الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: سب الصحابة رضي الله عنهم
سب الصحابة ليس على مرتبة واحدة، بل له مراتب متفاوتة، فإن سب الصحابة أنواع ودركات، فمنها سب يطعن في عدالتهم، ومنها سب لا يوجب الطعن في عدالتهم، وقد يكون السب لجميعهم، وأكثرهم وقد يكون لبعضهم، وهناك سب لمن تواترت النصوص بفضله، ومنهم دون ذلك.
وسنورد جملة من أنواع سب الصحابة رضي الله عنهم مما يعد ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:-
أ - إن كان مستحلاً لسب الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر (1)، فمن المعلوم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول، وقد أجمع العلماء على عدالتهم، لما جاء في الكتاب والسنة من الثناء الحسن عليهم، المدح لهم ونقل هذا الإجماع جمع كثير من العلماء، منهم النووي حيث يقول:-
(وكلهم عدول رضي الله عنهم، ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة
-إلى أن قال - ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين) (2).
ويقول ابن الصلاح في مقدمته: (للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.
- إلى أن قال - ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، نظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه أتاح الإجماع على ذلك، لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم) (3).
ويقول ابن كثير: (والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل)(4).
وقد تقرر أن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة، قال تعالى:- وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا [الحجرات: 12].
قال ابن تيمية: (وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً)(5).
وقال عز وجل: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران: 119].
قال ابن تيمية: (ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة)(6).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))) (7).
فسب الصحابة كبيرة من كبائر الذنوب، لما ترتب عليه من الوعيد باللعنة (8)، واستحلال سبهم إنكار لما علم تحريمه من الدين بالضرورة، ومن ثم فهو خروج عن الملة).
ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:-
(1)[10544])) انظر ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص 569 - 571).
(2)
[10545])) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (15/ 149).
(3)
[10546])) ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص 427، 428).
(4)
[10547])) ((الباعث الحثيث)) (ص 205).
(5)
[10548])) ((الصارم المسلول)) (ص 571).
(6)
[10549])) ((الصارم المسلول)) (ص 574).
(7)
[10550])) رواه الطبراني (12/ 142)، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 24): فيه عبد الله بن خراش وهو ضعيف، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6285).
(8)
[10551])) انظر تعريف الكبيرة في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 526)، و ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 650).
(فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصة على كمالهم فإن اعتقد حلية سبهم أو إباحته فقد كفر، لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبه كافر)(1).
(ب) ومما يناقض الإيمان: أن يسب جميع الصحابة، أو جمهورهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، كأن يرميهم بالكفر، أو الفسق، أو الضلال، وبيان ذلك من خلال النقول الآتية:-
يقول القاضي عياض: (وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية (2) من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم
…
لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا – والله أعلم – أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة) (3).
ويقول ابن تيمية: (وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام)(4).
ويقول السبكي: (إن سب الجميع لا شك أنه كفر
…
وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي: وبغضهم كفر، فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر) (5).
ويقول ابن كثير: (ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك - أي كتمان الوصية لعلي بالخلافة - فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضادته في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام
…
) (6).
ويقول ابن حجر الهيتمي: (إن تكفير جميع الصحابة كفر؛ لأنه صريح في إنكار جميع فروع الشريعة الضرورية فضلاً عن غيرها
…
) (7).
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر هو: (هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث)(8).
ويقول أيضاً: (ومن نسب جمهور أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الفسق والظلم، وجعل اجتماعهم على الباطل فقد أزدرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وازدراؤه كفر)(9).
(1)[10552])) ((الرد على الرافضة)) (ص: 18 - 19).
(2)
[10553])) الكميلية: ولعلها الكاملية، وهم أصحاب أبي كامل، وهم فرقة من غلاة الشيعة، أكفروا جميع الصحابة، وقالوا بالتناسخ والحلول. انظر:((الملل والنحل)) (1/ 174)، و ((اعتقادات فرق المسلمين)) (ص 60).
(3)
[10554])) ((الشفا)) (2/ 1072) باختصار
(4)
[10555])) ((الصارم المسلول)) (ص 586 - 587).
(5)
[10556])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 575).
(6)
[10557])) ((البداية والنهاية)) (5/ 252)
(7)
[10558])) ((الأعلام)) (ص 380).
(8)
[10559])) ((الرد على الرافضة)) (ص 13).
(9)
[10560])) ((الرد على الرافضة)) (ص 8) وانظر (ص 17).
