الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع السادس: العمل عند تزاحم المفاسد
إذا ازدحمت المفسدتان ارتكب أيسرهما لدفع أشرهما .. هذا في حال التفاوت والذي يبنى على ما تقدم.
قال في المراقي: (وارتكب الأخف من ضرين (1) ......
ومن صور هذه القاعدة: وجود هذه المراكز الإسلامية الصيفية للنساء فهو لا يخلو من مفاسد كتعود المرأة على الخروج من المنزل، وفتح الباب لأهل الشر لفتح مراكز شيطانية ونحو ذا من الأمور المحذورة!!
ولكن في هذا العصر الذي دخل فيه الشر كل بيت –إلا من رحم الله- وتفنن فيه دعاة الفساد بشتى الأساليب .. وبقيت كثير من بنات المسلمين تحت تأثيرهم وما ينشرون من منكر وفساد .. فانشغال هؤلاء النساء بأمور خيرة خير من بقائهن فريسة لهؤلاء، فالأمر لم يعد كالسابق، إذ المرأة اليوم تشاهد التلفاز، وتقرأ الصحف والمجلات، وتخرج إلى العمل أو المدرسة .. فلابد وأن تعرف الشر وتشاهده.
وحينما نقر أمثال تلك المراكز إنما ذلك بشروط وضوابط تلائم الحال والواقع .. كأن يكون الوقت معقولاً لا طول فيه .. وأن لا يكون في جميع الأيام بل في يومين أو ثلاثة من الأسبوع .. وأن تعلم فيه النساء القرآن وما يناسب حالهن من معرفة أمور الطهارة والحيض والصلاة والصوم والزكاة والحج.
ويعلمن تربية الأولاد على وفق تعاليم الشرع ونحو ذلك من الأمور الهامة لهن .. وأن يكون الإشراف على هذه الأماكن من قبل ذوي الكفاءة والديانة.
هذا لمن دعت الحاجة لمشاركتها في ذلك إما للحاجة إلى تعليمها وإرشادها، وإما لحاجتها هي بحيث لم يتوفر لها من يربيها على الإسلام ويعلمها ما تحتاج إليه، فتستغني عن مثل هذا الخروج.
أما عدا هذين الصنفين من النساء فيبقين في بيوتهن.
وهذا كله مخرج على قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وإنما يكون ذلك إذا كان لابد من الوقوع في أحدهما لا محالة، أما إذا أمكن تلافيهما فالأمر يجري على قاعدتين هما:
الأولى: (الضرر يزال).
والثانية: (الضرر لا يزال بالضرر).
فاقتحام النساء المسلمات مجالات الطب بحجة ارتكاب أخف الضررين غلط ظاهر، لأن هناك وسيلة ثالثة غير ما يظن البعض! ومثل هذا يقال في تعليم أهل الصلاح لهن وجهاً لوجه، بحجة ارتكاب أخف الضررين، لئلا يدرسهن رجل فاسق! فهذا غير صحيح، بل يفصل الجميع عنهن ويعلمن بأسلوب آخر دون رؤيته لهن.
ومن صور ذلك إشغال من تعلق بالأغاني وسماعها بالقصائد التي تحمل المعاني الطيبة، حتى تنصرف نفسه عن ذلك الغناء، إن كان لا يتركه إلا بمثل هذا؛ مع أنه قد يشتغل بهذه القصائد عن قراءة القرآن أو الذكر.
ومن صور ذلك دفع أشرطة (الفيديو) التي تحمل مواد طيبة لمن تعلق بالتلفاز تعلقاً ميؤوساً من مفارقته .. فيعطى أمثال تلك الأشرطة وإن كان المعطي يرى أن تلك الصور التي تظهر فيه من قبيل المحظور.
ولا يحتج على هذا بقاعدة (الضرر لا يزال بالضرر) لأن القاعدة ليس هذا محلها فالضرر الأصل فيه قاعدة (الضرر يزال) وأنه (لا يزال بالضرر) هذا فيما إذا كانت إزالته بغيره ممكنة .. أما في مثل تلك الصور والتي لابد فيها من الوقوع في أحد المفسدتين فإن القاعدة التي يجب إعمالها هي (ارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما). كما مر بك في الأمثلة السابقة.
