المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرع الثالث: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرما - الموسوعة العقدية - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌6 - ومن فضلهم: أنهم ورثة الأنبياء

- ‌7 - أنهم ممن أراد الله عز وجل بهم الخير

- ‌8 - أن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين يصلون على معلم الناس الخير

- ‌9 - أن العالم لا ينقطع عمله ما بقي علمه ينتفع به الناس

- ‌10 - العلماء هم الدعاة إلى الله عز وجل

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: التحذير من زلة العالم

- ‌المطلب الثاني: أصناف الناس تجاه زلة العالم

- ‌أولاً: اعتقاد عدم عصمة العالم وأن الخطأ لا يستلزم الإثم

- ‌ثانيا: أن نثبت له الأجر ولا نقلده على خطئه

- ‌ثالثا: عدم الاعتماد عليها وترك العمل بها

- ‌رابعا: أن يلتمس العذر للعالم، ويحسن الظن به، ويقيله عثرته

- ‌خامسا: أن يحفظ للعالم قدره، ولا يجحد محاسنه

- ‌سادسا: إسداء النصح له

- ‌المبحث الثالث: خطر الطعن على العلماء، وشؤم الحط من أقدارهم

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: تعريف الإمامة لغةً

- ‌المبحث الثاني: تعريف الإمامة اصطلاحاً

- ‌المبحث الثالث: لفظ (الإمام) في الكتاب والسنة

- ‌المبحث الرابع: الترادف بين ألفاظ: الإمام والخليفة وأمير المؤمنين

- ‌المبحث الخامس: استعمالات لفظي الخلافة والإمامة

- ‌تمهيد

- ‌مبحث: الأدلة على وجوب الإمامة

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة

- ‌المطلب الثالث: الإجماع

- ‌المطلب الرابع: القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)

- ‌المطلب الخامس: دفع أضرار الفوضى

- ‌المطلب السادس: الإمامة من الأمور التي تقتضيها الفطرة وعادات الناس

- ‌المبحث الأول: الإسلام

- ‌المبحث الثاني: البلوغ

- ‌المبحث الثالث: الحرية

- ‌المبحث الرابع: أن يكون ذكرًا

- ‌المبحث الخامس: العلم

- ‌المبحث السادس: العدالة

- ‌المبحث السابع: الكفاءة النفسية

- ‌المبحث الثامن: الكفاءة الجسمية

- ‌المبحث التاسع: عدم الحرص عليها

- ‌المبحث العاشر: القرشية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الواجبات الأساسية

- ‌المقصد الأول: إقامة الدين

- ‌المقصد الثاني: سياسة الدنيا بهذا الدين

- ‌المبحث الثاني: واجبات فرعية

- ‌المبحث الأول: حق الطاعة

- ‌المبحث الثاني: النصرة والتقدير

- ‌المبحث الثالث: المناصحة

- ‌المبحث الرابع: حق المال

- ‌المبحث الخامس: مدة صلاحية الحاكم للإمامة

- ‌المطلب الأول: أداء الصلاة خلف كل بر وفاجر

- ‌المطلب الثاني: الجهاد معه

- ‌المطلب الثالث: الحج معه

- ‌المبحث الأول: مسببات العزل

- ‌المبحث الثاني: حكم الخروج على الأئمة

- ‌تمهيد

- ‌مبحث: حكم تعدد الأئمة

- ‌المبحث الأول: معنى المعروف والمنكر لغة

- ‌المبحث الثاني: معنى المعروف والمنكر شرعاً

- ‌المبحث الثالث: المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما، وانفراد أحدهما

- ‌المبحث الأول: فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الثاني: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المطلب الأول: الأدلة على فضله من القرآن الكريم

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الثالث: الآثار المترتبة على تركه

- ‌المطلب الأول: الحكم العام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الفرع الأول: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا

- ‌الفرع الثاني: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستحبا

- ‌الفرع الثالث: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرما

- ‌المطلب الثاني: ذكر الشروط غير المعتبرة

- ‌تمهيد

- ‌الفرع الثاني: ذكر ضوابط المصلحة الشرعية

- ‌الفرع الخامس: العمل عند تزاحم المصالح

- ‌الفرع السادس: العمل عند تزاحم المفاسد

- ‌المطلب الثاني: تقليل العلائق مع الناس إن كانت المصلحة في ذلك

- ‌المطلب الثالث: الإسرار بالنصح

- ‌المطلب الرابع: قصد النصح لجميع الأمة

- ‌المطلب الخامس: قصد رحمة الخلق والشفقة عليهم

- ‌المطلب السادس: ستر العورات والعيوب

- ‌المطلب السابع: الاغتمام بمعصية المسلم والتأسف لتعرضه لغضب الله

- ‌المطلب الثامن: الغيرة على المسلمين

- ‌المطلب التاسع: تواضع الآمر الناهي في أمره ونهيه

- ‌المطلب الأول: كونه منكراً

- ‌المطلب الثاني: أن يكون موجوداً في الحال

- ‌المطلب الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس

- ‌المطلب الرابع: ألا يكون المنكر من المسائل المختلف فيها

- ‌المطلب الأول: القدرة والاستطاعة

- ‌المطلب الثاني: ضابط الاستطاعة

- ‌المطلب الأول: تغيير المنكر باليد وأدلته

- ‌الفرع الأول: المنكرات التي يجوز إتلافها باليد

- ‌الفرع الثاني: هل يضمن المنكر ما أتلفه

- ‌المطلب الثالث: شروط تغيير المنكر باليد وضوابطه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: التعريف

