الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الآثار المترتبة على تركه
1 -
وقوع الهلاك: وذلك من جهتين:
الأولى: أن المعاصي التي تظهر ولا تنكر سبب للعقوبات والمصائب (1).
الثانية: أن السكوت ذاته يعد معصية يستحق صاحبه العقوبة (2)، كما أنه يدل على التهاون في دين الله عز وجل.
هذا إذا كان الساكت عنه فرداً من أفراد المجتمع .. أما حين يسكت المجتمع بأكمله .. فإن العقوبة تعم في هذه الحال. قال الله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال: 25]. وقال البخاري –رحمه الله: باب ما جاء في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً
…
ثم ذكر بعض الأحاديث تحت هذا الباب. قال الحافظ: (وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب)(3). ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة)) (4). ا. هـ (5).
وقد ورد في هذا المعنى أحاديث وآثار متنوعة، منها حديث أبي بكر الصديق –رضي الله عنه عند بيانه لما أشكل على البعض من قوله تعالى: عليكم أنفسكم وفيه: وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب
…
)) (6).
وثبت عنه أيضاً. ((وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (7).
قال ابن العربي في شرحه: (وهذا الفقه عظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق
…
) ا. هـ (8).
(1)((مجموع الفتاوى)) (28/ 138 – 142، 215).
(2)
((تفسير السعدي)) (2/ 155).
(3)
رواه الطبري في تفسيره (13/ 474)(7081). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 6): ولهذا الأثر شاهد.
(4)
رواه أحمد (4/ 192)(17756، 17757)، وابن أبي شيبة في ((المسند)) (2/ 168)، وابن المبارك في ((الزهد)) (1352)، والطبراني (17/ 139) (14032). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 270): رواه أحمد من طريقين إحداها هذه والأخرى عن عدي بن عدي حدثني مولى لنا وهو الصواب وكذلك رواه الطبراني وفيه رجل لم يسم وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 6): إسناده حسن وله شاهد.
(5)
انظر: الفتح (13/ 3 - 4)
(6)
رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وأحمد (1/ 7)(29، 30)، وابن حبان (1/ 539)(304). قال الترمذي، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 208): صحيح، وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (412)، وابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 193)، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 36)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
(7)
رواه أبو داود (4338). قال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2317): صحيح، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (713): صحيح على شرط الشيخين.
(8)
((عارضة الأحوذي)) (9/ 15).
وقد جاء من حديث جرير –رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب)) (1).
وعن حذيفة –رضي الله عنه مرفوعاً: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) (2).
ولما قالت أم المؤمنين زينب –رضي الله عنها: ((أنهلك وفينا الصالحون؟)) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم إذا كثر الخبث)) (3).
وقال بلال بن سعد –رحمه الله: (إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة)(4).
وقال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله: (كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا كلهم العقوبة)(5).
هذا وإن العقوبات تتنوع وتقع بصور مختلفة، فمنها ما يكون بالتدمير بالزلازل أو الفيضانات أو نقص الأنفس من جراء الحروب أو الأوبئة أو نقص الثمرات، ومنها ما يكون بالريح، أو بإدالة الأعداء، أو بتولي أهل الشر وتسلطهم على رقاب المسلمين (ولا تكون القيادة لأهل الشر إلا إذا تخلى عنها أهل الخير ورضوا من إيمانهم بإيمان صوري، أو إيمان ناقص لا يلحقهم بهذه الخيرية، وإنما يعاقبهم بتسليط أهل الشر عليهم فيحكمونهم بالحكم الدنيوي المرخص لأعراضهم والمهدر لكرامتهم والمصادر لأموالهم .. )(6).
وبهذا تعلم أن العاصي لا يضر نفسه فحسب، وإنما يضر مجتمعه بأكمله، وقد شبه الرسول –صلى الله عليه وسلم حاله مع حالهم بقوله:((مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها. فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً)) (7).
(1) رواه أبو داود (4339) بلفظ: ((ما من رجل يكون في قوم .. ))، وابن ماجه (3254)، وأحمد (4/ 364)(19250)، وابن حبان (1/ 536)(300)، والبيهقي (10/ 91)(19979). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4073): له متابعة، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده حسن، عبيد الله بن جرير روى عنه جمع وذكره ابن حبان في ((الثقات))، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين.
(2)
رواه الترمذي (2169)، وأحمد (5/ 391) (23375). قال الترمذي: حسن، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 357): حسن إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمر، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 484) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 358): إسناده جيد.
(3)
رواه البخاري (3346)، ومسلم (2880).
(4)
((الزهد)) لابن المبارك رقم (1350)، ((الحلية)) (5/ 222)، ((الشعب)) (6/ 99)(7601).
(5)
((الموطأ)) رقم (1820)، ((الزهد)) لابن المبارك رقم (1351)، ((مسند الحميدي)) (1/ 131)، وابن الجوزي في مناقب عمر بن عبد العزيز (ص: 250)، و ((الشعب)) (6/ 99)(7602).
(6)
ما بين الأقواس نقلته من ((صفوة الآثار)) (4/ 283).
(7)
رواه الترمذي (2173)، والبزار (1/ 491) (3298). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (687) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.