ويقول محمد العربي بن التباني المغربي (1):-
(كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة (يعني الرافضة) في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم، تقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً
…
ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح) (2).
ويمكن أن نلحق بهذا النوع من السب - وإن كان أشنع مما سبق - فيما لو سب الصحابة رضي الله عنهم من أجل صحبتهم ونصرتهم لدين الله تعالى، ولو كان واحداً .. ، وإليك ما يبين ذلك من كلام أهل العلم.
يقول ابن حزم: (ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم، ومن عادى علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر)(3).
ويقول السبكي: (إن سب الجميع بلا شك أنه كفر، وهكذا إذا سب واحداً من الصحابة حيث هو صحابي؛ لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك في كفر الساب.
-إلى أن قال - ولا شك أنه لو أبغض واحداً منهما (أي الشيخين أبي بكر وعمر) لأجل صحبته فهو كفر، بل من دونهما في الصحبة، إذا أبغضه لصحبته كان كافراً قطعاً) (4).
ومما أورده الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: - ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) (5) حيث قال رحمه الله: (فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة - وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق، ويقرب هذا زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب (6): - ((من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم))) (7)، وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: - ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) (8).
(1)[10561])) أبو عبد الله محمد العربي التباني الجزائري ثم المكي، عالم معاصر، أصولي، مفسر، محدث، مؤرخ، درس في الحرم المكي، وكذا في مدرسة الفلاح بمكة، له مؤلفات جمة، كان حياً عام 1374 هـ. انظر: مقدمة كتابه ((تحذير العبقري من محاضرات الخضري)) (1/ 9)
(2)
[10562])) ((إتحاف ذوي النجابة)) (ص 75).
(3)
[10563])) ((الفصل)) (3/ 300)
(4)
[10564])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 575)
(5)
[10565])) رواه البخاري (17).
(6)
[10566])) الحديث رواه معاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة رضي الله عنهم، وليس البراء بن عازب، كما ذكر المصنف، أما حديث البراء بن عازب لفظه:((من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله)) رواه ابن ماجه (163) وابن منده في ((الإيمان)) (2/ 608) ، وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)).
(7)
[10567])) رواه الطبراني (19/ 341) ، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وصححه العراقي في ((محجة القرب)) (255)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 42): رجاله رجال الصحيح غير النعمان بن مرة وهو ثقة ، ورواه في ((الأوسط)) (1/ 298) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 42): رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن حاتم وهو ثقة،
(8)
[10568])) رواه مسلم (77).
ويوضح العيني هذا المعنى فيقول: (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين، وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصرة، وغير ذلك، وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة، والمهاجرين، بل في كل الصحابة، إذ كل منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم محض النفاق)(1).
ويقول الصاوي: (وأما من كفَّر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق، كما في الشامل؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وكذب الله ورسوله)(2).
(ج) من أنواع سب الصحابة الذي يناقض الإيمان: أن يسب صحابياً تواترت النصوص بفضله، فيطعن في دينه وعدالته، وذلك لما فيه من تكذيب لهذه النصوص المتواترة، والإنكار والمخالفة لحكم معلوم من الدين بالضرورة.
وإليك جملة من كلام أهل العلم في تقرير ذلك: -
قال مالك رحمه الله: (من شتم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل)(3).
(وسئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة، فقال: ما أراه على الإسلام، وسئل عمن يشتم عثمان، فقال رحمه الله: هذه زندقة)(4).
(وقال محمد بن يوسف الفريابي وسئل عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قيل: فيصلى عليه؟ قال: لا، وسأله: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته)(5).
وجاء في (الفتاوى البزازية): (ومن أنكر خلافة أبي بكر فهو كافر في الصحيح، ومنكر خلافة عمر رضي الله عنه فهو كافر في الأصح، ويجب إكفار الخوارج بإكفار عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم.
وفي الخلاصة: الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر) (6).
وقال الخرشي: (إن رمى عائشة بما برأها الله منه بأن قال زنت، أو أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة، أو واحداً منهم كفر)(7).
(1)[10569])) ((عمدة القارئ)) (1/ 173) وانظر ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص 581).
(2)
[10570])) ((الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي)) (6/ 160)، وانظر ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص 19)
(3)
[10571])) ((الشفا)) (2/ 1107)
(4)
[10572])) ((المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة)) للأحمدي (2/ 358 - 363)، وانظر ((السنة)) للخلال (3/ 493)
(5)
[10573])) ((السنة)) للخلال (3/ 499)
(6)
[10574])) ((الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية)) (6/ 318) وانظر ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 131).