- ‌المطلب الثاني: النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى

- ‌المطلب الثالث: الغلظة بالقول

- ‌المطلب الرابع: التهديد والتخويف

- ‌المطلب الأول: أهمية التغيير بالقلب

- ‌المطلب الثالث: فوائد الإنكار بالقلب وثمراته

- ‌المطلب الأول: تعريف الهجر لغةً وشرعاً

- ‌المطلب الثاني: أنواع الهجر

- ‌المطلب الثالث: أقسام الناس بالنسبة للهجر

- ‌المطلب الرابع: الهجر المحرم

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: أدلة الإنكار على السلطان

- ‌المطلب الثاني: كيفية الإنكار على السلطان

- ‌المبحث السابع: تغيير الابن على والده

- ‌المطلب الأول: إنكار الوالد على أولاده

- ‌المطلب الثاني: إنكار الأم على أولادها

- ‌المبحث التاسع: تغيير الزوجة على زوجها

- ‌الشبهة الأولى: وجوب ترك الاحتساب بحجة تعارضه مع الحرية الشخصية

- ‌الشبهة الثانية: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث لا يضرنا ضلال الضالين

- ‌الشبهة الثالثة: (ترك الحسبة بسبب التقصير والنقص)

- ‌الشبهة الرابعة: (ترك الاحتساب خشية الوقوع في الفتنة)

- ‌الشبهة الخامسة: (ترك الاحتساب بسبب عدم استجابة الناس)

- ‌المطلب الأول: تعريف الولاية والولي لغة

- ‌المطلب الثاني: تعريف الولاية والولي اصطلاحا

- ‌المطلب الثالث: اجتماع الولاية والعداوة

- ‌المبحث الثاني: شروط الولي

- ‌المطلب الأول: أقسام الأولياء

- ‌تمهيد

- ‌مسألة: من أفضل الأولياء

- ‌المبحث الرابع: الشهادة لمعين بالولاية

- ‌المطلب الأول: تعريف الكرامة لغة

- ‌المطلب الثاني: تعريف الكرامة اصطلاحا

- ‌المطلب الأول: ما جاء في الكتاب والسنة

- ‌المطلب الثاني: ما جاء في كرامات الصحابة والتابعين

- ‌المطلب الأول: أنواع الخوارق من ناحية القدرة والتأثير

- ‌المطلب الثاني: أنواع الخوارق من ناحية كونها نعمة أو نقمة

- ‌المطلب الثالث: أنواع الخوارق من ناحية المدح أو الذم أو الإباحة

- ‌المطلب الرابع: أنواع الخوارق من ناحية كونها كمالا أو نقصا

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين الكرامة والأحوال الشيطانية

- ‌المبحث الخامس: الفرق بين المعجزة والكرامة

- ‌الفصل الأول: المسح على الخفين

- ‌الفصل الثاني: مسائل فقهية أخرى

- ‌المبحث الأول: تعريف الجن في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف الجن اصطلاحا

- ‌المبحث الأول: الأدلة السمعية على وجود الجن

- ‌المبحث الثاني: الأدلة العقلية

- ‌المبحث الثالث: عقائد الناس في الجن

- ‌المبحث الأول: المادة التي خلق منها الجن

- ‌أولا: قدرتهم على التشكل

- ‌ثانيا: مدى إمكانية رؤيتهم

- ‌المطلب الثاني: الجن يتناكحون ويتناسلون

- ‌المطلب الثالث: الجن يأكلون ويشربون

- ‌المطلب الرابع: يتميزون بسرعة الحركة والقدرة على الأعمال الشاقة

- ‌المطلب الخامس: الجن يموتون ويبعثون بعد الموت

- ‌المطلب السادس: ما تعجز عنه الجن

- ‌المبحث الثالث: الأماكن التي يسكنها الجن

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: أصناف الجن من حيث أصل خلقتهم، وقوتهم

- ‌المطلب الثاني: أصناف الجن من حيث إنتسابهم إلى قبائل وأماكن

- ‌المطلب الثالث: أصناف الجن من حيث الإيمان والكفر، والصلاح والفساد

- ‌المطلب الأول: تعريف إبليس والشيطان لغة واصطلاحاً

- ‌المطلب الثاني: أوصاف إبليس

- ‌1 - الرجيم:

- ‌2 - المارد:

- ‌3 - الوسواس الخناس:

- ‌المطلب الثالث: الجنس الذي منه إبليس

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على تكليف الجن

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة

- ‌المبحث الثاني: جنس الرسل المبعوثة إلى الجن

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: جزاء كافرهم في الآخرة

- ‌المطلب الثاني: جزاء مؤمنهم في الآخرة

- ‌المبحث الأول: أهداف الشيطان

- ‌المبحث الثاني: أساليب الشياطين في إغواء الناس

- ‌المبحث الثالث: مدى سلطان الشيطان على الإنسان

- ‌المبحث الأول: استراق الجن لأخبار السماء

- ‌المبحث الثاني: ما تلقيه الجن إلى الإنس

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: علاقة الجن بتحضير الأرواح

- ‌المبحث الثاني: حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح

- ‌الفصل الثامن: دخول الجني في الإنسي

- ‌المطلب الأول: الأدلة من الكتاب على لزوم الجماعة

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة في الحث على الجماعة والأمر بلزومها

- ‌الفرع الأول الأدلة من الكتاب على ذم التفرق والتحذير منه

- ‌الفرع الثاني: الأدلة من السنة على ذم التفرق والتحذير منه

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة النبوية

- ‌المبحث الثالث: الأدلة من أقوال السلف الصالح

- ‌المطلب الأول: البدعة لغة

- ‌المطلب الثاني: البدعة اصطلاحاً

- ‌المطلب الأول: الأدلة من النظر على ذمِّ البدع

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من النقل على ذم البدع

- ‌المبحث الثالث: خطورة البدعة وآثارها السيئة

- ‌المبحث الرابع: أنواع البدع

- ‌المطلب الأول: تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية

- ‌المطلب الثاني: انقسام البدعة إلى فعلية وتركية

- ‌المطلب الثالث: انقسام البدعة إلى اعتقادية وعملية

- ‌المطلب الرابع: تقسيم البدعة إلى كلية وجزئية

- ‌المطلب الخامس: تقسيم البدعة إلى بسيطة ومركبة

- ‌المطلب السادس: تقسيم البدعة إلى صغيرة وكبيرة

- ‌المطلب السابع: انقسام البدعة إلى عبادية وعادية

- ‌المبحث الخامس: حكم البدعة

الفصل: ‌الفرع الثالث: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرما

‌الفرع الثالث: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرما

وأما الحال التي يكون فيها محرماً (1): فإن ذلك يحصل إذا ترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زوال مصلحة أعظم من المأمور بها .. أو ترتب مفسدة أعظم من المنهي عنها.

