسبابها، فإذا وجد السبب يجب أن يوجد المسبَّب
فوراً، فيتعلَّق الوجوب بما تحققت به سببيته، وهو أول الوقت،
وحينئذٍ الواقع بعد ذلك قضاء سدَّ مسدَّ الأداء.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: إن هذا الكلام لا ينافي مذهبنا وهو: ثبوت
الواجب الموسع، وذلك لأننا رتبنا الوجوب على أول الوقت، أي:
يبدأ فعل الواجب من أول الوقت إلى آخر الوقت، وهذا هو مذهبنا.
الجواب الثاني: أن قولكم: " إن الواقع بعد أول الوقت قضاء
سد مسد الأداء " مخالف للإجماع، قال الآمدي في الإحكام:
"الإجماع منعقد على أن ما يفعل بعد ذلك الوقت ليس بقضاء، ولا
يصح بنية القضاء ".
الفرقة الثانية قالت: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت.
أي: أن الإيجاب يقتضي إيقاع الفعل في الجزء الأخير من أجزاء
الوقت، ويكون أوله سبباً للوجوب.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وهم بعض مشائخ العراق من
الحنفية.
أدلة هذه الفرقة:
الدليل الأول: أن حقيقة الواجب هو: ما ذم تاركه، أو ما
يعاقب على تركه، ومعروف أن الصلاة يعاقب على تركها إذا أضيفت
إلى آخر وقتها؛ لأنه لو تركها خرج الوقت وعليه القضاء، ويكون
عاصياً بذلك؛ لأنه أخرج الصلاة عن وقتها بالعمد، ونتيجة لذلك
تكون الصلاة إذا أضيفت إلى آخر وقتها واجبة؛ لأنه يعاقب على
تركها، ولكن إذا أضيفت إلى أول وقتها، أو وسطه، فإن المكلف
مخير بين فعلها؛ تركها، وإن فعلها فهو أفضل، وهذا هو حد
الندب؛ لأنه يجوز تركه، وكل ما جاز تركه في وقت فليس بواجب
فيه، وإذا ثبت أنه غير واجب في أول الوقت، ولا في وسطه فهو
واجب في آخره؛ لعدم جواز تركه، وإلا لكان لها وقت آخر غير
المضروب لها.
جوابه:
يمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إن أقسام الفعل ثلاثة:
القسم الأولى: فعل لا يعاقب على تركه مطلقاً، وهو المندوب.
القسم الثاني: فعل يعاقب على تركه مطلقاً، وهو الواجب
المضيق.
القسم الثالث: فعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع
الوقت - أوله، وأوسطه، وآخره - ولا يعاقب على تركه بالإضافة
إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا القسم الثالث لا يمكن أن نسميه
مندوباً؛ لأن المندوب لا يعاقب تاركه مطلقاً، ولا يمكن أن نسميه
واجباً مضيقاً؛ لأن الواجب المضيق يعاقب تاركه مطلقاً.
إذن: هذا القسم يحتاج إلى اسم يُسمَّى به غير " الواجب المضيق "
وغير " المندوب "، وأحسن عبارة تقال فيه هي:"الواجب الموسَّع "،
فإن قلتم: لماذا سميتموه بهذا الاسم؟
قلنا: سميناه واجبا؛ لأن المكلَّف يعاقب على تركه بالجملة.
وسميناه " موسَّعاً "؛ لحصول التوسعة في وقته عن قدر فعله،
ويجوز للمكلَّف تأخيره إلى آخر وقته.
اعتراض على هذا الجواب:
لقد اعترض بعضهم على ذلك الجواب بقوله: إن القسم الثالث
وهو الذي سميتموه بالواجب الموسَّع هو في حقيقته داخل ضمن
الواجب المضيق والمندوب، بيان ذلك:
أن المكلف إذا فعل الصلاة في أول وقتها، فهذا الفعل يكون
مندوباً، لأنه يجوز للمكلف ترك الفعل، وما يجوز تركه فهو الندب.
وإن فعل المكلف الصلاة في آخر الوقت، فإن هذا الفعل يكون
واجباً مضيقاً؛ لأنه لا يجوز له ترك الفعل، وما لا يجوز تركه فهو
الواجب المضيق.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن قولكم في حدِّ الندب:
" إنه ما يجوز تركه " ليس بصحيح، بل إن الصحيح في حد الندب:
" أنه ما يجوز تركه مطلقا " أي: من غير شرط.
أما القسم الثالث - وهو ما سميناه بـ " الواجب الموسَّع - فهو
"الذي لا يجوز تركه مطلقا " أي: هو " الذي يجوز تركه بشرط ".
وهذا الشرط: إما الفعل في أول الوقت، أو العزم على الفعل
في آخر الوقت.
أي: يجوز للمكلف أن يترك الفعل في أول الوقت بشرط
أن يفعل بعده مباشرة، أو أن يعزم على الفعل في آخر الوقت،
لكن لا يجوز له ترك الفعل مطلقا، بخلاف المندوب فإنه يجوز تركه
مطلقا.
اعتراض على هذا الجواب:
لقد اعترض بعضهم على هذا الجواب قائلاً: إنكم قلتم: إن
العزم هو بدل عن الصلاة في أول وقتها، وهذا غير مسلَّم؛ لأمرين:
الأول: أنه معروف أن البدل يكون نائبا عن المبدل، والعزم
- فقط - لا يكفي عن الفعل.
الثاني: أن الأبدال لا يجوز إثباتها من غير دلالة عليها.
جوابه:
يجاب عن الأول: بأن العزم ليس بدلا عن أصل الوجوب ونفس
الفعل، بل هو بدل عن تقديم الفعل فقط، وما دام الأمر كذلك،
فإن العزم يصلح أن يكون بدلا، والفعل لم يتغير سواء وقع في أول
الوقت، أو في آخره بدليل: تساوي الثواب والأجر.
ويجاب عن الثاني: بأن الدليل على أن العزم هو بدل: القياس
على الواجب المخيَّر، فكما أنه لا يجوز ترك أي خصلة من خصال
الواجب المخيَّر إلا بشرط النية على فعل غيرها، فكذلك لا يجوز أن
يترك الفعل في أول الوقت - في الواجب الموسع - إلا بشرط العزم
على فعله في الجزء الأوسط، أو الأخير.
الدليل الثاني - من أدلة القائلين: إن الوجوب متعلق بآخر
الوقت -: أن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز تأخيرها عن آخر
الوقت من غير عذر، وذلك يدل على أنها واجبة فيه، لا في أول
الوقت، وحينئذ يحتمل أن يكون فعلها في أول الوقت ندبا يسقط
الفرض عنده، أو يكون فعلها كالزكاة المعجلة.
جوابه:
يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن ذلك يدل على أنه وقتها
المضيق، ولا يدل على أنها غير واجبة في غيره بصفة التوسع؛ لأن
كون الشيء واجبا بصفة التضييق في وقت لا يدل على أنه غير واجب
في غيره على وجه التوسع..
أما قولكم: " يحتمل أن يكون فعله ندبا في أول الوقت يسقط
الفرض عنده "، فهذا باطل؛ لأمرين:
أولهما: أنه لو أدى الفرض بنية الندب لم يقع الوقع إجماعا.
ثانيهما: أن سقوط الفرض عند أداء الندب بعينه لم يعهد مثله في
الشرع.
أما قولكم: " أو يكون فعلها كالزكاة المعجَّلة " فهو باطل
- أيضا -؛ لأن قياس الصلاة في أول وقتها على تعجيل الزكاة قياس
فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيان ذلك:
أن تعجيل الزكاة لم يحصل بحكم الأمر المقتضي للوجوب، وإنما
حصل بحكم الأمر المقتضي للرخصة وهو: ما ورد أن العبَّاس
رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل الزكاة قبل أن تحل فرخص له في ذلك.
بخلاف الصلاة؛ فإنها تفعل في أول الوقت بالأمر الذي تفعل في
آخره، فالنية واحدة في الصلاة سواء صلاها في أول الوقت، أو
صلاها في آخره، ولم يفرق أحد من السلف بين النيتين.
أما الزكاة فإنها تجب قبل حولان الحول بنية التعجيل حسب الأمر
المقتضي للرخصة - فقط -، أما لو أخرها بعد كمال الحول، فإنها
تجب بنية الأمر المقتضي لوجوب الزكاة، وفرق بين النيتين.
اختلاف القائلين بهذا المذهب في تقدير وقت الوجوب:
لقد اختلف القائلون: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت في تقدير
وقت الوجوب على قولين:
القول الأول: إن الوقت هو ما يسع جملة الصلاة، وينقضي
بانقضائها، وهو قول الإمام زفر، وجماعة من الحنفية.