ومن صور هذه القاعدة: القول بالتحالف مع بعض أصحاب البدع أو المناهج الدعوية التي تحمل بعض المخالفات في سبيل مواجهة العدو الجاثم في البلاد أو المهاجم لها، مع استمرار النصح والتعليم، شريطة أن لا يصل أمر هؤلاء –أعني الذين نحالفهم- إلى الكفر كالإسماعيلية ومن كان على شاكلتهم من الروافض والعلمانيين.
(1) انظر: ((مراقي السعود إلى مراقي السعود)) (ص: 117).
ومن صور هذه القاعدة الترخيص لمن عرض على السيف أن يتكلم بما يشعر السامع بالكفر .. بأن يتكلم بذلك شريطة أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان.
ومن صورها ما فعله عبد الله بن حذافة السهمي –رضي الله عنه حينما خير بين القتل وبين تقبيل رأس عظيم الروم .. فقبل ذلك عبد الله –أعني تقبيله- على أن يفك أسارى المسلمين.
أما إذا تساوت المفاسد في القدر فإنه يخير بينها .. كما قال في المراقي:
وارتكب الأخف من ضرين
…
وخيرن لدى استوى هذين
ذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله حول هاتين القاعدتين:
قال ابن تيمية –رحمه الله: فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة.
وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمى هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء
…
وهذا –باب التعارض- باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يغنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء.
فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها .. العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط؛ مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلاً لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعاً لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضرراً من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر.
فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر والنهي أو (الإباحة) .. فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه (1). ا. هـ.
وقد نقلنا باقي كلامه فما تقدم فراجعه إن شئت. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 242
(1)((مجموع الفتاوى)) (20/ 57 - 61).
الفرع السابع: العمل في حال اختلاط المعروف بالمنكر والمصلحة بالمفسدة (1)
تفشت المنكرات في هذا العصر بشكل مخيف جداً .. حتى لم يسلم منها بيت من بيوت المسلمين .. ومن لم يقارف شيئاً منها فإنه يمر به صباح مساء .. بل إن كثيراً من المعروف قد اختلط به شيء من المنكر .. حتى المساجد لم تسلم من ذلك!!
وقد آثرت في هذه المسألة أن أورد بعض كلام ابن تيمية –رحمه الله حول هذه المشكلة فهو يقول: واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضاً شر من بدع وغيرها، فيكون ذلك العمل خيراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من أنواع المشروع، وشراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة، فعليك هنا بأدبين: أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك. وأعرف المعروف وأنكر المنكر.
والثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه؛ ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها، والتاركون أيضاً لسنن مذمومون، فإن منها ما يكون واجباً على الإطلاق، ومنها ما يكون واجباً على التقييد كما أن الصلاة النافلة لا تجب ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية.
وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به، ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وينهي عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم يترك العمل السيء أو الناقص .. –إلى أن قال- إنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار. أو نحو ذلك. فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة .. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور؛ من كتب الأسمار أو الأشعار أو حكم فارس والروم.
فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، أو جنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً.
فأما مراتب المعروف والمنكر، ومراتب الدليل، بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين، وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين.
فالمراتب ثلاثة:
أحدهما: العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه.
الثاني: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها، إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع.
(1) انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 463).
والثالث: ما ليس فيه صلاح أصلاً؛ إما لكونه تركاً للعمل الصالح مطلقاً، أو لكونه عملاً فاسداً محضاً.
فأما الأول: فهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنها وظاهرها، قولها وعملها، في الأمور العلمية والعملية مطلقاً، فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به، وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب، والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وأما المرتبة الثانية: فهي كثيرة جداً في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ومن العامة أيضاً، وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملاً صالحاً مشروعاً ولا غير مشروع، أو من يكون عمله من جنس المحرم، كالكفر والكذب والخيانة والجهل، ويندرج في هذا أنواع كثيرة.
فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة كالوصال في الصيام وترك جنس الشهوات ونحو ذلك، أو قصد إحياء ليالي لا خصوص لها كأول ليلة من رجب ونحو ذلك، قد يكون حاله خيراً من حال البطال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته؛ بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء زاهدون في جنس عبادة الله من العلم النافع والعمل الصالح، أو في أحدهما – لا يحبونها ولا يرغبون فيها، لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء، فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع، وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع، ومع هذا: فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر
…
(1) ا. هـ. كلام الشيخ –رحمه الله.
وقال في موضوع آخر: .. وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهي –وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له: فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به بل يكون محرماً، إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوال فعل الحسنات.
وإن كان المنكر أغلب نهي عنه. وإن استلزم فوات ما دونه من المعروف ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر، وسيعاً في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً.
(1)((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 616 - 621).
وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية .. (1) ا. هـ.
وقال في موضع آخر:
…
فأما المؤمنون فالصحو خير لهم، فإن السكر يصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، وكذلك العقل خير لهم لأنه يزيدهم إيماناً.
وأما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين؛ أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة، بل يصده عن الكفر والفسوق؛ وأما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيراً للمؤمنين، وليس هذا إباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما.
ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل عن الكفر والفساد في الأرض، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وذلك مصلحة للمسلمين، فصحوهم شر من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو بل يستحب – أو يجب – دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره.
فهذا في حق الكفار، وفي الفساق والظلمة من إذا صحا كان في صحوه من ترك الواجبات وإعطاء الناس حقوقهم، ومن فعل المحرمات والاعتداء في النفوس والأموال ما هو أعظم من سكره، فإنه إذا كان يترك ذكر الله والصلاة في حال سكره ويفعل ما ذكرته في حال صحوه، لم يكن سكره شراً من صحوه، وإذا كان في حال صحوه يفعل حروباً وفتناً لم يكن في شربه ما هو أكثر من ذلك، ثم إذا كان في سكره يمتنع عن ظلم الخلق في النفوس والأموال والحريم، ويسمح ببذل أموال – تؤخذ على وجه فيه نوع من التحريم – ينتفع بها الناس كان ذلك أقل عذاباً ممن يصحو فيعتدي على الناس في النفوس والأموال والحريم، ويمنع الناس الحقوق التي يجب أداؤها .. فعليك بالموازنة في هذه الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة حتى يظهر لك التماثل والتفاضل، وتناسب أحوال أهل الأحوال الباطنة لذوي الأعمال الظاهرة، لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة التي غلب فيها خلط الأعمال الصالحة بالسيئة في جميع الأصناف لنرجح عند الازدحام والتمانع خير الخيرين وندفع عند الاجتماع شر الشرين، ونقدم عند تلازم – تلازم الحسنات والسيئات – ما ترجح منها، فإن غالب رؤوس المتأخرين وغالب الأمة من الملوك والأمراء والمتكلمين والعلماء والعباد وأهل الأموال يقع غالباً فيهم ذلك .. (2) ا. هـ.
هذا وقد أطلت في شرح هذا الأصل – أعني مراعاة المصالح ودفع المفاسد – لكون الحاجة ماسة إلى ذلك .. كما أنه من أدق وأجل مسائل هذا الباب. والله أعلم.
ومن الجدير بالذكر أنه ليس كل من اشتغل بالحسبة يكون قادراً على التمييز بين المصالح والمفاسد والموازنة بينها .. وإنما ذلك يحتاج إلى فقه وعلم وعقل وحكمة. وعلى من قصر فهمه وذهنه عن الترجيح بينها أن يسأل غيره ويستشيره. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 175
(1)((رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 20 - 22).
(2)
((الاستقامة)) (2/ 165 - 168).