وذلك كأن ينهى من يشرب الخمر عن شربها، ويعلم أنه لو أفاق لقتل رجلاً من المسلمين، فهذا يترك في سكره.

وكمن يأمر إنساناً بالطمأنينة في الصلاة .. وهو يعلم أن ذلك يؤدي إلى تركه الصلاة بالكلية.

وكأن يأتي إنسان إلى بعض المنكرات الظاهرة في الأسواق ونحوها مما ليس له عليه ولاية ولا سلطة .. فيفسدها بنفسه .. وليس هو والياً للحسبة، ولا منصوباً لذلك ويكون تغييره هذا جالباً لفتنة تقع بين الناس .. فيغير بالرغم من ذلك كله .. !

وكمن يحدث الناس ويأمرهم ببعض المعروف الذي لم تتهيأ نفوسهم لقبوله .. فيحدث ذلك من الفتن ما الله به عليم.

ولذا فقد ورد في الأثر عن علي رضي الله عنه ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)) (2).

قال الحافظ: وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. (3) ا. هـ.

وأخرج مسلم عن ابن مسعود: ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (4) ولذا قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه- لعائشة –رضي الله عنها ((لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض)) (5) وفي لفظ: ((مخافة أن تنفر قلوبهم)) (6).

قال الحافظ: (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً)(7) ا. هـ.

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه كسر شيئاً من الأصنام بمكة قبل الهجرة .. مع أنها أعظم المنكرات، وهو يمر بها وهي معلقة على جدار الكعبة.

فكان يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك قدر طاقته .. هذا هو الأصل ما لم توجد القدرة عند الإنسان على إزالة المنكر بحيث لا يفوت ذلك مصلحة أعظم، أو يوقع بمفسدة أشد وأطم. ولذا نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين فقال: وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ

[الأنعام: 108].

ومما يلحق بهذا القسم – أعني المحرم – ما ترتب عليه لحوق الضرر المعتبر بغيره، كتعريض قرابته أو غيرهم للقتل أو الحبس أو مصادرة الممتلكات أو الضرب أو نحو ذلك مما يسقط الوجوب عنه إن لحق به، ويبقى الأمر والنهي مستحباً في حقه .. أما إن لحق بغيره فلا.

فلو كان الإنكار على أحد من الولاة يؤدي إلى منع صلاة الجماعة في المساجد، أو منع التعليم الشرعي، أو قتل المصلين المستقيمين على دينهم .. فإن الإنكار في هذه الحال يكون منكراً وقد يأثم صاحبه.

(1) انظر تفصيلاً في هذا الموضوع في ((الفروق)) للقرافي (4/ 257 - 258). ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (99 - 101)، ((أصول الدعوة)) (ص: 191).

(2)

رواه البخاري (127). عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني عن علي رضي الله عنه.

(3)

((الفتح)) (1/ 225).

(4)

رواه مسلم في مقدمة كتابه ((الصحيح)) (5).

(5)

رواه البخاري (1584).

(6)

رواه مسلم (1333).

(7)

((الفتح)) (1/ 225).

ص: 163

ومما يلحق بذلك أيضاً أن يتعرض المرء للإنكار الذي يفتن بسببه وهو لا يطيق الفتنة. وقد تكون سبباً في انحرافه فهو رجل ضعيف! ولمثله يقال: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] وقد ألحق بعض أهل العلم في الأحوال التي يكون فيها محرماً ما كان يلحقه الضرر من جرائه مع علمه أنه لا يفيد (1)، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة –رضي الله عنه ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه: قالوا: وكيف يذل نفسه؟! قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه)) (2). وذهب آخرون منهم ابن العربي (3) إلى أنه يقدم حتى في هذه الحال. وقد رد عليه القرطبي (4) ذلك ومنعه.

وأقبح من هذا كله أن يأتي من يفسد بعض المنكرات – والتي يترتب على تغييرها مفاسد أعظم- بكسر أو طلاء على الصور التي في أسواق الناس وسبلهم .. ثم يختفي بحيث لا يعرف من قام بهذا العمل .. فينقم الناس على كل المتمسكين بدينهم حتى من تناءت دياره عن ديارهم آلاف الأميال .. بل إن ذلك قد يؤدي بكثير منهم إلى كراهية الدين والنفرة منه .. وهذا مشاهد. فما قيمة زوال صورة من الصور إزاء هذه المفاسد العظيمة –إن كانت تقع- المترتبة عليه!!

ولا ينبغي الاحتجاج –والحال هذه- بتحطيم إبراهيم –صلى الله عليه وسلم الأصنام فإن الجواب عن ذلك من وجوه متعددة وهي:

الأول: أنه نبي يوحى إليه فيؤمن عليه الزلل في مثل هذا ..

الثاني: أنه كان معروفاً بينهم يشار إليه بالبنان .. بأنه داعية التوحيد والمنفر من عبادة الأوثان ولذلك أحضروه لما رأوا ما حصل بأصنامهم حيث قال بعضهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 60].

الثالث: أنه دعاهم بشتى الطرق والوسائل مع اختلاف الأحوال .. فلم يستجيبوا لدعوته فكان آخر الدواء الكي.

