الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: انقسام البدعة إلى عبادية وعادية
العبادة هي التي يقصد بها فاعلها التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وقد عرفها السلف بأنها اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأفعال، الظاهرة والباطنة (1). وهي مبنية على أصلين:
أحدهما: إخلاص العبادة لله وحده.
ثانيهما: تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما العادية: فهي ما لا يقصد منه التقرب إلى الله تعالى، أي إنها بحسب أصلها الموضوعة له، لم يقصد بها ذلك وإن صح فيها التقرب باعتبار أمر غير لازم لها وهي الأمور الجارية بين الخلق في الاكتساب وسائر المعاملات الدنيوية التي هي طرق لنيل الحظوظ العاجلة، مثل العقود على اختلافها والتصاريف المالية على تنوعها. ولا خلاف بين العلماء في حدوث الابتداع في العبادات ووقوعه، سواء أكانت العبادات أعمالاً قلبية وأموراً اعتقادية، أم كانت من أعمال الجوارح قولاً أو فعلاً. كمذهب القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة وكذلك مذهب الإباحية (2).
وإنما اختلف الناس في وقوع الابتداع في العاديات، والذي عليه التحقيق أن البدعة ترجع إلى اختراع عبادة لم تكن معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يرد بها نقل صحيح، ولا تدل عليها أدلة شرعية معتبرة، فهي أولاً خاصة بما يتعبد به. وإذن فلا ابتداع في العادات، ولا في الصناعات، ولا في وسائل الحياة العامة.
والقائلون بإمكان وقوع البدع في العاديات بنوا قولهم على أن الشريعة جاءت وافية ببيان القوانين التي بها صلاح الناس في أمور المعاش والمعاد، فالعادات كالعبادات كلاهما مشروع، فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العادات. فإذا جاز إمكان الابتداع فيما هو عبادة جاز فيما هو عادي من الأمور التي يقصد بها صلاح الدنيا. وهذا القول مردود، فإنه لو جاز ذلك لجاز أن تعد كل العادات التي حدثت بعد الصدر الأول من المآكل والمشارب، والملابس والمسائل النازلة بدعاً والتالي باطل.
أما الملازمة فلأن مناط الابتداع حينئذ على إحداث الطرائق الدينية عبادة كانت أو عادة، وهذه المذكورات كذلك. وأما بطلان التالي فلوجهين:
الأول: أنه لو عدت هذه المذكورات من البدع لكان كل من تلبس بشيء منها مخالفاً لما كان عليه الصدر الأول وهو موجب للذم، وهذا من الشناعة بمكان. فإن العادات من الأمور التي تدور مع الأزمنة والأمكنة، فللناس في كل زمان وفي كل مكان عادات مختلفة، وهم مع كل هذه العادات – حيث حوفظ فيها على القوانين الشرعية الجارية على مقتضى الكتاب والسنة – على تمام الموافقة للصدر الفاضل.
الثاني: إن عدّ هذه بدعاً يؤدي إلى نسبة الحرج والتضييق إلى الشريعة، فإن في التزام الزي الواحد، والحالة الواحدة، والعادة الواحدة تعباً ومشقة قضت به الشريعة، وإنما كان الالتزام كذلك لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال (3).
(1)((العبودية)) لابن تيمية (ص: 38).
(2)
((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 73) بتصرف.
(3)
((الابداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 64).
فإن قال قائل إنه قد جدت بدع في العاديات، نحو المكوس والمظالم المحدثة، وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة، واتخاذ المناخل، وغسل الأيدي بالصابون، ولبس الطيالس، وتوسيع الأكمام وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل، ولم يفعلها السلف الصالح فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها وشاعت وذاعت، فلحقت بالبدع، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة فقد رده أرباب الطريقة الأولى. قالوا لا نسلم أن هذه المذكورات مما وقع فيه الابتداع لأنها مخالفات للشرع، ومعاصي في الجملة، وليس كل معصية بدعة، سلمنا وقوع الابتداع فيها، لكن لا من حيث كونها عادية، بل من حيث كونها تعبدية. قال في الاعتصام ما محصله: ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة التعبد، لأن ما لا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات، والصلوات، والصيام والحج كلها تعبديات، والبيع، والنكاح، والشراء، والطلاق، والإجارات، والجنايات كلها عاديات لأن أحكامها معقولة المعنى، ولابد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها. فالقسمان مشتركان في معنى التعبد، والابتداع إنما يتصور دخوله في القسم الثاني من جهة التعبد فيه لا من جهة كونه عادة.
