الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: ذكر الشروط غير المعتبرة
1) العدالة:
ذهب قوم إلى اشتراط العدالة مستدلين بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104] قالوا: فالفاسق ليس من المفلحين، فيجب أن يكون الآمر الناهي غير فاسق.
2 -
قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44] فأنكر عليهم أمرهم بالشيء وواقعهم يخالفه. ولذا قال بعض الأنبياء لأقوامهم: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ .. [هود: 88] وقال تعالى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3 - 4].
واستدلوا بقوله –صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه .. )) (1) إلخ قالوا: فهذا كان معاقب لكونه يأمر وينهى ولا يأتمر وينتهي بنفسه.
الجواب عما استدلوا به: يمكن أن يجاب عن الآية الأولى بأن الفلاح المذكور حاصل حتى للفاسق فإنه لا يكون مخلداً في النار.
أو يقال: بأن هذا ورد على سبيل التغليب، لأن الغالب أن لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من أصلح أحوال نفسه. فالعاقل يقدم ما يصلحها على ما يصلح غيره في الآجل.
وأما الجواب عن النصوص التي تضمنت الإنكار والوعيد لمن يأمر ولا يمتثل فيقال: قد اجتمع في هذا الموضع على المكلف واجبان:
الأول: الامتثال لأمر الله تعالى.
الثاني: حث الناس على ذلك وأمرهم به وتحذيرهم ونهيهم عما خالفه.
فإذا قصر في أحد هذين فإن ذلك لا يعني سقوط الآخر عنه .. فإن ترك الأمر والنهي بقي عليه الامتثال .. وإن ترك الامتثال بنفسه بقي عليه الأمر والنهي (2).
هذا وقد وقع الذم في تلك النصوص والوعيد على ارتكاب ما نهى عنه الناهي عن المنكر، ولم يقع الذم على نفس النهي عن المنكر، بل هذا يحمد ولا يذم فهو طاعة لله عز وجل وقربة، ولا شك أن وقوع المنكر ممن ينهى عنه أقبح من وقوعه ممن لا يعلم أنه منكر أو علم ولم يدع إلى تركه. وهذا لا يعني إعفاءه من الأمر والنهي كما تقدم (3).
وبهذا تعلم أن التوبيخ إنما وقع على نسيانهم لأنفسهم من المعروف الذي أمروا به، وليس التوبيخ على أمرهم ونهيهم (4).
قال ابن العربي: (وليس من شرطه أن يكون عدلاً عند أهل السنة (5)، وقالت المبتدعة: لا يغير المنكر إلا عدل. وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في قليل من الخلق، والنهي عن المنكر عام في جميع الناس) (6) ا. هـ.
ومن المعلوم لديك أن شروط الطاعات لا تثبت إلا بالأدلة (7).
(1) رواه البخاري (3267)، ومسلم (2989).
(2)
انظر: ((تفسير الفخر)) (3/ 47)، (8/ 168)، ((الفتح)) (13/ 5).
(3)
انظر: ((القرطبي)) (4/ 47 - 48)، (6/ 345).
(4)
انظر: ((المنهاج للحليمي)) (2/ 218)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 266)، ((ابن عطية)) (5/ 166)، ((النووي على مسلم)) (1/ 2/32)، و ((ابن كثير)) (1/ 86)، ((المرقاة)) (9/ 329)، ((الألوسي)) (1/ 248)(4/ 23)، ((السعدي)) (1/ 38)((صفوة الآثار)) (4/ 272 - 273)، ((أصول الدعوة)) (172 - 174).
(5)
((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 219).
(6)
((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 266)، وانظر:((القرطبي)) (4/ 47 - 48) وراجع: (6/ 345).
(7)
((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 292).
قال الجصاص: لما ثبت وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينا أنه فرض على الكفاية .. وجب أن يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيرها .. ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف، ولم ينته عن سائر المناكير، فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه (1) ا. هـ.
وإن مما يبرهن على صحة ما ذكرنا أن العصمة من المعاصي ليست من شروط الاحتساب بالإجماع، فلو اشترط ذلك لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع الأعصار، وسواء في ذلك عصر الصحابة أو من بعدهم، إذ لا أحد معصوم من المعاصي منهم .. بل حتى الأنبياء تقع منهم الصغائر على القول الراجح لكنهم لا يصرون عليها.
ومن أجل ذا قال الإمام مالك وسعيد بن جبير –رحمهما الله-: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر).
قال مالك: (ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟)(2).
قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله: (لو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل الذي خلق له من عبادة ربه، إذاً لتواكل الناس الخير! وإذاً لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض)(3).
وقال أبو الدرداء –رضي الله عنه: (إني لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه)(4).
وقد نقل عن الحسن أنه قال لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك. فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. قال: يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر (5).
ولو قال قائل إن ذلك مختص بالكبائر! قيل له: هل للزاني أو شارب الخمر مثلاً أن يغزو الكفار؟!
فإن قالوا: لا. فقد خرقوا الإجماع .. فلا زال جنود المسلمين منذ عهد الصحابة مشتملة على بعض من يقترف الكبائر، وقصة أبي محجن رضي الله عنه يوم القادسية مشهورة معلومة، ولم يمنعهم أحد لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من بعده عن الغزو (6).
وقال ابن كثير –رحمه الله بعد أن قرر عدم اشتراط العدالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ولكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك) ا. هـ ثم ذكر جملة من الآثار الدالة على ذلك (7).
ويمكن أن توصف حال مثل هذا بما نقل عن أبي عثمان الحيري أنه قال:
وغير تقى يأمر الناس بالتقى
…
طبيب يداوي والطبيب مريض
هذا واعلم أن القسمة رباعية فالناس أحد أربعة أشخاص تجاه المنكر:
فالأول: من لا يأتيه وينهى عنه وهذا أعلى الأقسام.
والثاني: من لا يأتيه ولا ينهى عنه.
والثالث: من يأتيه وينهى عنه.
والرابع: من يأتيه ولا ينهى عنه.
2 -
الإذن من ولي الأمر (8):
(1)((أحكام القرآن)) للجصاص: (2/ 320).
(2)
((الجامع لابن أبي زيد)) (ص: 158).
(3)
((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) (ص: 248).
(4)
((نزهة الفضلاء)) (1/ 159).
(5)
((تفسير القرطبي)) (1/ 368).
(6)
انظر: ((الإحياء)) (2/ 308 - 311).
(7)
((تفسير ابن كثير)) (1/ 86).
(8)
((تفسير ابن كثير)) (1/ 86).
