المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ: الْحَيَوَانُ الْمَمْلُوكُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بِقُوَّةٍ كَبَعِيرٍ وَفَرَسٍ، أَوْ - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٦

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ: الْحَيَوَانُ الْمَمْلُوكُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بِقُوَّةٍ كَبَعِيرٍ وَفَرَسٍ، أَوْ

‌فَصْلٌ:

الْحَيَوَانُ الْمَمْلُوكُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بِقُوَّةٍ كَبَعِيرٍ وَفَرَسٍ، أَوْ بِعَدْوٍ كَأَرْنَبٍ وَظَبْيٍ، أَوْ بِطَيَرَانٍ كَحَمَامٍ؛ إِنْ وُجِدَ بِمَفَازَةٍ .. فَلِلْقَاضِي الْتِقَاطُهُ لِلْحِفْظِ،

ــ

الأصحاب قولاً، بل جعلوه سهوًا من كاتبه أو غلطًا من ناقله، وأوله بعضهم على ما إذا أرادت سيدها دون نفسها.

قال: (فصل:

الحيوان المملوك الممتنع من صغار السباع بقوة كبعير وفرس، أو بعدو كأرنب وظبي، أو بطيران كحمام) وفي معناه: القبج والدراج وصغار السباع وهي: صغار الثعالب وأولاد الأرانب ونحوها.

وتعبيره بـ (المملوك) يخرج البعير المقلد بعلامة الهدي؛ فإنه خرج عن ملك مالكه ويجوز التقاطه، والموقوف وينبغي جواز التقاطه لملك منافعه.

ويخرج الكلب والأصح: جواز التقاطه ويعرف سنة.

والظاهر: أنه عند انقضاء مدة التعريف يختار نقل الاختصاص الذي كان للأول، فلو حذف المصنف لفظ (المملوك) .. كان أولى.

قال: (إن وجد بمفازة .. فللقاضي التقاطه للحفظ) شرع يتكلم في الركن الثالث وهو: الملتقط، فإن كان حيوانًا يمتنع من صغار السباع بفضل قوته كالإبل والخيل والبغال والحمير أو بشدة عدوه كالأرانب والظبي المملوكة أو بطيرانه كالحمام، فإن

ص: 17

وَكَذَا لِغَيْرِهِ فِي الأَصَحِّ، وَيَحْرُمُ الْتِقَاطُهُ لِلتَّمَلُّكِ

ــ

وجدت في مفازة .. فللحاكم ونوابه أخذه للحفظ؛ لأن لهم ولاية على أموال الغائبين، وكان لعمر رضي الله عنه حظيرة يحفظ فيها الضوال، رواه مالك والشافعي.

وفي معنى (القاضي) أمينه.

قال الشيخ: وإطلاق الأصحاب أن القاضي يأخذها للحفظ ينبغي أن يكون عند خوف الضياع، أما عند الأمن .. فلا يتعرض لها.

ويعرف كونه مملوكًا بآثار الملك من وسم أو قرط، ويلتحق بالفرس الحمار.

و (المفازة): واحدة المفاوز المهلكة، قال ابن الأعرابي: سميت بذلك تفاؤلاً بالسلامة والنجاة والظفر بالخير، وهي من الأضداد.

و (الحمام) قال الشافعي: هو كل ما عب وهدر وإن تفرقت أسماؤه، فهو: الحمام واليمام والقمري والفواخت وغيرها، وقال الكسائي: الحمام هو الذي لا يألف البيوت، والذي يألفها اليمام، والحمامة تقع على الذكر والأنثى، وجمعها حمام وحمامات وحمائم.

قال: (وكذا لغيره في الأصح) أي: من الآحاد صيانة لها عن الخونة، وهذا نص عليه في (الأم) أيضًا.

والثاني: لا؛ لأنها يد عادية إذ لا ولاية للآحاد على مال الغائب.

ومحل الخلاف في زمن الأمن، أما زمن النهب فيجوز التقاطها قطعًا، سواء وجدت في صحراء أو عمران كالذي لا يمتنع منها، وألحق به الماوردي ما إذا عرف مالكها فأخذها ليردها عليه، وتكون في يده أمانة، وجعل محل الخلاف إذا لم يعرفه.

قال: (ويحرم التقاطه للتملك)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد في الإبل: (مالك ولها؟! دعها) وقيس الباقي عليه بجامع إمكان عيشه في البر بلا راع، فلو آخذه للتملك .. ضمنه قطعًا؛ لتعديه، ولا يبرأ عن ضمانه برده إلى

ص: 18

فَإِنْ وُجِدَ بِقَرْيَةٍ .. فَالأَصَحُّ: جَوَازُ الْتِقَاطِهِ لِلتَّمَلُّكِ. ومَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا كَشَاةٍ يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ لِلتَّمَلُّكِ فِي الْقَرْيَةِ وَالْمَفَازَةِ ....

