الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: الأدلة العقلية على عدالة الصحابة
بعد أن ذكرت أدلة عدالة الصحابة من الكتاب والسنة، أذكر هنا الدليل العقلي على عدالة الصحابة، وهذا ما سأوضحه فيما يأتي:
أولاً: يتفق المسلمون على حقيقة قاطعة، هي أن الله تبارك وتعالى، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وكان هذا الدين خاتم الأديان، وكان رسوله خاتم الأنبياء.
وأنه عليه الصلاة والسلام أدى الأمانة على أحسن وجه وأتمه، وبلغ الرسالة فما قصر، ونصح الأمة دون أن يبخل بنصح أو إرشاد، فبين لها الشريعة وأوضح لها الحجة، فنال بذلك رضي الله تبارك وتعالى.
ومما لا شك فيه، ولا ريب أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغ الرسالة، ونشر الدين وتعاليمه، وتعبيد الناس لربهم، وتحكيم القرآن الكريم، وإرشادهم إلى العمل بالإسلام كله دون تجزئته، أو تغليب جانب على آخر، بل لابد من الإحاطة به من جميع جوانبه.
وأن من مهام الرسول صلى الله عليه وسلم التي بعث من أجلها هي ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم في قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الجمعة: 2]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].
فقوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ حدد جزءاً من مهام النبي العظيم وهو التزكية وأحد مدلولات هذه اللفظة هو التربية والتطهير، أعني تربية من بعث فيهم على الفضيلة ومحاسن الأخلاق وتوجيههم إلى سلوك أحسن السبل وأقومها، وإرشادهم إلى الصالحات وتطهيرهم من الذنوب والرذائل وتنقيتهم من الأرجاس والأدناس ومما يشين عند الناس.
وقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ جعل من الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً لقومه كتاب الله تعالى وسنته عليه الصلاة والسلام وإرساء دعائمهما، وتوضيح سبيلهما، وبيان منهجهما، وشرح عقيدتهما.
ومن البديهي أنه لا فائدة أن يسمع الرجل الآية من القرآن الكريم فيهتز طرباً لبلاغتها، وتعجبه فصاحتها، فيأخذ سحر كلماتها، وينتهي الأمر عند هذا الحد، بل المراد هو أن يجني السماع ثمرة القرآن فيعمل بأحكامه ويقيم حدوده، ويأخذ تعاليمه.
فإذا وجد مثل هؤلاء القوم المدعوين فهذا يعني أن الداعي قد نجح في مهمته، وفاز في سعيه، وهذا ما يقول به القائلون بعدالة الصحابة رضي الله عنهم فأنهم بقولهم بالعدالة يصرحون بنجاح دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تربيته أثمرت فقد ظهرت معجزة التأثير والهداية في حياته عليه الصلاة والسلام من خلال بروز نماذج إنسانية عملية تتحلى بالأخلاق وتتزين بالفضائل، وتبتعد ما أمكنها عن الرذائل وتتخلى عن المفاسد وتتصف بالمحاسن، على استقامة في دينهم، وإخلاص في عقيدتهم، يبلغون رسالات ربهم ولا يخافون لومة لائم، باذلين ما بوسعهم من أجل الإسلام.
أما الطاعنون بعدالة الصحابة القائلون بارتدادهم بعد وفاته إلا قليلاً، أو أنهم في حياته كانوا يظهرون ما لا يضمرون، فهذا يعني بلا شك فشل تلك الجهود العظيمة التي بذلها الرسول صلى الله عليه وسلم في وظائفه التربوية والتعليمية والتبليغية والدعوية.
وهذا ما يدعونا إلى التساؤل: (هل يعقل في حكم المنطق النظري القديم والحديث، والعقل الفطري المحسوس المركوز في بني الإنسان، ألا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم – وهو بهذا المقام الكريم، من العبودية الخالصة لخالقه الحكيم، وخلقه العظيم المتمثل لأوامر الله تعالى، ونواهيه في عالم الإمكان، أن يربي أقرب أصحابه الذين آمنوا به ونصروه، وأعزوا دينه، على الإخلاص لدين الله، ويركز فيهم خوف الله سبحانه وتعالى وحبه، لكي يبلغوا دينه إلى الأجيال الآتية من بعدهم، بأمانة وعدالة وصدق وإخلاص؟)(1).
