الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: تنوع المعلوم من الدين بالضرورة
إن المعلوم من الدين بالضرورة يتنوع بتنوع متعلقه من المسائل والأشخاص والأزمنة والأمكنة، ولذلك يختلف حكم جاحده أو جاهله باختلاف ذلك وتنوعه.
فالمسائل الظاهرة المتواترة تكون في الجملة معلومة للناس من الدين بالضرورة، سواء كانت مسائل الوجوب أو مسائل التحريم، فلابد أن تكون ظاهرة ومتواترة حتى يمكن اعتبارها من المعلوم من الدين بالضرورة.
ومما يندرج تحت هذا النوع جميع الواجبات الظاهرة المتواترة، وجميع المحرمات تحريماً ظاهراً متواتراً.
وهذا الذي عبر عنه الإمام الشافعي بقوله (علم العامة)، ثم عرفه بأنه: (مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر. وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه، ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه. وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، موجود عامّ عند أهل الإسلام، ينقله عوامّهم عمن مضى من عوامّهم، يحكونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتنازعون في حكايته، ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر والتأويل، ولا يجوز فيه التنازع) (1).
وقال شيخ الإسلام – حاكياً اتفاق الصحابة على قتل من استحل الخمر -: (وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبر واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب، وإلا قتل)(2).
وقد بنى أهل العلم على كون المعلوم من الدين بالضرورة – عند الإطلاق – ظاهراً ومشتهراً، والناس من العلم به سواء بنوا على هذا قولهم في تكفير جاحده، وفي منع التقليد فيه (3).
قال الإمام النووي رحمه الله: (وإن جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة، حكم بردته وكفره، وكذا من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة)(4).
وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (وكذلك الأمر – يعني في التكفير وعدم العذر – في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأئمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام)(5).
وقال الإمام الزركشي رحمه الله عند حديثه عما يجوز فيه التقليد وما لا يجوز: (العلوم نوعان: نوع يشترك في معرفته الخاصة والعامة، ويعلم من الدين بالضرورة كالمتواتر، فلا يجوز التقليد فيه لأحد، كعدد الركعات، وتعيين الصلاة، وتحريم الأمهات والبنات، والزنا واللواط، فإن هذا مما لا يشق على العامي معرفته ولا يشغله عن أعماله)(6).
(1)((الرسالة)) للإمام الشافعي (ص: 357 - 359).
(2)
((مجموع الفتاوى)) (11/ 405).
(3)
انظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 283)، و ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/ 1009)، ((حاشية العطار على جمع الجوامع)) (2/ 238).
(4)
((شرح مسلم)) للنووي (1/ 100).
(5)
((شرح مسلم)) للنووي (1/ 173).
(6)
((البحر المحيط)) (6/ 283).
كما أن المعلوم من الدين بالضرورة هو من الأمور النسبية الإضافية، حيث إنه يختلف كونه علماً ضرورياً باختلاف الأشخاص من حيث العلم أو العامية، أو حداثة العهد بالإسلام، أو النشوء ببادية بعيدة. قال الإمام ابن الوزير رحمه الله: ("النوع الثاني" ما لا يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة، لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل تحريم الصلاة على الحائض إلى أمثال لذلك كثيرة
…
) (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كون الشيء معلوماً من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلاً عن كونه يعلمه بالضرورة. وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة)(2).
كما أن المعلوم من الدين بالضرورة يختلف كونه كذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة من حيث ظهور آثار الرسالة أو دروسها. (فالمعلوم من الدين بالضرورة في الأزمنة (والأمكنة) التي تشرق فيها شمس الشريعة، ويكثر فيها العلماء العاملون الذين يبلغون دين الله ويقيمون الحجة على عباد الله، غير المعلوم من الدين بالضرورة إذا غابت شمس الشريعة، وكان العلماء علماء سوء يلبسون على الناس دينهم، وأهل الحق قليلون، وصوتهم لا يصل إلى الناس كلهم) (3).
فما يجب اعتباره في هذا المقام اختلاف الديار بين دار الإسلام التي هي مظنة لظهور أحكام الإسلام، ودار الكفر التي ليست مظنة لذلك. واختلاف الأمكنة بين مكان يشيع فيه العلم، وبادية بعيدة على العلم، وأمكنة يشيع فيها العلم الصحيح، وأخرى تخيم عليها الضلالة والانحراف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر
…
) (4). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 492
(1)((العواصم والقواصم)) (4/ 174).
(2)
((مجموع الفتاوى)) (13/ 118).
(3)
((العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير)) لأحمد فريد (ص: 17).
(4)
((مجموع الفتاوى)) (11/ 407).