الرابع: أن هذا الفعل من إبراهيم –صلى الله عليه وسلم هو عين الحكمة والصواب حيث زعزع يقينهم في تلك الآلهة المزعومة.

الخامس: لم يكن يترتب على فعل إبراهيم هذا ضرر على غيره من الموحدين – إن وجدوا معه في ذلك الوقت- والله أعلم.

هذا ويمكن أن نلخص الحالات التي يكون فيها محرماً فنجعلها أربعاً:

الأولى: أن يؤدي إنكار المنكر إلى فوات معروف أكبر منه .. كمن ينهي إنساناً عن التدخين ويفوت صلاة الجماعة، أو يؤدي ذلك إلى خروج الوقت وهو لم يصل.

الثانية: أن يؤدي إنكار المنكر إلى حصول منكر أكبر منه كما سيأتي في خبر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله مع التتار الذين رآهم يشربون الخمر.

الثالثة: أن يكون الأمر بالمعروف يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه. كمن يحث أخاً له على الصدقة على بعض الفقراء من غير الأقارب وهو يعلم أن هذا التصدق على حساب نفقته الواجبة على أهله وعياله! وكمن يكون في بلد خربتها الحروب – ولا زال العدو جاثماً على أرضها- فينادي بالتعمير مثلاً وهو يعلم أن هذا الأمر سيكون على حساب الجهاد ومواصلته.

الرابعة: أن يكون الأمر بالمعروف مؤدياً إلى حصول منكر أكبر منه. كمن يأمر غيره بالتبكير في الحضور إلى المسجد ويؤدي ذلك إلى امتناعه عن الصلاة بالكلية. وكمن يأمر حديث العهد بالإسلام بالختان ويغلب على ظنه ارتداده عن الإسلام.

هذا ومن الجدير بالذكر أن الذي يميز هذه الأمور ويفاضل بينها إنما هو من كان على قدر لا بأس به من العلم والفقه والبصيرة .. والناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً .. كما أن المسائل في هذا تتفاوت من حيث الوضوح للمحتسب وعدمه كما هو معلوم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 115

(1) انظر: ((تفسير القرطبي)) (4/ 48).

(2)

رواه الترمذي (2254)، وابن ماجه (3259)، وأحمد (5/ 405)(23491)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 418) (10824). قال الترمذي: حسن غريب، وقال البيهقي: تابعه سعيد بن سليمان النسيطي وعمر بن موسى الشامي عن حماد بن سلمة، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 546): حسن غريب، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (166). وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 716): إسناده صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

(3)

((أحكام القرآن)) (1/ 266 - 267).

(4)

((تفسير القرطبي)) (4/ 48).

ص: 164

المطلب الثالث: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنظر إلى المطالب به (1)

يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية (2)(3) إذا قام به البعض سقط الحرج والإثم عن الباقين. وإن لم يقم به أحد أثم القادرون جميعاً .. وفي المنكر المعين يأثم كل من علم به وكانت لديه القدرة على إنكاره فلم ينكر ولم يكن له عذر في سكوته (4).

ويبغي هنا التفطن إلى أمرين هما:

الأول: أن الإنكار بالقلب لا ينفك عن أحد أبداً (5) كما تقدم، وكما سيأتي أيضاً عند الكلام على مراتب الإنكار.

الثاني: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتحول إلى فرض عين .. وذلك إذا كان المنكر المراد رفعه أو المعروف المراد إيجاده وفعله لا يتمكن من القيام به -أي الأمر والنهي- إلا فلان بعينه، فإنه يتعين عليه .. كذلك يقال إذا لم يعلم به غيره. وهذا يكثر وقوعه في البيوت، فإن الناس غالباً لا يطلعون على ما يدور فيها .. فـ ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (6)(7).

هذا وقد دار خلاف طويل حول قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104] ومحور الخلاف هو قوله مِّنكُمْ هل (من) هنا بيانية أو تبعيضية؟!

فذهب جماعة منهم الزجاج والرازي (8) والبغوي إلى أنها بيانية، ورجحه من المعاصرين صاحب صفوة الآثار والمفاهيم (9).

قال الزجاج: ومعنى (ولتكن منكم أمة) –والله أعلم- ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف، ولكن (من) تدخل ههنا لتخص المخاطبين من سائر الأجناس وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثل هذا من كتاب الله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30] ليس يأمرهم باجتناب بعض الأوثان، ولكن المعنى: اجتنبوا الأوثان فإنها رجس. ومثله من الشعر قول الشاعر:

أخو رغائب يعطيها ويسألها

يأبى الظلامة منه النوفل الزفر

أي: هو النوفل الزفر. لأنه قد وصفه بإعطاء الرغائب والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل والزفر: الذي يحمل الأثقال.

والدليل على أنهم أمروا كلهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله جل وعلا: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110](10) ا. هـ.

(1) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 15)، ((العين والأثر)) (ص: 48)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 493 - 495).

(2)

انظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/ 315)، و ((أحكام القرآن)) لابن عربي (1/ 292)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (6/ 237)((النووي على مسلم)) (1/ 2/22 - 23)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 15)، ((الطرق الحكيمة)) (ص: 315)، ((الآداب الشرعية)) (1/ 161)، ((تفسير أبي السعود)) (2/ 67)، ((أصول الدعوة)) (ص: 166)، ((مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 65).

(3)

في موضوع المفاضلة بين فرض الكفاية والعين من حيث الثواب المتحقق للقائم به. انظر: ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 17)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 427).

(4)

((شرح مسلم)) (1/جز2/ 22 - 23).

(5)

انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 16).

(6)

جزء من حديث رواه البخاري (5200)، ومسلم (1829). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(7)

راجع في هذا الموضوع ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 292)، ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 15)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428).

(8)

((تفسير الرازي)) (8/ 167).

