الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الأول: الأدلة على وقوع التفاضل بين الصحابة
لقد دلت أدلة الشرع من نصوص الكتاب والسنة على وقوع التفاضل بين الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10]. ففي الآية تفضيل طائفة من الصحابة وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على طائفة من الصحابة وهم الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا مع إثبات الفضل للجميع والتنبيه على أن تفضيل بعضهم على بعض لا يفضي إلى تنقيص المفضول إذ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.
وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100]. ففي الآية الثناء على الصحابة أجمعين مع تخصيص السابقين الأولين بالذكر، وهذا التخصيص ثم التعميم دليل على تفضيل المخصصين بالذكر على العموم.
وقال سبحانه وتعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32].
قال ابن عباس: (يريد: ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم)(1). ففي الآية دلالة على تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابيات على سائرهن.
ومن السنة: ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (2).
وجاء في رواية لمسلم بيان سبب ورود الحديث: أنه كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفيه دليل على تفضيل بعض الصحابة على بعض إذ فيه تفضيل عبد الرحمن وطبقته ممن أسلم قبل الفتح وقاتل على خالد وطبقته ممن أسلم بعد الحديبية وقاتل
…
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان)(3).
وفي رواية: (كنا نقول ورسول الله حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان)(4). زاد في رواية: (فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره)(5).
(1)((زاد المسير)) (6/ 378) و ((تفسير البغوي)) (3/ 527).
(2)
رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541).
(3)
رواه البخاري (3655).
(4)
رواه أبو داود (4628)، والترمذي (3707). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث عبيد الله بن عمر وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن ابن عمر.
(5)
رواه الطبراني (12/ 285)(13165). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 49): رجاله وثقوا وفيهم خلاف.
فهذا إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاضل بين الصحابة، وفيه تفضيل آحاد بأعيانهم على من سواهم، وتفضيل واحد بعينه على صاحبه وهو تفضيل أبي بكر على عمر وعمر على عثمان، وقد قال ابن عبد البر:(فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بفضائل خص كل واحد منهم بفضيلة وسمه بها وذكره فيها) قال: (ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه فضل منهم واحداً على صاحبه بعينه من وجه يصح) قلت: لعله يريد أنه لم يصح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لا من إقراره وإلا فحديث ابن عمر صحيح، ثم قال ابن عبد البر:(ولكنه ذكر من فضائلهم ما يستدل به على مواضعهم ومنازلهم من الفضل والدين والعلم، وكان صلى الله عليه وسلم أحلم وأكرم معاشرة، وأعلم بمحاسن الأخلاق من أن يواجه فاضلاً منهم بأن غيره أفضل منه فيجد من ذلك في نفسه، بل فضل السابقين منهم وأهل الاختصاص به على من لم ينل منازلهم فقال لهم: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))، وهو من معنى قول الله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ومحال أن يستوي من قاتله صلى الله عليه وسلم مع من قاتل عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من لم يشهد بدر وقد رآه يمشي بين يدي أبي بكر:((تمشي بين يدي من هو خير منك)) (1). وهذا لأنه كان أعلمنا ذلك في الجملة لمن شهد بدراً والحديبية، ولكل طبقة منهم منزلة معروفة وحال موصوفة) (2).
قلت: ثبوت تفضيل طائفة موصوفة من الصحابة على طائفة بالكتاب والسنة دليل قوي للقطع بتفضيل واحد بعينه من الطائفة الفاضلة على واحد بعينه من الطائفة المفضولة، وحديث أبي سعيد دليل لصحة هذا المأخذ، فإن سبب وروده نزاع بين واحد بعينه من طائفة فاضلة وهو عبد الرحمن بن عوف ممن أسلم قبل الفتح وقاتل، وآخر بعينه من طائفة مفضولة وهو خالد بن الوليد ممن أسلم متأخراً وقاتل، فقال صلى الله عليه وسلم ما قال مما يدل على تفضيله عبد الرحمن على خالد، والله أعلم. وهذا الحديث وإن لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابيين باسميهما إلا أنه كالتنصيص منه صلى الله عليه وسلم بتفضيل واحد بعينه على صاحبه، لدلالة سبب الورود على ذلك ولكنه صلى الله عليه وسلم – كما قال ابن عبد البر – أكرم وأحلم وأتم خلقاً وأحسن معاشرة من أن يسمي الفاضل والمفضول تسمية صريحة في مثل هذه الحال، والله أعلم.
وهنا مسألة: وهي: التفاضل ثابت بين الصحابة رضوان الله عليهم فهل نفاضل بينهم؟
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)) (3). ففي هذا اللفظ حصر المفاضلة في الثلاثة دون غيرهم، ولكن قد ثبت بالكتاب والسنة تفضيل بعض الصحابة على بعض
…
ولابد من تفضيل من فضله الله واعتقاد ذلك، ولذا قال ابن حجر:(قد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السنة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان، ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم، ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهوراً بيناً فيجزمون به ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص)(4).
فمذهب أهل السنة والجماعة تفضيل الصحابة بعضهم على بعض بمقتضى دلالات النصوص، إجمالاً فيما أجملته، وتفصيلاً فيما فصلته. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي- بتصرف – ص239
(1) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 152)، وابن أبي عاصم (2/ 576)(1224)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 325)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (12/ 438)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 208).
(2)
((الاستيعاب – بهامش الإصابة -)) (1/ 9).
(3)
((البخاري مع الفتح)) (7/ 54).
(4)
((فتح الباري)) (7/ 58).