يذهب البعض إلى شرطية إذن السلطان أو نائبه للقائم بالاحتساب! وهذا باطل لا دليل عليه من كتاب ولا سنة! بل الدليل يرده ويرفضه!! فكل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه أو علم به وقدر على إزالته أو تغييره .. فلا يختص الأمر ولا النهي بأصحاب الولايات وحدهم دون من سواهم! وقد جرى عمل السلف على ما بينت .. ونقل عليه إمام الحرمين الإجماع وقال: (فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية والله أعلم (1). ا. هـ.
ومن المعلوم بداهة أن الحسبة كما تكون على عامة الناس فإنها تكون على الولاة أيضاً .. فهل يقال بشرطية إذنهم من أجل القيام بالاحتساب عليهم؟!
والحاصل أن الاحتساب لا يشترط فيه إذن الإمام كما لا يشترط فيه إيجاده وإقراره .. فقد أمر به رب العالمين ودعا إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم، فهو من مهمات الدين ومن ميراث سيد المرسلين –صلى الله عليه وسلم.
نعم لو نصب السلطان رجالاً يقومون على الحسبة وتعاون معهم غيرهم كان ذلك أقوى وأمضى في سبيل إزالة كثير من المنكرات وأجدى في طريق الإصلاح .. لكنه ليس بشرط!! لكن أحسن أحوال الحسبة وأقواها هي الحسبة التي يلتقي فيها قوة السلطان وهيبته ودعمه مع جهود المخلصين الغيورين من رعيته .. فإن الله تعالى أنزل القرآن هدى وشفاء، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس .. والله تبارك وتعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. والحاصل أن خير صنوف الحسبة ما اجتمع فيه معونة السلاطين والأمراء الأخيار الصادقين وجهود أهل الغيرة من رعاياهم (2).
وهذا التفضيل الذي ذكرت إنما هو من جهة القوة والتأثير لكن إذا فقد هذا المستوى الرفيع فليس ذلك يعني تخلي المسلمين عن القيام بهذا الواجب.
فلو فرض أن الولاة عطلوها وكادوا لها وحاربوها وتربصوا بها الدوائر وبأهلها وضيقوا عليهم سبيل معاشهم ومجالات تركهم .. فإنه يجب على الرعية أن يقوموا بها حسب استطاعتهم كل بحسبه، وإن غضب السلطان لذلك، فإن وجودها ليس مفتقراً إلى إذنه أو رضاه ومباركته!
نعم .. لو قيل باشتراط إذن الولاة في بعض صور الاحتساب، التي لو كانت فردية بحتة لخشي من ظهور فتنة، فقد يكون لهذا الاشتراط وجه من الصحة، ولكل حالة لبوسها، وإنما نريد التقريب (3). وسيأتي المزيد من إيضاح هذه الجزئية عند الكلام على مراتب الاحتساب.
3 -
الذكورة (4):
اعتبر بعض أهل العلم الذكورة من جملة شروط الحسبة المعتبرة (5) كما حاول أصحاب هذا القول رد ما يدل على خلاف قولهم هذا الذي اختاروه مذهباً لهم.
والحقيقة التي يعرفها من اطلع على كلام أصحاب هذا المذهب هي أن اشتراطهم الذكورة هنا متعلق بتولي ولاية الحسبة والانتصاب لذلك، فيؤديها المنتصب لها على وفق مفهومها الواسع.
(1) انظر: ((شرح النووي على مسلم)) (1/ 2/23).
(2)
انظر: ((صفوة الآثار)) (4/ 270 - 271).
(3)
انظر: ((أصول الدعوة)) (171 - 172).
(4)
انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها.
(5)
انظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (106)(ص: 75)، و ((الاستيعاب)) (4/ 335، 341) وراجع كلام ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (3/ 1458)، و ((القرطبي في تفسيره)) (13/ 183) عند قوله تعالى: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ *النمل: 23* ((الإصابة)) (4/ 341)، ((التراتيب الإدارية)) (1/ 285 - 286).
وكلامنا هنا ليس في ذلك خاصة وإنما حديثنا عن الحسبة هنا نريد به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً. والنساء شقائق الرجال من حيث التكليف والمطالبة والعبادة إلا ما علم اختصاصه بالرجال دونهن.
ثم إن الآيات والأحاديث الواردة في الحث على القيام بهذا العمل أو التحذير من تركه .. لا تختص بالرجال دون النساء .. بل على المرأة أن تأمر نساءها كما تأمر إخوانها وأخواتها وأولادها وكذلك زوجها (بالمعروف) كما تأمر وتنهى النساء مثلها .. لكن تجتنب كل ما يؤدي إلى تقليل حشمتها أو التأثير عليها في جانب الديانة أو الشرف والعفة.
ومما ينص على دخولها مع الرجل في ذلك قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
…
[التوبة: 71] قال ابن النحاس: (وفي ذكره تعالى المؤمنات هنا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجدت الاستطاعة)(1) ا. هـ.
وحينما نقول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء، ليس معنى ذلك أن تترك المرأة بيتها وأبناءها وزوجها لتقوم بتلك المهمة كما نشاهد في هذا العصر الذي كثر فيه خروج النساء جداً .. حتى أشبهن الرجال من جهة عدم الاستقرار في البيوت للاشتغال بالدعوة أو غيرها!!
وقد رأينا في هذا العصر من يحرض النساء على الخروج للدعوة، والتغلغل في كل إدارة أو وظيفة يتمكن من الدخول فيها؛ بل ويطالب أن يوجد في صفوف النساء داعيات يشار إليهن بالبنان كما هو حاصل بين الرجال.
وهذا أمر غريب فيما أحسب على هذا الدين، وعلى طبيعة المرأة وفطرتها. والحاصل أن اشتغال المرأة بذلك المطلب إنما هو بضوابط وحدود شرعية، لا أن تكون المرأة مستوية مع الرجال في خوض مجالات الدعوة، وإنما أثر ذلك الواقع ما ألفنه من كثرة الخروج وإدمانه سواء للدراسة أو (الوظيفة) أو التسوق أو الخروج إلى أماكن النزهة .. كل ذلك أفرز في مجتمعنا هجران كثير من النساء والفتيات دورهن في أوقات كثيرة من اليوم.
والمتأمل في حال المجتمعات الغربية وما تعيشه المرأة هناك .. وكذلك حال النساء في المجتمعات المنتسبة للإسلام يدرك أن إدمان هذا الخروج أمر يصفق له أعداء الإسلام ويفرحون به .. لأنهم بذلك يستطيعون الوصول إلى فريستهم بأقرب طريق وأيسر سبيل!