القول الثاني: إن الوقت هو ما يسع تكبيرة الإحرام.
اختلاف القائلين بهذا المذهب فيما إذا أوقع المكلف الفعل في غير
الجزء الأخير.
لقد اختلف القائلون: إن الوجوب متعلِّق في آخر الوقت في
مسألة وهي: إذا أوقع المكلَّف الفعل في أول أو وسط الوقت ما
حكمه؛ على قولين:
القول الأول: أن الفعل يقع نفلاً يسقط به الفرض.
حكى هذا عن بعض مشائخ الحنفية العراقيين.
دليل هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بأنه لو كان الفعل واجباً في أول
الوقت: لما جاز تأخيره عنه إلا إلى بدل، وقد جاز تأخيره عنه بغير
بدل، فثبت أنه فيه نفل.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ أنه يجوز تركه بغير بدل، فقد
ذهب أكثر المثبتين للواجب الموسع إلى أنه لا يجوز ترك الفعل في
أول الوقت إلا إذا كان عازماً على فعله في آخر الوقت، وهذا هو
البدل.
القول الثاني: أن المكلَّف إذا أدَّى الفعل في أول الوقت فهو
موقوف، فإذا جاء آخر الوقت، وهو على صفة التكليف - بأن كان
عاقلاً مسلما خاليا من الموانع - كان ما فعله في أول الوقت واجبا،
وإن جاء آخر الوقت، وقد زالت عنه صفة التكليف - بأن جن، أو
نزل بامرأة حيض، أو نحو ذلك -: كان الفعل الذي فعله في أول
الوقت نفلاً.
ونسب هذا إلى الكرخي، ويسمى هذاب " المراعاة ".
وذكرِ بعض العلماء كالزركشي في " تشنيف المسامع ": أن
الكرخي قال ذلك فراراً مما ورد على أصحابه الحنفية من تعلق
الوجوب بآخر الوقت من إجزاء النفل عن الفرض، فاختار هذه الطريقة.
جوابه:
أقول - في الجواب عنه -: إن هذا المذهب ضعيف؛ لأن كون
الفعل حالة الإيقاع لا يوصف بكونه فرضا ولا نفلاً خلاف القواعد
الشرعية.
ثم كيف ينوي هذه الصلاة؛ فهذا القول خلاف الإجماع؛ حيث
أجمع السلف على أن من فعل الصلاة في أول الوقت، ومات في
أثنائه أنه أدى فرض اللَّه، وأثيب ثواب الواجب كما حكى ذلك
الآمدي في الإحكام.
الفرقة الثالثة قالت: إن الوجوب يتعلق بالجزء الذي يتصل به
الأداء، وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا يفضل عنه.
وبعضهم عبَّر عنه بقوله: " إذا اختار وقتا تعيَّن إلى أن يضيق
فيتعين بالتضييق ".
حكي هذا عن أبي الحسن الكرخي وبعض العلماء.
دليل هذه الفرقة:
استدل هؤلاء على ذلك: بأن سبب الوجوب كل واحد من أجزاء
الوقت بطريق البدلية إن اتصل به الأداء، وإلا فآخره، إذ يستحيل أن
يكون جميع الوقت سبباً وإلا لزم الوجوب بعده.
وكذا يستحيل أن يكون أوله سبباً، أو آخره، لاستحالة تأخر
المسبَّب عن السبب وتقدمه عليه؛ إذ يجوز الأداء في آخر الوقت،
ولا يأثم به، ويجوز الأداء - أيضاً - في أوله، فلم يبق السببِ إلا
الجزء الذي اتصل الأداء به، أو آخره.
جوابه:
يقال في الجواب عنه - ماذا يراد بعبارة -: " إن الوجوب يتعلَّق
بالجزء الذي يتصل به الأداء "؟
إن كان المراد منها: أن وقته بطريق البدلية، أي: أن الأمر يقتضي
إيقاع الفعل في أحد أجزاء الوقت، لا بعينه، فإذا اتصل الفعل
بأحد أجزائه تبينا سقوط الفرض به، فهذا صحيح، وهو الذي نقول
به " حيث إنا قلنا - فيما سبق -: إن حاصل الواجب الموسع يرجع
في الحقيقة إلى الواجب المخيَّر.
وإن كان المراد منها: أنا نتبين عند الأداء أن ذلك وقته، وإن ما
سوى ذلك لم يكن وقته: فهذا غير صحيح، وذلك لمخالفته الأدلة
الصحيحة على أن الوقت موسع، أوله، ووسطه، وآخره، وقد سبق.
وإن كان المرإد منها غير ذلك فلا بدَّ من التصريح بذلك حتى يمكن
أن نقبله، أو نرده بالأدلة.
وأما قولهم - في الاستدلال -: " أول وقته لا يجوز أن يكون
سبباً للوجوب وإلا لزم تأخر المسبَّب عن السبب ": فيمكن أن يجاب
عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، فإن أول الوقت سبب للوجوب على وجه
التوسع، وقد تحقق ذلك معه، فلا يلزم تراخي المسبب،
والاستدلال بجواز التأخير على عدم الوجوب باطل.
تنبيه: هناك فرق - من فرق منكري الواجب الموسَّع - قد تركت
ذكرها، لأحد أمرين:
إما لأنها متداخلة مع المذاهب السابقة.
وإما لضعفها الشديد.
وقد ذكرت ذلك بإسهاب وأدلة كل فرقة مع الجواب عن ذلك في
كتابي: " الواجب الموسع عند الأصوليين "، فارجع إليه إن شئت.
بيان نوع الخلاف:
لبيان ذلك لا بد من التفصيل الآتي:
الخلاف الأول: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب
الموسع - وبين الفرقة الأولى - وهم بعض السافعية القائلين: إن
الوجوب متعلِّق بأول الوقت - هذا الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأن
القائلين بأن الوجوب متعلِّق بأول الوقت يجوِّزون فعله في وسط وآخر
الوقت، ويقولون: إنه قضاء سدَّ مسدَّ الأداء، وهذا متفق في المعنى
مع مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء المثبتين للواجب الموسَّع.
الخلاف الثاني: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب
الموسع - وبين الفرقة الثانية - وهم بعض الحنفية القائلين: إن
الوجوب متعلِّق بآخر الوقت - هذا الخلاف اختلف فيه على قولين:
القول الأول: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، وذلك لأن القائلين:
إن الوجوب متعلق بآخر الوقت يجوِّزون فعله في أول الوقت، وإنما
الخلاف في تسميته واجباً.
القول الثاني: إن الخلاف معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية:
ْوهذا هو الصحيح عندي، لأنه بعد استقراء وتتبع بعض المسائل
الفقهية وجد أنها تأثرت بهذا الخلاف، وإليك بعض المسائل في ذلك:
1 -
إذا صلى الصبي في أول الوقت، ثم بلغ قبل انقضاء الوقت
الموسع فهل تجزئه تلك الصلاة، ولا إعادة عليه أم ماذا؟
اختُلِف في ذلك:
فعلى مذهب الجمهور - وهم المثبتون للواجب الموسع - فإن
صلاته التي صلاها في أول الوقت تجزئه، ولا يلزمه إعادتها،
وقالوا - في تعليل ذلك -: إن الوجوب متعلّق في أول الوقت كما
هو متعلّق في آخر الوقت، وهذا الصبي قد بلغ قبل انقضاء زمن
الوجوب، فلا إعادة عليه، كما لو بلغ بعد انقضاء الوقت.
وعلى مذهب بعض الحنفية - وهم القائلون: إن الوجوب متعلِّق
في آخر الوقت - فإن صلاته لا تجزئه، فيلزمه إعادتها، وقالوا - في
تعليل ذلك -: إن الوجوب يثبت بآخر الوقت، وقد صار فيه أهلاً
للوجوب، حيث إنه بلغ فيه، فبان: أن ما أداه أولاً لم يكن في وقته.
2 -
إذا سافر في أول الوقت، أو حاضت المرأة بعد دخول
الوقت، ومضى مقدار الفعل من الزمان فهل يجب الإتمام على
المسافر، أو القضاء على الحائض؟
اختُلِف في ذلك:
فعلى مذهب الجمهور: يجب الإتمام على المسافر، والقضاء على
الحائض؛ لأن كلًّا من المسافر والحائض قد أدرك وقت الوجوب.
أما على مذهب بعض الحنفية - وهم القائلون: إن الوجوب
متعلِّق بآخر الوقت - فإنه لا يجب الإتمام على المسافر، ولا القضاء
على الحائض، لأن الوجوب لم يتحقق في أول الوقت.
