الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني دوافع التشاجر بين الصحابة
إن أعظم دافع لهم إلى ذلك ليس إلا مطالبة الخليفة الرابع بوجوب الإسراع بأخذ القود من أولئك الأشرار قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه ذلك أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين كانوا يرون أنه لابد من المطالبة بدم عثمان ووجوب الإسراع بإقامة حد الله عليهم كما أمر الله (1).
بينما كان يرى علي رضي الله عنه إرجاء الأمر حتى يبايعه أهل الشام ويستتب له الأمر ليتسنى له بعد ذلك التمكن من القبض عليهم لأنهم كانوا كثيرين في جيش علي ومن قبائل مختلفة وكانوا لهم بعض التمكن حينذاك.
قال الحافظ ابن كثير: (ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة – رضي الله عنهم – وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا)(2) اهـ.
ومما يؤكد أن سبب البداية للتشاجر بين الصحابة هو قتل عثمان رضي الله عنه (أن علياً رضي الله عنه بعد أن بويع له بالخلافة شرع في إرسال عماله إلى الأمصار فكان من أرسله إلى الشام بدل معاوية سهل بن حنيف فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير قالوا: على أي شي؟ قال: على الشام فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك وإن كان غيره فارجع فقال: أو ما سمعتم بالذي كان؟ قالوا بلى فرجع إلى علي، وأما قيس بن سعد بن عبادة – فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميراً على الكوفة فصده طليحة بن خويلد – الأسدي – غضباً لعثمان فرجع إلى علي فأخبره)(3) (وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه، يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة والتابعين: شريك بن حباشة وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم
…
وغيرهم من التابعين) (4). (ولما كان رأي كل واحد من الفريقين مضاداً لرأي الآخر من هنا اختلفت الكلمة وتفاقم الأمر، وانتشرت الفتنة فما كان من علي رضي الله عنه وهو الخليفة الحق الذي تجب طاعته إلا أن قام بإرسال الكتب المتتابعة إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه فيها إلى البيعة غير أن معاوية رضي الله عنه لم يرد شيئا فكرر عليه علي رضي الله عنه ذلك مراراً إلى أن دخل الشهر الثالث من مقتل ذي النورين رضي الله عنه، ثم بعث بعد ذلك طوماراً من رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور
…
فقال علي: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان) (5).
(1) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 462 - 464، 5/ 6)، ((الكامل في التاريخ)) (3/ 212 - 213)، (ص: 286)، ((البداية والنهاية)) (7/ 251 - 253)، (ص: 281 - 282).
(2)
((البداية والنهاية)) (7/ 248 - 249)، وانظر ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (4/ 437)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 195 - 196).
(3)
((تاريخ ابن جرير الطبري)) (4/ 442)، كتاب ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 201)، ((البداية والنهاية)) (7/ 249 - 250).
(4)
((البداية والنهاية)) (7/ 248).
(5)
((تاريخ الطبري)) (4/ 444).
وقد وجه علي رضي الله عنه جماعة إلى معاوية رضي الله عنه وهو بصفين منهم بشير بن عمرو الأنصاري وقال لهم: (ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم فلما دخلوا على معاوية "قال له بشير بن عمرو: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها – إلى أن قال له: - وإنه – أي علي – يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك فقال معاوية: ويبطل دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً)(1).
(وقد دخل أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما أيام صفين على معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بهذا الأمر منك – فكان جوابه عليهم – أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من يبايعه من أهل الشام)(2) فهذه الرواية وما قبله تبين لنا أن معاوية رضي الله عنه كان باذلاً للبيعة بالخلافة لعلي رضي الله عنه لكن بشرط تعجيل القود من قتلة عثمان وكان رأي علي رضي الله عنه أن يدخل معاوية في البيعة أولاً ثم بعد ذلك يتتبع القتلة ويقام عليهم الحد الشرعي بعد إقامة الدعوى والإجابة ثم صدور الحكم فيهم كما أمر الله به. ولكن لما رأى علي ومعاوية رضي الله عنهما رأيين متضادين لا يلتقيان أدى ذلك إلى المنازعة واختلاف الكلمة، ولما رأى علي رضي الله عنه أن الكتب التي وجهها إلى معاوية لم تجد شيئاً بل إن الفتنة بدأت تشتد ولم تزدد الأمور إلا تعقيداً حيث استأثر معاوية رضي الله عنه ببلاد الشام ولم يسمح لأمر علي أن يمتد إليها وهو الخليفة الحق بعد ذي النورين، وأن من حقه على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، وأخذ في إعداد الجيش لقتال أهل الشام، وحاول الحسن ابنه أن يثنيه عن ذلك وقال له: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين (3). فلم يسمع لقوله بل هيأ الجيش ودفع اللواء إلى ولده محمد بن علي – المعروف بابن الحنفية – غير أنه لم يتمكن مما قصده من تسيير الجيش إلى بلاد الشام فإنه جاءه ما شغله عن ذلك وهو توجه أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة وعندما بلغ هذا الخبر علياً – رضي الله عنه – عدل عن وجهته إلى الشام وغير رأيه وتوجه إلى البصرة بدلاً من الشام وهكذا بدأ النزاع يتدرج بين الصحابة رضي الله عنهم من طور الكتابة والمحاورة إلى طور التعبئة وتجهيز الجيوش استعداداً للقتال والمواجهة للضرب بالسيوف وقد تمثل ذلك في موقعتين:
الأولى: موقعة الجمل.
الثانية: موقعة صفين.
(1)((تاريخ الطبري)) (4/ 573)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 285 - 286)، ((البداية والنهاية)) (7/ 280).
(2)
ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 283).
(3)
انظر: ((البداية والنهاية)) (7/ 257).