فعلى المرأة أن تهتم بتربية أولادها وتقوم بحق زوجها. وإن كانت غير متزوجة فعليها أن تتعلم من الأمومة والقيام على شؤون المنزل ما يكفيها بعد الزواج .. لا كما نشاهد من كثرة النساء والفتيات اللاتي لا يعرفن شيئاً من ذلك، وكذلك عليها أن تتعلم ما تدعو الحاجة إليه من أمور الطهارة والصلاة والصوم والحج .. إلخ كما عليها أن تعي جيداً تربية الأولاد وأساليبها الصحيحة الشرعية .. حتى تخرج الأجيال الصالحة .. فإن كان عندها فضل من جهد ووقت بعد القيام بذلك كله على الوجه المطلوب وكان لديها علم ينفع المسلمين فيحبذ أن تعلم النساء والبنات هذا العلم الذي عرفته لأن الحاجة تدعو إلى ذلك (على أن يتم ذلك حسب الضوابط الشرعية).
وإنما جاء هذا الاستطراد لكثرة ما أسمع وأرى من وقوع الخلل في تلك الجوانب.
4 -
الحرية (2):
(1)((تنبيه الغافلين)) (ص: 6، 19).
(2)
انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها، و ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 19).
إن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل وبرهان على غيرة المسلم على دينه وعقيدته، وحبه وإخلاصه لهما .. وإنه لا يتصور انتفاء المراتب الثلاث (اليد واللسان والقلب) مجتمعة، من رجل في قلبه إيمان حي –كما تقدم- وهذا أمر يشترك فيه الحر والعبد .. فالعبد مكلف بأعمال القلوب كلها كالحر تماماً سواء بسواء، لا فرق بينهما في ذلك البتة .. كالحب والبغض والإنكار بالقلب ونحو ذلك من الأمور القلبية .. كما أنه مكلف أيضاً بأعمال البدن كالحر أيضاً إلا ما دل الدليل على إخراج الرقيق من المطالبة به.
هذا مع كونه لم يرد دليل على تقييد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأحرار دون الأرقاء. بل واقع الأمر على خلاف ذلك .. فإن ظاهر الآيات والأحاديث يدل على دخول الأرقاء في ذلك كقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة: 71] وهذا يشمل الجميع كما هو ظاهر.
لكن إن أريد بالحسبة تلك الولاية المعروفة فإن اشتراط الحرية في محله وليس كلامنا في ذلك.
وإنما ذكرت هذا الشرط والذي قبله هنا لأن الكثير من أهل العلم الذين تكلموا عن الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحدثون عنها –أي الحسبة- على أنها تلك الولاية العامة الشاملة لكثير من الجهات الحيوية في حياة الناس وأمور معاشهم فأردت التوضيح هنا لئلا يلتبس على من قرأ شيئاً من ذلك لمن ذكر مثل هذه الشروط. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 153
المطلب الأول: الرفق (1)
لابد أن يكون المحتسب رفيقاً في احتسابه ما أمكنه ذلك، لأن هذه الصفة الطيبة –أعني الرفق- هي من الصفات المحببة إلى الخلق كما يحبها الخالق جل وعلا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)) (2) كما قال صلى الله عليه وسلم ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) (3) وعن جرير رضي الله عنه مرفوعاً: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) (4).
ثم إن هذه الصفة محببة إلى الخلق، لأن الإنسان بطبعه وفطرته يحب الإحسان ويكره الإساءة .. وهو يقبل من طريق الرفق ما لا يقبل من طريق العنف والشدة، بل إن الإنسان –غالباً- إذا أمر بعنف فإنه تأخذه العزة بالإثم فيأنف ويصر على خطئه عناداً .. وهو بطبعه نفور من أهل الفظاظة والغلظة .. ومصداق ذلك قوله تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ولذا أرشده إلى المدخل إلى نفوسهم وقلوبهم وهو ضد ذلك الوصف الرديء .. فقال فَاعْفُ عَنْهُمْ وهذا لا شك إذا كان المقام يحتمل ذلك .. ثم أعقب ذلك بقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] فاتصاف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالشفقة والرحمة والخوف على مصلحة المأمور أمر ضروري لقبول دعوته.
وهكذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى ممتناً ببعثته: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128] بل كان –صلوات الله وسلامه عليه- يشتد عليه إعراض قومه، ويتألم لذلك، ولهذا قال تعالى له مهوناً عليه: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127].
وقال: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً [آل عمران: 176] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة: 41].
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ [يونس: 65] وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ [لقمان: 23].
هذا وإن الاحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتسب عليه ينقاد لما يطلب منه من فعل أو ترك .. فإن رافق ذلك وصاحبه الاقتناع بما طلب منه كان ذلك أكمل وأفضل حتى يكون له وازع من نفسه وقلبه بضرورة فعل هذا الأمر أو تركه (5).
(1) انظر: ((المنهاج للحليمي)) (2/ 218)، و ((الحدائق)) لابن الجوزي (2/ 428 - 429). و ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (29 - 31)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 285) ((معالم القربة)) (ص: 14)((الدرر السنية)) (7/ 25، 32)، و ((أضواء البيان)) (1/ 174)، و ((أصول الدعوة)) (ص: 465).
(2)
رواه مسلم (2593). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه مسلم (2594). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
رواه مسلم (2592)، وأبو داود (4809) واللفظ له، وابن ماجه (2988)، وأحمد (4/ 366)(19272). من حديث جرير رضي الله عنه.
(5)
انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 176، 188).
قيل للإمام مالك رحمه الله: الرجل يعمل أعمالاً سيئة، يأمره الرجل بالمعروف وهو يظن أنه لا يطيعه، وهو ممن لا يخافه كالجار والأخ؟! فقال: ما بذلك بأس. ومن الناس من يرفق به فيطيع؛ قال الله عز وجل: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44] ا. هـ (1) وقال الثوري: (أؤمر بالمعروف في رفق، فإن قبل منك حمدت الله عز وجل وإلا أقبلت على نفسك) ا. هـ (2).
وقال الإمام أحمد: (والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق فيجب عليك نهيه وإعلانه لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له)(3) وقال أيضاً: كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلاً رحمكم الله (4).
وقال أيضاً: ما أغضبت رجلاً فقبل منك (5) كما سئل –رحمه الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف ينبغي أن يأمر؟ قال: يأمر بالرفق والخضوع. ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد ينتصر لنفسه (6).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر .. (7) ولا يجوز أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطيش وتخرق .. (8) وقد أنكر الثوري –رحمه الله على من جانب هذا الوصف فلم يكتف بالدخول على أهل المنكر من أبوابهم –مع إمكان ذلك- وإنما عمد إلى تسلق الأسوار!! نقل ذلك الخلال في رسالته ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) من طريق أبي عبد الله بن الربيع الصوفي قال: دخلت على سفيان بالبصرة فقلت: يا أبا عبد الله! إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على هؤلاء الخبيثين ونتسلق الحيطان. قال: أليس لهم أبواب؟ قلت: بلى ولكن ندخل عليهم لكيلا يفروا. فأنكر ذلك إنكاراً شديداً وعاب فعالنا فقال رجل: من أدخل ذا؟ قلت: إنما دخلت إلى الطبيب لأخبره بدائي.