الخلاف الثالث: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب
الموسع - وبين الفرقة الثالثة - وهم الذين قالوا: إن الوجوب يتعلَّق
بالجزء الذي يتصل به الأداء وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا
يفصل عنه - خلاف لفظي إن أرادوا من قولهم: " إن وقته المعيَّن هو
ما اتصل به الأداء ": أن ذلك وقته بطريق البدلية.
وقد بيَّنت ذلك هناك.
لكن إن أرادوا بتلك العبارة: أنا نتبين عند الأداء أن ذلك وقته،
وأن ما سوى ذلك لم يكن وقته، فالخلاف بينهم وبين الجمهور
معنوي؛ وذلك لمخالفته مقصود الجمهور المثبتين للواجب الموسع.
وقد بيَّنت ذلك بصورة أوسع في كتابي: " الواجب الموسع عند
الأصوليين "، وكتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "،
فارجع إليهما إن شئت.
خامسا: الاختلاف في اشتراط العزم:
لما رجحنا في المسألة السابقة مذهب الجمهور، وهم المثبتون
للواجب الموسع بالأدلة، اختلف هؤلاء - فيما بينهم - في مسألة
وهي: إذا لم يفعل المكلف الفعل في أول وقته، وأراد فعله في آخر
الوقت، فهل يشترط العزم على ذلك أو لا؟
اختُلِف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: يشترط العزم.
أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في أي
جزء من أجزاء الوقت، فالمكلف مخير في أن يوقع الفعل في أول
الوقت، أو في وسطه، أو في آخره، ولكن لا يجوز ترك الفعل
في أول الوقت إلا بشرط العزم على فعله في وسط أو آخر الوقت،
فإن جاء آخر الوقت وهو لم يفعل الواجب فحينئذ تعيَّن فعله.
ذهب إلى ذلك أكثر المثبتين للواجب الموسع.
وهو الصحيح؛ للأدلة التالية:
الدليل الأول: القياس على الواجب المخيَّر، بيانه:
أنه لا يجوز للمكلف ترك أي خصلة من خصال الواجب المخيَّر إلا
بشرط النية على فعل غيرها، فكذلك لا يجوز أن يترك الفعل في
الجزء الأول من الوقت في الواجب الموسع إلا بشرط العزم على فعله
في الجزء الأوسط، أو الأخير من الوقت.
الدليل الثاني: أن وجوب العزم تابع لبقاء الفعل في الذمة،
ولازم لكل من عليه التكليف دخل وقته أو لم يدخل؛ لأنه إذا لم
يعزم على الفعل مع التذكر، فقد عزم على الترك، وهو معصية،
وترك المعصية واجب، إذن: العزم واجب.
الدليل الثالث: أن العزم لا بد منه إذا ترك فعلاً واجبا عليه مريداً
عمله في آخر وقته، فلذلك أوجب العلماء على المسافر إذا أراد أن
يجمع الظهر مع العصر جمع تأخير: أن يعزم على فعل صلاة الظهر
مع العصر، وإن لم يعزم فيكون تاركاً للصلاة - ضرورة - وهو
حرام.
كذلك المديون لا يجب عليه الأداء في وقت معين -
ما لم يشترط - ولكن يجب عليه العزم على أدائه، وإن لم يعزم على ذلك
فقد فعل محرَّماً.
ومثل ذلك الواجب الموسع إذا ترك فعله في أول وقته، فيجب
عليه أن يعزم على فعله في آخر وقته، وإلا كان تاركاً للفعل مطلقاً،
وهذا لا يجوز.
الدليل الرابع: أن القائل بأنه يجوز تأخير الفعل بدون بدل وهو
العزم يقال له: " لما لم يفعل المكلف الواجب في أول الوقت ما هي
نيته؛ ".
فإن قال: " لا نية له "، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا بد لكل
عبادة من نية.
وإن قال: " إن له نية وهي: أن يعمله فيما بعد ": نقول: هذا
هو العزم على الفعل، وهو المطلوب.
المذهب الثاني: لا يشترط العزم.
أي: يجوز للمكلف تأخير الفعل في الواجب الموسع إلى وسط
الوقت، أو إلى آخره مطلقا، أي: بدون بدل، وذلك إلى أن
يتضيق الوقت بحيث إنه لو لم يشتغل به لخرج بعضه عن الوقت،
فإنه لا يجوز له التأخير إذ ذاك، أو يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل
به في هذا الجزء لفاته في الجزء الثاني من الوقت.
ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين ومنهم الغزالي في " المنخول "،
وإمام الحرمين في " البرهان "، وأبو الحسين البصري في " المعتمد "،
وفخر الدين الرازي في " المحصول "، وأبو الخطاب في " التمهيد"،
والبيضاوي في " المنهاج "، وابن السبكي في " جمع الجوامع "
و" الإبهاج "، وغيرهم.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن المكلََّف الذي أخر الفعل الواجب في وقته
الموسع إلى آخر الوقت لو غفل عن العزم ومات: لم يكن عاصيا،
فلو كان العزم واجبا لعصى بموته وهو تارك له؛ لأن تارك الواجب
عاص.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأنه لم يعض لما ترك الواجب هنا؛ لأنه
غافل، والغافل غير مكلَّف؛ لأنه لا يفهم خطاب الشارع حال
غفلته، فيكون معذوراً بالغفلة، ولذلك لم يعص.
الدليل الثاني: لو كان العزم على الفعل في آخر الوقت بدلا عن
الفعل في أول الوقت: لوجب أن يكون بدلا عن أصل الواجب
حتى لا يجب عليه الفعل، ولما لم يجز أن يكون العزم على الفعل
بدلا عن أصل الوجوب لم يجز أن يكون بدلا عن الفعل في أول الوقت.
جوابه:
يجاب عن ذلك: بأن العزم على الفعل ليس بدلا عن الفعل
مطلقا، وإنما هو بدل عن الفعل في الجزء الذي لم يفعل فيه إلى أن
يبقى من الوقت ما يسع الفعل، وحينئذ يكون الفعل هو المتيقن على
المكلف، وذلك مثل التيمم في الطهارة ينتصب بدلا عن الوضوء في
استباحة الصلاة، ولا ينتصب بدلا عنه في رفع الحدث.
الدليل الثالث: أن العزم على الفعل بدل عن الصلاة في أول
الوقت، ومعروف أن البدل هو: ما يفعل لتعذر المبدل منه، وفعل
الصلاة في أول الوقت ليس بمتعذر، فلا يكون له بدل.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنه وقع في الشريعة حالات يؤتي فيها
بالبدل مع أن المبدل ليس بمتعذر على المكلَّف أن يأتي به، تيسيراً
وتسهيلاً على المكلفين.
من أمثلة ذلك: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين،
وكذلك المسح على العمامة بدل عن مسح الرأس، فهذه يجوز فعلها
مع القدرة على المبدل، وهذا كله من باب الرخص والتسهيل على
المكلفين، والواجب الموسع وسع اللَّه وقت أدائه من باب التيسير
والتسهيل.
ثم إن العزم على الفعل ليس بدلاً عن نفس الصلاة، بل هو بدل
عن تقديم فعلها - فقط -.
الدليل الرابع: أن قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى
غسق الليل) ، وقول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم:"الوقت ما بين هذين "، وكذلك جميع النصوص الواردة في المواقيت يفهم
منها: أن الصلاة واجبة في هذا الوقت المحدد، وليس فيها أي
تعرض لوجوب العزم على الفعل في آخر الوقت إذا ترك فعل
الصلاة في أول الوقت، فإيجاب العزم - حينئذ - يكون زيادة على
النص لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن هذا الدليل لكم يفهم منه. أنكم تطالبوننا
بالاستدلال على اشتراط العزم على الفعل إذا لم يفعل الواجب
الموسَّع في أول الوقت، والمطالبة بالدليل ليست بدليل.
وعلى فرض أن المطالبة بالدليل دليل، فإننا قد أثبتنا أدلة قوية على
اشتراط العزم.
الجواب الثاني: أنا نوافقكم على أن النصوص السابقة لم تتعرض
صراحة لاشتراط العزم على فعل الصلاة في آخر الوقت إن لم تفعل
في أول الوقت، لكن فهم من تلك النصوص: أن الصلاة الواجبة
لا تتم ولا تصح إلا بأحد شيئين:
إما فعلها في أول الوقت.
أو العزم على فعلها في آخر الوقت.
ولا ثالث لهما.
وإذا كانت الصلاة لا تتم إلا بذلك - وهو قد ترك الفعل في أول
الؤقت - فيكون العزم واجباً؛ بناء على القاعدة الأصولية المعروفة:
" ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ".
