الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
هو أبو إسحاق سعد بن مالك بن أهيب ويقال له: ابن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب القرشي الزهري (1)(يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة وعدد ما بينهما من الآباء متقارب وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تسلم)(2) وهو رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أسلم قديماً وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وما بعدها من المشاهد وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارساً شجاعاً من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في أيام الصديق معظماً جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر وقد استنابه على الكوفة وهو الذي بناها، وهو الذي فتح المدائن (3)، وكانت بين يديه وقعة جلولاء (4) وكان سيداً مطاعاً، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك، ثم ولاه عثمان بعده، ثم عزله عنها وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة مشهوراً بذلك (5)، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة وردت بها الأحاديث الصحيحة ومنها:
- روى البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعداً يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد (6).
- وروى مسلم بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد قال: ((كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارم فداك أبي وأمي قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه)) (7).
- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن شداد قال: سمعت علياً يقول: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك فإنه جعل يقول له يوم أحد: ((ارم فداك أبي وأمي)) (8).
هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لسعد رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه وهذه التفدية فيها دلالة على أنه عظيم المنزلة جليل القدر عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيضحي بنفسه أو أعز أهله له.
وقول علي رضي الله عنه: (ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك) يفيد الحصر ولكن هذا الحصر فيه نظر لأنه تقدم معنا قريباً أن عليه الصلاة والسلام جمع أبويه يوم الخندق للزبير بن العوام رضي الله عنه ويجمع بين الحديثين (بأن علياً رضي الله عنه لم يطلع على ذلك أو مراده بذلك تقييده بيوم أحد والله أعلم)(9).
(1)((البداية والنهاية)) (8/ 78)، ((الإصابة)) (2/ 30).
(2)
((فتح الباري)) (7/ 84).
(3)
انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 8 - 16)، ((الكامل)) لابن الأثير (2/ 511)، ((البداية والنهاية)) (7/ 71 - 76).
(4)
انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 24 - 35)، ((الكامل)) لابن الأثير (2/ 519)، ((البداية والنهاية)) (7/ 77 - 79).
(5)
انظر ترجمته في ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 137 - 149)، ((الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة)) (2/ 18 - 25)، ((البداية والنهاية)) (8/ 78 - 84)، ((الإصابة)) (2/ 30 - 32).
(6)
رواه البخاري (3725)، ومسلم (2412).
(7)
رواه مسلم (2412).
(8)
رواه مسلم (2411).
(9)
((فتح الباري)) (7/ 84)، ((عمدة القاري)) (16/ 228).
- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام)) (1).
هذا الحديث تضمن منقبة لسعد رضي الله عنه وأنه من الصالحين وأكرم بها من منقبة إذ الصالحون يتولاهم رب العالمين كما قال تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] ولقد حظي رضي الله عنه بمفخرة عظيمة وهي حراسته للنبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه له عليه الصلاة والسلام وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الآية وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته وهذا الحديث مصرح بأن هذه الحراسة كانت أول قدومه المدينة ومعلوم أن الآية نزلت بعد ذلك بأزمان (2).
- ومن مناقبه رضي الله عنه أن الله تعالى أنزل فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى سعد رضي الله عنه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: ((حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله – عز وجل – في القرآن هذه الآية وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وفيها وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] قال وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله، فقال: رده من حيث أخذته؛ فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه، قال فشد لي صوته: رده من حيث أخذته، قال: فأنزل الله – عز وجل يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ [الأنفال: 1] قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت قال: فأبى قلت: فالنصف قال: فأبى قلت: فالثلث قال: فسكت فكان بعد الثلث جائزاً قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله – عز وجل – في يعني نفسه شأن الخمر يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة: 90])) (3).
فهذا الحديث تضمن بيان فضيلة سعد حيث نزلت في شأنه تلك الآيات القرآنية المشار إليها في هذا الحديث.
(1) رواه مسلم (2410).
(2)
((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 183).
(3)
رواه مسلم (1748).