فانتفض سفيان وقال: إنما أهلكنا أنا نحن سقمى ونسمى أطباء! ثم قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: (رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر عالم بما ينهى)(9) وإن من الرفق أيضاً ترك التشهير بالمنصوح إلا إن اقتضى الحال والمصلحة ذلك والله المستعان. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 175
(1)((الجامع)) للقيرواني (ص: 156).
(2)
((الجرح والتعديل)) (1/ 124).
(3)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (23).
(4)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (34)، وانظر أثر رقم (35).
(5)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (38) و (43).
(6)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (46).
(7)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 17).
(8)
انظر: ((تفسير ابن عطية)) (3 - 187).
(9)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (32)(ص: 46).
المطلب الثاني: البدء بالنفس (1)
قدمنا لك فيما سبق أن العدالة ليست بشرط للقيام بهذا العمل .. وإلا حكمنا بإبطال مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قيل:
إذا لم يعظ الناس من هو مذنب
…
فمن يعظ الناس بعد محمد
وليس معنى عدم اشتراط العدالة من أجل القيام بتلك المهمة أن لا يلام من فرط فيها فارتكب محارم الله!!
بل القبح للذنب في حقه أعظم وأشد من غيره. ولذا كانت عقوبته في الآخرة من نوع خاص في جهنم! .. إنه يدور في أمعائه كما يدور الحمار في الرحى .. كما جاء ذلك صريحاً في حديث أسامة بن زيد –رضي الله عنه مرفوعاً: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان: ما شأنك؟ أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآيته)) (2).
ومن لطيف المناسبة هنا أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وهو غير ممتثل لما يأمر به ولا تارك لما ينهى عنه قد وقع تشبيهه في هذا الحديث بالحمار! كما أن الله عز وجل شبه حال المعرضين عن الأمر والنهي والموعظة والتذكير بالحمار أيضاً فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر: 50 - 51] فما أسوأ الحالين وما أحرى المسلم بالابتعاد عنهما!!
قال السفاريني –رحمه الله:
ومن نهى عما له قد ارتكب
…
فقد أتى مما به يقضي العجب
فلو بدا بنفسه فذادها
…
عن غيها لكان قد أفادها
وقال أيضاً: (إنما يصح التأديب بالسوط من صحيح البدن، ثابت القلب، قوي الذراعين، فيؤلم ضربه فيردع، فأما من هو سقيم البدن لا قوة له، فماذا ينفع تأديبه بالضرب؟ والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به)(3) ا. هـ.
وإنما كان التشنيع على هذا الصنف من الناس .. لكونهم عالمين بوجوب ما تركوا، أو بتحريم ما اقترفوا .. ولا أدل على علمهم بذلك من أمرهم به أو نهيهم عنه!!
وقد سبق أن قدمنا لك بعض النصوص الدالة على ذم هؤلاء كقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44].
وقوله: كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3] بعد أن وبخهم بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2]؟
فمن أجل ذلك كله قال شعيب –عليه السلام لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88].
(1)((الإحياء)) (2/ 328)، ((القرطبي)) (1/ 368)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 110 - 118)، ((الفتح المبين)) (ص: 245)، وانظر ((حاشية المدابغي)) (ص: 245)، وانظر ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 219)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 430 - 433)، ((أضواء البيان)) (1/ 172).
(2)
رواه البخاري (3267)، ومسلم (2989).
(3)
((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 43).
فإذا امتثل الآمر ما يأمر به، وانتهى عما ينهى عنه، قبل الناس دعوته وانشرحت صدورهم بسماع كلامه .. أما إن اختل ذلك فإنه يكون داعياً لهم بلسانه، راداً ومنفراً لهم بحاله، وقد تنبه لهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رحمه الله .. فحينما ولي الخلافة وأراد أن يرد المظالم إلى أصحابها .. بدأ بنفسه وأهل بيته أولاً .. فوقف على المنبر وقال: أما بعد: فإن هؤلاء أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها وما كان لهم أن يعطوناها، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب، وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم. فجعل يقرأ كتاباً كتاباً ثم يأخذه عمر وبيده الجلم فيقطعه حتى نودي بالظهر (1).
وإن من خبر الناس وعرف حالهم علم أنهم ينظرون لمن يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر نظرة فاحصة تختلف عن نظرهم لغيره من سائر الناس .. فيرقبون حاله ومقاله وجميع تصرفاته .. كما يحصون عليه الكبير والقطمير .. بل وتضخم أخطاؤه في كثير من الأوقات.
وإذا عثروا على خطأ له فالويل له ولمن كان على شاكلته!!
فتقصيره –عندهم- لا يقف عليه وحده بل يتعداه إلى كل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر! ثم يصير ذلك التقصير الذي شاهدوه عصاً في أيديهم يقومون بإشهارها متى ما يحلو لهم ذلك!!
فالحاصل أن المحتسب يلزمه أن يكون في موضع الأسوة والقدوة الحسنة لا أن يدعو الناس باللسان ويصرفهم بالعمل والسلوك!
وما أحسن ما قيل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقول الآخر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
…
طبيب يداوي الناس وهو سقيم
وقال ثالث:
فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر
…
به تُلف من إياه تأمر آتياً
وقال منصور الفقيه:
إن قوماً يأمرونا
…
بالذي لا يفعلونا
لمجانين وإن هم
…
لم يكونوا يصرعونا
وقال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى
…
وريح الخطايا من ثيابك تسطع
@ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 200
(1)((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) لابن الجوزي (ص: 127).
المطلب الثالث: المساواة بين القرابة وغيرهم (1)
كما يجب على المرء أن يقوم نفسه ويزكيها .. فإن عليه أيضاً أن يعنى عناية كبرى بقرابته ومن هم تحت ولايته .. وقد أرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214].
وهذا التوجه إنما هو نابع من إدراك المحتسب لحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه عملية إنقاذ وتخليص للأفراد والمجتمعات من الهلاك والعذاب الأخروي.
لكن حينما يخطئ المحتسب فهم هذه الحقيقة فإنه يجور في احتسابه ويحيد .. !! فيهمل قرابته، ويدع الاحتساب عليهم، لوجود دافع من الدوافع في النفس لذلك كالشفقة العمياء أو العاطفة الهوجاء!!
مع أنه لو تبصر لأبصر أن عين الشفقة إنما تكون في الاحتساب عليهم لتخليصهم من العقوبة المتوعدة.
والحق أن هذا السلوك المعوج ينبئ عن كون نية المحتسب مشوبة .. !! إذ الصدق مع الله تعالى ومع الناس يمنع من سلوك هذا المسلك الرديء المردى.