بيان نوع الخلاف:
الخلاف بين المشترطين للعزم وغير المشترطين خلاف لفظي، لاتفاق
الفريقين على أن المكلَّف لا يترك الفعل في أول الوقت إلا إذا كان
عازما على الفعل في آخر الوقت، وإن لم يصرح أصحاب المذهب
الثاني - وهم المانعون من اشتراط العزم - بذلك؛ لأن وجوب العزم
تابع لبقاء الفعل في الذمة ولازم لكل من عليه التكليف دخل وقته أو
لم يدخل، وذلك لأنه إذا لم يعزم على الفعل مع التذكر، فقد عزم
على الترك، وهو معصية، وترك المعصية واجب.
فأي مكلف عاقل يفهم الخطاب لا يمكن - بأي حال من الأحوال -
أن يترك الفعل في أول وقته مطلقاً، بل تركه، وهو ينوي أن يعمله
في وقت آخر، وهو آخر وقت الوجوب، حيث إنه لو أخَّره عن
ذلك الوقت المحدَّد شرعاً من غير عذر فإنه يأثم، ويجب عليه
القضاء، وهذا متفق عليه بين الفريقين فكان الخلاف في الاصطلاح
واللفظ.
سادسا: حالات تأخير الواجب الموسع إلى آخر وقته:
قلنا - فيما سبق -: إن المكلَّف إذا لم يفعل الواجب الموسع في
أول وقته، وأراد تأخيره إلى آخر وقته، فلا يجوز ذلك التأخير إلا
إذا كان عازماً على فعله في آخر وقته.
لكن هذا التأخير ليس مطلقاً، بل له حالات تختلف باختلاف
ظن المكلَّف، وضيق الوقت، ولكل حالة حكم خاص بها، وإليك
بيان ذلك:
الحالة الأولى: لو أخَّر المكلف الفعل - في الواجب الموسع -
عن أول الوقت مع أنه غلب على ظنه عدم البقاء إلى آخر الوقت:
فإنه يكون عاصياً بترك الفعل في أول الوقت، وإن لم يمت، لأنه قد
تضيَّق الوقت بناء على ظنه الغالب، وترك الواجب في وقته المضيق
بلا عذر عصيان، هذا بالاتفاق.
الحالة الثانية: لو أخَّر المكلَّف الفعل حتى ضاق الوقت عن فعله،
ثم مات ولم يبق إلا الوقت الذي يتسع لأقل من أربع ركعات: فإنه
يموت عاصياً، لأنه لا يجوز تأخير الفعل عن هذا الوقت.
الحالة الثالثة: إذا أخر المكلَّف الفعل في الواجب الموسَّع عن أول
الوقت مع غلبة ظن السلامة، فمات فجأة أثناء الوقت الموسع، مثل
لو مات بعد زوال الشمس، وقد بقي من وقت الظهر ما يتسع لفعلها
وأكثر ولم يصلها، فاختلف العلماء المثبتون للواجب الموسع في
عصيانه على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لم يمت عاصيا.
ذهب إلى ذلك أكثر المثبتين للواجب الموسَّع.
وهو الصحيح؛ وذلك لأن الواجب الموسَّع يجوز تركه في أول
الوقت ليعمله في آخر وقته المحدَّد، وقد جاز الترك مع عدم علمه
بالعاقبة، وإذا كان تركه في أول الوقت ليفعله في آخر وقته جائزاً،
فكيف يعصى؟!.
المذهب الثاني: أنه يموت عاصيا.
ذهب إلى ذلك إمام الحرمين، وأبو الخطاب، والمجد ابن تيمية.
دليل هذا المذهب:
احتج أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يجوز له تأخير الفعل
من أول الوقت إلى آخره بشرط سلامة العاقبة، وهو: أنه يبقى إلى
آخر الوقت فيفعل الواجب.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أنه نقل عن السلف أنهم أجمعوا على عدم
عصيان من مات في أثناء الوقت، وهو لم يفعل الواجب الموسع؟
إذ يعلم من عادتهم بالضرورة أنهم ما كانوا يؤثمون من مات فجأة في
أثناء الوقت إذا كان عازما مصمما على الامتثال.
وإذا ثبت الإجماع على هذا، فالقول بأنهم يعصون قول مخالف
للإجماع فلا يجوز.
الجواب الثاني: أن هذا الشرط لا يسلَّم لكم؛ لأن العاقبة مستورة
عن المكلف، وهي تعتبر من المغيبات التي لا يعلمها إلا اللَّه - تعالى -
فاشتراط مثل ذلك الشرط يفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال
فهو محال؛ لأن سلامة العاقبة غيب لا يعلمه إلا اللَّه عز وجل،
ولم نكلف علمه، ولا بناء الأحكام عليه، لأننا لا نعلم حقيقة هل
يبقى المكلَّف حياً إلى آخر الوقت، فيفعل الواجب أو لا؟
واعلم: أنه لا يجوز للمكلف العزم على تأخير الفعل إلا إلى
زمن يغلب على ظنه السلامة، والبقاء إليه، والعيش فيه كمن أخَّر
فعل الصلاة عن أول وقتها إلى آخر وقتها، ومثل الشاب، أو الشيخ
الصحيح الذي لا يشكو من علَّة إذا أخَّر قضاء رمضان إلى شعبان،
والشاب الصحيح إذا أخَّر أداءَ الحج إلى سنة، أو سنتين - على رأي
من قال بأن الحج من أمثلة الواجب الموسَّع -.
فالظن - إذن - يختلف باختلاف الأحوال وقوى الرجال.
فإذا غلب على ظنه السلامة والبقاء إلى الزمن الذي يريد أن يوقع
الفعل فيه: جاز له تأخير الواجب الموسَّع إليه بمقتضى ذلك الظن
الغالب للبقاء.
وإذا غلب على ظنه عدم البقاء إلى الزمن الذي يريد أن يوقع
الفعل فيه: وجب الإتيان بالفعل قبل ذلك الزمن الذي لا يستطيع
أداء الفعل فيه، لأن الظن - هنا - مناط التعبد، فإن عزم على
تأخير الفعل مع ظنه الغالب في عدم السلامة والبقاء إليه: عصى
بمجرد هذا التأخير، لأنه أخَّر الواجب عن وقته مع القدرة على فعله
مع الظن الغالب من عدم البقاء.
فمثلاً لو عزم المريض المشرف على الهلاك على تأخير قضاء الصوم
شهراً، أو عزم الشيخ الهرم الضعيف على التأخير، وغلب على
ظنهما أنهما لا يعيشان إلى تلك المدة: عصيا بهذا التأخير؛ قياساً
على الشخص الذي عنده وديعة وظن ظناً غالباً بأن النار ستأتي عليها
فتحرقها، ومع ذلك لم يزلها من هذا المكان الخطر فهنا يضمنها؟
لأنه فرط في هذه الوديعة.
فكذا هنا يعصي ويأثم؛ لأنه أخَّر أداء الواجب إلى آخر وقته مع
ظنه الغالب بأنه لا يبقى إلى ذلك الوقت؛ حيث فرط في الوقت
الذي تضيق بسبب ظنه.
سابعاً: إذا فعل المكلَّف الفعل في الوقت الذي غلب على ظنه أنه لا
يعيش إليه، فهل هذا الفعل أداء أو قضاء؟
المكلف إذا غلب على ظنه أنه لن يبقى إلى آخر الوقت في
الواجب الموسَّع، ومع ذلك أخَّره فإنه يعصي بذلك التأخير، لأنه
ترك العمل بالظن الراجح، وعمل بالظن المرجوح، وهذا لا
يجوز؛ لما فيه من التفريط.
لكن لو حصل من المكلَّف أنه أخَّر الواجب الموسع إلى آخر وقته
مع أنه غلب على ظنه عدم البقاء إلى ذلك الوقت، ثم بأن له خطأ
ظنه فبقي - أي: لم يمت - وفعل ذلك الواجب في وقته المحدد له
شرعاً فهل يكون ذلك الفعل قضاء أو أداء؟
فمثلاً: لو أخَّر فعل الصلاة إلى آخر وقتها، مع غلبة ظنه أنه لا
يعيش إلى آخر الوقت، ولكنه عاش وفعل الصلاة في آخر الوقت،
فهل يكون هذا الفعل أداء أو قضاء؟
اختلف المثبتون للواجب الموسَّع
في ذلكْ على مذهبين:
المذهب الأول: أن الفعل أداء، ولا يكون قضاء.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالغزالي، وابن السبكي.
وهو الصحيح؛ لدليلين:
أولهما: أن الفعل قد وقع في وقته المحدد له شرعا، وهذه حقيقة
الأداء.
ثانيهما: أنه بأن خطأ ظنه، ولا عبرة بالظن الذي بأن خطؤه.
المذهب الثاني: أن الفعل قضاء، ولا يكون أداءً.