(9)

(4/ 270)

(10)

((معاني القرآن للزجاج)) (1/ 452 - 453) وراجع في هذا الموضوع أيضاً ((تفسير ابن عطية)) (3/ 187) و ((القاسمي)) (2/ 177)، و ((أصول الدعوة)) (ص: 301 - 304).

ص: 165

وقال الرازي بعد نقله حجة أصحاب القول الأول –وهو هذا- (إذا ثبت هذا فنقول معنى هذه الآية: كونوا أمة دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة (من) فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30] ويقال: لفلان من أولاده جند .. يريد بذلك جميع أولاده .. لا بعضهم .. ) (1) ا. هـ.

وقال أبو السعود: وقيل (من) بيانية كما في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم

[الفتح: 29] الآية، والأمر من كان الناقصة والمعنى (كونوا أمة تدعون

) كقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

[آل عمران: 110] ولا يقتضي ذلك كون الدعوة فرض عين، فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة (2) ا. هـ.

ويمكننا تلخيص ما يمكن أن يستدل به أصحاب هذا القول فيما يلي (3):

1 -

إيجاب الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ

.

2 -

أنه ليس أحد من المكلفين إلا وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو اللسان أو القلب.

ومما ينبغي التنبه له أن أصحاب هذا القول يقولون: إنه وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على الكل إلا أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة: 41] وقوله: إِلَاّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

[التوبة: 39] فالأمر عام وكذا الوعيد، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين (4).

وذهب آخرون كمقاتل بن حيان (5) وابن جرير (6) وابن كثير (7) وابن العربي (8) والقرطبي (9) والشوكاني (10) إلى أنها تبعيضية.

أخرج ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن مقاتل بن حيان في قوله: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ

[آل عمران: 104] يقول: (ليكن منكم قوم يعني: واحد أو اثنين أو ثلاثة نفر فما فوق ذلك)(11).

وقد جوز الزجاج هذا المعنى مع ميله إلى الأول كما هو ظاهر كلامه حيث قال: (ويجوز أن تكون أمرت منهم فرقة لأن قوله وَلْتَكُن مِّنكُمْ .. ذكر الدعاة إلى الإيمان، والدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء، والعلم ينوب فيه بعض الناس عن بعض، وكذلك الجهاد)(12) ا. هـ.

وقال أبو السعود: (ومن تبعيضية متعلقة بالأمر، أو بمحذوف وقع حالاً من الفاعل وهو أمة أو يدعون صفتها أي: لتوجد منكم أمة داعية إلى الخير، والأمة هي الجماعة التي يؤمها فرق الناس، أي يقصدونها ويقتدون بها، أو من الناقصة وأمة اسمها. ويدعون خبرها، أي: ولتكن منكم أمة داعين إلى الخير. وأياً كان فتوجيه الخطاب إلى الكل مع إسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وأنها واجبة على الكل بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين، ولو أخل بها الكل أثموا جميعاً)(13) ا. هـ.

(1)((تفسير الرازي)) (8/ 167).

(2)

((تفسير أبي السعود)) (20/ 67).

(3)

انظر: ((تفسير الرازي)) (8/ 167)، و ((تفسير النيسابوري)) (4/ 28).

(4)

انظر: ((الرازي)) (8/ 167)، ((صفوة الآثار)) (4/ 270).

(5)

انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) رقم (1125).

(6)

((تفسير الطبري)) (7/ 90).

(7)

((تفسير ابن كثير)) (1/ 390).

(8)

((أحكام القرآن)) (7/ 292).

(9)

((تفسير القرطبي)) (4/ 165).

(10)

((فتح القدير)) (2/ 527).

(11)

((تفسير ابن أبي حاتم)) رقم (1125).

(12)

((معاني القرآن)) (1/ 425 - 453)، وانظر:((النيسابوري))، و ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 369).

(13)

((أبو السعود)) (2/ 267).

ص: 166

وقال الحافظ ابن كثير: يقول الله تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون .. والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة منصوبة لهذا الشأن وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من رأى منكم منكراً .. )) الحديث (1)(2) ا. هـ.

ثم إن أصحاب هذا القول اختلفوا في التبعيض في الآية على قولين هما: الأول: أن فائدة كلمة من هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين.

الثاني: أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان:

1) أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء:

الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل، وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، فثبت بهذا أن التكليف متوجه إلى العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ

[التوبة: 122].

2 -

أنا أجمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية، بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى: ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة إيجاباً على البعض لا على الكل والله أعلم (3).

إشكال ودفعه (4):

قد يتوهم البعض من قوله تعالى عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يلزمه .. وهذا غير صحيح بل هو لازم له، والآية حجة عليه لا له!! (5).

ذلك أن الهداية لا تتحقق إلا بفعل المأمور وترك المحظور، ومن المعلوم أن أعظم المأمورات القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الذي يدع العمل بذلك لا يكون مهتدياً!!

بل كيف يكون مهتدياً والرسول –صلى الله عليه وسلم جعل الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، وقال عن الإنكار والمجاهدة للخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون:((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (6).

وإن مما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مهتد: إقسام الله تعالى أن الإنسان لفي خسر ولم يستثن سوى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3](7).

(1) رواه مسلم (49).

(2)

((تفسير ابن كثير)) (1/ 390).

(3)

مستفاد من كلام الرازي في ((تفسيره)) (8/ 167).

(4)

انظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 183 - 153) تحقيق أحمد شاكر، ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 54). ((تفسير ابن عطية)) (5/ 214)، و ((الرازي)) (12/ 112 - 113)، و ((القرطبي)) (6/ 342 - 345). ((مجموع الفتاوى)) (4/ 479)، و ((ابن كثير)) (2/ 109)، ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (81 - 82). ((تفسير أبي السعود)) (3/ 88)، ((فتح المبين بشرح الأربعين)) (211 - 247)، وراجع أيضاً ((الظلال)) (7/ 59 - 61)((أصول الدعوة)) (304 - 305).