2 -
انتفاء وصف الخيرية عن هذه الأمة: وذلك أن الحكم المقرون بالوصف المناسب له يدل على أنه معلل بذلك الوصف، فيدور الحكم مع الوصف وجوداً وعدماً، كما قال في المراقي:
دلالة الإيماء والتنبيه
…
في الفن تقصد لدى ذويه
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن
…
لغير علة يعبه من فطن (1)
3 -
أنه يجرئ العصاة والفساق على أهل الحق والخير: فينالون منهم ويتطاولون عليهم (2) وهذا مشاهد ملموس في هذه الأيام – والله المستعان -.
4 -
أنه سبب لظهور الجهل واندراس العلم (3): وذلك أنه إذا ظهر المنكر ولم يوجد من ينكره نشأ عليه الصغير وألفه وظن أنه من الحق، كما هي الحال في كثير من المنكرات اليوم.
5 -
أن في هذا الأمر تزييناً للمعاصي عند الناس وفي نفوسهم (4)؛ لأن صاحب المنكر كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعاً بإذن الله .. !!
والناس كأسراب القطا قد جبل بعضهم على التشبه ببعض .. !!
فإذا أضفت إلى ذلك ما يوجد داخل النفس من الأمر بالسوء، وحب الشهوة، فإذا وجد المنكر عند الناس في الخارج قوي الباعث الذي في النفس!!
فإذا كان الفاعل له في الخارج من نظراء هذا ازداد طلبه له، ويشتد الدافع له إذا وجد من يأمره به ويرغبه بارتكابه .. ويعظم الدافع إلى ارتكابه إذا أوذي بسبب تركه ونيل منه بسبب مجانبته .. !!
هذا وإن أهل الفساد لا يرضون إلا بموافقته لهم ويكرهون من تنزه عن ذلك. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله إلى أن المرأة الزانية تود أن النساء كلهن يزنين .. ونقله عن بعض السلف.
علماً أنه لو وقع فيه معهم لانتقصوه وصغر في أعينهم .. واتخذوا من فعله هذا حجة عليه يطعنون بها متى شاؤوا!! (5).
6 -
عدم إجابة الدعاء: جاء هذا في حديث عائشة –رضي الله عنها مرفوعاً: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم)) (6) وقد تقدم حديث حذيفة قريباً وفيه: ((ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) (7).
7 -
سبب ظهور غربة الدين: واختفاء معالمه، وتفشي المنكرات والكفر والظلم .. وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) (8) فكلما انتشر الفساد والظلم كلما ازدادت الغربة .. حتى يصبح المتمسك بدينه غريباً بينهم .. وحتى تصبح السنن والهدى من الأمور المرفوضة والمستهجنة عند هذا الجنس السيئ من الخلق .. قال الخلال: (أخبرني عمر بن صالح بطرسوس، قال: قال لي أبو عبد الله: يا أبا حفص: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع.
(1) انظر: ((نشر البنود)) (1/ 93 – 94) و ((صفوة الآثار)) (4/ 283).
(2)
((تفسير السعدي)) (2/ 155).
(3)
((تفسير السعدي)) (2/ 155).
(4)
((تفسير السعدي)) (2/ 155).
(5)
((مجموع الفتاوى)) (28/ 215)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 37، 44 – 47).
(6)
رواه ابن ماجه (3251) واللفظ له، وابن حبان (1/ 526)(290)، والبيهقي (10/ 93)(20695)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 377)(6665). وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(7)
رواه الترمذي (2169)، وأحمد (5/ 391) (23375). قال الترمذي: حسن، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 357): حسن إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمر، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 484) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 358): إسناده جيد.
(8)
رواه مسلم (145). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فقلت: يا أبا عبد الله، وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: يا أبا حفص صيروا أمر الله فضولاً. وقال: المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني قالوا: هذا فضول. قال: والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه. فقالوا: نعم الرجل، وليس بينه وبين الفضول عمل!) (1).
وقال جامع بن شداد: كنت عند عبد الرحمن بن يزيد بفارس، فأتاه نعي الأسود بن يزيد، فأتيناه نعزيه. فقال: مات أخي الأسود. ثم قال: قال عبد الله: يذهب الصالحون أسلافاً ويبقى أصحاب الريب.
قالوا: يا أبا عبد الرحمن، وما أصحاب الريب؟!
قال: (قوم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر)(2).
8 -
إلف المسلم لهذه المنكرات: المتفشية لكثرة مشاهدته لها، والأمر كما قيل:(كثرة المساس تبلد الإحساس)، فما تعود للقلب تلك الشفافية والحساسية عند رؤية المنكر.
وقد حكي عن بعضهم: أنه مر يوماً في السوق فرأى بدعة فبال الدم من شدة إنكاره لها بقلبه، وتغير مزاجه لرؤيتها، فلما كان في اليوم الثاني مر فرآها فبال دماً صافياً، فلما كان في اليوم الثالث مر فرآها فبال بوله المعتاد لأنه قد ألف رؤيتها (3). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص68
(1)((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال رقم (65).
(2)
البيهقي في ((الشعب)) رقم (7584)(6/ 94).
(3)
انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 93 – 94).