نسب هذا المذهب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني.
دليل هذا المذهب:
استدل لهذا بأن المكلف لا غلب على ظنه أنه يموت قبل فعله صار
مضيقا في حقه بمقتضى ظنه ذلك، وصار كأن آخر. وقته هو: أول
الوقت الذي ظن أنه يموت فيه، فصار فعله له بعد ذلك خارجا عن
الوقت المضيق، أشبه ما لو فعله بعد خروج الوقت الأصلي المقدر له شرعا.
جوابه:
يجاب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن جميع الوقت كان وقتا للأداء قبل ظن المكلف
تضييقه بالموت، والأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا المكلَّف قد
أوقع الفعل أولاً في وقته المحدد شرعا، وهذا هو الأداء حقيقة،
والظن لا يغير شيئاً في ذلك، إنما أثر الظن في تأثيمه بالتأخير بدون
عزم، ولا يلزم من تأثيمه بالتأخير مخالفة الأصل المذكور، وهو
بقاء الوقت الأصلي وقتا للأداء في وقته.
الجواب الثاني: أن قول القاضي: " إن هذا الفعل قضاء "
يلزم منه أن يوقعه بنية القضاء، وهذا بعيد " لأن وقت الأداء لا زال باقياً،
ولا قضاء في وقت الأداء " لأن القضاء والأداء متنافيان، كل واحد
منهما له وقت يخالف الآخر.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي " لأنه كما هو واضح قد وقع
الخلاف في التسمية، وقيل غير ذلك.
ثامناً: متى يتضيق الوقت في الواجب الموسع؟
هذا سبقت الإشارة إليه، ولكن لا بدَّ من ذكره هنا، تذكيراً
بذلك وحصراً له، ولبيان متى يعصى؟ فأقول:
يضيق الوقت في الواجب الموسَّع بطريقين:
الطريق الأول: بالانتهاء إلى آخر الوقت، بحيث لا ينفصل زمانه عنه.
وبناء على ذلك فإن المكلَّف يعصي بخروج وقته.
الطريق الثاني: بغلبة الظن بعدم البقاء إلى آخر الوقت، فإنه
مهما غلب ذلك على ظنه فإنه يجب عليه الفعل، كما لو كانت المرأة
تعرف أن الحيض يأتيها في ساعة معينة من الوقت، فيتضيق الوقت
عليها، فيجب عليها الفعل قبل ذلك الوقت.
وبناء على ذلك: فإن المكلف يعصي إذا أخَّره عن ذلك الوقت
الذي ظن أنه لا يبقى إليه.
المسألة الثامنة: الواجب المحدَّد، والواجَب غير المحدَّد:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وحكمهما:
الواجب ينقسم بالنظر إلى تقديره وتحديده وعدم ذلك إلى قسمين:
القسم الأول: " واجب محدَّد ".
القسم الثاني: " واجب غير محدَّد ".
أما القسم الأول - وهو: الواجب المحدَّد - فهو: الفعل الذي
طلبه الشارع طلباً جازماً، وقد حدَّده الشارع وقدَّره بمقدار معيَّن،
وفصله عن غيره، مثل: الصلوات الخمس، فقد حُدِّدت كل صلاة
بركعات محدَّدة، ومثل زكاة الأموال، وصيام رمضان، والنذر لمن
حدده، وغسل الوجه، وغسل الرجلين واليدين، ونحو ذلك.
فحكم هذا القسم: أن لا يفعل المكلَّف شيئاً زائداً على الفعل
المحدَّد والمعيَّن، وإذا توقف وجوده، أو العلم بوجوده على شيء:
يكون ما توقف عليه واجباً، لأنه لا تبرأ الذمة إلا بأدائه بمقداره الذي
قدَّره الشارع، وهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما القسم الثاني - وهو: الواجب غير المحدَّد - فهو: الذي لم
يحدده ولم يقدره الشارع بقدر معين مثل: الطمأنينة في الركوع،
والطمأنينة في السجود، ومدة القيام، ومدة القعود، وذلك في
الصلاة، حيث وجبت الطمأنينة في الركوع والسجود، ولكن لم
يقدر الشارع مدة هذه الطمأنينة، كذلك أوجب الشارع فيها القيام
والقعود مدة من الزمن، ولكن لم يحدد ولم يعين الشارع هذه المدة.
فحكم هذا القسم: أن المكلف يستطيع أن يزيد على أقل
الواجب، بحيث تكون هذه الزيادة لا تنفصل عن حقيقة الواجب
مثل: الزيادة في الطمأنينة في الركوع والسجود، والزيادة في مدة
القيام، وفي مدة القعود.
ثانياً: حكم الزيادة على أقل الواجب:
هذه الزيادة التي يزيدها المكلَّف على أقل الواجب
هل هي واجبة أو هي مندوبة؟
اختلف العلماء على مذهبين:
المذهب الأول: أن تلك الزيادة مندوبة.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالغزالي، وفخر الدين الرازي،
والبيضاوي، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الشيرازي،
وأبي عبد اللَّه الجرجاني، وأبي يعلى الحنبلي، وأبي الخطاب.
وهو الراجح عندي؛ لدليلين:
أولهما: أن الواجب هو: الذي لا يجوز تركه إلا بشرط البدل
وهو: العزم على الفعل في آخر الوقت في الواجب الموسَّع، أو
فعل غيره من الخصال المخير بينها في الواجب المخير، وهذه الزيادة
في الطمأنينة - مثلاً - على أقل الواجب يجوز تركها بلا شرط ولا
بدل، وهذا هو حد الندب، فتكون تلك الزيادة مندوبة.
ثانيهما: أن من فعل من الأمور به ما يقع عليه الاسم، فإنه
يحسن أن يخبر عن نفسه، ويقول:" فعلت ما أمرت به "، ولو
كان اللفظ يتناول أكثر من ذلك لما حسن الإخبار عن نفسه بذلك.
المذهب الثاني: أن الزيادة على أقل الواجب تكون واجبة.
أي: أن الزيادة على أقل ما يطلق عليه الاسم واجبة فيكون الفعل
جميعه واجب.
ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، ونسب إلى الكرخي منهم.
دليل هذا المذهب:
إن نسبة الواجب وما زاد عليه إلى الأمر نسبة واحدة، والأمر في
نفسه أمر واحد لا يتجزأ، وهو أمر إيجاب، والواجب وما زاد عليه
لا يتميز أحدهما عن الآخر بشيء، فإذا فعل المكلَّف الواجب وما
زاد عليه يوصف بأنه ممتثل، والامتثال واجب فيكون الواجب وما زاد
عليه واجباً.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إما أن تتميز الزيادة، أو لا تتميز.
فإن تميزت الزيادة عن الواجب الذي تناوله الاسم، أي: تميز
أحدها عن الآخر ببعض التميز فلا نسلم أن نسبة الواجب وما زاد
عليه إلى الأمر نسبة واحدة، بل الواجب نسبته إلى الأمر بالوجوب،
ونسبة الزيادة إلى الأمر بالندبية.
ولا نسلم - أيضا - أن الأمر في نفسه واحد لم يتجزأ، بل الأمر
واحد من حيث اللفظ، أما من حيث حقيقته فهو أمران: أحدهما:
جازم بالنسبة إلى الواجب، والآخر: غير جازم بالنسبة إلى الزيادة.
أما إذا لم تتميز الزيادة - أي: لم يتميز الواجب وما زاد عليه -:
فيحتمل أن يكون بعضه واجبا وبعضه ندبا؛ قياسا على من دفع ديناراً
عن زكاة عشرين ديناراً، فيكون نصف الدينار عن العشرين،
والنصف الآخر قد دفعه ندبا وصدقة.
بيان نوع هذا الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره؛ حيث ترتب على هذا
الخلاف اختلاف في بعض المسائل الفقهية، ومنها:
1 -
أنه إذا مسح رأسه كله دفعة واحدة - وقلنا: إن الواجب
مسح قدر الناصية - فالواجب هو: قدر الناصية، والزائد ندب على
المذهب الأول، أما على المذهب الثاني: فكله واجب.
2 -
أنه لو كان عنده خمس من الإبل فعجل زكاتها، وأخرج
بعيراً - وقلنا بالإجزاء - فهل كله واجب، أو بعضه هو الواجب؟
اختلف في ذلك والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة الأصولية.
3 -
أنه إذا زاد في مبيت ليلة مزدلفة الواجبة لحظة من النصف
الثاني، فإن الزيادة نافلة؛ بناء على المذهب الأول، أما على
المذهب الثاني، فالكل واجب.
4 -
أنه إذا وقف بعرفات زيادة على قدر الواجب، فالزيادة نفل
بناء على المذهب الأول، أما على المذهب الثاني فالكل واجب.