(7)
[10575])) ((الخرشي على مختصر خليل)) (7/ 74)، وعلل العدوي ذلك في ((حاشيته)) على الخرشي (7/ 74):"لأن إسلام الصحابة صار معلوماً من دين الله بالضرورة. "
ويقول السبكي: (احتج المكفرون للشيعة والخوارج بتكفيرهم لأعلام الصحابة رضي الله عنهم، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعه لهم بالجنة، وهذا عندي احتجاج صحيح فيمن ثبت عليه تكفير أولئك، وأجاب الآمدي بأنه إنما يلزم أن لو كان المكفر يعلم بتزكية من كفره قطعاً على الإطلاق إلى مماته بقوله صلى الله عليه وسلم: - ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة)) (1) إلى آخرهم، وإن كان هذا الخبر ليس متواتراً لكنه مشهور مستفيض، وعضده إجماع الأمة على إمامتهم وعلو قدرهم وتواتر مناقبهم أعظم التواتر الذي يفيد تزكيتهم فبذلك نقطع بتزكيتهم على الإطلاق إلى مماتهم لا يختلجنا شك في ذلك) (2).
ويقول أيضاً: (وأما الرافضي فإنه يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لما استقر في ذهنه بجهله وما نشأ عليه من الفساد عن اعتقاد ظلمهما لعلي، وليس كذلك ولا علي يعتقد ذلك، فاعتقاد الرافضي ذلك يعود على الدين بنقض؛ لأن أبا بكر وعمر هما أصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مأخذ التكفير ببغض الرافضة لهما، وسبهم لهما)(3).
ويقول في موضع ثالث: (وتحريم سب الصديق رضي عنه معلوم من الدين بالضرورة بالنقل المتواتر على حسن إسلامه، وأفعاله الدالة على إيمانه وأنه دام على ذلك إلى أن قبضه الله تعالى هذا لا شك فيه)(4).
وهذه المسألة فيها خلاف، فهناك من لا يعد هذا السب كفراً، بل يجعله فسقاً، يوجب التأديب والتعزير.
ولا شك أن هذا السب فسق بالاتفاق، بل إن القائلين بعدم تكفير من سب الصحابة مجمعون على ذلك، كما قال السبكي:-
(وأجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة أنهم فساق)(5).
ويذكر ابن تيمية أن أقل ما يفعل بشاتم الصحابة: التعزير ويعلل ذلك بقوله: (لأنه - أي التعزير- مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) (6). وهذا مما لا يعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول) (7).
وإليك طرفاً من أقوال العلماء القائلين بعدم التكفير في هذا السب.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أرى أن يضرب
…
. وقال: (ما أراه إلا على الإسلام)(8).
ويقول القاضي عياض: (قد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: - من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب).
(1)[10576])) رواه أبو داود (4649) ، وابن ماجه (133) ، وأحمد (1/ 188)(1631) ، والطبراني في ((الأوسط)) (9/ 185) ، والنسائي في ((السنن الكبرى)) ، من حديث سعيد بن زيد، والحديث سكت عنه أبو داود، وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 108): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)).وروي أيضا من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(2)
[10577])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 569).
(3)
[10578])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 576).
(4)
[10579])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 587)، وانظر (2/ 589) وانظر ((الإعلام)) للهيتمي (ص: 352، 363، 380)
(5)
[10580])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 580).
(6)
[10581])) رواه البخاري (2443) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(7)
[10582])) ((الصارم المسلول)) (ص 578).
(8)
[10583])) انظر: ((المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة))، للأحمدي (2/ 363)، وانظر ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 323، 324).
وقال ابن حبيب: (من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أُدِّبَ أدباً شديداً، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه، ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سحنون: - من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: علياً أو عثمان أو غيرهما، يوجع ضرباً) (1).
وقال السبكي: (وأما أصحابنا (الشافعية) فقد قال القاضي حسين في تعليقه في باب اختلاف نية الإمام والمأموم: - من سب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك، ومن سب صحابياً فسق، وأما من سب الشيخين أو الختنين (2) ففيه وجهان، أحدهما يكفر؛ لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم، والثاني يفسق ولا يكفر) (3).
