الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: حكم البدعة
معلوم أن النهي عن البدع قد ورد على وجه واحد، في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) (1). وهذا عام في كل بدعة.
وقد فصل الإمام الشاطبي رحمه الله القول في أحكام البدعة تفصيلاً لا يبقى بعده مجال للشك بأن كل بدعة محرمة. وإذا سلمنا أن منها ما هو مكروه فهو كراهة تحريم وليس كراهة تنزيه
…
قال الشاطبي: (ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة نخرج عنها الثلاثة، فيبقى حكم الكراهية، وحكم التحريم. فاقتضى النظر انقسام البدعة إلى قسمين: فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة. وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات، لا تعدو الكراهة والتحريم، فالبدع كذلك هذا وجه.
ووجه ثان: أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها متفاوتة، فمنها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا [الأنعام: 136].
وقال تعالى: مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَآئِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103](2)).
قلت: ويلحق بالبحيرة والسائبة وما ذكر بعدهما ما يفعله المريدون في هذا الزمان من شيوخ الطرق الصوفية من النذور لمشايخهم، ووقف بعض أموالهم عليهم في الحياة وبعد الممات، حيث يعتنى بهذه الأموال كل العناية، فتترك بعض المواشي بحيث لا تحلب، ولا تركب، ولا تذبح، ولا يؤخذ صوفها ولا وبرها، ولا يتصرف فيها حتى تصل إلى مقام الشيخ أو تترك حتى تموت.
وقد حدثني بعض من هداهم الله إلى الحق بعد أن كان مغرقاً في التصوف أنه كان يخصص جل أمواله لشيخ الطريقة ويكتفي منها بما يسد رمقه ورمق عياله. وقال لي بعضهم - وكنت في زيارة لبعض البلاد الإسلامية -: إنه يخصص ثلث ماله لشيخ الطريقة، وذكر لي غير واحد ممن أثق به أن شيوخ الطرق يرهبونهم، ويهددونهم بالانتقام، وحدوث المصائب العظام، إذا لم يهبوا بعض أموالهم للشيخ، وقد يدعي زوراً وبهتاناً أنه من ذوي الشرف والسيادة - أي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بقصد ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل. والله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا [النساء: 29 - 30].
(1) رواه أبو داود (4607) وابن ماجه (42) وأحمد (4/ 126)(17184) وابن حبان (1/ 178) والطبراني (18/ 245) والحاكم (1/ 176) من حديث العرباض بن سارية، والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181) وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)): ثابت صحيح، (2/ 1164) وصححه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (20/ 309) وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). وروى مسلم في ((الصحيح)) (867) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: ((
…
وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
…
)).
(2)
انظر: ((الاعتصام)) (2/ 36 - 37).
إن صرف هذه النذور والأموال لأصحاب القبور هو الشرك الأكبر بعينه. والكفر البواح الذي من أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، فإلى متى يسكت علماء المسلمين عن هذا الشرك وذلك الضلال المبين، فاستيقظوا يا حماة التوحيد، واصدعوا بالحق يا رجال العقيدة، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94].
ثم نعود إلى الإمام الشاطبي رحمه الله وهو يضرب أمثلة على البدع المكفرة والمخرجة عن الملة حيث يقول: (وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما لا شك فيه أنه كفر صراح)(1).
قلت: ومن الفرق المارقة من الدين بإجماع المسلمين فرق الباطنية من إسماعيلية، وقرامطة، ودروز، ونصيرية، وغلاة الرافضة القائلين بارتداد الصحابة، ونقص القرآن الكريم، ودعوى العصمة لغير الأنبياء، ونحو ذلك من كفرياتهم. وكذا من ظهر في هذا العصر من الفرق المارقة الملحدة مثل القاديانية والبهائية ومن على شاكلتها.
إذاً فالقسم الأول من البدع هي تلك البدع المكفرة بدون شك أو ريب كما أسلفنا. ثم بين الشاطبي القسم الثاني وهو ما دون الكفر، أو المشكوك في كفر صاحبه من عدمه. ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر، أو يختلف هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج، والقدرية، والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة.