أما موقعة الجمل فقد دارت رحا الحرب فيها بين علي رضي الله عنه ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم رضي الله عنهم وذلك أنه: (لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق سنة خمس وثلاثين للهجرة – كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم – أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل أقمن بمكة (1) وقد تجمع بمكة خلق كثير وجم غفير من سادات الصحابة منهم طلحة والزبير حيث استأذنا علياً في الاعتمار فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهما كثير من الناس وكذا قدم إلى مكة ابن عمر ومن اليمن يعلى بن أمية عامل عثمان عليها وعبد الله بن عامر عامله على البصرة ولم يزل الناس حينذاك يفدون على مكة ولما كثروا فيها قامت فيهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فحثتهم على القيام بطلب دم عثمان وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام ولم يراقبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة وقالوا لها: حيثما سرت سرنا معك وبعد أن تعددت آراؤهم في تحديد الجهة التي يسيرون إليها أجمعوا على الذهاب إلى البصرة فلما أتوا البصرة منعهم من دخولها عثمان بن حنيف عامل علي عليها حينذاك وجرت بينه وبينهم مراسلة ومحاورة حتى وصل الأمر بهم إلى المشاجرة ثم ما لبثوا أن اصطلحوا بعد ذلك إلى أن يقدم علي رضي الله عنه لأنه بلغهم أنه متوجه إليهم – وكما تقدم قريباً أنه عدل عن المسير إلى الشام بعد أن بلغه مسير أم المؤمنين عائشة إلى البصرة فأخذ في الاتجاه بعدهم في جمع كبير وهو يرجو أن يدركهم قبل وصولهم إلى البصرة فلما علم أنهم قد فاتوه، استمر في طريقه إليهم قاصداً البصرة من أرض العراق) (2).
(1)((البداية والنهاية)) (7/ 250).
(2)
((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 455)، ((الكامل)) (3/ 221 - 222)، ((لبداية والنهاية)) (7/ 255).
لما انتهى إلى البصرة كاتب أبا موسى الأشعري رضي الله عنه – عامله على الكوفة وطلب منه أنه يستنفر الناس ليلحقوا به غير أن أبا موسى رضي الله عنه كان يرى عكس رأي علي فكان يدعو إلى القعود ويقول: (وإنما هي فتنة وجعل كلما جاء رسول من عند علي رده بمثل ذلك حتى أرسل علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر فقال الحسن لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف علي شيء فقال: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب)) (1) وقد جعلنا الله إخواناً وحرم علينا دماءنا وأموالنا فكان كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر – ولكن مع ذلك استجاب للنفير كثير من الناس فخرج مع الحسن جمع كبير من أهل الكوفة وقدموا على علي رضي الله عنه فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى) (2) وفي هذا توضيح لمقصد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأن مقصده الأول والأخير هو طلب الإصلاح وأن القتال كان غير محبب إلى نفسه لاسيما مع إخوانه البررة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان مقصد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير من خروجهم من مكة إلى البصرة من أرض العراق هو التماس الإصلاح بين المسلمين بأمر يرتضيه طرفا النزاع ويحسم به الاختلاف وتجتمع به كلمة المسلمين ولم يخرجوا مقاتلين ولا داعين لأحد منهم ليولوه الخلافة هذا ما قرره العلماء من أهل السنة، قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى:(وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا حددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لاشك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقصاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدئ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامها فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها)(3).
(1) رواه البخاري (3601)، ومسلم (2886). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 477 - 478)، ((الكامل)) (3/ 227 - 232)، ((البداية والنهاية)) (7/ 257 - 258).
(3)
((الفصل في الممل والأهواء والنحل)) (4/ 158).
وقال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره للغرض الذي خرجت له عائشة ومن معها من مكة إلى البصرة: (ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين وضم نشرهم وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا وهذا هو الصحيح لا شيء سواه)(1).
وقال أبو الوليد بن رشد المالكي: بعد ذكره قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] الآية (فأرادت عائشة رضي الله عنها بقولها والله أعلم: ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحرب التي وقعت بينهم واعتزالهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض ورأت أن الأحظ لهم والواجب عليهم إنما كان أن يرموا الإصلاح بينهم)(2)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في صدد ذكره لبعض الأدلة التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها ما خرجت إلا للإصلاح:(ويدل لذلك أن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة)(3).
فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما قصدت بخروجها إلى البصرة إلا الإصلاح بين بنيها رضي الله عنها وبهذا وردت أخبار منها:
(1)
روى ابن جرير الطبري: (أن عثمان بن حنيف لما بلغه مجيء عائشة رضي الله عنها إلى البصرة أرسل إليها عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي فقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها، وعلم من معها فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير فاستأذنا فأذنت لهما فسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام، فسفكوه وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام ومزقوا الأعراض والجلود وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا وقرأت لَاّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114])(4).
(1)((العواصم من القواصم)) (ص: 151).
(2)
((البيان والتحصيل)) (16/ 360).
(3)
((فتح الباري)) (13/ 56).
(4)
((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 461 - 462)، ((الكامل في التاريخ)) (3/ 211)، ((البداية والنهاية)) (7/ 252).
(2)
وروى أيضاً: (أن علياً رضي الله عنه لما نزل بذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم الفرقة .. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلم عليها وقال: أي أمه ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت أي بني إصلاح بين الناس قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما فبعثت إليهما فجاءا فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا نصلح قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن)(1).
(3)
لما رجع القعقاع بن عمرو إلى علي رضي الله عنه وأخبره أن أصحاب الجمل استجابوا إلى ما بعثه به إليهم أذعن علي لذلك وبعث إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: (إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس)(2) ففي هذه الأخبار دليل واضح على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن تقصد بخروجها هي ومن معها تفريق الجماعة ولا شفاء حقد بينها وبين علي كما يزعمه ذلك مبغضوا الصحابة من الرافضة، وإنما الغرض الذي كانت تريده الإصلاح بين الناس ابتغاء مرضات الله راجية الثواب على ذلك من الله، كما أن الذين طلبوا منها الخروج وهم طلحة والزبير ومن معهما كانوا كذلك، وكانوا يعلقون آمالاً على خروجها في حسم الاختلاف وجمع الكلمة ولم يكن يخطر على بالهم قتل أحد لأنهم ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا.
قال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره لبيان الغرض الذي خرجت من أجله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها قائلاً: (فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم واحتجوا عليها عندما حاولت الامتناع بقول الله تعالى: لَاّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114] ثم قالوا لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج في الصلح وأرسل فيه فرجت المثوبة واغتنمت الفرصة وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها)(3).
وقال أيضاً: في معرض الرد على من قال: إن أهل البصرة لما عرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير خرجوا ليقاتلوهم وعلى رأسهم حكيم بن جبلة قال في شأن حكيم هذا: (وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة، وإنما جاءوا ساعين في الصلح راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد)(4).