قال الخلال: (باب ما ينبغي للرجل أن يفعل ويعدل في أمره ونهيه في القريب والبعيد) أخبرنا أبو عبد الله المروزي قال: (قلت لأبي عبد الله: فإن كان للرجل قرابة فيرى عندهم المنكر فيكره أن يغيره أو يقول لهم فيخرج إلى ما يغتم به من أهل بيته وهو لا يرى بداً، أو يرى المنكر في غيره فيكره أن يغير للذي في قرابته. قال: إن صحت نيتك لم تبال)(2).
ومن آفات هذا المسلك اعتراض الناس على المحتسب بحال قرابته وأهل بيته كما يعترضون عليه بحاله إن كان غير ممتثل كما تقدم .. وكم يصرف مثل هذا المحتسب من القلوب عن قبول الحق والعمل به!.
قال النووي – رحمه الله: (ولا يتاركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته .. فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدواً لنا لهذا، وكانت الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها)(3) ا. هـ.
هذا وقد يعرض الرجل عن كثير من الاحتساب على قرابته وأهل بيته غفلة عن ذلك واشتغالاً بغيرهم .. وهذا هو الذائع الغالب!
فتجد للمحتسب أو الداعي مع الناس مجاهدات وصبراً ومتابعة .. وبذلاً للمال والوقت والجهد في سبيل إرشادهم إلى الحق والخير، وأهله وقرابته أحوج ما يكونون إلى التوجيه والتعليم والنصح!!
وهذه غفلة يقع فيها الكثير مع إخلاصهم ونصحهم ..
(1) انظر: ((المنهاج)) (2/ 218).
(2)
((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال (ص: 64).
(3)
((النووي على مسلم)) (1/ 2/24).
المطلب الرابع: البدء بالأهم وتقديمه على غيره (1)
وأهمية التدرج في ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة.
قال بعضهم:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه
…
مرضان مختلفان داوى الأخطر
إن معرفة الأولويات ومنازل الأعمال وما يترتب عليها فعلاً أو تركاً أمر ضروري للمحتسب في أزمنة الفترات، وتفشي وظهور المنكرات، واضمحلال الديانة في قلوب الناس وواقعهم .. مثل هذا الزمان الذي نعيشه اليوم.
ولقد دل على ثبوت هذا المبدأ وشرعيته الكتاب والسنة، وعليه جرى عمل سلف الأمة.
وقد قص الله تعالى علينا قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم فكان كل واحد منهم يخاطب قومه من حين بعثته إليهم بقوله: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59].
ومن المعلوم أنهم معصومون في أمور البلاغ والتشريع .. فطرائقهم وهديهم ومنهجهم كل ذلك معصوم ومحفوظ من وقوع الخلل في حال تبيينه للناس وتبليغه لهم عن طريق هؤلاء الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
ومن المعروف أنهم لم يكونوا يبدؤون دعوتهم لأقوامهم بالحديث عن تحريم السكر أو الزنا أو نحو ذلك من الأمور .. وإنما كانوا يقررون لهم التوحيد أولاً ويجعلونه منطلقاً لدعوتهم .. ثم ينتقلون معه إلى معالجة كبرى المشكلات التي يعايشها ذلك المجتمع الذي يبعثون فيه .. وبعد ذلك ينتقلون إلى ما دونها وهكذا.
فهذا هو سبيلهم من أولهم إلى خاتمهم –صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي
…
[يوسف: 108] وأنزل عليه قول تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
فقد كان هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه –صلوات الله وسلامه عليه- في دعوته .. روي البخاري بسنده عن عائشة –رضي الله عنها قالت: ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.
لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.)) (2).
وأخرج ابن بطة بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]: إن الله بعث نبيه –صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
…
[المائدة: 3].
قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت (براءة) نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك في تمام النعمة، وكمال الدين فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ [المائدة: 3] إلى قوله الإِسْلَامَ دِينًا (3).
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 58 - 61).
(2)
رواه البخاري (4993). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
((الإبانة الكبرى)) (ص: 815).
وبهذا التدرج كان يوصي صلى الله عليه وسلم رسله ويأمرهم إذا بعثهم للقيام بالدعوة .. كما أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس –رضي الله عنهما أنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)) (1) الحديث.
هذا وقد تمثل هذا المنهج في دعوة الأئمة من بعده صلى الله عليه وسلم .. نقل ابن الجوزي وغيره أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه وهو في قائلته فأيقظه وقال: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها. قال: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني؛ إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا؛ وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي. إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزله الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم. ثم قال: يا بني أما مما أنا فيه أمر هو أهم إلى من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد، وقبلهم ما قبلهم، فلئن جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني انصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله تمام هذا الأمر أتمه (2).
فهذه حكمة بالغة لا يدركها حق إدراكها ويعمل بها كما يطلب إلا مجدد أو محتذ حذوه.
إن الفساد الذي ينخر في المجتمعات الإسلامية اليوم إنما هو حصيلة قرون متطاولة .. وقد عمل على تقريره وإذاعته وتعميق جذوره جبابرة ودهاقنة للفساد متتابعون! تباعدت أقطارهم واتحدت أهدافهم .. ومثل ذا لا يمكن أن يغير بيوم ولا سنة! وإنما يحتاج إلى مدة كافية تماماً يروض فيها الناس على التوحيد والإيمان والصدق بعد أن سفت السوافي على هذه الأمور العظام، وكادت أن تأفل من عالم الواقع ..
إن حالاً كتلك لا يمكن أن تغير بجرة قلم كم يظن البعض .. فتجده يعمل جاهداً ومسخراً دعوته للوصول إلى ذلك القلم بأقرب طريق!
إن هذا المسلك مغاير لمنهج الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- في دعوتهم.
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما أنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد –صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن؛ ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل)(3).
وأخرج ابن بطة بسنده أيضاً عن جندب –رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيماناً)(4).
(1) رواه البخاري (1496).
(2)
((مناقب عمر بن عبد العزيز)) لابن الجوزي (ص: 127).
(3)
رواه البيهقي (3/ 120)(5073). والحديث رواه الطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/ 85)، وابن منده في ((الإيمان)) (106)، والحاكم في ((المستدرك)) (1/ 91). قال ابن منده: إسناده صحيح على رسم مسلم والجماعة إلا البخاري، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 76): أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين والبيهقي.
(4)
((الإبانة الكبرى)) رقم (1136).
فينبغي أن يبدأ بترسيخ الإيمان في النفوس أولاً .. وتعليم الناس توحيد الله عز وجل، وتصفية نفوسهم وواقعهم من الشرك ومظاهره .. ثم ينطلق الدعاة والمحتسبون إلى ما دونه من الأمور والتي تليه أهمية .. وهكذا.