ومنها ما هو معصية اتفاقاً وليست بكفر، كبدعة التبتل، والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع، ومنها ما هو مكروه، كقراءة القرآن بالإدارة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة.
فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة، فلا يصح مع هذا أن يقال: إنها على حكم واحد، هو الكراهة فقط، أو التحريم فقط (2).
ثم يذكر الشاطبي وجهاً ثالثاً لبيان أحكام البدع فيقول: (إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينيات فهي أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين. ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا يمكن للمكمل أن يكون في رتبة المكمَّل، فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، فقد ظهر تفاوت رتبة المعاصي والمخالفات. وأيضاً فإن الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه، فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين، وليس تستصغر حرمة النفس جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدم، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين.
ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص؟ فالقتل بخلاف العقل والمال، وكذلك سائر ما بقي، وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب، فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو، وهذا كله محل بيانه الأصول.
وإذا كان كذلك فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي، فكذلك يتصور مثلها في البدع، فمنها ما يقع في الضروريات - أي أنه إخلال بها -، ومنها ما يقع في رتبة الضروريات، ومنها ما يقع في الدين، أو النفس، أو النسل، أو العقل، أو المال) (3).
وإليك أخي القارئ تلخيصاً للأمثلة التي أوردها الإمام الشاطبي رحمه الله لبيان تأثير البدع على الكليات الخمسة وغيرها من الأضرار مع زيادة نافعة إن شاء الله.
(1)((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 37).
(2)
((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 37).
(3)
((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 38 - 39).
1 -
مثال الابتداع في الدين: تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. والمقصود بذلك تحريم ما أحل الله بقصد التقرب به إلى الله تعالى مع كونه حلالاً. قلت ويلحق بهذا نحلة الطائفة التي يسمى أهلها بالنباتيين الذين يحرمون اللحوم وكل ما لم يكن نباتياً، ويقال إن منهم أبا العلاء المعري ومن على شاكلته من الفلاسفة.
2 -
ومثال وقوعه في النفس: نحل الهند في تعذيبهم أنفسهم بأنواع العذاب الشنيع، والتمثيل الفظيع، بأنواع القتل التي تفزع منها القلوب، وتقشعر منها الجلود، كالإحراق بالنار، كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلا في زعمهم، والفوز الأكمل بعد الخروج من هذه الدار العاجلة.
قلت: ويلحق بهؤلاء بعض غلاة الشيعة - الرافضة - الذين يجتمعون في اليوم العاشر من المحرم بمناسبة استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه فيضربون أنفسهم بالحديد، والأخشاب، بدعوى الحزن كل ما تمر هذه المناسبة (1). وكذلك بعض المتصوفة الذين اختاروا لأنفسهم طريق التقشف، والعيش في الغابات والبراري وهم حفاة عراة، وكل ذلك قلدوا فيه طوائف الهندوك، والبوذيين ومن على شاكلتهم.
3 -
ومثال ما يقع في النسل: ما ذكر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيها، ومعمولاً بها، ومتخذة فيها كالدين المنتسب، والملة الجارية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام، ولا غيره، بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا، وهو على أنواع، فقد روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
(الأول منها: نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته، أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.
والثاني: نكاح الاستبضاع. كالرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا نكاح الاستبضاع.
والثالث: أن يجتمع الرهط ما دون العشرة، يدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع منهم رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، فتسمي من أحب باسمه فيلحق به ولدها فلا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
الرابع: أن يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت أحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لها القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم) (2).
قلت: ويلحق بهذا نكاح المتعة الذي حرمه الإسلام، كما دلت عليه السنة الصحيحة. ومع هذا فهو من أفضل الأنكحة عند الرافضة إلى اليوم.
4 -
ومثال ما يقع في العقل: أن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15].
(1)((مقتل الإمام الحسين وفتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر)) لمرتضى عياد (ص: 12 - 40).
(2)
الحديث رواه البخاري (5127).