(1)((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 448)، ((الكامل لابن الأثير)) (3/ 233)، ((البداية والنهاية)) (7/ 259).
(2)
ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 261).
(3)
((العواصم من القواصم)) (ص: 152).
(4)
((العواصم من القواصم)) (ص: 154).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن بين بطلان الحديث الذي نصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((تقاتلين علياً وأنت ظالمة)) (1)، بيّن أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناده معروف وبين أنه إلى الموضوعات أشبه ثم قال بعد ذلك: (فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين
…
لا قاتلت ولا أمرت بقتال هكذا ذكر غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار) (2).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً القصد الذي خرجت من أجله عائشة رضي الله عنها هي ومن معها: (والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه)(3).
فلا مقصد إذن من خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها من الصحابة من مكة إلى البصرة إلا بغية الإصلاح بين المسلمين ولم تخرج لقتال ولا أمرت به ثم أيضاً: إن فكرة الصلح لم تكن عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها فحسب بل كانت أيضاً: تجول في فكر علي رضي الله عنه ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم معنا قريباً أن علياً رضي الله عنه بعث إلى طلحة والزبير يقول: (إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس)(4) ولما كان جوابهم على علي رضي الله عنه بهذا (اطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه محمد بن طلحة السجاد وعولوا جميعاً على الصلح وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية)(5). فهكذا كانت فكرة الصلح مسيطرة على عقول الجميع من الطرفين كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه حتى في وقت استعدادهم للقتال وفي أثناء تنظيم الجيوش.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: (ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح
…
ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح وكان أصحاب علي عشرون ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتوافقوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب فافترقوا على ذلك) (6).
(1) لا أصل له.
(2)
((منهاج السنة)) (2/ 185).
(3)
((فتح الباري)) (7/ 108).
(4)
((البداية والنهاية)) (7/ 261).
(5)
انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 506)، ((الكامل لابن الأثير)) (3/ 242)، ((البداية والنهاية)) (7/ 261).
(6)
((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 505)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 241 - 242).
ولما أرسلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى علي رضي الله عنه تعلمه أنها إنما جاءت للصلح فرح هؤلاء وهؤلاء لاتفاقهم على رأي واحد وهو الصلح ولما رجع القعقاع بن عمرو من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم (جمع علي الناس ثم قام خطيباً فيهم – فحمد الله – عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس)(1).
ففكرة الصلح كانت هي المقصد الذي يطلبه الفريقان واتفقوا عليه وكان المسلمون حينئذ مجمعين على وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان ولم يخطر القتال على بال أحد منهم، ولكن المفسدين في الأرض الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه أصابهم الغم وأدركهم الحزن من اتفاق الكلمة وجمع الشمل، وأيقنوا أن الصلح الذي حصل الاتفاق عليه بين علي وأم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم سيكشف أمرهم وسيسلم رؤوسهم إلى سيف الحق وقصاص الخليفة فباتوا يدبرون أمرهم بليل شديد الظلمة فلم يجدوا سبيلاً لنجاتهم إلا بأن يعملوا على إبطال الصلح وتفريق صفوف المسلمين وذلك بأن يقوموا بعمل يحير العقلاء ويجعل كل فريق يسيء الظن بالآخر. فقد أجمعوا على إنشاب الحرب في السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر وخاصة بعد أن تيقنوا أن رأي علي فيهم موافق لرأي طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وقض مضجعهم قوله رضي الله عنه في خطبته التي ذكرناها آنفاً:(ألا وإني راحل غداً فارتحلوا ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس)(2) (فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى وعبدالله بن سبأ – المعروف بابن السوداء- وسالم بن ثعلبة وعلياء بن الهيثم وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ولله الحمد فقالوا: ما هذا الرأي؟ وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك وقد قال ما سمعتم غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟
فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم فإن كان اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان فرضي القوم منا بالسكوت فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت لو قتلناه فإنا يا معشر قتلة عثمان – في ألفين وخمسمائة – وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف لا طاقة لكم بهم وهم إنما يريدونكم.
(1)((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 493)، وانظر ((البداية والنهاية)) (7/ 260).
(2)
((البداية والنهاية)) (7/ 260).
فقال علياء بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذاً والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء: قبحه الله يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فأنشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون ويأتيهم ما يكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه) (1) فاجتمعوا على هذا الرأي الذي تفوه به الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي (فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربيعهم إلى ربيعهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السلاح بغتة فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبلغ طلحة والزبير ما وقع من الاعتداء على أهل البصرة فقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً وفي نفس الوقت حسب خطة أولئك المفسدين ذهبت منهم فرقة أخرى في ظلمة الليل ففاجأت معسكر علي بوضع السيف فيهم وقد وضعت السبئيه رجلاً قريباً من علي يخبره بما يريدون فلما سمع علي الصوت عندما هجموا على معسكره قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم من أهل البصرة قد بيتونا)(2).
(1)((البداية والنهاية)) (7/ 260).
(2)
((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (4/ 506 - 507)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 242)((البداية والنهاية)) (7/ 261 - 262)، ((فتح الباري)) (13/ 56).
(فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر وكان أمر الله قدراً مقدوراً وقامت الحرب على قدم وساق وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان فنشبت الحرب وتوافق الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، والتف على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون والسبئية أصحاب ابن السوداء – قبحه الله – لا يفترون عن القتل ومنادي علي ينادي ألا كفوا، ألا كفوا فلا يسمع أحد)(1) فاشتدت المعركة وحمي الوطيس وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر وقد قتل من هذا خلق كثير جداً حتى حزن علي رضي الله عنه أشد الحزن وجعل يقول لابنه الحسن: (يا بني ليت أباك مات منذ عشرين سنة فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا)(2) ثم نزل بنفسه إلى ميدان المعركة لإنهاء القتال (وطلب طلحة والزبير ليكلمهما فاجتمعوا حتى التقت أعناق خيولهم فذكرهما بما ذكرهما به فانتهى الأمر برجوع الزبير يوم الجمل وفي أثناء رجوعه رضي الله عنه نزل وادياً يقال له: وادي السباع فاتبعه رجل يقال له عمرو بن جرموز فجاءه وهو نائم فقتله غيلة)(3) وأما طلحة رضي الله عنه فإنه بعد (أن اجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته وقيل في رقبته والأول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كان يلقيه وجعل يقول: إلي عباد الله فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة فمات بدار فيها ويقال: إنه مات بالمعركة)(4) ولم تنته موقعة الجمل برجوع الزبير واستشهاد طلحة رضي الله عنهما بل اشتدت الحرب بين الفريقين (حتى أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدمت وهي في هودجها وناولت كعب بن سور قاضي البصرة مصحفاً وقالت ادعهم إليه وذلك حين اشتد الحرب وحمي القتال فلما تقدم كعب بن سور بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين وكان عبد الله بن سبأ – وهو ابن السوداء – وأتباعه بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سور رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجعلت تنادي الله الله يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم فقال: اللهم العن قتلة عثمان)(5).
