الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبحث: حكم تعدد الأئمة
مذهب جماهير المسلمين من أهل السنة والجماعة وغيرهم قديمًا وحديثًا وهو أنه: لا يجوز تعدد الأئمة في زمن واحد وفي مكان واحد، قال الماوردي:(إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه)(1).
وقال النووي: (اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد
…
) (2).
وهؤلاء القائلون بالمنع على مذهبين:
أ- قوم قالوا بالمنع مطلقًا سواء اتسعت رقعة الدولة الإسلامية أم لا، وإلى هذا القول ذهب أكثر أهل السنة والجماعة، وبعض المعتزلة حتى زعم النووي اتفاق العلماء عليه (3).
ب- وهناك من قال بالمنع إلا أن يكون هناك سبب مانع من الإتحاد على إمام واحد، ويقتضي هذا السبب التعدد، ففي هذه الحالة يجوز التعدد. وذكر إمام الحرمين الجويني أهم هذه الأسباب في قوله: (منها اتساع الخطة، وانسحاب الإسلام على أقطار متباينة، وجزائر في الحج متقاذفة، وقد يقع قوم من الناس نبذة من الدنيا لا ينتهي إليهم نظر الإمام، وقد يتولج خط من ديار الكفر بين خطة الإسلام، وينقطع بسبب ذلك نظر الإمام عن الذين وراءه من المسلمين
…
) قال: (فإذا اتفق ما ذكرناه فقد صار صائرون عند ذلك إلى تجويز نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام)(4).
وعزا الجويني هذا القول إلى شيخه أبي الحسن الأشعري، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي (5)، ورجحه أبو منصور البغدادي (6)، وإلى ذلك ذهب القرطبي في تفسيره فقال:(لكن إذا تباعدت الأقطار، وتباينت كالأندلس وخراسان، جاز ذلك)(7).
لكن يلاحظ من أقوال المجيزين عند اتساع الرقعة، إنما ذلك بسبب الضرورة، وإلا فإن وحدة الإمامة هي الأصل، وإن التعدد إنما أبيح على سيبل الاستثناء المحض، ولضرورات تجيزه، والضرورة تقدر بقدرها وإذا زالت الضرورة زال حكمها وبقي الأصل.
استدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول:
1 -
من الكتاب:
فقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تدعو المسلمين وتأمرهم بالإجماع والتآلف، وتنهى عن التفرق والاختلاف المؤديين إلى التنازع والفشل، فمن هذه الآيات قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً
…
[آل عمران: 103].
ومنها قوله تعالى: وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105].
ومنها قوله عز من قائل: وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.
(1)[13489])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 9).
(2)
[13490])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 233).
(3)
[13491])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 233).
(4)
[13492])) ((غياث الأمم)) (ص: 28).
(5)
[13493])) ((مآثر الإنافة)) (1/ 46).
(6)
[13494])) ((أصول الدين)) (ص: 274).
(7)
[13495])) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 273).
ووجه الدلالة من هذه الآيات أنها جميعًا جاءت متفقة على الأمر بالوحدة والتضامن، والنهي عن التشتت والافتراق والاختلاف، لما ينجم عن ذلك عادة من التنازع والفشل الممقوت، وكلها تدل على وجوب وحدة الأمة الإسلامية وتضامنها، وذلك لا يتأتى إلا إذا كان إمامها واحدًا لا ينازعه أحد، إذ إن وجود إمامين فأكثر يؤدي إلى غيرة أحدهما من الآخر، ومنافسته له، ومحاولة التعالي عليه، ومن ثم إلى الشقاق والتناحر لا محالة، وهذا مما نهى الإسلام عنه، فدل على وجوب أن يكون إمام المسلمين واحدًا، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
2 -
من السنة:
أما من السنة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة صريحة في هذه تدل على وجوب منع تعدد الأئمة في الزمن الواحد ومن هذه الأحاديث:
أ- ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) (1). فالأمر بقتل الآخر يدل على تحريم نصب إمامين في آن واحد، لأن القتل لا يكون إلا عن كبيرة يتفاقم خطرها. لذلك فلا يجوز عقد البيعة لخليفتين في زمن واحد.
وأول بعض العلماء القتل هنا بالخلع والاعتراض عليه لا بالقتل الحقيقي (2).