ويقول الرملي: (ولا يكفر بسب الشيخين أو الحسن والحسين إلا في وجه حكاه القاضي حسين)(4).
ويقول ابن عابدين: (نقل في البزازية عن الخلاصة أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، وإن كان يفضل علياً عليهما فهو مبتدع. أهـ
على أن الحكم عليه بالكفر مشكل، لما في الاختيار: اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً، ولكن يضلل
…
الخ.
وذكر في (فتح القدير) أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة.
-إلى أن قال – فعلم أن ما ذكره في الخلاصة من أنه كافر قول ضعيف مخالف للمتون والشروح
…
) (5).
ومما يستدل به القائلون بعدم كفر ساب الصحابة رضي الله عنهم بأن مطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر؛ لأن بعض من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك (6)
والجواب عن استدلالهم أن يقال: إن سب الصحابة نوعان، أحدهما سب يقدح في دين الصحابة وعدالتهم، كأن يرمي صحابياً بالكفر مثلاً ممن تواترت النصوص بفضله، فهذا من الكفر، لما يتضمنه من تكذيب للآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة الدالة على تزكيتهم وفضلهم، ولأن هذا السب إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومن ظن أن مثل هذا السب لا يعد كفراً، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع. والآخر أن يسب صحابياً – وإن كان ممن تواترت النصوص بفضله – سباً لا يقدح في إسلامه ودينه، مثل وصفه بالبخل، أو الجبن، أو قلة معرفة بالسياسة ونحو ذلك، فهذا لا يعتبر كفراً، ولكن يستحق فاعله التأديب والتعزير (7).
وكذا لو سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في دينه، فلا يكفر بهذا السب، لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة (8).
(1)[10584])) ((الشفا)) (2/ 1108)، وانظر ((الشرح الصغير)) للدردير (6/ 160)، و ((الخرشي على مختصر خليل)) (7/ 74)، و ((فتح العلي المالك)) لعليش (2/ 286)، و ((بلغة السالك لأقرب المسالك)) (2/ 420).
(2)
[10585])) يعني عثمان وعلياً رضي الله عنهما، وفي الأصل المطبوع: الحسين، والتصحيح من كتاب ((الإعلام)) لابن حجر (ص 352).
(3)
[10586])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 577)، وانظر ((فتح الباري)) (7/ 36).
(4)
[10587])) ((نهاية المحتاج)) (7/ 426)، وانظر ((قليوبي وعميرة)) (4/ 175).
(5)
[10588])) ((حاشية بن عابدين)) (4/ 237)، وانظر ((مجموعة رسائل ابن عابدين)) (1/ 342 – 345).
(6)
[10589])) انظر: ((الصارم المسلول)) (ص 579).
(7)
[10590])) انظر: ((الصارم المسلول)) (ص 571، 589).
(8)
[10591])) انظر: رسالة ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص 18، 19).
ولا شك أن ما قد وقع بين بعض الصحابة من سب ليس من النوع الأول، ويشهد لذلك أن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (1).
فقد جاءت رواية توضح وتبين حقيقة هذا السب، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده
…
)) الحديث (2).
وبهذا التفصيل والتفريق بين نوعي السب يمكن اجتماع القولين، كما يحصل التوفيق بين الأقوال المختلفة، فمثلاً الرواية السابقة عن الإمام أحمد: ما أراه إلا على الإسلام يمكن أن نضمها إلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد حيث قال: (ما أراه على الإسلام)(3).
وقد قال القاضي أبو يعلى في الجمع بين تلك الروايتين المتعارضتين عن الإمام أحمد (يحتمل أن قوله (ما أراه على الإسلام) إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال: ويحتمل قوله (ما أراه على الإسلام) على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سبٍ لا يطعن في دينهم، نحو قوله (كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة
…
) (4).
ويقول ابن تيمية – في هذا الصدد -: (وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم)(5).
وكذا يمكن التوفيق بين الروايات المختلفة عن الإمام مالك، فالرواية السابقة عن مالك: من شتم الصحابة أدب، لا تعارض مع ما جاء في الرواية الأخرى عنه حيث قال:(من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً)(6).
فهذه الرواية تبين ما أجمل في الرواية الأولى، فمن شتم الصحابة – ممن تواترت النصوص بفضلهم – شتماً يقدح في دينهم فهو كافر يجب قتله، ومن شتمهم بغير هذا فليس بكافر، ويتعين تعزيره وتأديبه.
وأيضاً فرواية مالك: (من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: - من رماها فقد خالف القرآن)(7).