(1)((البداية والنهاية)) (7/ 262).
(2)
ذكره ابن كثير في ((البداية)) (7/ 262).
(3)
انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 535)، ((البداية والنهاية)) (7/ 264)، ((الرياض النضرة)) (4/ 288).
(4)
((البداية والنهاية)) (7/ 264، 270)، ((الرياض النضرة في مناقب العشرة)) (4/ 266).
(5)
انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (4/ 513)، ((البداية والنهاية)) (7/ 264).
(ولما رأى علي رضي الله عنه أن المعركة حميت حول الجمل أمر بعقره على ما يقال كي لا تصاب أم المؤمنين لأنها بقيت غرضاً للرماة ولينفصل هذا الموقف الذي تفانى فيه الناس ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس وانتهت المعركة وحملت أم المؤمنين بأمر من علي وهي مكرمة معززة ودخلت البصرة ومعها أخوها محمد بن أبي بكر)(1). وأما علي رضي الله عنه، فإنه (أقام بظاهر البصرة ثلاثاً ثم صلى على القتلى من الفريقين
…
ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين – عشرة آلاف خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير فأبى عليهم) (2).
(ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها – أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه، جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال علي: صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وسار علي معها مودعاً ومشيعاً أميالاً، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين، وقصدت في سيرها ذلك إلى مكة، فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها (3).
ومما تقدم ذكره بشأن موقعة الجمل تبين أن القتال وقع بين الصحابة فيما بينهم كان بدون قصد منهم ولا اختيار وأن حقيقة المؤامرة التي قام بها قتلة عثمان خفيت على كلا الفريقين حتى ظن كل منهما أن الفريق الآخر قصده بالقتال.
وقد وضح حقيقة هذه المؤامرة العلامة ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله قال أبو محمد بن حزم: (وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم، فتسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف – فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم)(4).
(1) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 533 – 534)، ((البداية والنهاية)) (7/ 266 - 267).
(2)
((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 538 - 539)، ((البداية والنهاية)) (7/ 267).
(3)
((البداية والنهاية)) (7/ 268 - 269).
(4)
((الإحكام في أصول الأحكام)) (2/ 85).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله (1) وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا دفعاً عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم) (2).
فهكذا أنشب الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة قتلة عثمان الأشرار دون أن يفطن لذلك أولئك الأخيار من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأما موقعة صفين:
فقد دارت رحا الحرب فيها بين أهل العراق من أصحاب علي رضي الله عنه وبين أهل الشام من أصحاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ذلك أن علياً رضي الله عنه لما فرغ من موقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما أرادت الرجوع إلى مكة ثم سار من البصرة إلى الكوفة فدخلها وكان في نيته أن يمضي ليرغم أهل الشام على الدخول في طاعته كما كان في نية معاوية ألا يبايع حتى يقام الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه، أو يسلموا إليه ليقتلهم ولما دخل علي رضي الله عنه الكوفة شرع في مراسلة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقد بعث إليه جرير بن عبد الله البجلي ومعه كتاب أعلمه فيه (باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ودعاه فيه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان وإن لم يفعل لم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا: وحينئذ خرج من الكوفة عازماً على دخول الشام فعسكر بالنخيلة وبلغ معاوية أن علياً قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضاً بنفسك فتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضاً: إلى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصداً أرض الشام فالتقى الجمعان في صفين – أوائل ذي الحجة سنة ست وثلاثين)(3).
(1) انظر: ((المصنف)) لابن أبي شيبة (15/ 208 - 209)، ((المصنف)) لعبد الرزاق (11/ 450)، ((المستدرك)) (3/ 95).
(2)
((منهاج السنة)) (2/ 185).
(3)
((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 563 - 565)، ((الكامل)) (3/ 276 - 279)، ((البداية والنهاية)) (7/ 276 - 277).
ومكث علي يومين لا يكاتب معاوية، ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم:(ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم: فلما دخلوا على معاوية جرى بينه وبينهم حوار لم يوصلهم إلى نتيجة فما كان من معاوية إلا أن أخبرهم أنه مصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوماً)(1). ولما رجع أولئك النفر إلى علي رضي الله عنه وأخبروه بجواب معاوية رضي الله عنه لهم وأنه لن يبايع حتى يقتل القتلة أو يسلمهم (عند ذلك نشبت الحرب بين الفريقين واقتتلوا مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين ولما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن تقوم بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح والمراسلة بين الناس وحقن دمائهم)(2) ثم في خلال هذا الشهر بدأت مساعي الصلح والمراسلة تتكرر بين الطرفين ولكن انسلخ شهر المحرم ولم يحصل لهم أي اتفاق، ولم يقع بينهم صلح.
(ثم نشبت الحرب بين الطائفتين أياماً ثمانية وكان أشدها وأعنفها ليلة التاسع من صفر سنة سبع وثلاثين حيث سميت هذه الليلة (ليلة الهرير) تشبيهاً لها بليلة القادسية اشتد القتال فيها حتى توجه النصر فيها لأهل العراق على أهل الشام) (3) وتفرقت صفوفهم وكادوا ينهزمون فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: (هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا: نجيب إلى كتاب الله – عز وجل – وننيب إليه)(4)(ولما رفعت المصاحف بالرماح توقفت الحرب ولما رفع أهل الشام المصاحف اختلف أصحاب علي رضي الله عنه وانقسموا عليه فمنهم من رأى الموافقة على التحكيم، ومنهم من كان يرى الاستمرار في القتال حتى يحسم الأمر، وهذا كان رأي علي رضي الله عنه في بادئ الأمر، ثم وافق أخيراً على التحكيم)(5).