المطلب الأول: العمل على إيجاد البديل عن المنكر (1)
إن الباطل يشغل حيزاً كبيراً في نفوس أصحابه .. لاسيما إذا صاحب ذلك إلف المنكر واعتياده .. فإنه من الصعوبة بمكان على صاحبه أن يفارقه ويتخلص منه .. بل إنه يشعر في بعض الأحيان أنه قد أصبح يمثل جزءاً من كيانه لا يتصور الاستغناء عنه بحال من الأحوال .. وهذا مشاهد وملموس في واقع الكثير من الناس.
إذا عرفت هذا تبين لك جلياً مدى حاجة الناس إلى إيجاد بدائل تحل محل تلك المنكرات.
وأنت إذا تأملت سير التشريع الرباني رأيت أنه لم يهمل هذا الجانب بل اهتم به. فحينما حرم الله عز وجل أعياد الجاهلية .. أبدل المسلمين عنها بعيدين عظيمين كريمين. كما أباح لهم أضرباً من اللهو المباح فيهما.
ومن هذا الباب في القرآن قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا
…
[البقرة: 104] ومما يدخل تحته أيضاً قول الله تبارك وتعالى مخبراً عن قول لوط –عليه الصلاة والسلام لقومه: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 165 - 166].
ومن السنة ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً)) (2).
وقد أدرك أهل العلم أهمية هذا الجانب فظهر في بعض مقالاتهم وفتاواهم .. ومن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول:(من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً، فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه. فقال: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح)(3).
وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز –رحمهما الله- لأبيه: (يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك.
قال: يا بني! إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه) (4).
وقال –رحمه الله أيضاً: (ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً)(5).
وقال ابن كثير –رحمه الله في حوادث سنة اثنتين وثلاثين وستمائة: (فيها خرب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطئ وخمور ومنكرات متعددة، فهدمه وأمر بعمارة جامع مكانه سمي جامع التوبة)(6) ا. هـ.
(1)((إعلام الموقعين)) (2/ 146 - 148)، ((إغاثة اللهفان)) (2/ 69 - 71)، ((زاد المعاد)) (4/ 134 - 135)، ((أصول الدعوة)) (ص: 446).
(2)
رواه البخاري (2201)، ومسلم (1593).
(3)
رواه البخاري (2225).
(4)
((الزهد)) لأحمد (ص: 364)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال رقم (40) ((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) (ص: 88).
(5)
((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) لابن الجوزي (ص: 88).
(6)
((البداية والنهاية)) (13/ 143).
ونقل الحافظ في الفتح عن المبرد أن موضع ذي الخلصة (وهو صنم دوس في الجاهلية) صار مسجداً جامعاً لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم (1) ا. هـ.
وفي إنباء العمر (في حوادث سنة ثمانين وسبعمائة) قال: الحافظ –رحمه الله: (وفيها توجه شخص من أهل الصلاح يقال له: عبد الله الزيلعي إلى الجيزة، فبات بقرب أبو النمرس، فسمع حس الناقوس، فسأل عنه، فقيل له: إن بها كنيسة يعمل فيها ذلك كل ليلة؛ حتى ليلة الجمعة، وفي يومها والخطيب يخطب على المنبر فسعى عند جمال الدين المحتسب في هدمها فقام في ذلك قياماً تاماً إلى أن هدمها وصيرها مسجداً)(2) ا. هـ.
ومما يحسن ذكره من الوقائع في هذا الجانب أن داراً تقع على النيل في مصر يجري فيها ألوان المنكرات حتى عرفت بدار الفاسقين، فاشتراها الأمير عز الدين ايدمر الخطيري وهدمها وبني مكانها جامعاً في سنة 737هـ وسماه جامع التوبة (3).
وقد نقلت لك فيما سبق شيئاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتعلق بهذه المسألة فلأهميته أورد بعضه هنا فيقول: ( .. إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه ..
وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به .. بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغنى عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم يترك العمل السيء أو الناقص .. ) (4) ا. هـ. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 254
(1)((الفتح)) (8/ 71).
(2)
((إنباء الغمر)) (1/ 271).
(3)
((الخطط)) للمقريزي (2/ 312)، ((إنباء الغمر)) (هامش)(4/ 45).
(4)
((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 616 - 617).