وقال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59]. وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ [يوسف: 40] ، وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في الاستقلال بالتشريع، وأنه محسن ومقبح في دين الله، فابتدعوا في دين الله ما ليس منه. ومما لاشك فيه أن العقل يدرك الحسن والقبح في الجملة، لكنه لا يستقل بالحكم دون الشرع كما تقوله المعتزلة، ومن تحكيم العقل المجرد أن الخمر لما حرمت، ونزل من القرآن في شأن من مات قبل التحريم وهو يشربها. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ [المائدة: 93]. الآية. تأولها قوم - فيما ذكر - على أن الخمر حلال وأنها داخلة تحت قوله فِيمَا طَعِمُواْ فذكر إسماعيل بن إسحاق عن علي رضي الله عنه قال: (شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ الآية. قال: فكتب فيهم إلى عمر، قال فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إليَّ قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين: نرى أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به، فاضرب أعناقهم، وعلي رضي الله عنه ساكت، قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، فإنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به. فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين)(1).
فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب، وشهد فيهم علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة، بأنهم شرعوا في دين الله وهذه البدعة بعينها فهذا وجه.
وأيضاً فإن بعض الفلاسفة الذين ظهروا بين المسلمين تأول فيها غير هذا وهو أنه إنما يشربها للنفع لا للهو، وعاهد الله على ذلك فكأنها عندهم من الأدوية النافعة، أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة. ويحكى هذا العهد عن ابن سيناء (2).
قلت: وقد قلد ابن سيناء وغيره من الإباحيين كثير من الناس في هذا العصر بتعاطي المخدرات والمفترات والتي هي أخطر من الخمر في تأثيرها على الصحة، والعقل، والمال، والدين قبل كل شيء. يروجونها بدعوى أنها منشطة، ومنسية للهموم والأحزان، وهي لا تزيدهم إلا هماً وغماً، كما قال فيها الشاعر:(وداوني بالتي كانت هي الداء)(3). وإن كثيراً من بلاد المسلمين تبيح قوانينها شرب الخمور، وتعاطيها دون حياء أو خجل أو خوف من الله عز وجل. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمرة، والمعازف)) (4).
ولو نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم لوجدنا أن هذه الأمور قد استحلت، بل يعطى أصحابها تراخيص رسمية بموجب القانون. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومما له تأثير على العقل أيضاً أن بعض المبتدعة تحولوا في ذكرهم لله إلى حالة من الرقص والغناء مصحوبة بآلات الطرب واللهو، فربما رقصوا بدعوى الذكر حتى تغيب عقولهم، ويصيبهم الزار، فيقعون على الأرض، ويزعمون أنهم سكروا في حب الله عندما تذهب عقولهم تحت تأثير هذا الرقص والغناء. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(1) رواه ابن أبي شيبة (6/ 503).
(2)
((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 39 - 46).
(3)
وهو عجز بيت لأبي نواس صدره: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ..
(4)
رواه البخاري (5590). من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
5 -
ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة: 275]. فإنهم لما استحلوا العمل به احتجوا بقياس فاسد، فقالوا: إذا فسخ العشرة التي اشترى بها إلى شهر في خمسة عشر إلى شهرين، فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] ، ليس البيع مثل الربا. فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأي فاسد، فكان من جملة المحدثات كسائر ما أحدثوه في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر (1).
قال علي محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع رداً على من قاس الربا على البيع في الحل بعد أن أورد كلام الشاطبي.
وحاصله: (أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع، لوقوعه في مقابلة النص، على أن بينهما فارقاً، وهو أن من باع ثوباً مثلاً قيمته عشرة في الحال بأحد عشر، فإنه أخذ الزائد بغير عوض، ولا يمكن جعل الإمهال عوضاً. لأنه ليس بمال حتى يكون في مقابلة الزائد. وهذا عين الربا لأنه زيادة لا يقابلها عوض في معاوضة مالية)(2).