وهذا لا يعني أن تقتصر الدعوة في أول أمرها على التوحيد فحسب، بل يكون هو المنطلق والأساس والقاعدة التي يبني عليها الأمر بالتخلي عن سائر الانحرافات الأخرى.
وهذا جلي فيما حكاه القرآن من دعوة الرسل، إذ كانوا يدعون إلى عبادة الله وحده مع كونهم ينكرون جرائم أخرى قد تفشت في أقوامهم كاللواط، ونقص المكيال والميزان، وقطع الطريق، وما إلى ذلك من الانحرافات المتنوعة.
وإنما آفة هذه الحكمة التعجل الذي غالباً ما يكون ناتجاً عن ضعف العلم والبصيرة، ولذا جاء في الحديث:((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) (1).
وكما في الحديث الآخر: ((التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة)) (2).
ثم إن هذا المنهج كما يطبق في تغيير واقع المجتمعات فهو كذلك يطبق في دعوة الأفراد على حد سواء.
ولشيخ الإسلام –رحمه الله كلام نفيس جداً في هذا المقام حيث يقول: ( .. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجباً في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء.
وهذا باب التعارض –باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة، وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة.
فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها.
يبين حقيقة الحال هذه أن الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15].
(1) رواه البيهقي (10/ 104)(20767)، وأبو يعلى في ((المسند)) (7/ 247) (4256). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (2/ 120): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 22): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1795): إسناده حسن رجاله ثقات.
(2)
رواه الترمذي (2010)، وعبد بن حميد في ((المسند)) (512)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 303)(1017)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (3/ 66). من حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 446): إسناده جيد، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 334): رجاله موثقون، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً. وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع.
كذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجباً في الأصل) (1) ا. هـ.
فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين منكر كبير ومنكرات دونه أنكرنا أولاً المنكر الأكبر كأمور الاعتقاد، لأنها تقدم على ما دونها من الانحرافات .. لكن إن أمكن إنكار المنكر الأقل دون الأكبر لعذر صحيح يتعلق بالمحتسب، أو كانت المصلحة في ذلك عائدة على الحسبة نفسها أو المحتسب عليه .. فإنه ينكر الأدون في هذه الحالة؛ كالسلطان الذي يحكم القوانين ويلبس الذهب والحرير، أو يأكل الربا، أو يقامر، ولم يمكن للمحتسب أن ينكر عليه تحكيم القوانين خوفاً على نفسه أو خوفاً على دعوته فإنه إن أمكنه إنكار ما دون ذلك فعل؛ وكمن يسافر إلى بلد الكفار ويزني بالكافرات ويشرب الخمر هناك مع كونه قد حلق رأسه قزعاً .. فلم يمكن إنكار السفر وفعل الفاحشة عليه لمصلحة تتعلق بالمسلمين، كإظهاره الشراب بين أظهرهم، وزناه في ديارهم ونسائهم!! فينكر حينئذ الأدون إن أمكن، وهكذا.
وقد يقدم المحتسب إنكار المنكر الأقل لمصلحة تقتضي ذلك في بعض الأحيان، كمن رأيته يريد الزنا أو شرب الخمر وأنت تعلم أن الرجل لا يزكي ماله، أو يتصف بمنكر هو أعظم من الزنا والشرب للمسكر دون الشرك بالله .. ففي هذه الحال يقدم إنكار الزنا أو الشرب لإبعاده عنه قبل الوقوع فيه فالدفع أسهل من الرفع.
ثم إن الطاعة أو المعصية تتعاظم باعتبارات عدة:
الأول: باعتبار الفاعل. فإذا كان الذي يقدم على المعصية ممن يقتدى به فإن هذا أخطر من إقدام الأغمار عليها. ولهذا كانت زلة العالم زلة العالم.
الثاني: باعتبار الزمان. فليس الذي يشرب المسكر في نهار رمضان كالذي يشربه في غيره وهكذا.
الثالث: باعتبار المكان. إذ المعصية أو الطاعة في الحرم أعظم منها خارجه.
(1)((مجموع الفتاوى)) (20/ 57 - 61).
الرابع: باعتبار ما يترتب على العمل من الآثار (1). ولهذا كانت البدع أشد ضرراً وخطراً من المعاصي الأخرى الواردة من باب الشهوات. وكذلك المعصية المتعدية أعظم من القاصرة على الفاعل.
ومن المعلوم أن المنكرات أقسام: فمنها ما يكون ظلماً للناس، كالوقوع في أعراضهم، أو سفك دمائهم، أو نهب أموالهم .. ومنها ما يكون ظلماً للنفس، كالشرب للخمر أو المخدر وغيرهما من المعاصي التي لا يتعدى ضررها على غير فاعلها. والقسم الثالث وهو ما كان يجمع بين هذا وذاك كمن يغتصب النساء، ويزني بهن، أو يأكل الربا .. وهذا النوع الأخير هو شر تلك الأنواع وأخطرها، ويليه الأول، وأقلها الثاني .. وأنت إذا تأملت النوع الأول منها رأيت أن فيه ظلماً للنفس في حقيقة الأمر وباطنه؛ فإذا رأينا من يجمع بين بعض هذه الأنواع فينبغي أن نقدم الإنكار للأعظم.
هذا واعلم أن جنس فعل الواجبات أعظم وأعلى من جنس ترك المحرمات، فيكون الإنسان مستحقاً للذم والإثم حال كونه تاركاً واجباً من الواجبات أكثر من استحقاقه ذلك عندما يكون مرتكباً لشيء من المنهيات؛ ولهذا كانت عقوبة إبليس لما امتنع من الامتثال للأمر الطرد والإبعاد من رحمة الله .. بينما كانت عقوبة آدم –عليه السلام لما كان ذنبه من قبل ارتكاب المحظورات الإخراج من الجنة وإهباطه إلى الأرض.
وبهذا تعلم أنه إذا اجتمع في شخص ترك واجب وفعل محرم قدم الإنكار على ترك الواجب أولاً .. هذا من حيث الجملة، وإن كان الحكم قد يختلف في بعض الصور والحالات، كما إذا كان ترك الواجب العين أقل جرماً وإثماً من ارتكاب المحرم المعين، كمن ترك الصلاة مع الجماعة وفي نفس الوقت هو مقدم على القتل أو ضرب أحد والديه .. فيقدم في هذه الحال إنكار ارتكاب المحرم لشناعته وعظمه.
ومما ينبغي معرفته أيضاً أن المنكرات الظاهرة تقدم في الإنكار على المنكرات المستترة، لأن العقوبة في الظاهر تعم .. ثم إنها تجرئ أصحاب المنكر وتغري غيرهم به .. بل تنقلهم إلى أعظم منه .. ثم إن هذا يكون سبباً لظهور المنكر المستتر!!
