الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: تقسيم البدعة إلى صغيرة وكبيرة
تنقسم البدعة إلى صغيرة وكبيرة اعتباراً بتفاوت ودرجاتها. وهذا مبني على القول بأن المعاصي تنقسم إلى صغيرة وكبيرة وهو الصحيح إن شاء الله.
وقد اختلف العلماء في تمييز الصغيرة من الكبيرة بالنسبة للمعاصي، ولا يتسع المقام لذكر هذا الخلاف، وأقرب وجه يلتمس لهذا ما تقرر عند أهل العلم من أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة. وهي الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرت في الاعتبار والنظر مجراها، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه. فلذلك نقول في كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة، وما لا فهي صغيرة.
وإن كان قياس البدع على العبادات في انقسامها إلى صغيرة وكبيرة قد يرد عليه اعتراض خلاصته أنه قد يقال: إن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعاً، لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه، أو نقصاناً منه، أو تغييراً لقول فيه، أو ما يرجع إلى ذلك، وليس ذلك مختصاً بالعبادات دون العادات، إن قلنا بدخولها في العادات بل تمنع الجميع. وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين فهي إذاً إخلال بأول الضروريات وهو الدين، وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال في الفرق:((كلها في النار إلا واحدة)) (1) ، وهذا وعيد أيضاً للجميع على التفصيل. هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين، وهي متفاوتة في الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال، فكل منها كبيرة، فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة.
ويجاب عن هذا الاعتراض بأنه يمكن إثبات البدعة الصغيرة من أوجه أحدها: أن نقول: الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال، ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة، فالقتل كبيرة، وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها، وقطع عضو واحد كبيرة دونها، وهلم جراً إلى أن تنتهي إلى اللطمة. ثم إلى أقل خدش يتصور، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة كما قال العلماء في السرقة، إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال. فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر، وهذا في ضرورة الدين أيضاً.
واستطرد الشاطبي رحمه الله في بيان هذا الوجه إلى أن قال:
(1) رواه ابن ماجه (3993) وأحمد (3/ 120)(12229) والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 22) وأبو يعلى (7/ 32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (ص: 16): إسناده صحيح، وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده جيد قوي على شرط الصحيح، وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 569): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). والحديث روي من طرق عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
(قال ابن رشد: جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة، وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى، لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد من السلف، والصحابة المرضيين، وهو من محدثات الأمور
…
انتهى). فمثل هذا إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر فيقال في مثله: إنه من كبار البدع. كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها، بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين، فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة.
والثاني: أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة، وإلى جزئية، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كلياً في الشريعة، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعاً من فروع الشريعة دون فرع، بل نجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئياً، وإنما يأتي في بعض الفروع دون بعض، كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين، وما أشبه ذلك. فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها (1).
فالقسم الأول: أعني البدعة الكلية، لاشك أنها من الكبائر، ويكون ما عدا ذلك - أي الجزئية - من قبيل اللمم أي الصغائر التي يرجى فيها العفو، وهذا كله مع عدم الإصرار.
والثالث: أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك أن البدع من جملة المعاصي – على مقتضى الأدلة المتقدمة – ونوع من أنواعها، فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضاً، ولا نخصص وجوهاً بتعميم الدخول في الكبائر، لأن ذلك تخصيص من غير مخصص، ولو كان ذلك معتبراً لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع، فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها.
وإذا قلنا إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط:
أحدها: أن لا يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه، لأن ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، ولذلك قالوا: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار. فكذلك البدعة من غير فرق، إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها، وقد لا يصر عليها، وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أو عدمه، بخلاف البدعة فإن شأنها المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة. ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة، والمقتدى بهم من الأئمة. والدليل على ذلك: الاعتبار والنقل، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار، ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى.
(1)((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 60).
وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة، إذا أحدثت لا تزيد إلا مضياً، وليست كذلك المعاصي. فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله، بل قد جاء ما يؤيد ذلك في حديث الفرق حيث جاء في بعض الروايات ((تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه)) (1) ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له. وسيأتي لذلك مزيد بيان عند الكلام في خطورة البدع.
والشرط الثاني: أن لا يدعو إليها. فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول والعمل على مقتضاها، فيكون إثم ذلك كله عليه، فإنه الذي أثارها، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً.
والشرط الثالث: أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو المواضع التي تقام فيها السنن. وتظهر فيها أعلام الشريعة، فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به، أو ممن يحسن به الظن، فذلك من أضر الأشياء على سنن الإسلام فإنها لا تعدو أمرين:
إما أن يقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أتباع كل ناعق، لاسيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس، والتي للنفوس في تحسينها هوى، وإذا اقتدى بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه، لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم الوزر.
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح. لأن إظهار البدع في أماكن إقامة الشعائر الإسلامية يوهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر، فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها.
والشرط الرابع: أن لا يستصغرها، ولا يستحقرها، وإن فرضناها صغيرة فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب، فكان ذلك سبباً لعظم ما هو صغير.
فإذا توافرت هذه الشروط فإن هذه البدع تكون صغيرتها صغيرة، فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة كما أن المعاصي كذلك (2). ا. هـ. تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص: 102
(1) رواه أبو داود (4597)، وأحمد (4/ 102)(16979) ، والدارمي (2/ 314)، والحاكم (1/ 218). من حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) – كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال ابن كثير في ((النهاية)) (1/ 27): إسناده حسن. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(2)
انظر: ((الاعتصام)) (2/ 57 - 71).