ــ

موضعه ورفع يده عنه كما في المسروق، ولو رده إلى الحاكم .. براء على الصحيح، والخلاف كالخلاف في براءة الغاصب بدفع المغصوب إلى الحاكم.

كل هذا إذا وجد البعير نادًا، فلو وجده وعليه أمتعة ولا يمكن أخذ الأمتعة إلا بأخذه .. فالظاهر: أنه في هذه الحالة يأخذه للتملك تبعًا للأمتعة، ولأن وجود الأمتعة الثقيلة عليه يمنعه من ورود الماء والشجر ومن الفرار من السباع، وقد يفرق بين الأمتعة الكثيرة والقليلة وهو الأوجه.

واستثنى صاحب (التلخيص) من إطلاق القول بأن الإبل ونحوها لا تؤخذ في الصحراء: ما إذا وجد بعيرًا في أيام منى أو قبلها مقلدًا كما يقلد الهدي، فإن الشافعي نص على أنه يأخذه ويعرفه أيام منى، فإن خاف فوت وقت النحر .. نحره.

قال الرافعي: واستثناء هذه الصورة غير مسلم؛ لأن الأخذ الممنوع منه إنما هو الأخذ للتملك، وهذا ليس كذلك، وقال المصنف: فائدة الاستثناء: جواز التصرف.

قال: (فإن وجد بقرية .. فالأصح: جواز التقاطه للتملك)؛ لأنها في العمران تضيع بامتداد الأيدي الخائنة إليها، بخلاف المفازة فإن طروق الناس بها لا يعم، ولأنها لا تجد من يكفيها.

والثاني: أنها كالمفازة؛ لإطلاق الحديث، والحكم لا يختص بالقرية، بل الموضع القريب منها كهي.

قال: (وما لا يمتنع منها كشاة يجوز التقاطه للتملك في القرية والمفازة)؛ لقوله

ص: 19

وَيَتَخَيَّرُ آخِذُهُ مِنْ مَفَازَة: فَإِنْ شَاءَ .. عَرَّفَهُ وَتَمَلَّكَهُ، أَوْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ وَعَرَّفَهَا ثُمَّ تَمَلَّكَهُ، أَوْ أَكَلَهُ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ إِنْ ظَهَرَ مَالِكُهُ

ــ

صلى الله عليه وسلم: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) يعني: إن أخذتها .. فهي لك أو لأخيك، وإن تركتها .. أخذها الذئب، ويدخل في هذا النوع العجاجيل والفصلان والكسير من الإبل والخيل وكل ما إذا لم يلتقط يضيع إما بكاسر من السباع، وإما بخائن من الناس.

وفي وجه: لا يؤخذ ما يوجد في العمران؛ لأن الحيوان لا يكاد يضيع فيه، والحديث محمول على الصحراء بدليل قوله:(أو للذئب) والذئب إنما يكون في غير القرى، قاله ابن المنذر، والصحيح المعروف: أنه لا فرق.

قال: (ويتخير آخذه من مفازة: فإن شاء .. عرفه وتملكه، أو باعه وحفظ ثمنه وعرفها ثم تملكه، أو أكله وغرم قيمته إن ظهر مالكه) فيتخير بين ثلاث خصال: إن شاء .. عرف اللقطة وتملكها، وإن شاء .. باعها وحفظ ثمنها وعرفها، أي: عرف اللقطة؛ فإن التعريف لا يكون للثمن وإنما يكون للقطة، ولذلك صحح المصنف بخطه على قوله:(عرفها)، وإن شاء .. أكلها، أي: أكل اللقطة إن كانت مأكولة وغرم قيمتها.

وكان ينبغي للمصنف أن يأتي بضمير المؤنث في الجميع، على أن الإتيان بضمير المذكر في الجميع عائد للموجود وهو مذكر، وإنما أنث (عرفها) حتى لا يلتبس باحتمال عوده إلى الثمن.

وعن مالك وداوود: أن له أكلها مجانًا من غير ضمان أكل إباحة؛ لظاهر الحديث، ودليلنا: أنه مال لغيره فلا يجوز له تملكه من غير عوض إلا برضاه كما لو كان في البلد، والخبر محمول على جواز الأخذ دون الغرم.

ثم الخصلة الأولى أولى من الثانية، والثانية أولى من الثالثة.