المسألة التاسعة: الواجب العيني، والواجب الكفائي:
أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وسبب تسميتهما بذلك:
الواجب ينقسم باعتبار فاعله إلى قسمين:
القسم الأول: الواجب العيني.
القسم الثاني: الواجب الكفائي.
أما القسم الأول - وهو: الواجب العيني - فهو: ما يتحتم أداؤه
على مكلَّف بعينه.
أو هو: ما طلب حصوله من كل واحد من المكلفين كالصلاة،
والصيام والحج، ونحو ذلك.
وسمي بالواجب العيني؛ لأن الفعل الذي تعلق به الإيجاب
منسوب إلى العين والذات باعتبار أن ذات الفاعل مقصودة.
وحكمه: لزوم الإتيان به من كل واحد بعينه، بحيث لا تبرأ ذمته
إلا بفعله.
أما القسم الثاني - وهو: الواجب الكفائي - فهو: ما يتحتم
أداؤه على جماعة من المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام
به بعض المكلَّفين فقد أدِّي الواجب، وسقط الإثم والحرج عن الباقين
مثل: الجهاد في سبيل اللَّه إن لم يكن النفير عاماً، والصلاة على
الميت وتغسيله، وتكفينه، ورد السلام، وإنقاذ الغريق، ونحو ذلك.
وسمي بالواجب الكفائي؛ لأنه منسوب إلى الكفاية والسقوط من
حيث إن فعله من أي فاعل أسقط طلبه عن الآخرين.
وحكمه: أنه إذا قام به من يكفي من المكلَّفين سقط عن الباقين.
وإذا لم يؤده أحد لحق الإثم جميع المكلَّفين.
فالقصد من الفعل الكفائي: هو وقوع الفعل نفسه لما يترتب عليه
من جلب مصلحة، أو دفع مفسدة بقطع النظر عمن يقع منه.
ثانياً: متى يتحوَّل الواجب الكفائي إلى واجب عيني؟
عرفنا - فيما سبق - أن المقصود من الواجب الكفائي هو: وقوع
الفعل لما يترتب عليه من جلب المصلحة أو دفع المفسدة، دون النظر
إلى فاعله، ولكن قد تطرأ بعض الأحوال التي تجعله واجباً عينياً،
وذلك مثل:
1 -
أن يأمر الإمام شخصاً بتجهيز ميت تعين عليه، وليس له
استنابة غيره.
2 -
أنه لو رأى شخص غريقاً، وكان بإمكانه إنقاذه أصبح إنقاذه
واجباً عينياً عليه.
3 -
لو دخل الكفار ديار المسلمين، ولم يتمكن الجند صدهم
تعين على كل مسلم مكلَّف قادر أن يساهم بما يستطيعه حتى يتحقق
صد العدو.
4 -
إذا غلب على ظن المكلَّف أن غيره لم يقم بالواجب
الكفائي، وهو قادر على القيام به أصبح هذا الواجب في حقة عينياً.
ثالثاً: شروط فرض الكفاية:
الذي يوصف بأنه فرض كفاية له شرطان:
الشرط الأول: أن يكون فيه مصلحة شرعية، أو هو وسيلة
لمصلحة شرعية.
مثال المصالح الشرعية: ضبط أصول الفقه، وفروعه، والكتاب،
والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، وأنواع الأدلة، وأن يوصلها كل
قرن إلى من بعده، ومناظرة الملحدين والطاعنين في الدين الإسلامي،
وضبط أصول الدين، وتعليم القرآن، والفروع الشرعية للطلاب،
والنحو، واللغة، وكل ما يتعلق بالكتاب والسُّنَّة.
ومثال الوسائل إلى المصالح الشرعية: الصنائع والحرف التي لا
يستغنى عنها الناس، فيجب أن تخرج لكل حرفة طائفة من الناس،
فإذا كان لهم في ذلك نية حسنة أثيبوا ثواب الواجب، وإن لم يكن
لهم نية فلا ثواب لهم، وليس كل واجب يثاب عليه.
الشرط الثاني: أن يكون مما لا تتكرر مصلحته بتكرر وجوده، مثل:
إنقاذ الغريق، فإنه إذا رفعه واحد من البحر، ثم نزل آخر بعده لم
يحصل بنزوله مصلحة، وكذلك إطعام الجوعان، وإكساء العريان،
فهذا ونحوه يجب على الكفاية، ويسقط عن الآخرين نفياً للتعب.
رابعاً: هل فرض الكفاية أفضل من فرض العين؟
اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية.
ذهب إلى ذلك كثير من العلماء.
وهو الصحيح؛ لأن فرض العين مفروض حقاً للنفس، فهو أهم
عندها من فرض الكفاية وأكثر مشقة، بخلاف فرض الكفاية، فإنه
مفروض حقا للكافة، والأمر إذا عم خف، وإذا خص ثقل.
المذهب الثاني: أن فرض الكفاية أفضل من فرض العين.
ذهب إلى هذا أبو محمد الجويني، ونسبه إلى الإمام الشافعي.
دليل هذا المذهب:
أنه في فرض الكفاية يسقط الفرض عن نفسه وعن غيره، فهو أكثر
في الأجر، أما في فرض العين فإنه يسقط الفرض عن نفسه - فقط -.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا ليس بصحيح؛ لأن القيام بفرض العين أكثر
في الأجر والثواب؛ لأنه أشق من فرض الكفاية، والأجر على قدر
المشقة.
أما نسبته إلى الإمام الشافعي فليس بصحيح، - فإن الشافعي مع
أصحاب المذهب الأول، ودل على ذلك قوله في " الأم ": " قطع
الطواف المفروض لصلاة الجنازة، أو الرواتب مكروه؛ إذ لا يحسن
ترك فرض العين لفرض الكفاية ".
وذكر الغزالي في " إحياء علوم الدين " - مؤيدا المذهب الأول -:
أن من عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية، وزعم أن مقصوده
الحق: فهو كذاب، ومثاله: من ترك الصلاة، واشتغل في تحصيل
الثياب ونسجها قصداً لستر العورات.
خامسا: في بيان أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع:
الصحيح: أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه إلا في حالتين:
أولهما: في الجهاد في سببيل اللَّه؛ لأنه إذا شرع في الجهاد ثم
ترك الصف، ففي ذلك كسر لقلوب الجند، وعدم حثهم على
القتال.
ثانيهما: في الصلاة على الجنازة؛ لأنه إذا شرع في الصلاة على
الجنازة، فإنه يلزمه الإتمام، لأن الانسحاب من ذلك فيه هتك لحرمة
الميت كمن قام من مجلس مسلم بدون إذنه.
سادساَّ: من هو المخاطب بفرض الكفاية؟
اختُلِف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أن المخاطب بفرض الكفاية هو الكل، أي:
موجه إلى جميع المكلَّفين، وفعل بعضهم هذا الواجب مسقط للطلب
منهم.
ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
وهو الصحيح؛ لاتفاق العلماء على ترتيب الإثم على الجميع إذا
لم يقم به أحد، فتأثيم الجميع موصما لتكليفهم جميعاً، لأنه لا
يمكن أن يؤاخذ الإنسان على شيء لم يكلفه، فدل على أن وجوبه
على الجميع.
المذهب الثاني: أن المخاطب بفرض الكفاية هو: بعض المكلفين
- فقط -.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء كتاج الدين ابن السبكي في " جمع الجوامع ".
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: قياس الإبهام في المكلََّف على الإبهام في المكلَّف به.
بيانه: كما جاز التكليف بأمر مبهم في الواجب المخيَّر، فكذلك
يجوز تكليف بعض مبهم من الجماعة، وذلك لحصول المصلحة
المطلوبة في ذلك.
جوابه:
يجاب عنه: بأن هذا القياس غير صحيح، لأنه قياس مع النص،
حيث وردت نصوص دلت على تكليف الجميع دون البعض، كما في
قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله)، وقوله: (يا أيها الذين
آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، فهذه الخطابات وردت في
القتال، وهي تعم كل الأفراد بدليل واو الجماعة واسم الموصول
اللذين يفيدان العموم، مع الاتفاق على أن القتال فرض كفاية، فإن
هذا التعميم في الآيات بتوجيه الخطاب إلى مجموع المسلمين دليل
على أن الواجب الكفائي مطلوب من الجميع.
الدليل الثاني: أن سقوط الواجب الكفائي بفعل بعض المكلَّفين
دليل على توجيه الخطاب فيه إلى بعض المكلَّفين، لا كلهم، لأن
الأصل عدم سقوط الشيء إلا بفعل من وجب عليه، وما دام أن
الاتفاق قد وقع على سقوطه بفعل بعض المكلَّفين، فيكون الواجب
موجها إلى هذا البعض فقط.