قلت: وقد كثر الدعاة لإباحة الربا في هذا الزمان، ومما يؤسف له أن يكون بعض الناعقين بالدعوة إلى حله ممن يظن أنهم من أهل العلم، فقد صرحوا بإباحته على المنابر، وعبر وسائل الإعلام، متجاهلين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لعلل واهية، وتمحلات اخترعوها من بنيات أفكارهم، احتيالاً على تحليل ما حرم الله، وهذا شأن اليهود فإنهم عندما حرم الله عليهم لحوم الميتة أخذوا شحومها فجملوها - أي أذابوها - فباعوها فأكلوا ثمنها.
فقد روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه:
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح، وهو بمكة:((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) (3).
كما ظهر في هذا الزمان كثير من الحيل بقصد ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل مثل ما يسمى باليانصيب وغيره، من ألوان القمار، وكثير مما يجري في البورصات، والأسواق العالمية من الحيل، والمؤامرات، ناهيك عن انتشار البنوك الربوية في شتى بلاد العالم الإسلامي في كل مدينة وقرية. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخلاصة القول إن البدع كلها حرام، وتتفاوت رتبها في دائرة الحرام، فمنها ما هو كفر صراح، ومنها ما هو مشكوك في كفر صاحبه، ومنها ما هو معصية لا يكفر صاحبها بلا نزاع، ومنها ما هو مكروه، وقد فصلنا أمثلة ذلك في أول الفصل.
هذا ويجدر بنا
…
أن ننبه إلى أن ما يجري عليه حكم المكروه من البدع، لا يعني به كراهية التنزيه، وقد نبه على ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله.
(1)((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 47 - 48).
(2)
((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 151).
(3)
رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581).
فإن إطلاق المكروه على ما هو مكروه تنزيهاً اصطلاح للمتأخرين لم يعرف عن المتقدمين من السلف، فلم يقولوا فيما لا حرج فيه إنه مكروه، ولم يكن شأنهم أن يقولوا فيما لا نص فيه هذا حلال وهذا حرام، لئلا يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116 - 117].
وإنما كانوا يقولون فيه هذا مكروه، أو أكره هذا، أولا أستحب هذا (1). وما أشار إليه الشاطبي هنا: من استعمال السلف لفظ المكروه بمعنى الحرام هو ما وضحه ابن القيم حيث بين أن في استعمال القرآن والسنة ما يشير إلى هذا كقوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى [الإسراء: 32]. وقوله: وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ [الأنعام: 152]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كره لكم قيل وقال
…
)) (2) إلخ.
ومما يدل على أن البدع إذا عبر عنها بالكراهة فإنه يقصد بها كراهة التحريم هو ورود النهي عن البدع على وجه واحد، ونسبتها إلى الضلال على كل حال، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا إذا تأملنا حقيقة البدعة - جلت أو خفيت - وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات مخالفة تامة. فمرتكب المكروه يفعله متكلاً على العفو اللازم فيه، ورفع الحرج الثابت في الشريعة له. كما أن اعتقاده غير متزحزح، فهو يعتقد المكروه مكروهاً والحرام حراماً، ثم إنه يرى ترك المكروه أولى في حقه من الفعل، ويود لو لم يفعل، وعلى كل فطمعه في الإقلاع عن هذا المكروه، والتخلص من الوقوع فيه لا ينقطع.
أما مرتكب أدنى البدع فإنه يعد ما دخل فيه حسناً، بل يراه أولى مما حد له الشارع، ويزعم أن طريقه أهدى سبيلاً، ونحلته أولى بالأتباع، فهو يفعل ما يخالف، ولا يستشعر سوء ما يفعل، ويندر أن يتحرك قلبه نحو التوبة مما هو واقع فيه (3).
وعلى كل حال فالبدعة لها أمران:
أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له.
والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد، أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع فيكون قادحاً في المشروع (4). ولذلك فإن البدع مع كونها محرمة فهي في أعلى درجات المحرم، وتكاد كلها أن تكون كبائر، فإن التشريع الزائد، أو الناقص، أو تغيير الأصل لو لم يكن بناء على اجتهاد خاطئ، أو تأويل غير مقبول لكان كفراً، وكل ما ذكر في شأن البدعة وما ورد فيها من الذم يرجح ذلك.
تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي بتصرف - ص215
(1)((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 47).
(2)
رواه البخاري (2408) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ومسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 48).
(4)
((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 52).