الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني: ذكر ضوابط المصلحة الشرعية
حتى تكون المصلحة معتبرة شرعاً لابد من توفر شرطين:
الأول: ورود النص أو القياس بطلبها.
الثاني: أن لا تكون معارضة بمصلحة أرجح منها أو مساوية، وطريق الترجيح بين المصالح لمعرفة مراتبها يكون كالآتي:
1 -
تقدم الضرورية على الحاجية، كما تقدم الحاجية على التحسينية. ومن هنا يعلم أن قاعدة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأن تكون المصلحة والمفسدة في رتبة واحدة وحد مستو، أما إن لم يوجد التساوي فيرجح الأعلى.
2 -
تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إن كانتا في رتبة واحدة. ومن هنا يعلم أن قاعدة المصلحة العامة على الخاصة ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأن تكون المصلحتان في رتبة واحدة ومستوى متماثل.
3 -
إن كانتا ضروريتين وعامتين قدمت المصلحة المتعلقة بالدين على المتعلقة بالنفس ثم العقل ثم النسل ثم المال؛ فالمصلحة المتعلقة بالدين تقدم على غيرها من الضروريات الأخرى. قال تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191] وكذلك ما كان ذو مرتبة أعلى فإنه يقدم على ما دونه.
توضيح ما سبق بالمثال:
من مقررات أهل السنة وجوب الجهاد مع كل أمير برا كان أو فاجرا.
فالجهاد به حفظ الدين وهو ضروري لارتفاع كلمة التوحيد .. أما كونه عادلاً فهو حاجي، فيقدم الجهاد مع البر والفاجر لكونه ضرورياً على ما كان مع العادل فقط لكون هذا الوصف في الإمام حاجي.
ثم إن الجهاد به حفظ للدين بإزهاق النفس فقدمت مصلحة حفظ الأديان على حفظ النفوس والأبدان.
ويمكن التمثيل على تقديم المصلحة العامة على الخاصة بالمنع من تلقي الركبان، فمصلحة أهل السوق عامة، وقدمت على مصلحة المتلقي الخاصة؛ وكالنهي عن الاغتسال بالماء الراكد مع كون المغتسل منتفعاً من ذلك لكنه يضر بالمصلحة العامة فيمنع منه لذلك. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 233
الفرع الثالث: بيان نظر الشارع للنتائج واعتباره لها (1)
تقدم عند الكلام على الحكم والفوائد من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكر إقامة الدين وظهور الشريعة .. وزوال الباطل أو التقليل منه .. وهذا ولا شك مطلب شرعي أصيل .. لابد للمحتسب من أن يضعه نصب عينيه وهو يؤدي هذه المهمة.
أما إن كان الناتج عن الأمر والنهي في بعض الحالات زيادة في المنكر الذي أردنا إزالته، أو زوال للمعروف الذي أردنا تكثيره .. فإن الآمر أو الناهي في هذه الحال يكون سبباً في ازدياد الباطل وتقليل المعروف علم أو لم يعلم (2).
ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع لتحقيق ما يحبه الله ورسوله، فإذا ترتب على ذلك ما هو أنكر منه وأبغض إلى الشارع فإنه لا يسوغ إنكاره؛ وإن ترك الإنكار لا يعني إقرار المنكر.
ومثاله: الإنكار على الولاة المسلمين بالخروج عليهم .. فإن ما يترتب عليه من المفاسد أكبر مما يجلب من المصالح .. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين قال في وصفهم: ((تعرفون وتنكرون)) فقال: ((لا ما صلوا، لا ما صلوا)) (3).
ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات –كالأصنام- ولا يستطيع تغييرها .. ولما فتح مكة عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام. ولهذا لم يأذن بالإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من المفاسد.
والحاصل أن ما يترتب على إنكار المنكر لا يخلو من أربع حالات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده من المعروف، كما إذا نصحت رجلاً يبيع الأغاني وينشرها، فقبل النصح، فاستبدل ذلك بالأشرطة الإسلامية.
الثانية: أن يقل المنكر وإن لم يزل بجملته .. كما إذا نبهت بعض أصحاب المناهج المشتملة على بعض المخالفات أو البدع .. على مخالفته أو بدعته، فقبل منك، فترك بعض ما هو فيه من المنكر .. وكما إذا نصحت من يسب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الدين، فانتهى إلى سب آحاد المؤمنين.
الثالثة: أن يزول ويخلفه ما هو مثله .. كما إذا نصحت رجلاً عن سماع الأغاني الغربية، فانتقل منها إلى الأغاني العربية!!
وكما إذا بينت لنصراني فساد عقيدة التثليث، فعرف فسادها، فانتقل إلى اليهودية مثلاً .. !
وكما إذا حاورت بعض المنتسبين إلى الدعوة إلى الإسلام، وهو ذو منهج تشوبه بعض البدع أو المخالفات، فانتقل إلى منهج في الدعوة يماثله في حجم الانحراف وقدره.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه .. كما يقع في بعض الأحيان في صفوف النشء المقبل على الإسلام –أكثر من غيرهم- إذا واجه النقد المتبادل بين أوساط العاملين للإسلام .. فيتخلى عن الجميع وينحرف تماماً.
وكما إذا نصحت بعض أصحاب المهن بأن يتزين في لباسه إذا أراد المجيء إلى المسجد فيدع الصلاة فيه.
فالأولان مشروعان، والثالث موضع اجتهاد (4) ونظر، والرابع محرم (5).