(5)

انظر: جملة من الآثار عن بعض السلف في معنى هذه الآية في كتاب ((الناسخ والمنسوخ)) لأبي عبيد (ص: 286 - 294)(الآثار رقم 524 - 536).

(6)

رواه مسلم (50). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(7)

انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 169 - 171).

ص: 167

وقد قال بنحو ما سبق جماعة من المفسرين منهم ابن جرير حيث قال حينما ذكر الأقوال في الآية السابقة: وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات، ما روي عن أبي بكر –رضي الله عنه فيها وهو يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة: 105] الزموا العمل بطاعة الله وبما أمركم به وانتهوا عما نهاكم الله عنه لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، وأديتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي يركبه، أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلماً لمسلم أو معاهد، ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه، وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب لأن الله تعالى ذكره، أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى، ومن القيام بالقسط الأخذ على يدي الظالم.

ومن التعاون على البر والتقوى الأمر بالمعروف، وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان للناس ترك ذلك لم يكن للأمر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصاً له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه، وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبين أنه قد دخل في معنى قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك (إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر

) (1).

وقال الزجاج: (وليس يوجب لفظ هذه الآية ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعلم أنه لا يضر المؤمن كفر الكافر، فإذا ترك المؤمن الأمر بالمعروف وهو مستطيع ذلك فهو ضال، وليس بمهتد)(2) ا. هـ.

وقال النووي: (المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: إنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب، فلا ضرر على الآمر الناهي لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم)(3) ا. هـ.

ولقد وقع الخطأ في فهمها عند بعض أهل العصر الأول .. فقام أبو بكر –رضي الله عنه وبين المراد وأزال الشبهة.

روى ذلك قيس بن حازم حيث قال: قال أبو بكر الصديق بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (4). وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)). وقال شعبة فيه ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أكثر ممن يعمل بها .. )) (5). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص90

(1)((الطبري)) (11/ 152 - 153).

(2)

((معاني القرآن)) (2/ 214).

(3)

((شرح مسلم للنووي)) (2/ 22 - 23)(بتصرف).

(4)

رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وأحمد (1/ 7)(29، 30)، وابن حبان (1/ 539)(304). قال الترمذي، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 208): صحيح، وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (412)، وابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 193)، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 36)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

(5)

رواه أبو داود (4338). قال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2317): صحيح، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (713): صحيح على شرط الشيخين.

ص: 168

المطلب الأول: الشروط المعتبرة التي لابد من توافرها (1)

الأول: التكليف (2):

وهذا الشرط يخرج غير المكلف كالمجنون والصبي .. والمكلف في اصطلاح الفقهاء: هو البالغ العاقل.

وهذا الشرط يعد من شروط الوجوب، لكن لا يعني هذا الاشتراط للتكليف أن غير البالغ لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر بل يكون ذلك مندوباً في حقه.

كما هو الحال في الصلاة والصوم والحج ونحوها مما هو معلوم (3).

الثاني: الإسلام (4):

الحسبة فيها نوع ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم؛ ثم إن الكافر لو قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يقبل منه مع انتفاء شرط الإسلام، بقطع النظر عن كونه مخاطباً بفروع الشريعة أم لا.

ولأن الحسبة نصرة للدين ورفع له فلا يرجى أن يكون ناصره من هو جاحد لأصله (5). لكن لو قام الكافر بالإنكار للمنكر .. فهل يبقى على المسلم إنكار له؟!

والجواب عن هذا أن يقال: إن زال المنكر فليس على المسلم إنكار بعده، لأنه لا وجود للمنكر .. لكن إن كان المسلم عالماً بالمنكر قبل إنكار الكافر له كان إنكاره متعيناً على المسلم فيلام على الترك.

أما في حال بقاء المنكر بعد إنكار الكافر له فلا شك أن هذا لا يعفى المسلم من إنكاره أبداً.

الثالث: الإخلاص وإحضار النية (6):

لابد للمحتسب من أن يطلب بعمله وجه الله تعالى ورضاه .. دون أن يقصد بعمله وحسبته رياء ولا سمعة .. ولا منزلة في قلوب الخلق أو شيئا من دنياهم.

وهذا الأمر –أعني الإخلاص- شرط في قبول سائر الأعمال الصالحة كما تقدم قال الله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].

ويتأكد الإخلاص في حال كون العمل بارزاً ظاهراً يراه الناس ويشاهدونه. وننبه في هذا الموضع إلى مدخل شيطاني يوسوس به إبليس في نفوس بعض الغيورين فيشككهم في إخلاصهم وبالتالي يقعدهم عن القيام بمثل هذا العمل العظيم .. أو يقعدهم عنه ابتداء تحاشياً للشهرة أو الانزلاق بالعجب أو الرياء والسمعة .. كما نسمع من بعض القاعدين عنه!! فلا ينبغي الالتفات إلى شيء من هذه الوساوس ولا الركون إلى تلك الهواجس .. !! وسيأتي المزيد من بيان هذا عند الكلام على أحوال الناس بالنسبة إلى القيام به وعدمه.

وقد يكون للرجل جهاد وعمل ضخم في مجالات الدعوة والإصلاح والتوجيه وليس له عند الله تعالى نصيب، لأنه إنما دعا إلى تجميع الناس حول نفسه .. فدعوته وجهاده لرفع تلك النفس.

الرابع: المتابعة:

إن الغرض من الاحتساب هو إيجاد المعروف وإزالة المنكر والمعروف هو ما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم .. فعلى المحتسب أن يجعل هذا نصب عينيه، وعليه أن يعلم جيداً أن المتابعة شرط في قبول عمله لقوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف: 110] والعمل الصالح هو العمل الصائب الموافق لهديه –صلوات الله وسلامه عليه-.