ص: 20

فَإِنْ أَخَذَ مِنَ الْعُمْرَانِ .. فَلَهُ الْخَصْلَتَانِ الأُولَيَانِ لَا الثَّالِثَةُ فِي الأَصَحِّ

ــ

وقول المصنف: (باعه) يفهم: أنه يستقل بذلك، وهذا حيث لا حاكم، فإن كان .. فلابد من استئذانه على الصحيح، ورجح الماوردي والشيخ: أنه لا حاجة إلى استئذانه؛ فإنه نائب المالك في الحفظ فكذا في البيع.

هذا كله في المأكول، أما غيره كالجحش الصغير .. فهل: له تملكه في الحال كما يجوز أكل المأكول؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع حتى يعرفه سنة.

وسكت المصنف عن إفراز القيمة، والأصح: أن ذلك لا يجب.

قال: (فإن أخذ من العمران .. فله الخصلتان الأوليان لا الثالثة في الأصح)؛ لسهولة البيع في العمران .. دون المفازة.

والثاني: له الأكل أيضًا كما في المفازة، والمصنف تبع (المحرر) في حكاية الخلاف وجهين، وهو في (الشرح) و (الروضة) قولان.

واختلفوا هل يجوز بيع جزء منها لنفقة باقيها؟ قال الإمام: نعم كما يباع جميعها، وحكى عن شيخه احتمالاً: أنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن تأكل نفسها، وبهذا قطع أبو الفرج الزاز.

قال: ولا يستقرض على المالك أيضًا لهذا المعنى، قال الرافعي: وهو مخالف ما سبق في هرب الجمال ونحوه، وفرق المصنف بينهما بأن هناك لا يمكن البيع؛ لتعلق حق المستأجر، وهنا يمكن فلا يجوز الإضرار بمالكها من غير ضرورة.

ومتى حصلت الضالة في يد الحاكم، فإن كان هناك حمى .. سرحها فيه ووسمها بِسمَة الضوال، ويسم نتاجها أيضًا، وإن لم يكن .. فالقول في بيع كلها أو بعضها للنفقة على ما سبق، لكن إن توقع مجيء المالك على قرب بأن عرف أنها من نعم بني فلان .. تأنى أيامًا.

ص: 21

وَيَجُوزُ: أَنْ يَلْتَقِطَ عَبْدًا لَا يُمَيِّزُ،

ــ

فرع:

ترك دابة أو بعيرًا كسيرًا في الصحراء لعجزه عن السير، وعجز المالك عن القيام به، فمر به رجل فأحياه بالقيام عليه ومراعاته حتى عاد إلى حاله في السير والعمل .. حكى الماوردي والروياني عن الليث بن سعد والحسن بن صالح أنه يكون لمحييه دون تاركه، إلا أن يكون المالك تركه ليعود إليه فيكون أحق به.

وقال أحمد وابن إسحاق: المحيي أحق به بكل حال؛ لما روى أبو داوود مرسلاً عن عامر الشعبي: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها وسيبوها فأخذها فأحياها .. فهي له) ومرفوعًا: (من ترك دابة بمهلكة فأحياها رجل .. فهي لمن أحياها).

وقال مالك هو باق على ملك مالكه، ولكن لآخذه الرجوع بما أنفق، ومذهب الشافعي: أنه على ملك تاركه، وليس لمحييه الرجوع بنفقته كما لو عالج عبدًا أشرف على الهلاك حتى شفي، أو أخرج متاعًا غرق في البحر.

وحكى عن الحسن البصري أن من أخرج متاعًا غرق في البحر ملكه على صاحبه، وهذا شاذ مخالف للإجماع.

ولو وجد في البحر قطعة عنبر في الموضع الذي يجوز أن يوجد فيه .. كانت ملكًا لواجدها؛ لأن أصلها مباح، ولو وجدها في البر .. كانت لقطة، إلا أن تكون بقعة من الساحل قد نضب الماء عنها فتكون لواجدها، وهكذا لو صيدت سمكة في البحر فوجد في جوفها قطعة عنبر .. كانت ملكًا للصائد إذا كان بحرًا يمكن أن يوجد فيه العنبر، أما الأنهار وما لا يكون معدنًا للعنبر من البحار .. فإنه يكون لقطة، وهكذا الياقوت والمرجان، إلا أن يكون مصنوعًا أو مثقوبًا فيكون لقطة، وأما اللؤلؤ .. فلا يكون في البحر إلا في صدف، فإن وجد فيه .. كان ملكًا لواجده، وإن وجد خارج صدفه .. كان لقطة.