(1) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 573)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 285 - 286)، ((البداية والنهاية)) (7/ 280).
(2)
انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 574 - 575، 5/ 5)((الكامل)) (3/ 286 - 287، ص: 289)، ((البداية والنهاية)) (7/ 280 - 281).
(3)
انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 12 - 48)، ((الكامل)) (3/ 294 - 315)، ((البداية والنهاية)) (7/ 284 - 297).
(4)
انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 12 - 48)، ((الكامل)) (3/ 294 - 315)، ((البداية والنهاية)) (7/ 284 - 297).
(5)
انظر: ((تاريخ الخلفاء)) (ص: 182)، و ((شذرات الذهب)) (1/ 46).
فتم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين وهو أن يحكم كل واحد منهما رجلاً من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين فوكل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعاً، ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين - كليهما - عهد الله وميثاقه أنهما على ما في ذلك الكتاب وأجلا القضاء إلى رمضان (1) وإن أحبا أن يؤخرا ذلك فعلى تراض منهما وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح ولما كان شهر رمضان جعل الاجتماع كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين وذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومعهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل – وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس كعبد الله بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم بن حذيفة فلما اجتمع الحكمان وتراوضا على المصلحة للمسلمين ونظرا في تقدير الأمور (2) ثم اتفقا على أن يكون الفصل في موضوع النزاع بين علي ومعاوية يكون لأعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم هذا ما اتفق عليه الحكمان فيما بينهما لا شيء سواه.
أما ما يذكره المؤرخون من أن الحكمين لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا واتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر: كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده، فأنكر أبو موسى فقال عمرو: كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف (3).
فهذه الحكاية وما يشبهها من اختلاف أهل الأهواء والبدع الذين لا يعرفون قدر أبي موسى وعمرو بن العاص ومنزلتهما الرفيعة في الإسلام. قال أبو بكر بن العربي مبيناً كذب ذلك: (هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع)(4).
(1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 48 - 49)، ((الكامل)) (3/ 316 - 318)، ((البداية والنهاية)) (7/ 298 - 299).
(2)
((البداية والنهاية)) (7/ 302 - 303، 308 - 309)، وانظر:((تاريخ الأمم والملوك)) (5/ 67)، ((الكامل في التاريخ)) (3/ 329).
(3)
ذكره ابن العربي في ((العواصم من القواصم)) (ص: 174 - 176)، وانظر ((تاريخ الأمم والملوك)) (5/ 71)((الكامل)) لابن الأثير (3/ 332 - 333)، ((البداية والنهاية)) (7/ 309 - 310)، و ((مروج الذهب)) (2/ 684 - 685).
(4)
((العواصم من القواصم)) (ص: 177).
ولم يكتف الواضعون من أهل التاريخ بهذا بل وسموا الحكمين بصفات يتخذون منها وسيلة للتفكه والتندر، وليتخذ منه أعداء الإسلام صوراً هزيلة لأعلام الإسلام في المواقف الحرجة، فقد وصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب غدر وخداع (1) ووصفوا أبا موسى بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوع في القول كما وصفوه بأنه كان على جنب كبير من الغفلة (2) ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم حيث اتفقا على خلع الرجلين فخلعهما أبو موسى واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية كل هذه الصفات الذميمة يحاول المغرضون إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدى إلى قتل الآلاف من المسلمين وكل ذي لب يعلم أن المسلمين لا يسندون الفصل في هذا الأمر إلى أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما إلا لعلمهم بما هما عليه من الفضل، وأنهما من خيار الأمة المحمدية، ومن أكثرهم ثقة وورعاً وأمانة فكيف يصف الغافلون هذين الرجلين بما وصفوهما به من المكيدة والخداع وضعف الرأي والغفلة، ولكن تلك الأوصاف هي أليق بمن تفوه بها من أهل الأهواء، وقد تجاهل أولئك الواصفون لأبي موسى وعمرو بما تقدم ذكره أموراً لو دققوا النظر فيها لاستحيوا من ذكر تلك الأوصاف وتلك الأمور هي:
الأمر الأول:
أنهم تجاهلوا أن معاوية لم يكن خليفة ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه أو تثبيتها له.
الأمر الثاني:
أن سبب النزاع هو أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه من قتلته فلما طلب علي البيعة من معاوية (اعتل بأن عثمان قتل مظلوماً وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك)(3) ومعنى هذا أن معاوية كان مسلماً لعلي بالخلافة لأنه طلب منه بوصفه الخليفة تسليم القتلة، أو إقامة الحد عليهم باعتباره أمير المؤمنين، وكان رأي علي أن يدخل معاوية ومن معه من أهل الشام فيما دخل فيه الناس من البيعة له، ثم يتقدم أولياء عثمان بالمحاكمة إليه (فإن ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه فاختلفوا بحسب ذلك)(4).
(1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 70 - 71)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 332 - 333)، ((مروج الذهب)) (2/ 684 - 685).
(2)
انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 70)، ((الكامل)) (3/ 332 - 333)، ((مروج الذهب)) (2/ 684 - 685).
(3)
((فتح الباري)) (12/ 284).
(4)
((فتح الباري)) (13/ 56).
قال أبو محمد بن حزم مبيناً أن القتال الذي دار بين علي ومعاوية كان مغايراً لقتال علي الخوارج حيث قال: (وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: كبر كبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم في الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجراً واحداً وللمصيب أجران – إلى أن قال – وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس بمؤثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً)(1).
فابن حزم رحمة الله عليه يقرر في هذا النص أن النزاع الذي كان بين علي ومعاوية إنما هو في شأن قتلة عثمان وليس اختلافاً على الخلافة إذ أن معاوية رضي الله عنه لم ينكر فضل علي واستحقاقه للخلافة وإنما امتنع عن البيعة حتى يسلمه القتلة أو يقتلهم وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك فتحكيمهما إذن إنما هو في محل النزاع، وليس من أجل الخلافة.