فمثل المكوس إذا نظر إليها من جهة كونها عادة، أي أنها ظلم كسائر المظالم. مثل الغصب والسرقة، وقطع الطريق، فلا يدخلها الابتداع إذ هي من هذه الجهة مما يتناولها نهي الشارع عن أكل أموال الناس بالباطل، وليس فيها جهة تشريع، وإنما يتصور دخول الابتداع في المكوس إذا لوحظت من جهة أنها وضعت على الناس كالدين الموضوع، والأمر المحتوم عليهم دائماً، أو في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي تحمل عليه العامة، ويؤخذون به، وتوجب على الممتنع منه العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك. فإنها من هذه الجهة تكون شرعاً مستدركاً، إذ هي حينئذ تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة، والغرامات المحكوم بها في الأموال.
ففي المكوس على هذا الفرض جهتان: كونها محرمة كسائر أنواع الظلم، وجهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت، كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نهي عن المعصية، ونهي عن البدعة، وليس ذلك موجوداً في البدع العبادية. وإنما يوجد فيها النهي من جهة كونها تشريعاً موضوعاً على الناس، أمر وجوب أو ندب. إذ ليس فيها جهة أخرى تكون بها معصية، بل التشريع نفسه هو الممنوع نفسه، فالعاديات من حيث هي عاديات لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها، أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة، وكذا تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح لها بطريق التوارث هو من هذا القبيل. فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتياً في الدين، أو حاكماً في الدماء، والأبضاع، والأموال مثلاً محرم في الدين، وكون ذلك يتخذ ديدناً حتى يصير الابن مستحقاً لرتبة الأب بطريق الوراثة وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب بحيث يشيع ذلك العمل ويطرد ويعده الناس كالشرع الذي لا يخالف فهو بدعة بلا إشكال.
وأما اتخاذ المناخل. فإن فرض كونه مباحاً كما قالوا فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع، وإن فرض كونه مكروهاً كما أشار إليه محمد بن أسلم فوجه الكراهة عنده كونها عدت في الأثر الآتي من المحدثات. والظاهر أن الكراهة من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهته قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
…
[الأحقاف: 20]. لا من جهة أنه بدعة محدثة، وكذا يقال في باقي الأمثلة.
وجملة القول أن الابتداع إن دخل في الأمور العادية فهو لما فيها من معنى التعبد، فرجع الأمر إلى أن الابتداع المذموم لا يكون في العادي المحض، كالمخترعات في أمور الدنيا التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وترقى برقى الأمم والشعوب.
ولما كانت بذلك لا يمكن للناس حصر جزئياتها، ويعسر عليهم أن يتقيدوا بجزئيات مخصوصة منها ترك الشارع التصرف لكل أمة تدير شؤونها بما يوافق زمانها، وجاءهم بقواعد كلية تنطبق على كل أمة، وتصلح لكل زمان، فجعل العدل أساس الأعمال. واتقاء الشر مقدماً في أي حال من الأحوال، فمتى كان ذلك قصد الناس في أمورهم الدنيوية فليخترعوا ما شاءوا من الطرق النافعة، وليبتدعوا ما أرادوا من الحيل والأساليب الصحيحة، فإنه لا حجر في ذلك. أما إذا جاوز المخترعون العدل باختراعهم. وانصرفوا إلى الشر والإفساد في ابتداعهم، فتلك سنة سيئة ((ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)) (1).
ومما تقدم من الكلام على حكم الابتداع في نحو لبس الثياب، والأكل، والشرب، والمشي، والنوم، يتضح أن هذه أمور عادية، وقد دخلها التعبد، وقيدها الشارع بأمور لا خيرة فيها كنهي اللابس عن إطالة الثوب، وطلب التسمية عند الأكل والشرب، والنهي عن الإسراف فيهما، والنهي عن النوم عارياً على سطح ليس ستر، إلى غير ذلك من القيود التي قيد بها الشارع، فالأمور المذكورة عادية، ومن هذه الجهة لا يدخلها الابتداع، وإنما من الجهة التي رسمها الشارع فيها. فإذا خولف بها الوجه المشروع، واعتبر ذلك ديناً يتقرب به إلى الله تعالى كانت بدعاً، بل هي معصية وابتداع باعتبارين كما سبق في وضع المكوس. فهي باعتبار مخالفتها الأمر والنهي عصيان، ومن حيث التقرب بها إلى الله تعالى من الجهة المضادة للطريق التي رسمها تكون مذمومة. تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص 106
(1) رواه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.