فالعقل والمنطق، والبصيرة كل ذلك يقضي أن يتحقق هذا النجاح في التربية والدعوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أثر وفاته، (حيث إن الدين الذي لا يستطيع أن يقدم أمام العالم عدداً وجيهاً من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، لا يعتبر ناجحاً، كما أن الشجرة التي لم تؤت ثمارها اليانعة الحلوة، ولم تفتح أزهارها العطرة الجميلة، أيام شبابها وفي موسم ربيعها (وهو عهد النبوة) لا تعتبر شجرة مثمرة سليمة، وكيف يسوغ لدعاة هذه الدعوة والدين وممثليها الذين ظهروا بعد أن مضى على عهد النبوة زمن طويل، أن يوجهوا إلى الجيل المعاصر والعامل الحاضر، دعوة إلى الإيمان والعمل والدخول في السلم كافة والتغيير الكامل في الحياة، وهم عاجزون عن تقديم نتائج حية باهرة للألباب، مسلمة عند المؤرخين، للمجهودات التي بذلت في العهد الأول وفي فجر تاريخه، في سبيل إبراز أمة جديدة، وإنشاء جيل مثالي، يمثل التعاليم النبوية أصدق تمثيل ويبرهن على تأثيرها ونجاحها) (2).
ثانياً: من المسلمات عندنا أن اليهود حرفوا توراتهم من بعد موسى عليه السلام فكانت بعثة الرسل بعد موسى تصحيحاً لمسيرة اليهود الدينية والدنيوية، ولما بعث عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وأنزل عليه الإنجيل سرعان ما حرفه الأحبار والرهبان وغيروه وبدلوه أيضاً فحتم هذا بعثة نبي جديد لأن المنهج الرباني حرف وبدل ولابد للبشرية من منهج رباني تسير على ضوئه وتعمل بشريعته وتهتدي بهديه فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان القرآن الكريم هو الكتاب المنزل عليه وقد اقتضت حكمة الله أن يكون النبي هو الخاتم وكتابه هو آخر الكتب وهذا يعني أن المنهج الرباني والدستور الإلهي سيبقى من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى نهاية البشرية متمثلاً بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ لا نبي بعده. فاقتضى هذا أن يبقى الكتاب من غير تحريف ولا تشويه ولا تبديل كي يتسنى لآخر هذه الأمة الإطلاع عليه والإيمان به والعمل بأحكامه كما أطلع عليه أول هذه الأمة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا من الذي سيحفظ القرآن من الضياع والتحريف. ومن الذي سيقوم بنقله؟
الجواب على التساؤل الأول: إن الله هو الذي حفظ القرآن فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وهذا أمر مقطوع به.
أما التساؤل الثاني فجوابه أن الأمة التي أحاطت بالرسول صلى الله عليه وسلم هي التي قامت بهذه المهمة العظيمة وهي نقل الكتاب إلى من بعدهم بكل أمانة ونزاهة كما أنزله الله تعالى وهذا ما يقتضيه العقل والمنطق إذ ليس من الحكمة أن يرسل الله تعالى آخر الأنبياء، وينزل معه آخر الكتب، ويتعهد له بأنه سيتولى بنفسه حفظ كتابه، بقطعية حاسمة، وتأكيدات متتابعة ثم لا يهيء أمة مؤمنة صادقة عادلة حريصة ذات مروءة شاملة، كي تحافظ على كتابه الكريم، ودستوره الخالد العظيم.
(1)((صحابة رسول الله في القرآن)) للدكتور محسن عبد الحميد (ص: 3 - 4).
(2)
((صورتان متضادتان)) للندوي (ص: 13).
إذ لا يعقل أن يكون حفظ الله للكتاب الكريم بأن ينزل ملائكة من السماء واجبها حراسة الكتاب العزيز من التحريف، أو أن يودع سبحانه في القرآن قوة بين أسطره تنبعث من كلماته تفتك بمن يريد تغييره وتحريفه.