جوابه:
يجاب عنه: بأن الواجب قد سقط عن الجميع بفعل بعضهم لا
لأن هؤلاء البعض قد طلب منهم الواجب فقط، وإنما سقط الواجب
عن الجميع بفعل البعض، لأن المقصود في الواجب الكفائي هو:
فعل الواجب وإيقاعه بقطع النظر عن الفاعل - كما قلنا سابقا -،
فإذا كان الفعل قد حصل فقد حصلت المصلحة التي من أجلها صدر
الأمر من الشارع، وبعد ذلك يكون بقاء الوجوب على الباقين
تحصيلاً للحاصل، كما لو أوجب أداء دين على كفيلين، فأدى
أحدهما الدين كله، فإنه يسقط أداء هذا الواجب عن الكفيل الآخر،
فكذا هنا.
بيان نوع الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ لأن الحكم لا يتغير
سواء كان المخاطب به هو الكل، أو البعض؛ حيث إنه إذا قام به
من يكفي سقط عن الباقين.
***
المسألة العاشرة: ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب؟
هذه المسألة تسمى تارة بهذا الاسم، وتسمى تارة بـ " مقدمة
الواجب "، وتارة تسمى بـ " الوسيلة " أو " وسيلة الواجب "
أو "ما لا يتم الأمر إلا به يكون مأموراً به ".
تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
أقول في ذلك: إن الذي يتوقف عليه الواجب قسمان:
القسم الأول: ما يتوقف عليه في وجوبه.
القسم الثاني: ما يتوقف عليه في وقوعه.
أما القسم الأول - وهو: ما يتوقف عليه وجوب الواجب - فهذا
القسم لا يجب إجماعا سواء كان سببا أو شرطا، أو انتفاء مانع.
فبلوغ النصاب - مثلاً - سبب يتوقف عليه وجوب الزكاة، فلا
يجب على أحد تحصيله حتى تجب الزكاة عليه.
والزوجات والمماليك سبب وجوب النفقات، فلا يجب تحصيلها
حتى تجب تلك النفقات.
والإقامة شرط وجوب الصوم، فلا يجب على أحد أن يقيم في
بلد ويترك السفر حتى يجب عليه الصوم.
والدين مانع من الزكاة، فلا يجب على أحد أن يوفي دينه حتى
تجب الزكاة.
أما القسم الثاني - وهو: ما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تقرر
الوجوب - فهو يتنوع إلى نوعين:
النوع الأول: ما يكون غير مقدور للمكلف، أي: أن يكون ما
لا يتم الواجب إلا به غير مقدور للمكلف كالقدرة على الفعل،
واليد في الكتابة، والرجل للمشي، وحضور الإمام والعدد الكامل
للجمعة، فهذا النوع لا يجب إجماعاً؛ لأنه ليس بقدرة المكلف ولا
طاقته تحصيل ذلك، بل عدم تلك الأمور يمنع الوجوب.
النوع الثاني: ما يكون مقدوراً للمكلَّف، أي: أن يكون ما لا
يتم الواجب إلا به مقدوراً للمكلَّف، ويجب فيستطيع فعله واختياره.
وهذا النوع - وهو المقدور عليه - له أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يكون إيجاب الواجب مقيَّداً بحصول المقدور
عليه، وورد صريحاً كقولك لغيرك:" إن ملكت النصاب فزك " أو
تقول: " إن توضأت فصل "، فهذا واجب مقيَّد بحصول السبب،
أو الشرط، وقد حصل الاتفاق على أن كلًّا من السبب والشرط في
- هذه الحالة - لا يجب بوجوب الواجب، بل الواجب نفسه لا
يجب إلا بعد حصول السبب والشرط.
الحالة الثانية: أن يُصرح بعدم إيجابه، كأن يقول: " صل، ولا
أوجب عليك الوضوء "، فهنا: ما لا يتم الواجب إلا به لا يجب
بالاتفاق؛ عملاً بموجب التصريح.
الحالة الثالثة: أن يُصرح بوجوبه كأن يقول: " صل، وأوجب
عليك الوضوء "، فهنا: ما لا يتم الواجب إلا به واجب اتفاقاً؟
عملاً بموجب التصريح.
الحالة الرابعة: ألا يصرح الشارع بإيجابه ولا عدم إيجابه، ولا
يقيده بشيء، بل يأتي اللفظ مطلقاً مثل وجوب غسل الوجه، هل
يوجب غسل جزء من الرأس ليتحقق غسل الوجه؛ ومثل وجوب
صوم اليوم هل يجب تبعاً لذلك صوم جزء من الليل ليتحقق من
صوم اليوم؛ فهذا هو المحل الذي تنازع فيه العلماء.
أي: هل ما لا يتم الواجب إلا به واجب؟
اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
* المذهب الأول: أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب مطلقا.
أي: سواء كان سبباً شرعياً مثل: الصيغة للعتق الواجب.
أو سبباً عقلياً مثل: النظر المحصل للعلم الواجب.
أو سبباً عادياً مثل: حز الرقبة بالنسبة إلى القتل.
أو شرطاً شرعياً مثل: الوضوء للصلاة.
أو شرطاً عقلياً مثل: ترك أضداد المأمور به.
أو شرطاً عادياً مثل: غسل جزء من الرأس مع الوجه ليتحقق
غسل كل الوجه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وهذا هو الصحيح عندي، لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: أن ما لا يتم الواجب إلا به لا بد منه في الواجب،
وما لا بد منه في الواجب يكون واجباً.
فعندنا مقدمتان:
الأولى: أن ما لا يتم الواجب إلا به لا بد منه في الواجب.
الثانية: أن ما لا بد منه في الواجب يكون واجباً.
دليل المقدمة الأولى: أن ما لا بد منه في الشيء الواجب لا يكمل
ذلك الشيء الواجب إلا به.
دليل المقدمة الثانية: أن ما لا بد منه المكمل للواجب لازم،
واللازم واجب، فما لا بد منه واجب.
فنتج من المقدمتين: أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
الدليل الثاني: أن الواقع المحسوس يشهد لذلك، فإن السيد لو
قال لعبده: " ائتني بماء "، ولا يوجد الماء إلا في البئر، فإنه لا
يمكن أن يحضر الماء لسيده إلا بسحب الماء من البئر برشاء ودلو،
فيلزمه - حينئذٍ - إحضار الرشاء والدلو ليسحب بهما الماء، وذلك
ليفعل ما أمره به سيده إذا كان له طريق إليه، فلا يجوز له تركه - مع
القدرة - وإلا لاستحق العقوبة من السيد.
فلذلك لزمه ووجب عليه إحضار السبب " وهو الرشاء والدلو "
الذي بواسطتهما يمكنه تنفيذ أمر سيده، وهو جلب الماء؛ لأنه لا
يمكن إحضار الماء إلا بهما، فلذلك وجبا.
فنتج أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
تنبيه:
اختلف الجمهور - وهم أصحاب المذهب الأول - في وجوب ما لا
يتم الواجب إلا به - وهي مقدمة الواجب -
هل هو متلقى من نفس الصيغة الموجبة للواجب، أو متلقى من دلالتها؟
اختلف هؤلاء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن وجوب ما لا يتم الواجب إلا به أخذ من نفس
الصيغة الموجبة للواجب المطلق.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء كما ذكره ابن السمعاني في
" القواطع ".
القول الثاني: أن وجوب ما لا يتم الواجب إلا به أخذ من دلالة
الصيغة، أي: أن وجوب مقدمة الواجب دلَّت عليها الصيغة من
حيث المعنى.
وهذا هو الصواب؛ لأن الدلالة اللفظية: ما كان مسموعا في
اللفظ، ولا شك أن لكل من الشرط والسبب لفظا يخصه، ولم
يسمع ذلك، فوجب أن تكون دلالته من حيث المعنى.
المذهب الثاني: أن ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب مطلقا.
ذهب إلى ذلك بعض الشافعية.
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الخطاب لم يتعرض لإيجاب هذه الأشياء، وأن
هذه الشرائط لها صيغ بخصوصها، واختلاف الصيغ يدل على
اختلاف المصوغ له.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن هذا الدليل لكم يدل على أنكم تقولون
بأن لفظ الصيغة لا يدل على وجوب المقدمة، وإنما وجوب المقدمة
دل عليه معنى الصيغة، وهذا ما نقوله.
الدليل الثاني: أنه لو وجب ما يتوقف عليه الواجب للزم تعقل
الموجب له، لأن الإيجاب بدون التعقل غير معقول، والتالي باطل
وذلك لأن كثيراً ما نؤمر بأشياء ونغفل عن مقدماتها.