فمراده – والله أعلم – أن يسب الصديق رضي الله عنه سباً لا يقدح في دينه، وذلك لما ورد عنه رحمه الله من القول بالقتل فيمن شتم من هو دون الصديق.
(1)[10592])) رواه مسلم (2541).
(2)
[10593])) رواه أحمد (3/ 266)(13839)، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 19): رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ((السلسة الصحيحة)) (4/ 556): إسناده صحيح على شرط البخاري.
(3)
[10594])) انظر ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد))، للأحمدي (2/ 363، 364).
(4)
[10595])) ((الصارم المسلول)) (ص: 571).
(5)
[10596])) ((الصارم المسلول)) (ص: 586).
(6)
[10597])) ((الشفا)) (2/ 1108)
(7)
[10598])) ((الشفا)) (2/ 1109)
يوضح ذلك ما قاله السبكي: (فيتلخص أن سب أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر، وأما مالك فالمشهور أنه أوجب الجلد، فيقتضي أنه ليس كفراً، ولم أر عنده خلاف ذلك، إلا في الخوارج فتخرج عنه أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالتين: إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفر، وإن كفر كفر)(1).
ويقول أيضاً: (القائل بأن الساب لا يكفر لم نتحقق منه أن يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فأحد الوجهين عندنا إنما اقتصرنا على مجرد السب دون التكفير، وكذلك أحمد إنما جبن عن قتل من لم يصدر منه إلا السب)(2).
وإذا تقرر نوعا السب والطعن في حق الصحابة رضي الله عنهم، فإن من أنواع السب ما لا يمكن القطع بإلحاقه في أحد النوعين السابقين، بل يكون محل تردد، وهذا النوع هو ما قال عنه ابن تيمية:-
(وأما من لعن وقبح مطلقاً، فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد)(3).
من قذف إحدى أمهات المؤمنين، فإن كانت عائشة رضي الله عنها فهو كافر بالإجماع ومن قذف غيرها من أمهات المؤمنين فهو أيضاً كافر على أصح الأقوال.
وبيان ذلك أن قذف عائشة رضي الله عنها تكذيب ومعاندة للقرآن، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله تعالى.
قال تعالى: - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: 17].
كما قال الإمام مالك: (من سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن)(4).
قال ابن حزم معلقاً على مقالة مالك: (قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها)(5).
وذكر ابن بطة عائشة رضي الله عنها، وأنها:(مبرأة طاهرة خيرة فاضلة وصاحبته في الجنة، وهي أم المؤمنين في الدنيا والآخرة، فمن شك في ذلك، أو طعن فيه، أو توقف عنه، فقد كذب بكتاب الله، وشك فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه من عند غير الله عز وجل، قال الله تعالى: - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: 17]، فمن أنكر هذا فقد برئ من الإيمان)(6).
إضافة إلى ذلك، فإن قذف عائشة رضي الله عنها يعد تنقصاً للرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء له، ولذا قال السبكي: (وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها والعياذ بالله فموجبة للقتل لأمرين:-
أحدهما: أن القرآن الكريم يشهد ببراءتها، فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها تكذيب له.
الثاني: أنها فراش النبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة فيها تنقيص له، وتنقيصه كفر) (7).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (من قذف عائشة بالفاحشة
…
فقد جاء بكذب ظاهر واكتسب الإثم، واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءاً وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً وهو عند الله عظيم، واتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم (8).
إضافة إلى ذلك، فقد أجمع العلماء على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فهو كافر.
(1)[10599])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 590).
(2)
[10600])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 590).
(3)
[10601])) ((الصارم المسلول)) (ص 586)، وانظر ((فتاوى السبكي)) (2/ 579).
(4)
[10602])) انظر ((الشفا)) (2/ 1109).
(5)
[10603])) ((المحلى)) (13/ 504).
(6)
[10604])) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 270).
(7)
[10605])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 592).
(8)
[10606])) ((الرد على الرافضة)) (ص: 24) بتصرف يسير
يقول ابن تيمية رحمه الله: (ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فقد كفر؛ لأنه مكذب للقرآن)(1).
ويقول ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: - إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور: 23]: -
(وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن)(2).
وأما من قذف سائر أمهات المؤمنين، فهل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين أصحهما أنه يكفر.