(1) انظر: ((الإحياء)) (ص: 308) فما بعدها، ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 18 - 19) ((مفتاح السعادة)) (3/ 306)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 496).

(2)

((معالم القربة)) (ص: 7 - 8).

(3)

انظر: ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 129)((مفتاح السعادة)) (3/ 306)((أصول الدعوة)) (ص: 171).

(4)

انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 18)، ((التشريع)) (1/ 496 - 497)، ((مفتاح السعادة)) (3/ 306).

(5)

انظر: ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 219)، ((أصول الدعوة)) (ص: 171).

(6)

انظر: ((النووي على مسلم)) (1/ 2/24)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 18 - 19، 62 - 66)، ((معالم القربة)) (ص: 12).

ص: 169

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة المتقدم – عن مداخلة الدخن للخير الذي يكون بعد الشر لما ذكر الفتن .. وفسره بقوله ((قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي)).

فيجب أن يكون منهجنا في التغيير للانحرافات الواقعة في الأمة .. وإيجاد الفضيلة والخير في المجتمع سائراً على المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31].

ولقد بدأ –صلوات الله وسلامه عليه- كغيره من الأنبياء قبله –بإصلاح عقائد الناس أولاً وجمعهم على عقيدة التوحيد؛ كما ربى أصحابه –رضوان الله عليهم أجمعين- على وحدة مصدر التلقي .. وعلى أن كل قول غير قول الله وقوله رسوله –صلى الله عليه وسلم فإنه هو قول قابل للخطأ والصواب فلا ينظر إليه باعتبار قائله (اعرف الحق تعرف أهله، فإنما الحق لا يعرف بالرجال).

فإذا بدأ المحتسب أو (الداعي) بعكس ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لو بدأ بالجهاد أو إقامة الدولة مثلاً فإنه لا يفلح في دعوته، وهذا ولا شك من ذلك الدخن الذي أخبرنا عنه –صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله:(ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم أقرب الطرق. وهو الموصل إلى حصول القصد)(1) ا. هـ.

فكل دعوة إلى الإصلاح وكل أمر بمعروف أو نهي عن منكر لا ينتهجان ذلك المنهج السوي فلهما من المفارقة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي هو منهج أهل السنة والجماعة بقدر المخالفة له.

فإن منهج أهل السنة وطريقهم لا يقتصر على مسائل الصفات فقط، أو قضايا العلم والاعتقاد، بل ذلك يكون في تلك القضايا وغيرها من الأمور العملية وإنما كثر التدوين في مسائل الصفات خاصة ومسائل الاعتقاد عامة لكثرة المخالفين فيها أولاً ثم لخطورة الخلاف في تلك المسائل ثانياً.

ونحن ندعو كل مسلم إلى التمسك بذلك المنهج فهو طريق الخلاص من هذا الواقع المرير.

الخامس: العلم (2):

تبين لك فيما سبق أنه لابد من بلوغ المطالبة بالتكليف إلى المكلف في العمل المعين .. وإلا فإنه لا يؤاخذ على تركه. وهذا ظاهر وهو الذي مر معك عند الكلام في شرطية العلم بالتكليف وأنه من شروط الوجوب، لكن العلم الذي نريد الحديث عنه هو العلم بما يأمر والعلم بما ينهى.

فلابد للآمر أن يعلم أن ما يأمر به هو من المعروف، كما لابد للناهي أن يعلم أن ما نهى عنه يعد من المنكر .. فلابد إذاً أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه. فحاله كحال الطبيب لا يمكنه العلاج حتى يفهم المرض والدواء معاً.

(1) انظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 22 - 28).

(2)

((الأحكام السلطانية للماوردي)) (ص: 300)، ((وللفراء)) (ص: 285)، ((نهاية الرتبة في طلب الحسبة)) (ص: 6 - 10)، ((الفروق)) (ص: 4، 255)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 29 - 31)، ((نصاب الاحتساب)) (ص: 331 - 340)، ((أضواء البيان)) (1/ 174)، ((أصول الدعوة)) (ص: 465)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لعبد المعز (ص: 22)، ((الدرر السنية)) (7/ 26).

ص: 170

قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] فدلت الآية على لزوم البصيرة وهي الدليل الواضح (1). قال ابن القيم –رحمه الله: (وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد أقصى ما يصل إليه السعي.

ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء) ا. هـ (2).

وإن مما يدخل في هذا العلم المطلوب: علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها (3). قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح)(4).

قال النووي –رحمه الله: (إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء)(5) ا. هـ. بل لا يكون عمل المحتسب أو الداعي صالحاً ما لم يكن بعلم وفقه كما قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله .. لأن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى .. وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام.

فلابد إذاً من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، كما لابد من العلم بحال المأمور وحال المنهي (6).

ولا تفهم مما سبق أن المطلوب منك عند قيامك بمهمة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون عالماً فقيهاً!! بل يكفي في ذلك أن تعلم أن هذا من المنكر فتنكره أو من المعروف فتأمر به وتدعو الناس إليه.

أما إذا اقتحم الجهال الدعوة، وترأسوا فيها، وأخذوا بالأمر والنهي بلا علم في ذلك كله، فإنهم يفسدون في هذه الحال أكثر مما يصلحون كما تقدم؛ فقد يأمر أحدهم بالمنكر وينهى عن المعروف جهلاً منه (7) .. قال تعالى: وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ

[النحل: 116].

وإن من أمارات الساعة ومن أسباب تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفع العلم كما قال –صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) (8).

(1) لمعرفة كلام المفسرين في هذه الآية انظر: ((الطبري)) (16/ 291) تحقيق أحمد شاكر، ((البغوي)) (2/ 453)، ((ابن الجوزي)) (4/ 295)، ((الفخر الرازي)) (18/ 225)، ((القرطبي)) (9/ 274)، ((ابن كثير)) (2/ 495 - 496)، ((أبا السعودي)) (4/ 310)، ((الشوكاني)) (3/ 59)، ((القاسمي)) (9/ 294 - 296)، ((السعدي)) (4/ 63)، ((الشنقيطي)) (1/ 173 - 174).