- ومن مناقبه رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أثنى عليه وأخبر أنه من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. فقد جاء في (صحيح مسلم) عنه رضي الله عنه قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله – عز وجل وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52])) (1).
- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أسلم قديماً. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد قال: (لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام)(2).
وروى أيضاً بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام)(3).
فقوله رضي الله عنه لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام فيه منقبة عظيمة له وأراد بذلك أنه ثالث من أسلم أولا وأراد بالاثنين أبا بكر وخديجة أو النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر والظاهر أنه أراد الرجال الأحرار (فقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في (الاستيعاب)(4) أنه سابع سبعة في الإسلام) (5) وقد قدمنا في فضل الصديق من حديث عمار بن ياسر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأبو بكر فهؤلاء ستة ويكون هو السابع بهذا الاعتبار أو قال ذلك بحسب اطلاعه والسبب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه فبهذا الاعتبار قال: وأنا ثلث الإسلام
…
وقوله رضي الله عنه: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه) ظاهره أنه لم يسلم أحد قبله وهذا فيه إشكال لأنه قد أسلم قبله جماعة ولكن يحمل هذا على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ، وقد روى ابن منده في (المعرفة) من طريق أبي بدر عن هاشم بلفظ:(ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه) وهذا لا إشكال فيه لأنه لا مانع أن يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم ولا ينافي هذا إسلام جماعة قبل يوم إسلامه وقوله: (ولقد مكثت
…
إلخ) هذا أيضاً على مقتضى اطلاعه) (6).
- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أول من رمى بسهمه في سبيل الله لمجاهدة أعداء الله وإعلاء كلمة الله. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد رضي الله عنه قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط
…
) الحديث (7).
في هذا بيان فضيلة سعد رضي الله عنه حيث إنه كان أول رام بسهمه في سبيل الله (وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام ولم يكن بينهم مسايفة فكان سعد أول من رمى)(8).
(1) رواه مسلم (2413).
(2)
رواه البخاري (3726).
(3)
رواه البخاري (3727).
(4)
((الاستيعاب على حاشية الإصابة)) (2/ 18).
(5)
رواه البخاري (3727).
(6)
انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 184 - 185)، ((فتح الباري)) (7/ 84)، ((المرقاة شرح المشكاة)) (5/ 579).
(7)
رواه البخاري (3728)
(8)
انظر: ((السيرة النبوية)) لابن هشام (1/ 591)، ((الإصابة)) (2/ 30)، ((فتح الباري)) (7/ 84).
- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان مجاب الدعوة مشهوراً بذلك وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له بأن يكون مجاب الدعوة فحقق الله دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام فكانت دعوته مستجابة رضي الله عنه جاء في (مجمع الزوائد) عن عامر – يعني الشعبي – قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: متى أجبت الدعوة؟ قال: يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأضع السهم في كبد القوس ثم أقول: اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وافعل بهم وافعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم استجب لسعد)) رواه الطبراني وإسناده حسن (1).
وفيه أيضاً: عن سعد قال: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو فقال: ((اللهم استجب له إذا دعاك)). رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (2).
- ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة
…
)) الحديث (3).
- ومن مناقبه رضي الله عنه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من الشهداء فقد روى مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم (4).
فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد مع أنه لم يمت في معركة وإنما توفي بقصره بالعقيق سنة إحدى وخمسين وقيل ست وقيل ثمان والثاني أشهر (5).
قال النووي: وأما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء فقال القاضي: إنما سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة (6) قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة، وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة، رضي الله عنه وعنهم أجمعين ذلك هو سعد بن أبي وقاص وتلك طائفة من فضائله العظيمة رضي الله عنه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناصر بن علي عائض – 304/ 1
(1) رواه الطبراني (1/ 143)(318). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 156): إسناده حسن.
(2)
رواه البزار (1/ 215)(1218). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 156): رجاله رجال الصحيح.
(3)
رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193)(1675). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 436) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 136): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(4)
رواه مسلم (2417).
(5)
((الإصابة)) (2/ 31).
(6)
((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 190).