والقول الآخر أنه لا يكفر، وقالوا: إن القرآن قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، فمن خالف ذلك وأنكره، فهو مكذب للقرآن، ومن ثم فهو كافر بالله تعالى، ولم يرد مثل هذا في بقية أمهات المؤمنين.
والجواب عن ذلك أن يقال: (المقذوفة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها؛ لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء)(3).
كما أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في أعراضهن تنقص ومسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة بالإجماع (4).
وقد اختار القول الأول جمع من المحققين، كابن حزم (5)، والقاضي عياض (6)، وابن تيمية (7)، والسبكي (8) وغيرهم.
ويقول ابن تيمية: (والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها؛ لأن هذا منه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن)(9).
ويدل على هذا قوله تعالى: - إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور: 23].
فهذه الآية الكريمة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة، في قول كثير من أهل العلم كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين.
وكذا روي عن أبي الجوزاء، والضحاك، والكلبي وغيرهم) (10).
يقول ابن تيمية عن هذه الآية: (لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فلعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: - ليس له توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً، وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة)(11).
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية:
(1)[10607])) ((الرد على البكري)) (ص: 340).
(2)
[10608])) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 267)، وقد حكى ابن كثير هذا الإجماع أيضاً في ((البداية)) (8/ 92)، وانظر ((مجموعة رسائل ابن عابدين)) (1/ 345).
(3)
[10609])) انظر ((البداية)) لابن كثير (8/ 92)
(4)
[10610])) انظر ((فتاوى السبكي)) (2/ 592)، و ((طرح التثريب)) للعراقي (8/ 69).
(5)
[10611])) انظر ((المحلى)) (13/ 504).
(6)
[10612])) انظر ((الشفا)) (2/ 1113).
(7)
[10613])) انظر ((الصارم المسلول)) (ص 567).
(8)
[10614])) انظر ((فتاوى السبكي)) (2/ 592).
(9)
[10615])) ((الصارم المسلول)) (ص 567)
(10)
[10616])) انظر ((تفسير الطبري)) (18/ 74)، و ((تفسيرابن كثير)) (3/ 268)، و ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/ 164).
(11)
[10617])) ((الصارم المسلول)) (ص47)
(والمراد بها عائشة الصديقة رضي الله عنها، والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: - كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105]، ونظائره، وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولاً أولياً.
وأما ما قيل من أن المراد هي الصديقة، والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، فيأباه، أن العقوبات المترتبة على رمي هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، ولا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين، فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات، فجعل رميهن كفراً إبرازاً لكرامتهن على الله عز وجل، وحماية في صاحب الرسالة من أن يحوم حوله أحد بسوء) (1).
3 -
ومن خلال عرض أنواع سب الصحابة التي تخرج عن الملة، فإنه يمكن أن نسوق جملة من الأوجه في كون هذا السب ناقضاً من نواقض الإيمان، على النحو التالي:-
أ- أن في سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيباً للقرآن الكريم، وإنكاراً لما تضمنته الآيات القرآنية من تزكيتهم والثناء الحسن عليهم.
ولذا يقول ابن تيمية: (إن الله سبحانه رضي عنهم رضاً مطلقاً بقوله تعالى:- وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100] فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، وقال تعالى: - لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18]، والرضى من الله صفة قديمة (2)، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً
إلى أن قال: (فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أن يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك)(3).
ويقول ابن حجر الهيتمي: (ومنها قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18]، فصرح تعالى برضاه عن أولئك وهم ألف ونحو أربعمائة، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاة على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر، فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضي عنه، فعلم أن كلا من هذه الآية وما قبلها صريح في رد ما زعمه وافتراه أولئك الملحدون الجاحدون حتى للقرآن العزيز، إذ يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم، وأنهم عدول خيار، وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم، فمن لم يصدق بذلك منهم فهو مكذب لما في القرآن، ومن كذب بما فيه مما لا يحتمل التأويل كان كافراً جاحداً ملحداً مارقاً)(4).
(1)[10618])) ((تفسير أبي السعود)) (4/ 104 – 105).
(2)
[10619])) الرضى من صفات الله تعالى الفعلية التي تتعلق بمشيئة اختياره
(3)
[10620])) ((الصارم المسلول)) (ص 572، 573)، وانظر ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 117)
(4)
[10621])) ((الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة)) (ص 316).