قال ابن القيم –رحمه الله: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الشارع كسباق الخيل .. وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون فإذا نقلته عنها إلى كتب أهل البدع والضلال والسحر فدعه.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة .. وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم.
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع الأيدي في الغزو .. مع كون القطع حد من حدود الله تعالى .. فنهى عنه خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين.
وقد نص أحمد وإسحاق والأوزاعي وغيرهم على أن الحدود لا تقام في أرض العدو (6). ا. هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( .. فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم)(7) ا. هـ. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 234
(1)((التشريع الجنائي)) (1/ 497 - 498).
(2)
انظر: ((أصول الدعوة)) (187 - 188).
(3)
رواه مسلم (1854). من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(4)
انظر: ((الكلام على تزاحم المفاسد)) (ص: 242)، وكذا ((الكلام على تساوي درجة المصلحة والمفسدة في حال التعارض)) (ص: 240).
(5)
انظر: ((إعلام الموقعين)) (3/ 4 - 7).
(6)
انظر: ((إعلام الموقعين)) (3/ 4/7) بتصرف.
(7)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (17/ 18).
الفرع الرابع: العمل عند تعارض المصالح والمفاسد (1)
يجب أن يكون الاحتساب بفقه ونظر فيما يصلح من هذا العمل وما لا يصلح فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيما يأمر به أو ينهى عنه نظر: فإن كانت المصلحة راجحة والمفسدة مرجوحة، فإنه لا يعتبر المفسدة حينئذ، وعليه الاحتساب في هذه الحال.
وهذا يكون مع مراعاة ما سبق من شرطية كون المتعارضين في مرتبة واحدة ونوعية واحدة كما تقدم بيانه، وإلا فإنه يرجح ما كان متعلقاً بالضروري على غيره، كما يرجح الحاجي على التحسيني.
وهذا كمن يريد شرب الخمر ليزيل به عطشاً يشق عليه تحمله لكنه لا يؤدي به إلى الهلاك، فإنه يحرم عليه، لتعلق المفسدة بالضروري وهو حفظ العقل، وتعلق المصلحة بالحاجي وهو إزالة ذلك العطش .. بخلاف ما إذا كان العطش يؤدي به إلى الهلاك .. فإنه يشرب في هذه الحالة لتعلق ذلك بالضروري وهو حفظ النفس، ولتعلق شرب الخمر بالعقل وهو ضروري لكنه دونه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله ما ملخصه: (الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذاك كانت مفسدته أكثر، فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف) اهـ (2).
أما في حال كون المفسدة أرجح من المصلحة: كتعطيل الدعوة ونحو ذلك فحينئذ تفوت المصلحة وتدفع المفسدة .. بالشرط المتقدم.
ومن صور هذه القاعدة: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وعدم قتله لئلا تأخذ الحمية قومه .. ولئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه (3). ومن الأمثلة على ذلك إعراض المسلمات عن الدخول في مجالات الطب في جو المستشفيات المختلطة .. مع وجود مصلحة في ذلك إلا أن المفسدة فيه أكبر .. وكثيراً ما نسمع إيراد هذا الاعتراض على من رأى ما سبق (أترضى أن يطبب محارمك الرجال)؟.
يورد هذا الاعتراض وكأنه هو الخيار الوحيد!! فلماذا لا يقال بالعمل على إيجاد مستشفيات إسلامية!! ولماذا لا يطالب الناس بذلك!!؟
ولو فرض عدم الإمكان لكان هناك أمر ثالث. وهو أن يطبب نساءنا هؤلاء اللاتي ضحين بحشمتهن وقرارهن في البيوت!! لا أن نزج بفتياتنا حيث يذهب ماء وجوههن لكثرة المخالطة مع الرجال والتحدث معهم .. !
ومن أمثلة هذا النوع القول بمنع ابتعاث الصغار وسائر من لا ينطبق عليه الشروط المعروفة للسفر إلى بلاد الكفار .. من اعتزاز بالدين ونحوه .. على ما في ذلك من المصلحة وهي تحصيل بعض العلم.
ومن أمثلة ذلك منع التلقي من أصحاب البدع –المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة- في حال وجود غيرهم ممن يؤخذ عنه هذا العلم ولا يقع فيما وقعوا فيه.
ومن الأمثلة أيضاً على ذلك منع دخول البرلمانات ونحوها في البلاد التي تحكم القوانين .. مع أنه قد يوجد شيء من مصلحة في ذلك ولكن المفسدة أعظم من وجوه كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
وقد حرمت الخمر لرجحان مفاسدها على منافعها ..
أما إذا تساوت مقادير المصالح والمفاسد: في حال التعارض فإنه ينظر في مراتبهما من ضروري وحاجي –كما تقدم- فإن اتحدت عمل بقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وإلا فيقدم الأقوى منهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله: (وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المنكر والمعروف متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقاً، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة: يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه.
وإذا اشتبه الأمر استثبت المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية .. ) ا. هـ (4). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 238
(1) انظر: ((الإحياء)) (2/ 316)، ((مجموع الفتاوى)) (20/ 52)، ((الموافقات)) (2/ 372 - 373) ((أصول الدعوة)) (ص: 462، 463، 465).
(2)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/ 126، 129 - 134).
(3)
((الاستقامة)) (2/ 219 - 220)، ((أضواء البيان)) (1/ 175) ((أصول الدعوة)) (ص: 465).
(4)
((الاستقامة)) (2/ 218 - 219).