الأمر الثالث:
أن موقف أبي موسى الأشعري في التحكيم لم يكن أقل من موقف عمرو بن العاص في شيء ولذلك عد المؤرخون المنصفون هذا الموقف من مفاخر أبي موسى بعد موته بأجيال وصار مصدر فخر لأحفاده من بعده حتى قال ذو الرمة الشاعر مخاطبا بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري بأبيات منها:
أبوك تلافى الدين والناس بعدما
…
تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر
فشد أصار الدين أيام أذرح
…
ورد حروباً قد لقحن إلى عقر (2)
فلم يول رضي الله عنه في الفصل في قضية التحكيم إلا لما علم فيه من الفطنة والعلم وقدرته على حل المعضلات فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ بن جبل قبل حجة الوداع على بلاد اليمن حيث بعث كل واحد منهما على مخلاف وأوصاهما عليه الصلاة والسلام بأن ييسرا ولا يعسرا وأن يبشرا ولا ينفرا (3) وما توليته عليه الصلاة والسلام لأبي موسى إلا لعلمه بصلاحه للإمارة.
(1)((الفصل في الممل والنحل)) (4/ 159 - 161)، وانظر:((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 306).
(2)
((ديوان ذي الرمة)) (ص: 361 - 362)، ((معجم البلدان)) (1/ 130).
(3)
الحديث رواه البخاري (3038)، ومسلم (1733). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
قال العلامة ابن حجر رحمه الله عند شرحه لحديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن: (واستدل به على أن أبا موسى كان عالماً فطناً حاذقاً، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم علي وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين)(1) فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة، وأن عمراً لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى ولم يخرج عما اتفقا عليه من تفويض الحسم في موضع النزاع إلى النفر الذين بقوا على قيد الحياة ممن توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم.
قال ابن كثير: (والحكمان كانا من خيار الصحابة وهما: عمرو بن العاص السهمي – من جهة أهل الشام- والثاني: أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري – من جهة أهل العراق، وإنما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن لدمائهم وكذلك وقع)(2). وإذا كان قرارهما الذي اتفقا عليه لم يتم فما في ذلك تقصير منهما فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معاً بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ولا أبديا رأيا فيها، وكل ما تقدم ذكره في هذا المبحث عن موقعتي الجمل وصفين وقضية التحكيم هو اللائق بمقام الصحابة فهو خال مما دسه الشيعة الرافضة وغيرهم على الصحابة في تلك المواطن من الحكايات المختلقة والأحاديث الموضوعة ومما يعجب له الإنسان أن أعداء الصحابة إذا دعوا إلى الحق أعرضوا وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم ونحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
موقف أهل السنة من تلك الحرب:
إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وذلك من أعظم الذنوب وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم.
وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي:
(1)
قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9].
(1)((فتح الباري)) (8/ 62).
(2)
((البداية والنهاية)) (6/ 245).
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله – عز وجل – مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد (1).
(2)
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان وتكون بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة)) (2).
فالمراد بالفئتين جماعة علي وجماعة معاوية، والمراد بالدعوة الإسلام على الراجح وقيل المراد اعتقاد كل منهما الحق (3).
(3)
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)) (4) والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق. والحديث علم من أعلام النبوة (إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) (5)(6).
(4)
وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكرة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)) (7).
ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: (قوله: فئتين من المسلمين يعجبنا جداً)(8) قال البيهقي: (وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهما جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان)(9).
(1) انظر: ((العواصم من القواصم)).
(2)
رواه أحمد (2/ 313)(8121)، والبخاري (7121)، ومسلم (157).
(3)
((فتح الباري)) (12/ 303).
(4)
رواه أحمد (3/ 32)(11293)، مسلم (1064).
(5)
رواه البخاري (7352).
(6)
((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 305).
(7)
رواه البخاري (3629).
(8)
((السنن الكبرى)) للبيهقي (8/ 173)، و ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (13/ 233).
(9)
((الاعتقاد للبيهقي)) (ص: 198)، وانظر:((فتح الباري)) (13/ 66).
فهذه الثلاثة الأحاديث المتقدم ذكرها كلها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته (1). كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي رضي الله عنه فقد شهد للفريقين بالحسنى فقد روى ابن جرير الطبري (أن علياً لما وصل البصرة خطب الناس فقام إليه أبو سلامة الدالاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله – عز وجل – بذلك قال: نعم قال: فترى لك حجة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم إن الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمه نفعاً قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو ألا يقتل أحد نقى قلبه الله إلا أدخله الله الجنة)(2).
وروى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن علي – المعروف بابن الحنفية – قال: قال علي: (إني لأرجو أن أكون وطلحة والزبير من الذين قال الله – عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47])(3).
كما شهد رضي الله عنه بالحسنى للقتلى من الفريقين في موقعة صفين:
فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى يزيد بن الأصم قال: (سئل علي عن قتلى يوم صفين فقال: قتلانا وقتلاهم في الجنة)(4).
وشهادة علي رضي الله عنه للقتلى من الفريقين بالجنة شهادة حق وصدق لأن الباري – جل وعلا – أخبر بأنه وعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ووعده – سبحانه – حق وصدق لا خلف فيه.
(1) روى مسلم في صحيحه (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((يكون في أمتي فرقتان؛ فيخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولاهم بالحق)).
(2)
((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 496)، ((الكامل لابن الأثير)) (3/ 337 - 338)، ((البداية والنهاية)) (7/ 261).
(3)
رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 113)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: 195).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (15/ 303)، وأورده الذهبي في كتابه ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 144).
قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوعد فيها بالجنة لجميعهم رضي الله عنهم فكل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة ولو ساعة واستمر على الإيمان حتى مات فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أن الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا لا يلحقون من أسلم وقاتل قبل الفتح في المرتبة وعلو الدرجة وكلاً وعد الله الجنة ورضي عنهم ومن كمال ورع علي رضي الله عنه أنه لم ينسب أحداً إلى الشرك أو إلى النفاق ممن قاتله من أهل القبلة بل كان يقول رضي الله عنه (هم إخواننا بغوا علينا)(1) ذلك هو معتقد علي رضي الله عنه في قتلى الصحابة رضي الله عنهم في موقعتي الجمل وصفين فقد شهد للقاتل والمقتول منهم بالجنة لأنهم لم يقصدوا بقتالهم إلا الحق والاجتهاد ولم يكونوا مقاتلين لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لدافع الحقد حاشاهم من كل ذلك وقد ثبت كذلك أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ترحمت على من قاتلها يوم الجمل أو قتل معها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد ذكر ابن الأثير: (أنها رضي الله عنها لما كانت بالبصرة بعد وقعة الجمل سألت يومئذ عمن قتل من الناس معها ومنهم عليها والناس عندها فكلما نعي واحد من الجميع قالت: يرحمه الله فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلان في الجنة، وفلان في الجنة)) (2).) (3).