قال: (ويجوز: أن يلتقط عبدًا لا يميز)؛ لأنه يضيع بتركه فأشبه الشاة، بل قد

ص: 22

وَيَلْتَقِطَ غَيْرَ الْحَيَوَانِ؛

ــ

يقال بالوجوب إذا تعين طريقًا لحفظ روحه، فإن كان مميزًا والزمن زمن نهب .. جاز، وإنما يمتنع في الأمن؛ إذ يصل إلى مالكه بالدلالة.

تنبيهان:

أحدهما: احترز بالعبد عن الأمة فإنها إن كانت تحل له .. لم يجز أن يلتقطها للتملك؛ لأن التملك هنا كالتملك بالقرض، واقتراضها لا يجوز، بل يأخذها للحفظ كما يجوز استيداعها، وإن كانت لا تحل له كالمجوسية .. جاز التقاطها للتملك كما يجوز اقتراضها.

هذا كله إذا كانت غير مميزة، فإن كانت مميزة .. لم يجز جزمًا.

الثاني: يعرف كون غير المميز رقيقًا بعلامات الرق كالحبوش والزنوج، وينفق على الرقيق مدة حفظه من كسبه، وما بقي من كسبه يحفظ معه، فإن لم يكن له كسب .. فالحكم كما سيأتي في البهائم.

وإذا بيع فظهر المالك وقال كنت أعتقته قبل البيع .. فأظهر القولين قبول قوله، ويحكم بفساد البيع.

والثاني: المنع كما لو باع بنفسه، والنص أنه إذا وكل وكيلاً ببيع عبد فباعه الوكيل ثم قال الموكل: كنت أعتقته .. أنه لا يقبل، وهو كما لو باع قيم الطفل عبدًا ثم بلغ وقال: إن مورثي كان أعتقه .. قبل قوله وبطل البيع، وكما لو زوجت البكر بغير إذنها ثم أدعت أن بينهما رضاعًا محرمًا .. يقبل قولها، بخلاف إذا زوجت بإذنها؛ فإنه لا يقبل قولها ولها تحليفه على نفي العلم به.

قال: (ويلتقط غير الحيوان) وهو الجماد، وينقسم إلى ما يبقى بمعالجة كالرطب أو بغيرها كالذهب والفضة والثياب، وإلى ما لا يبقى ويتسارع إليه الفساد، وكل ذلك لقطة يؤخذ ويتملك.

ص: 23

فَإِنْ كَانَ يَسْرُعُ فَسَادُهُ كَهَرِيسَةٍ: فَإِنْ شَاءَ .. بَاعَهُ وَعَرَّفَهُ لِيَتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ، وَإِنْ شَاءَ .. تَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ وَأَكَلَهُ، وَقِيلَ: إِنْ وَجَدَهُ فِي عُمْرَانٍ .. وَجَبَ الْبَيْعُ .. وَإِنْ أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ بِعِلَاجٍ كَرُطَبٍ يَتَجَفَّفُ: فَإِنْ كَانَتِ الْغِبْطَةُ فِي بَيْعِهِ .. بِيعَ، أَوْ فِي تَجْفَيفِهِ وَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَاجِدُ .. جَفَّفَهُ، وَإِلَاّ .. بِيعَ بَعْضُهُ لِتَجْفِيفِ الْبَاقِي

ــ

قال: (فإن كان يسرع فساده كهريسة) وكذلك البقول الرطبة والشواء والرطب الذي لا يتتمر.

قال: (فإن شاء .. باعه وعرفه ليتملك ثمنه، وإن شاء .. تملكه في الحال وأكله)؛ لأنه معرض للهلاك فيتخير فيه كالشاة، واتفق عليه الأصحاب، واستدل له الرافعي وغيره بحديث:(من التقط طعامًا .. فليأكله ولا يعرفه) وهو غير معروف، والمعرف هنا المبيع لا الثمن، والبيع هنا أولى بالاتفاق.

قال: (وقيل: إن وجده في عمران .. وجب البيع)؛ لأنه متيسر فيه فلا يجوز الأكل في هذه الحالة، بل يتعين البيع، وقال الإصطخري: إن كان الواجد فقيرًا .. أكل، أو غنيًا .. فلا، وخص الخلاف بغير المضطر، وقطع في المضطر بأنه يأكل ويغرم قيمته، وحيث أكل .. وجب بعده التعريف في الأصح إن كان في البلد، وإلا .. فالظاهر عند الإمام: عدمه، ولا يجب إفراز القيمة، ولابد من إذن الإمام في البيع كما تقدم.