وهذا مشاهد في واقعنا .. فنحن نشاهد أن السفور يبدأ من ظهور العري في التلفاز والمجلات .. من ناحية .. ومن العبث بالحجاب، تارة برفع العباءة أو تقصيرها، أو ظهور ما يسمى بالنقاب الذي تخرج المرأة فيه عينيها ثم يتدرج الأمر حتى يصل إلى إظهار الوجه، ثم الساقين والذراعين وهكذا .. فحينما نسكت عن إنكار الانحراف الأول فإنه يزداد ويتعاظم وينتشر .. ومن أمثلة ذلك أن التدخين كان أمراً مستهجناً يعزر فاعله بالجلد أربعين سوطاً في بعض الجهات .. وقد يهجر .. ثم تدرج الأمر حتى سكت الكثير عنه .. فصار أمراً مألوفاً ثم وصل الأمر بالبعض إلى شرب الخمر .. ثم جاءت المخدرات فأنست الناس ذلك كله!! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 206
(1) انظر كلاماً مفيداً حول هذه القضية في ((الموافقات)) (2/ 298).
المطلب الخامس: الصبر واحتمال الأذى (1)
إن النصوص القرآنية والحديثية الواردة في موضوع الصبر لا يكاد يحصيها العاد كثرة .. وقد أخبرنا القرآن عن لقمان بأنه أوصى ابنه بقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر؛ وما ذلك إلا لأن القيام بهذه المهمة يتطلب الكثير من المجاهدة ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر.
فعلى المحتسب أن يصبر على ما أصابه، فإن الأذى هو الأصل في حقه! فليروض نفسه على تحمل ذلك في سبيل تبليغ الحق إلى قلوب الناس وإزالة المنكر من واقعهم.
فإذا لم يروض المحتسب نفسه على ذلك منذ البداية فإنه ينقطع في أول الطريق أو وسطه! (ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – به، بل أمر به خاتمهم – صلى الله عليه وسلم – في أول سورة أرسل فيها فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ – إلى قوله – وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 1 - 7] فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالإنذار، واختتمها بالأمر بالصبر؛ ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعده الصبر.)(2).
هذا ومن المقررات الأساسية، والمبادئ الأولية، أن أول ما يجب على المكلف العلم ثم العمل، ثم الدعوة إليه، ثم الصبر وتحمل الأذى في سبيل ذلك؛ ثم إن هذا القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يقوم بمهمة من مهام الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه قال:((قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)) (3).
فكم من الأذى لاقاه الأنبياء وأتباعهم فصبروا .. قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] وقال أيضاً وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: 34].
وقال موجهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127]
(1) انظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 248).
(2)
ما بين الأقواس () من كلام ابن تيمية بتصرف، انظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (29 - 31).
(3)
رواه الترمذي (2398)، وابن ماجه (3265)، وأحمد (1/ 173)(1494)، والدارمي (2/ 412)(2783)، وابن حبان (7/ 161)(2901)، والحاكم (1/ 100). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (832) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (226): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 167) كما أشار إلى ذلك في مقدمته.
وكلما ازداد البلاء ازداد المؤمن يقيناً وثباتاً، بخلاف المنافق، لأن المؤمن قد هيأ نفسه للابتلاء .. منذ أول خطوة في الطريق .. ثم إنه موقن بحسن العاقبة مع الصبر .. ولذا لما اجتمع الأحزاب حول المدينة، ونجم نفاق المنافقين، وظهرت خيانة اليهود من الداخل بنقض العهد .. لما كان ذلك قال المؤمنين: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب: 22] قالوا هذه المقالة مع كون ظواهر الأمور في غير صالحهم، سواء من جهة كثرة العدو .. أو شدة العيش والبرد في ذلك الوقت الذي وقعت فيه تلك الواقعة. وإنما كانوا يعنون بذلك أن الله تبارك وتعالى قد وعدهم بالابتلاء وأخبرهم بوقوعه بقوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186] وبقوله أيضا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] وبقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142].
وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى .. فكانت النتيجة رسوخ إيمان المؤمنين وثبات نفوسهم .. ولذا عقب تلك الآية بقوله في وصف حالهم: زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22].
وهذا بخلاف حال المنافقين الذين قالوا لما رأوا ذلك: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب: 12] وقال بعضهم يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هي بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب: 13 - 14].
وهذه سنة جارية لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمان .. قال مالك –رحمه الله (ضرب محمد بن المنكدر وأصحاب له في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر)(1) وأنكر الإمام عماد الدين الجماعيلي المقدسي –رحمه الله على فساق وكسر ما معهم، فضربوه حتى غشي عليه (2).
وقد كان أهل العلم يوصون به غيرهم .. فكان من وصية عمير بن حبيب –رحمه الله لبنيه: (إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطن نفسه على الأذى، وليوقن بالثواب من الله، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى)(3).
وسئل الإمام أحمد –رحمه الله: (مثل زماننا ترجو أن لا يلزم الرجل القيام بالأمر والنهي؟ قال: إذا خاف أن ينال منه. قلت –السائل- فالصلاة تراهم لا يحسنون؟. قال: مثل هذا تأمرهم. قلت –السائل- يشتم. قال: يتحمل؛ من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك)(4).
قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله: (ويكون مع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيرة وثبات على الحق، ويعلم أنه سيصيبه شيء، وإذا لم يعلم ذلك زاد البلاء فيما بعد، فإن المنكرات ما تفشت إلا بسبب أن أول شيء يوجد يتساهل به، فيكون الأول قد نسى وصار كعادة وصعب إزالته وتأتي الأمور الأخرى وهكذا .. )(5). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 217
(1)((الجامع للقيرواني)) (ص: 155).
(2)
((نزهة الفضلاء)) (3/ 1533).
(3)
((الزهد)) لأحمد (ص: 32).
(4)
((مسائل أبي داود)) (ص: 278).
(5)
((فتاوى محمد بن إبراهيم)) (6/ 191).
المطلب السادس: الحلم (1)
الحلم والصبر وصفان متلازمان .. وحد الحلم: (ضبط النفس عند هيجان الغضب)(2).
وقد أثنى الله على خليله إبراهيم –عليه السلام بهذا الوصف فقال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114] كما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه بذلك فقال لأشج عبد القيس: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله عز وجل الحلم والأناة)) (3).
والمحتسب هو أحوج ما يكون إلى التحلي بهذه الخصلة الكريمة، لأنه سيواجه من الناس ما يثيره كثيراً .. فإن كان غضوباً لا يحلم فإن البلاء سيكون أعظم في حقه!! والغالب أن لا يقبل الناس أمره ونهيه؛ بل قد يحركه الشيطان لينتقم لنفسه وينتصر لها! كما أنه يحرك صاحب المنكر أيضاً لذلك! فينبغي للمحتسب أن ينزه نفسه عن ذلك كله.