وقد استنبط بعض الأئمة من نصوص قرآنية كفر من سب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فقال الإمام مالك بن أنس: (من تنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا قوله تعالى: مَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ حتى أتى قوله: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ الآية [الحشر:7 - 10]، فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له في الفيء حق)(1).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (لا حظ للرافضي في الفيء والغنيمة لقول الله حين ذكر آية الفيء في سورة الحشر، فقال وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ .. الآية)(2).
(وقال أبو عروة – رجل من ولد الزبير: - كنا عند مالك، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: - مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء حتى بلغ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ [الفتح:29] فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية)(3).
قال القرطبي – معلقاً على قول مالك -: -
(لقد أحسن مالك في مقالته، وأصاب في تأويله، فمن تنقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته، فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين)(4).
ولما ذكر أبو المعالي الألوسي هذه الآية مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ قال: (قال العلماء هذه الآية ناصة على أن الرافضة كفرة؛ لأنهم يكرهونهم، بل يكفرونهم والعياذ بالله تعالى)(5).
وننبه هاهنا إلى أن قول مالك رحمه الله: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية، إنما يحمل على غيظ سببه ما كان عليه الصحابة من الإيمان والقوة والكثرة، قال تعالى: - مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].
فكثرهم الله تعالى وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين، فمن غاظه حال الصحابة رضي الله عنهم لإيمانهم فهو كافر، كمن سبهم طعناً في دينهم وعدالتهم، وأما إن وقع الغيظ من غير هذه الجهة، فليس بكفر، فقد جرت حروب بين الصحابة، ووقع من بعضهم غيظ وبغض لبعض، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بكفر أو نفاق.
(1)[10622])) ((الحلية)) لأبي نعيم (6/ 327)، وانظر ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1268)
(2)
[10623])) ((السنة)) للخلال (3/ 498).
(3)
[10624])) ((الحلية)) لأبي نعيم (6/ 327)
(4)
[10625])) ((تفسير القرطبي)) (16/ 96 – 297)
(5)
[10626])) السيوف المشرقة (مخطوط)، (ق 238).
وتوضيحاً لذلك نورد ما قاله العيني، ونقله عن القرطبي (1) صاحب (المفهم) .. عند شرحه لحديث:((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) (2) حيث يقول العيني: (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار، وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق.
وقال القرطبي: - وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه، لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام) (3).
وبهذا ندرك خطأ ما قاله ابن حزم عند خطأ من حمل الآية: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ .. على ما استنبطه الإمام مالك (4)، فابن حزم لم يفرق بين الغيظ الذي يوجب خروجاً عن الملة، وبين الغيظ فيما دون ذلك.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم وفضلهم ومكذبه كافر)(5).
وإذا تقرر أن سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيب للقرآن الكريم، فإن القول بكفر جمهور الصحابة رضي الله عنهم، أو فسقهم يؤول إلى الشك في القرآن الكريم، والطعن في ثبوته وحفظه؛ لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، ولذا فإن الرافضة لما كفروا جمهور الصحابة، اتبعوا ذلك بدعوى تحريف القرآن الكريم وتبديله.
(ب) أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى، أو العبث في تلك النصوص الكثيرة التي تقرر الثناء الحسن على الصحابة، وتزكيهم.
ويبين ذلك الشيخ محمد العربي بن التباني المغربي حيث يقول:-
(كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم، ورضاهم عنه بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة (أي الرافضة) في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم وتقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وكلاهما مصيبة كبرى، وذلك لأنه تعالى إن كان عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبثاً، والعبث في حقه تعالى محال، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الدخان:38]، وإن كان تعالى غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم بالحسنى فهو جهل، والجهل عليه تعالى محال، ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح) (6).
(1)[10627])) أبو العباس أحمد بن عمرو بن إبراهيم القرطبي المالكي، محدث، فقيه، رحل إلى المشرق، له مؤلفات، توفي بالإسكندرية سنة 656 هـ. انظر:((الديباج المذهب)) (1/ 240)، و ((شذرات الذهب)) (5/ 273).
(2)
رواه البخاري (17)، ومسلم (74). من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
[10629])) ((عمدة القارئ)) (1/ 173) باختصار، وانظر ((فتح الباري)) (1/ 63)
(4)
[10630])) انظر ((الفصل)) (3/ 294).
(5)
[10631])) ((الرد على الرافضة)) (ص17)
(6)
[10632])) ((إتحاف ذوي النجابة)) بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة (ص 75) باختصار
(ج) من سب الصحابة رضي الله عنهم، ورماهم بالكفر أو الفسق، فقد تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه؛ لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم، ومن المعلوم أن تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة (1).