(2)

((مفتاح دار السعادة)) (1/ 154).

(3)

((أصول الدعوة)) (ص: 174).

(4)

((الزهد)) لأحمد (ص: 366)، ((زاد المسير)) (ص: 250).

(5)

((شرح مسلم)) (1/ 2/23).

(6)

((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 28).

(7)

انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 173 - 174).

(8)

رواه البخاري (100)، ومسلم (2673). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 171

قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم أورد حديث الزبير بن عدي قال: ((أتينا أنس ابن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج. فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه. حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم –صلى الله عليه وسلم)) (1).

وقد ذكر الحافظ في شرحه أقوالاً متعددة ثم قال: ثم وجدت عند عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع. فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: (سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، لكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون). ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله (شر منه).

قال: فأصابتنا سنة خصب. فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء). ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال:(لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميراً خيراً من أمير ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجد منهم خلفاً، ويجيء قوم يفتون برأيهم)(2) وفي لفظ عنه من هذا الوجه: (ما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه)(3)(4). والله المستعان.

هذا وقد يحمل الإقدام على الإنكار بغير علم ذوي النفوذ على الوقوف في وجه الحسبة وتعطيلها قال عبد الصمد بن المهتدي: لما دخل المأمون بغداد، نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأن الشيوخ بقوا يضربون ويحبسون، فنهاهم المأمون وقال: قد اجتمع الناس على إمام، فمر أبو نعيم، فرأى جندياً وقد أدخل يديه بين فخذي امرأة، فنهاه بعنف، فحمله إلى الوالي، فحمله الوالي إلى المأمون. قال: فأدخلت عليه بكرة وهو يسبح، فقال توضأ. فتوضأت ثلاثاً ثلاثاً على ما رواه عبد خير، عن علي، فصليت ركعتين، فقال: ما تقول في رجل مات عن أبوين؟ فقلت: للأم الثالث، وما بقى للأب، قال فإن خلف أبويه وأخاه؟ قلت: المسألة بحالها، وسقط الأخ، قال: فإن خلف أبوين وأخوين؟ قلت: للأم السدس وما بقى للأب. قال: في قول الناس كلهم؟ قلت: لا، إن جدك ابن عباس يا أمير المؤمنين ما حجب الأم عن الثلث إلا بثلاثة إخوة. فقال: يا هذا، من نهى مثلك عن الأمر بالمعروف؟! إنما نهينا أقواماً يجعلون المعروف منكراً. ثم خرجت (5).

السادس القدرة (6):

يقول الله عز وجل: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] فمن كان بوسعه القيام بالأمر والنهي لزمه ذلك ومن لا فلا.

هذا واعلم أن الناس يتفاوتون في القدرة تفاوتاً كبيراً .. فالسلطان أقدر من غيره على القيام بذلك .. كم أن المتطوع أقل اقتداراً في الغالب من المنصوب للاحتساب .. وهكذا.

(1) رواه البخاري (7068).

(2)

رواه الدارمي (1/ 76)(188). والحديث موضوع ذكره السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (1/ 516)، والفتني في ((تذكرة الموضوعات)) (ص: 21)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 123).

(3)

انظر: ((المقاصد الحسنة)) للسخاوي (1/ 517)، و ((كشف الخفاء)) للعجلوني (2/ 123).

(4)

((الفتح)) (13/ 21).

(5)

((نزهة الفضلاء)) (2/ 748).

(6)

انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها، ((أحكام القرآن)) لابن العربي:(1/ 266 - 267). ((تفسير ابن عطية)) (5/ 166)، ((تنبيه الغافلين)) (18 - 19)((مفتاح السعادة)) (3/ 307)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 497).

ص: 172

وكلما كان الإنسان أقدر كلما كان تعين ذلك عليه آكد (1).

فإذا كان يعجز عن القيام به بيده تعين اللسان، فإن عجز عنه تعين القلب، وقد بينا أن الإنكار بالقلب لا يسقط عنه بحال من الأحوال، كما بينا أن العجز يكون حسياً ويكون ملحقاً به كخوف لحوق الأذى (2).

لكن لو تمكن المرء من الإنكار على الضعفاء دون الأقوياء فهل يلزمه الإنكار على من قدر عليهم؟!

الجواب: نعم يلزمه ذلك. لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] وهذا عمل بما يستطيع .. والله تعالى لا يكلفه ما لا يطيق لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286].

وفي القاعدة الثامنة من قواعد ابن رجب –رحمه الله: (من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا)(3)؟

وهذا فيه تفصيل يهمنا منه لزوم بعض العبادات التي تقبل ذلك كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلو رأى منكرين أحدهما كبير والآخر صغير وقدر على إنكار الصغير منهما دون الكبير فإن إنكار الصغيرة لا يسقط عنه.

قال الخلاب: (باب الرجل يرى المنكر الغليظ فلا يقدر أن ينهى عنه ويرى منكراً صغيراً يقدر أن ينهي عنه كيف العمل فيهما)؟ أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: سئل أبو عبد الله عن رجل له جار يعمل بالمنكر لا يقوى على أن ينكر عليه، وضعيف يعمل بالمنكر أيضاً، ويقوى على هذا الضعيف أينكر عليه؟ قال: نعم ينكر على هذا الذي يقوى أن ينكر عليه (4).

(1) انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 465).

(2)

انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 175).

(3)

((قواعد ابن رجب)) (ص: 10 - 11) وانظر القسم الرابع من الأقسام الداخلة تحت هذه القاعدة.

(4)

((مسائل أبي داود)) (ص: 278)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (63)((الآداب الشرعية)) (1/ 161).

ص: 173