ثبت عن ابن مسعود –رضي الله عنه أنه قال: ((كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (4).
فأنت أيها المحتسب كيف يكون جوابك وتصرفك ومقالك إذا أمرت أحداً بشيء أو نهيته عن شيء فأجابك بما يفيد امتناعه عن إجابتك لما طلبته منه؟! ولم يزد على ذلك! كيف لو شتمك؟! بل كيف لو ضربك؟!
إن الكثير من الناس لا يحتملون هذه الأحوال كلها .. فقد يقع بينهم وبين المحتسب عليه مشاتمة أو نحوها، ويكون ذلك أحياناً انتصاراً للنفس!!.
والحاصل أنه يجب على المحتسب في مثل هذه المواقف أن يحلم فيكرر النصح والتذكير .. وإن رأى أن شكايته أو غير ذلك مما يدخل تحت قدرته وتصرفه أنفع فعليه فعله، لكن لا يكون شيء من ذلك انتصاراً لنفسه.
هذا وقد يحمله الغضب على إنكار المنكر بمنكر أعظم كقتل المحتسب عليه –وهو لا يستحق ذلك- أو مهاجرته والمصلحة لا تقتضي الهجر أو غير ذلك مما قد يقع له بسبب الغضب.
عن يحيى بن مندة قال: سمعت عمي عبد الرحمن، سمعت محمد بن عبيد الله الطبراني يقول: قمت يوماً في مجلس والدك –رحمه الله فقلت: أيها الشيخ، فينا جماعة ممن يدخل على هذا المشؤوم- أعني أبا نعيم الأشعري – فقال: أخرجوهم. فأخرجنا من المجلس فلاناً وفلاناً ثم قال: على الداخل عليهم حرج أن يدخل مجلسنا، أو يسمع منا، أو يروي عنا، فإن فعل فليس هو منا في حل.
قلت: ربما آل الأمر بالمعروف بصاحبه إلى الغضب والحدة، فيقع في الهجران المحرم، وربما أفضى إلى التكفير والسعي في الدم (5). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 222
(1) انظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 215) وذكر له عشرة أسباب، وانظر:((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 29 - 31)، ((أصول الدعوة)) (ص: 176).
(2)
((أدب الدنيا والدين)) (ص: 215).
(3)
رواه مسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
رواه البخاري (3477)، ومسلم (1792).
(5)
((طبقات الحنابلة)) (2/ 280)، ((تفسير الرازي)) (8/ 168)، ((معالم القربة)) (ص: 22)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428)، ((صفوة الآثار)) (4/ 272)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 505).
المطلب السابع: البدء بالأرفق (1)
اعلم أن هذا المطلب مغاير للرفق الذي مضى، وهو مغاير أيضاً لما تحدثنا عنه من البدء بالأهم وتقديمه على المهم في عملية الاحتساب .. وكذلك فإنه لا يراد به ما سنتحدث عنه إن شاء الله في درجات الإنكار ومراتبه.
وإنما نعني بذلك أنه إذا كان أمام المحتسب لإزالة المنكر أو الأمر بالمعروف طريقان أحدهما يحتاج إلى جهود وبلاء وعناء .. والآخر يحتاج إلى شيء أقل من ذلك فعليه أن يسلك الطريق الآخر إن كان يتحقق المطلوب به ولم يكن مشتملاً على مخالفة للشرع؛ ويمكن توضيح هذا الأمر بذكر بعض الأمثلة التي تبينه فنقول: قال الله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] فجعل الله عز وجل الإصلاح مقدماً في ذلك، ثم شرع استعمال القوة إن لم يثمر الإصلاح المطلوب؛ وبهذا يكون قد ترقى من الأرفق إلى الأغلظ في إزالة المنكر.
ومثل ما سبق ما جاء في قوله تعالى: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء: 34] فأتي بالأمر على مراحل، وأحوال الناس تختلف في هذا .. فمنهم من يكفيه النظرة الدالة على الإنكار عليه .. ومنهم من يكفيه الإشاحة بالوجه .. ومنهم من تكفيه الموعظة .. ومنهم من يحتاج إلى الزجر والتعنيف .. ومنهم من لا يمتنع عن المنكر إلا بالحبس أو الضرب .. فمن كان يكفيه الإشاحة فلا حاجة لتعنيفه ولا لضربه وهكذا.
(ثم عليك أن تعلم أن الدعوة إلى الله تكون بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة؛ أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريقة فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعين طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25].
ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) (2) وهذا إنما يكون لأهله وهم الولاة كما هو معلوم وليس ذلك لآحاد الناس لما سنبين لك إن شاء الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هي أَحْسَنُ [النحل: 125]: (جعل الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن) ا. هـ (3).
وهذا يتطلب من المحتسبين معرفة أحوال المحتسب عليهم ولا شك، وسيأتي بيان شيء من ذلك في الكلام على المحتسب عليه.
هذا واعلم أن الدفع بالأرفق والبدء به ليس على إطلاقه، قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله: إذا صار الصائل على الحريم بفعل الفاحشة، ووجده على الفراش على المرأة، فإنه لو تكلم عليه ربما يهرب .. فوجده على هذه الحال هل يتكلم عليه حتى يهرب أو يقتله؟
المفهوم من السنة أن له قتله، ولا يصيح به ليهرب، بل يضربه في تلك الحالة، مع أن من فيه غيرة لا يمكن أن يصبر عن قتله .. وقصة سعد فيمن وجد رجلاً مع امرأته .. وفيه سرور النبي صلى الله عليه وسلم بسعد وغيرته وبين أنه أغير من سعد وأن الله أغير من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن قد علم وتقرر ما في القصة التي وقعت للرجل لما وجد رجلاً بين فخذي امرأته فضربه فقتله فقال: (إنما ضربت بالسيف بين فخذيها ففتشوا فوجدوا فكان عذراً له؛ فيظهر من حديث هذا وحديث سعد أنها متى قامت البينة على هذه الحالة فليس بمضمون) ا. هـ (4). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 224
(1)((طبقات الحنابلة)) (2/ 280)، ((تفسير الرازي)) (8/ 168)، ((معالم القربة)) (ص: 22)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428)، ((صفوة الآثار)) (4/ 272)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 505).
(2)
ما بين الأقواس من كتاب ((أضواء البيان)) (2/ 174 - 175) بتصرف.
(3)
((مفتاح دار السعادة)) (1/ 153)، وانظره في ((التفسير القيم)) (ص: 344).
(4)
فتاوى الشيخ ((محمد بن إبراهيم)) (12/ 166) بتصرف.