جوابه:
يقال في الجواب: إنا نمنع لزوم التعقل هنا، وإنما يلزم فيما إذا
كان الأمر بالمقدمة صريحاً، ولكن مقدمة الواجب هنا صارت: واجبة
عندنا عن طريق دلالة الصيغة عليها من حيث المعنى.
- المذهب الثالث: إن كانت المقدمة شرطا شرعيا فتجب، وإن لا
فلا.
ذهب إلى ذلك إمام الحرمين، وابن القشيري، وابن برهان،
وابن الحاجب.
دليل هذا المذهب:
أن الشرط الشرعي إنما عرفت شرطيته من الشارع، فعدم إيجابه
بالخطاب الموجب للمشروط يوجب غفلة المكلف عنه، وعدم التفاته
إليه، وذلك موجب لتركه، وتركه يؤدي إلى بطلان المشروط، فلزم
من ذلك: أن يكون الخطاب الموجب للمشروط موجباً له.
بخلاف غير الشرعي، فإن شرطيته عرفت من غير الشرع كالعقل
والعادة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إن هذا التفريق بين الشرط وغيره لا داعي
له؛ لأن كلًّا من الشروط والأسباب الشرعية وغير الشرعية يفهم
وجوبها من صيغة الخطاب الموجب للواجب عن طريق المعنى.
المذهب الرابع: إن كانت مقدمة الواجب سبباً، فتجب وإلا فلا.
اختاره صاحب المصادر.
أي: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب سببه
فقط، سواء كان هذا السبب شرعيا، أو غير شرعي، وأما الشرط
فلا يدل الخطاب على إيجابه مطلقا.
دليل هذا المذهب:
أن ارتباط الشيء بسببه أقوى من ارتباطه بشرطه؛ لأنه معروف:
أن السبب يؤثر بطرفي الوجود والعدم، والشرط إنما يؤثر بطرف
العدم خاصة.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنه لا داعي ولا مبرر لهذا التفريق بين
السبب والشرط، لأن كلًّا منهما يفهم وجوبه من صيغة الخطاب
الموجب للواجب عن طريق المعنى.
- المذهب الخامس: الفرق بين الملازم في الذهن، وغير الملازم.
فإن كانت مقدمة الواجب قد لازمت الذهن حال استماع المكلف
للأمر، وعلم أن الإتيان بالمأمور به ممتنع بدون الإتيان بتلك المقدمة،
فهي واجبة.
أما إذا كانت مقدمة الواجب غير ملازمة للذهن، بل لم نعلم بها
إلا عن طريق العقل والشرع، فلا يكون الأمر واجبا من تلك
الصيغة، بل واجب من المركب من الأمر والعقل.
ذهب إلى هذا بعض المتأخرين، كما قال ذلك الزركشي.
جوابه:
يقال في الجواب عنه - كما قلنا فيما سبق -: إن هذا التفريق
لا داعي له؛ لأنه متى ما علمنا بالمقدمة، سواء عن طريق الذهن، أو
عن طريق الخطاب الآمر بالواجب، فإنها تكون تلك المقدمة واجبة.
- المذهب السادس: التوقف.
ذهب إلى ذلك بعض العلماء.
دليل هذا المذهب:
أنه يحتمل أن يكون الخطاب الآمر بالواجب الأصلي آمراً بشرط
تحصيل المقدمة، ويحتمل غير ذلك والاحتمالان متساويان، فوجب التوقف.
جوابه:
يقال في الجواب عنه: إنه لا داعي لهذا التوقف مع وضوح أدلتنا
على وجوب المقدمة - وهو المذهب الأول - لأن الخطاب الآمر
بالواجب الأصلي هو أمر بتحصيل المقدمة عن طريق معنى الصيغة.
بيان نوع هذا الخلاف:
هذا فيه تفصيل، إليك بيانه:
الخلاف الأول: الخلاف بين الجمهور القائلين بوجوب المقدمة
مطلقا، وبين أصحاب المذهب الثاني القائلين بعدم الوجوب مطلقا،
هذا الخلاف اختُلِف فيه على قولين:
القول الأول: أن الخلاف لفظي.
وهو الصحيح عندي؛ لأن أصحاب المذهبين قد اتفقا على أن
المقدمة واجبة، دلَّ على ذلك استقراء وتتبع كلام أصحاب المذهب
الثاني؛ حيث إنه يفهم من كلامهم في تقرير مذهبهم أنهم ينكرون
وجوب المقدمة من نفس الصيغة الموجبة للواجب المطلق، ولكن لا
ينكرون وجوب المقدمة من دلالة اللفظ بالتضمن أو الالتزام.
أي: من أنكر إيجاب المقدمة مطلقا لكون الأمر ساكتاً عنها، إنما
أراد أن الأمر لم يتناولها لفظة، ولم ينكر أنها تجب تبعا، وهذا
موافق لمذهب الجمهور بأن المقدمة واجبة مطلقا؛ حيث إنهم أرادوا به
أن المقدمة تجب تبعا للواجب الأصلي، ولم يقولوا: إنها تجب
بالأمر الدال على الواجب صراحة، فكان كل فريق موافقا للآخر في
المعنى والمراد، فكان الخلاف لفظيا.
القول الثاني: إن الخلاف معنوي له فائدة.
واختلف أصحاب هذا القول - فيما بينهم - في هذه الفائدة، هل
هي في الآخرة، أو في الدنيا؟ على رأيين:
الرأي الأول: أن فائدة الخلاف في الآخرة فقط وهي: تعلق
الثواب والعقاب، أي: إذا فعل المكلف الواجب ومقدمته، فهل
نقول: يثاب ثوابين: ثواب على الواجب، وثواب على المقدمة؟
وإذا تركهما هل يعاقب عقابين: عقاب على الواجب، وعقاب على
المقدمة؟
اختلف في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف في تلك المسألة
الأصولية.
الرأي الثاني: أن فائدة الخلاف في الدنيا؛ حيث إنه يترتب على
هذا الخلاف في هذه القاعدة، اختلاف في عدد كثير من المسائل
الفقهية، فقالوا على لزوم المقدمة وهو رأي الجمهور الأحكام التالية:
1 -
أنه إذا اشتبهت المنكوحة بالأجنبية حرمتا معاً، ووجب الكف
عنهما، وكذا إذا اشتبهت الميتة بمذكاة.
2 -
إذا نسي صلاة من الخمس ولم يعلم بها لزمه أن يصلي جميع
الخمس، لتحقق براءة الذمة.
3 -
إذا خفي عليه موضع النجاسة من الثوب، أو البدن وجب
غسله كله.
4 -
إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وجب غسل الجميع
وتكفينهم، والصلاة عليهم.
5 -
إذا اشتبهت عليه الثياب النجسة بالطاهرة لزمه أن يصلي بعدد
النجس، ويزيد صلاة أخرى لتحقق الصلاة بثوب طاهر.
الجواب عن تلك الأمثلة:
يجاب عن ذلك بأن تلك الأمثلة لا تمنع من القول بأن الخلاف
لفظي، وذلك لأن أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن
المقدمة لا تجب مطلقا - لا يخالفون في ذلك، فقد وافقوا الجمهور
عليها، لكنهم وافقوهم عليها عن طريق التبع، أي: أنها وجبت
بسبب دلالة الصيغة، لا بنفس الصيغة الدالة على وجوب الواجب
المطلق.
الخلاف الثاني: الخلاف بين الجمهور وبين أصحاب المذهب
الثالث والرابع، وهم المفرقون بين السبب والشرط، أو بين الشرط
الشرعي وغيره هو: خلاف لفظي - أيضا -؛ لأنه لا يستلزم الفرق
الذي ذكروه اختلافا بينهما في الأحكام الفقهية.
الخلاف الثالث: الخلاف بين الجمهور وبين أصحاب المذهب
الخامس وهم القائلون بالفرق بين الملازم في الذهن فيجب، وبين
غير الملازم فلا يجب هو: خلاف لفظي - أيضا -؛ لاتفاق
الفريقين على أن المقدمة واجبة، وهو عند الجمهور واضح.
أما عند أصحاب المذهب الخامس، فالمقدمة إما واجبة، بالصيغة
نفسها التي أوجبت الواجب المطلق، حيث قالوا: إن المكلََّف حال
استماع صيغة الأمر يعلم أن الإتيان بالمأمور ممتنع بدون الإتيان بتلك
المقدمة.
وإما إنها واجبة بدلالة صيغة الأمر، لا بالصيغة نفسها، حيث
قالوا: فلا تكون المقدمة واجبة من تلك الصيغة، بل من المركب من
الأمر والعقل، وهذا هو مقتضى مذهب الجمهور ومقصودهم من
مذهبهم.