وقولها رضي الله عنها: فلان في الجنة، وفلان في الجنة تعني بذلك من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وسماه مثل طلحة والزبير رضي الله عنهما. ولقد تقدم معنا أن علياً رضي الله عنه تصرف فيما خلفه القتلى في يوم الجمل تصرفاً يدل على أن تلك الحرب لم تكن بين مسلمين وغير مسلمين وإنما هي حرب بين فريقين من المسلمين يرى كل فريق منهما أن الحق في جانبه حيث جمع كل مخلفات موقعة الجمل وبعث بها إلى مسجد البصرة وقال:(من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان)(4).
(1) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (15/ 332).
(2)
ذكره سيف بن عمر الضبي في ((الفتنة ووقعة الجمل)) (ص: 177)، والطبري في ((تاريخ الأمم والملوك)) (3/ 57)، وابن الأثير في ((الكامل)) (3/ 258)، والنويري في ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) (20/ 50). ولم أقف على لفظه مسنداً.
(3)
((الكامل في التاريخ)) (3/ 257 - 258).
(4)
انظر: ((تاريخ ابن جرير الطبري)) (4/ 538)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 55)، ((البداية والنهاية)) (7/ 267).
وصلى على جميع القتلى من الفريقين ودفن كثيراً منهم في قبر كبير (1) كل عمله هذا دل على إيمانه أنهم جميعاً كانوا يقاتلون اجتهاداً لا عناداً ولا شهوة، ولا شفاء خصومة كانت بينهم رضي الله عنهم أجمعين ومما ينبغي أن يعلم أن شهادة علي رضي الله عنه بالجنة للقتلى من الفريقين كما تقدم لا يدخل فيها من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان كما لا يعد من إحدى الطائفتين اللتين وصفتا بأنهما متعلقتان بالحق وإن قاتل معها والتحق بها لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان – كائناً من كانوا – استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع وفي حالة عدم استطاعته، فإن مواصلتهم تسعير نار الحرب بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها يعد إصراراً منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك، فإذا قال أهل السنة والجماعة: إن الطائفتين كانتا على الحق فإنما يريدون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من التابعين.
فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم.
وكتب أهل السنة مملؤة ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها.
(1)
سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي بين الصحابة فقال: (تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر منها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها)(2).
قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: (هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب)(3).
والمسلم مطلوب منه أن يتحرز من الوقوع في الخطأ، والحكم على بعض الصحابة بما لا يكون مصيباً فيه.
(2)
قال عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله تعالى في المقتتلين من الصحابة: (هم أهل الجنة لقي بعضهم بعضاً فلم يفر أحد من أحد)(4).
(3)
سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: (قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا)(5).
ومعنى قول الحسن هذا: (أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله – عز وجل – إذ كانوا غير متهمين في الدين)(6).
(4)
سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقوله: (أقول ما قال الله: عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي في كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [طه: 52])(7).
(1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 538).
(2)
((مناقب الشافعي)) للرازي (ص: 136)، و ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 69) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 122)، ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (5/ 394).
(3)
ذكره عنه الرازي في ((مناقب الشافعي)) (ص: 136).
(4)
ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 303).
(5)
ذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 332).
(6)
ذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 332).
(7)
ذكره الباقلاني في كتابه ((الإنصاف)) (ص: 69).
(5)
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: (ما أقول فيهم إلا الحسنى)(1).
(6)
وقال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله وذكر له أصحاب رسول الله فقال: رحمهم الله أجمعين ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري والمغيرة كلهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29]) (2).
(7)
قال إبراهيم بن آزر الفقيه: (حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [البقرة: 141])(3).
(8)
وقال أبو الحسن الأشعري: (فأما ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعلي الإمام وكلهم من أهل الاجتهاد وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والشهادة فدل على أنهم كلهم على حق في اجتهادهم وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد، وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم والتبري ممن ينقص أحداً منهم رضي الله عن جميعهم)(4).
(9)
وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال: (وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس – لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب)(5).
(10)
وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً حق الصحابة على المسلمين بعدهم وما يجب عليهم نحوهم: (فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار ما مدحهم الله تعالى به وشكرهم عليه من جميل أفعالهم وجميل سوابقهم وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به فقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10] الآية فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد وهو لهم مغفور ولا يوجب ذلك البراءة منهم ولا العداوة لهم ولكن يحب على السابقة الحميدة ويتولى للمنقبة الشريفة)(6).
(11)
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: (ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم)(7) اهـ.
(1)((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 164)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (18/ 89).
(2)
((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 126).
(3)
رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (6/ 44)، وابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 94)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/ 141)، وابن الجوزي في ((مناقب الإمام أحمد)) (ص: 126).
(4)
((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 78).
(5)
((الرسالة)) (ص: 9).
(6)
((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 343).
(7)
((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) (ص: 268).
(12)
قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: (ويجب أن يعلم: أن ما جرى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقد أن علياً عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران، وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولا يبدعون والدليل عليه قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) (1) فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويدل على صحة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم للحسن عليه السلام: ((إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (2) فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهم بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]) إلى أن قال: (ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم والسكوت عنه) اهـ) (3).
(13)
وقال أبو عثمان الصابوني في صدد ذكره لعرض عقيدة السلف وأصحاب الحديث: (ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم)(4).
(14)
وقال أبو الوليد بن رشد المالكي: (كلهم محمود على ما فعله، القاتل منهم والمقتول في الجنة فهذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عز من قائل: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] أي: خياراً عدولاً
…
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عشرة من قريش في الجنة)) (5) فسمى فيهم علياً وطلحة والزبير والذي يقول أئمة أهل السنة والحق: إن علياً رضي الله عنه ومن اتبعه كانوا على الصواب والحق، وإن طلحة والزبير كانا على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما فكان فرضهما ما فعلاه إذ هما من أهل الاجتهاد
…
) إلى أن قال: (والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ولطلحة والزبير أجر لاجتهادهما وبالله التوفيق)(6).