إن مثل هذا الكلام يعد في منطق العقل تخريفاً مقبول فلم يبلق لدينا إلا القول بأن الله هيأ أمة كريمة أحاطت بنبيه هم الصحابة الأنجاب كانوا سبب حفظ الكتاب وهذا ما يستلزم القول بعدالتهم رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثاً: إن القول بعدم عدالة الصحابة يدعو عقلاً إلى الشك بكون الإسلام ديناً واقعياً صالحاً لكل زمان ومكان.
فإذا كان الدين قد فشل في أن يطبق في عصره الأول، ولم يزل غضاً طرياً، فما أن سمع الصحابة نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم -على زعم القائلين بردة الصحابة- حتى خلعوا ثوب الإسلام، وتهافتوا على الدنيا، وتغالبوا على السلطة وتسابقوا إلى الرئاسة، وتقاتلوا عليها وخالفوا الكتاب، فتحول زهدهم إلى طمع، وسخاؤهم إلى جشع، وعزوفهم عن الدنيا إلى صراع على ملذاتها، وتفانيهم من أجل الدين إلى تفان من أجل السلطة. فكيف يمكن تطبيقه فيما بعد ذلك.
أليس هذا يستدعي عقلاً تصديق الفرية القائلة أن الإسلام دين مثالي لا يتلاءم مع الواقع فهو خيالي في أفكاره ومبادئه؟
بل ألا يؤدي ذلك إلى التنفير عن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته لأنه إذا كان ذلك حال من يختص به الاختصاص الشديد ويلازمه الملازمة الطويلة، كان ذلك حتماً منفراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم (1).
رابعاً: العقل يصدق بالتواتر ويحكم بوجوده فلا يجوز للعقلاء تكذيب ما تواتر نقله، أو تواتر إثباته وإلا لما كانوا عقلاء.
فلا يمكن تكذيب التواتر التاريخي القاطع والحاصل بأن أمة الإسلام الأولى من الصحابة الكرام كانوا خير العباد لله تعالى، وخير الأصحاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وخير المبلغين الصادقين الحريصين على حفظ كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن كانت هذه صفته فلابد أن يحكم العقل بعدالته.
قال الخطيب البغدادي: (على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء، والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين)(2).
(فإن من تتبع تاريخ الصحابة، وسوابقهم في الإسلام بعد اعتناقهم له، وعرف سيرهم من حين إسلامهم إلى وقت وفاتهم، وأنهم لا يرتكبون من الإثم والفواحش والكبائر، ولا يصرون على اللمم والصغائر، ولا يفعلون ما يخرم مروءتهم، أو يسيء إلى سمعتهم، وأن من وقع في ذلك منهم، سارع إلى التوبة، وبادر إلى الأوبة، لا يسعه إلا الجزم بعدالتهم، ذلك أن المقدمات ترشد دائماً إلى النتائج، فإذا كانت المقدمات واقعية محققة، وصحيحة مسلمة، لا تحوم حولها الشكوك، ولا تنزل بساحتها الريب، فإنها لابد أن تسوقك إلى النتائج المسلمة عقلاً، والصحيحة منطقاً وفكراً، الواقعية تعتريه الظنون والشبه، وإنما تؤخذ مسلمة عند كل عاقل، بمقتضى ما تقوله قواعد المنطق، وما تقره قوانين الفكر والنظر)(3).
بعد كل هذا لا يسع المنصف العاقل إلا أن يقول: إن القرآن الكريم والسنة النبوية المروية، قولاً وعملاً، ومنطق الأمور، وحقائق الأشياء، والتاريخ المتواتر وقرائن الأحوال كل ذلك يتضافر على إثبات عدالة الصحب الكرام وإنكار ذلك الإسفاف القائل بعدمها. عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين لمحمد محمود لطيف الفهداوي – ص: 88
(1) ينظر: ((المغني)) للقاضي عبد الجبار (20/ق2/ 423).
(2)
((الكفاية)) (ص: 96).
(3)
((محاضرات في علوم الحديث)) للدكتور مصطفى التازي (1/ 144 - 147).