أخرج الخطيب البغدادي – بسنده – عن أبي زرعة قال: - (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة)(2).
ومن أشنع أنواع السب: أن يقذف إحدى أمهات المؤمنين، لما في الوقيعة في أعراضهن من التنقص والمسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ساق اللالكائي بسنده (أن الحسن بن زيد لما ذكر رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فأمر بضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26].
فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه. فضربوا عنقه) (3).
وأخرج اللالكائي – بسنده – عن محمد بن زيد أنه قدم عليه من العراق رجل ينوح بين يديه فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود، وضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا وممن يتولانا، فقال: هذا سمى جدي قرنان (4) استحق عليه القتل فقتلته (5)
إضافة إلى ذلك فإن هذا السب يستلزم اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم ينجح في دعوته، ولم يحقق البلاغ المبين، وقد زعم من لا خلاق له من الدين والعلم، أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت على الإيمان إلا القليل، وقد يؤول هذا الأمر إلى اليأس من إصلاح البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
(د) أن سب الصحابة رضي الله عنهم، والطعن في دينهم، هو طعن في الدين، وإبطال للشريعة، وهدم لأصله، لعدم توافر النقل المأمون له.
وإليك هذه القصة التي تبين ذلك: -
(1)[10633])) انظر ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (حاشية المحقق)(7/ 1238)، ((فتاوى السبكي)) (2/ 575)، و ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص 8)، و ((صحابة الرسول)) للكبيسي (ص 337)
(2)
[10634])) ((الكفاية في علم الرواية)) (ص 63 - 64)
(3)
[10635])) انظر: ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1269)
(4)
[10636])) في الأصل: قرتان، وقال المحقق: لم يتبين لي معناها ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1270) والصحيح ما أثبته كما نقله ابن تيمية في ((الصارم المسلول)) (ص 67) ومعنى قرنان: - (هو الذي يشارك في امرأته كأن يقرن به غيره، وهو نعت سوء في الرجل الذي لا غيرة له)((لسان العرب)) (13/ 338).
(5)
[10637])) انظر ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1270).
قال عمر بن حبيب: (حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة تنازعها الحضور، وعلت أصواتهم، فاحتج أحدهم بحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة والخصومة، حين قال قائلون منهم: - لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل، صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه بيده والسيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم)(1).
وقال ابن عقيل الحنبلي في هذا المقال: (الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف، وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم
…
فإذا قال قائل: - إنهم أول ما بدؤوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة، وابنته في إرثها، وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفي.
فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم.
فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده، خابت آمالنا في الشرع؛ لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول، ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه، فراعوه مدة الحياة، وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة، ولم يبقى على دينه إلا الأقل من أهله، فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل، فهذا من أعظم المحن على الشريعة) (2).
وقال الذهبي: (فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وبيان فضائلهم ومناقبهم وحبهم
…
إلى أن قال – والطعن في الوسائط طعن الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته
…
) (3).
(1)[10638])) ((تهذيب الكمال)) (2/ 1004، 1005).
(2)
[10639])) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 107، 108)
(3)
[10640])) ((الكبائر)) (ص 285)
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر: - (هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث
…
فهؤلاء أشد ضرراً على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه، فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه، وتجوز كتمان ما عورض به القرآن، وتجوز تغيير القرآن
…
) (1).
ويقول محمد صديق حسن خان: (والعجب كل العجب من علماء الإسلام وسلاطين هذا الدين كيف تركوهم (أي الرافضة) على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ونهايته، فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها، طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم، واستذلوا أهل العقول الضعيفة والإدراكات الركيكة بهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة ورفع أحكامها عن العباد) (2).
(هـ) إن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل الأمة المحمدية، ويتضمن أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام (3).
كما أن سبهم إنكار لما قام الإجماع عليه، قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة للنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في بيان علو مقامهم وعظيم شأنهم (4) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- ص: 410
(1)[10641])) ((الرد على الرافضة)) (ص 13) باختصار
(2)
[10642])) ((الدين الخالص)) (3/ 404).
(3)
[10643])) انظر ((الصارم المسلول)) (ص 587)، و (الأعلام) لابن حجر الهيتمي (ص 380).
(4)
[10644])) انظر ((صحابة الرسول)) للكبيسي (ص337).