(1) رواه البخاري (7352).
(2)
رواه البخاري (2704).
(3)
((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 67 - 69).
(4)
((عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 129).
(5)
رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 351)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (4/ 97)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (7/ 118). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 224): رواه الطبراني في الثلاثة رجاله رجال الصحيح غير حامد بن يحيى البلخي وهو ثقة، ولهذا الحديث طرق في مناقب جماعة من الصحابة.
(6)
((البيان والتحصيل)) (16/ 360 - 361).
(15)
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى: (لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله – عز وجل – وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم (1) وأن الله غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض)) (2) فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة فوجب حمل أمرهم على ما بيناه ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار (3)، وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بشر قاتل ابن صفية بالنار)) (4) وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة (شهيد) ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل بل صواب أراهم الله الاجتهاد وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم وإبطال فضائلهم وجهادهم وعظيم عنائهم في الدين رضي الله عنهم اهـ (5).
(1) حديث النهي رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
رواه الترمذي (3739)، والحاكم (3/ 424). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الصلت وقد تكلم بعض أهل العلم في الصلت بن دينار وفي صالح بن موسى من قبل حفظهما، وقال الحاكم: تفرد به الصلت بن دينار وليس من شرط هذا الكتاب، وقال الذهبي في ((التلخيص)): الصلت واه، والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(3)
رواه أحمد (1/ 89)(681)، والحاكم (3/ 414)، والطيالسي (ص: 24)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1388)، والطبراني (1/ 123)(243)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 206). وقال: صحيح ثابت، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 264): رواه أحمد وغيره من طريق زر بن حبيش عن علي بإسناد صحيح.
(4)
لم أقف عليه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. رواه أحمد (1/ 89)(681)، والحاكم (3/ 414)، والطيالسي (ص: 24)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1388)، والطبراني (1/ 123)(243)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 206). وقال: صحيح ثابت، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 264): رواه أحمد وغيره من طريق زر بن حبيش عن علي بإسناد صحيح.
(5)
((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 321 - 322).
(16)
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) (1)(واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه لاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه وكان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب، ثم تأخروا عن مساعدته منهم) اهـ (2).
وقال في موضع آخر مبيناً سبب الحروب التي وقعت بين الصحابة: (واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:
قسم: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
وقسم: عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك) (3) وهذا هو التفسير الصحيح لمواقف الصحابة رضي الله عنهم في تلك الحروب وهو اللائق بحالهم رضي الله عنهم.
(17)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: (ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون)(4) اهـ.
(18)
وقال الإمام الذهبي: (
…
تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى حيث يقول: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر: 10] فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم وجهاد محاء وعبادة ممحصة) (5).
(19)
وقال الحافظ ابن كثير: (أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع عن غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والاجتهاد يخطئ ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً: وأما المصيب فله أجران اثنان)(6).
(1) رواه البخاري (31)، ومسلم (2888). من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
((شرح النووي)) (18/ 11).
(3)
((شرح النووي)) (18/ 11).
(4)
((العقيدة الواسطية مع شرحها)) لمحمد خليل هراس (ص: 173).
(5)
((سير أعلام النبلاء)) (10/ 92).
(6)
((الباعث الحثيث)) (ص: 182).
(20)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حاكياً على وجوب المنع من الطعن على واحد من الصحابة بسبب ما حصل بينهم ولو عرف المحق منهم حيث قال: (واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين)(1).
فهذه طائفة من كلام أكابر علماء أهل السنة والجماعة تبين منها الموقف الواجب على المسلم أن يقف من الآثار المشتملة على نيل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بسبب ما وقع بينهم من شجار وخلاف ومقاتلة خاصة في حرب الجمل بين الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم. وأيضاً في حرب صفين بين علي ومعاوية وهو صيانة القلم واللسان عن ذكر ما لا يليق بهم وإحسان الظن بهم والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم واعتقاد أنهم مجتهدون والمجتهد مغفور له خطؤه إن أخطأ، وأن الأخبار المروية في ذلك منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرف عن أصله وتشوه، كما تبين من هذه النقول المتقدم ذكرها أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فيما شجر بينهم هو الإمساك، ومعنى الإمساك عما شجر بينهم وهو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة أو التعرض لهم بالتنقص لفئة والانتصار لأخرى وقد تقدم معنىً قريباً من قول الذهبي رحمه الله تعالى بأن كثيراً مما حدث بين الصحابة من شجار وخلاف ينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه وأن كتمان ذلك متعين على العامة بل آحاد العلماء لأنه لا مصلحة شرعية ولا علمية من وراء نشر ذلك، أما من ناحية النظر العلمي المستقيم المهتدي بنصوص الشريعة فإن البحث في هذا الموضوع لا يمتنع إذا قصد به تبين أحكام الشريعة وما كان ذكر العلماء المعتبرين للحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم إلا على هذا السبيل، أو لبيان المواقف الصحيحة، وتصحيح الأغاليط التاريخية التي أثيرت حول مواقفهم في تلك الحروب رضي الله عنهم فعلى المسلم أن يعتقد فيما صح مما جرى بين الصحابة من خلاف أنهم فيه مجتهدون، إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون فلهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم مغفور وهم ليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم، وقد وعدوا من الله بالمغفرة والرضوان، كما أنه يجب على كل مسلم أن يكون لسانه رطباً بالذكر الحسن والثناء الجميل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاول جهده في ذكر محاسنهم العظيمة وسيرتهم الحميدة ويتجنب ذكر ما شجر بينهم، هذه طريقة الصدر الأول من هذه الأمة والتي اتخذها أهل السنة والجماعة منهاجاً في موقفهم نحو الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
قال العوام بن حوشب: (أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة بعضهم يقول لبعض: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتلف عليها القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا الناس عليهم)(2).
وبعبارة أخرى أنه قال: (أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم)(3).
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 700
(1)((فتح الباري)) (13/ 34).
(2)
((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) لابن بطة (ص: 165).
(3)
ذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (18/ 33).