ولكن هذا التأويل لا محل له ومردود بالحديث التالي:
ب- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر
…
)) الحديث (3).
جـ- ما رواه أبو حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: وفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) (4).
د- ومنها ما رواه عرفجة بن شريح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) (5).
3 -
الإجماع:
فإن الصحابة رضي الله عنهم قد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يلي إمامة الأمة أكثر من واحد، ودليل ذلك أن المهاجرين لم يوافقوا الأنصار في طلبهم أن يكون منهم أمير، ومن المهاجرين أمير حينما طلبوا ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكان مما روي في ذلك الموقف قول أبي بكر رضي الله عنه:(هيهات أن يجتمع سيفان في غمد)(6) عندئذٍ رضي الأنصار بذلك، فصار ذلك منهم إجماعًا على عدم جواز تعدد الأئمة، بل روى البيهقي في الخطبة نفسها عبارة أكثر تصريحًا من السابقة وهي قوله:(أنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامهم، وتتفرق جماعتهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح)(7).
(1)[13496])) رواه مسلم (1853).
(2)
[13497])) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 156).
(3)
[13498])) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 156).
(4)
[13499])) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842).
(5)
[13500])) رواه مسلم (1852).
(6)
[13501])) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 153). وقيل: إنه من قول عمر. وهو عند البزار وغيره.
(7)
[13502])) ((السنن الكبرى)) للبيهقي (8/ 145) عن ابن إسحاق.
أما من بعدهم فقد نقل الإجماع على ذلك النووي (1)، وإمام الحرمين الجويني (2)، والقرطبي (3)، والقاضي عبد الجبار (4) (من المعتزلة) وابن حزم حيث قال:(واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد)(5). وخالفه في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:
(النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم جواز ذلك، وأن عليًا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا، وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلاً منهم ينفذ حكمه في أهل ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد، وأما جواز العقد لهما فهذا لا يفعل مع اتفاق الأمة
…
) (6) لكن نفاذ حكم الثاني كنفاذ حكم الإمام المتغلب على حد سواء، فلا ينافي هذا الحكم المجمع عليه، وليس الكلام إلا حكم الشرع، أما الأمور الطارئة فلها مجال آخر، وتأخذ أحكام الضرورة.
والمراد بالإجماع المذكور هنا هو: إجماع الصحابة وسلف هذه الأمة، وإلا فقد سبق أن ذكرنا من خالف في هذه المسألة من الكرامية وغيرهم من أهل الأهواء، ولكن مخالفتهم لا تؤثر في إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك، لأن الإجماع المقصود: إجماعهم لا إجماع جميع الناس
…
والله أعلم.
4 -
المعقول: أما الدليل بالمعقول فإن تعدد الأئمة للأمة الإسلامية الواحدة يؤدي إلى الاختلاف والشقاق والخصومات وحصول الفتن والاضطرابات والقلاقل، واختلاف أمر الدين والدنيا، وهذا لا يجوز. وبناء على ذلك فلا تجوز الإمامة لأكثر من واحد في زمن واحد.
وكذلك لو جاز في العالم إمامان لجاز أن يكون ثلاثة وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكمًا بلا برهان، ومدعيًا بلا دليل، وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد، وإن جاز ذلك الأمر حتى يكون في كل عام إمام، أوفي كل مدينة إمام، أو في كل قرية إمام، أو يكون كل واحد إمامًا وخليفة في منزله، وهذا الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا (7). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي بتصرف ص551
قال الشوكاني: إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرا على الخلاف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك.
وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدرى من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب، فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس، فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها. السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار4/ 512
(1)[13503])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 232).
(2)
[13504])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 232) علماً بأنه من القائلين بجواز التعدد عند وجود السبب المؤدي إلى ذلك.
(3)
[13505])) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 273).
(4)
[13506])) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (20/ 243) ق 1.
(5)
[13507])) ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 144).
(6)
[13508])) ((نقد مراتب الإجماع)) لابن تيمية (ص: 216) بذيل كتاب ((مراتب الإجماع)) لابن حزم.
(7)
[13509])) انظر: ((الفصل)) (4/ 88)، و ((الملل والنحل)) (1/ 113)، و ((أصول الدين)) (ص: 275).