قال: (وإن أمكن بقاؤه بعلاج كرطب يتجفف: فإن كانت الغبطة في بيعه .. بيع، أو في تجفيفه وتبرع به الواجد .. جففه، وإلا .. بيع بعضه لتجفيف الباقي)؛ لأنه مال غيره فروعي فيه المصلحة كولي اليتيم، والفرق بينه وبين الحيوان حيث يباع جميعه: أن نفقة الحيوان تتكرر فيؤدي إلى أن يأكل نفسه.

والمراد بـ (البعض): ما يساوي مؤنة التجفيف.

ص: 24

وَمَنْ أَخَذَ لُقَطَةً لِلْحِفْظِ .. فَهِيَ أَمَانةٌ،

ــ

فرع:

وجد كلبًا يقتنى .. قال الأكثرون: له أن يلتقطه ثم يختص وينتفع به، فإن ظهر صاحبه بعد ذلك .. رده عليه، وإن تلف .. لم يضمنه، وفي لزوم أجره تلك المدة وجهان: أصحهما: لا تجب.

قال ابن الرفعة: والظاهر: أنه لابد عند انقضاء مدة التعريف من اختيار نقل الاختصاص الذي كان للأول كما في نقل الملك.

ولو ضاعت الخمرة المحترمة من صاحبها فالتقطها ملتقط رجاء أن تتخلل بنفسها فتخللت .. ملكها الملتقط إذا عرفها.

فرع:

لقطة دار الحرب، إن كان فيها مسلم .. كلقطة دار الإسلام، فإن لم يكن فيها مسلم .. فما وجد فيها غنيمة خمسها لأهل الخمس والباقى للواجد، ذكره البغوى وغيره، وحكم الغزالي في (كتاب السير) بأن اللقطة التي وجدت في دار الحرب لآخذها مطلقًا، وكذلك قاله القاضي هنا، وسيأتي في كلام المصنف في (كتاب السير).

قال: (ومن أخذ لقطة للحفظ) أي: وهو أهل لها (.. فهي أمانة)؛ لأنه يحفظها لمالكها فكان كالمودع، وكذا درها ونسلها، وعلى هذا: لا يجب عليه الإشهاد ولا إعلام الحاكم بها، وحكي وجه: أنها مضمونة؛ لأنه لا ولاية له على صاحبها.

قال الشيخ: ومقتضى هذا الوجه تحريم الأخذ وهو بعيد؛ لمخالفته الأحاديث

ص: 25

فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الَقَاضِي .. لَزِمَهُ الْقَبُولُ، وَلَمْ يُوجِبِ الأَكْثَرُونَ التَّعْرِيفَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَلَوْ قَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ خِيَانَةً .. لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا فِي الأَصَحِّ،

ــ

الصحيحة، وفي هذه الحالة إذا لم يعرفها .. كانت مضمونة عليه، ولا تصير أمانة بالتعريف بعد ذلك.

قال: (فإن دفعها إلى القاضي .. لزمه القبول)؛ حفظاً لها على صاحبها؛ لأنه ينقلها من أمانة إلى أمانة هي أوثق منها، وهذا بخلاف الوديعة؛ فإنه لا يلزمه قبولها على الأصح، لأنه قادر على الرد على المالك وقد التزم الحفظ له، واللزوم لا يختص بهذه الحالة، بل من أخذ للتملك ثم بدا له فدفعها إلى الحاكم .. لزمه القبول.

هذا في القاضي الأمين، أما غيره .. فدفعها إليه إضاعة لها.

ويشكل على لزوم القبول ما رواه مالك عن ثابت بن الضحاك: أنه وجد بعيرًا ضالاً فأخبر به عمر فأمره أن يعرفه ثلاث مرات، فقال له ثابت: إنه قد شغلني عن ضيعتي، فقال عمر:(أرسله حيث وجدته) لكن حمله بعضهم على الضالة التي لا يحل التقاطها.

قال: (ولم يوجب الأكثرون التعريف والحالة هذه) أي: إذا قصد الحفظ، لأن التعريف إنما يجب لتحقق شرط التملك، وقال الإمام والغزالى: أظهر الوجهين وجوبه؛ لئلا يفوت الحق بالكتمان، وصحح في (شرح مسلم) مقالة الإمام، وقال في (الروضة): إنها الأقوى المختار.

نعم؛ يستثنى من ذلك لقطة الحرم؛ فلا يجري فيها هذا الخلاف، بل يجب تعريفها جزمًا كما سيأتى.

هذا إذا استدامها للحفظ، فإن بدا له أن يتملك .. فجزم الرافعي في أول الباب بأنه لابد من استئناف التعريف.

قال: (فلو قصد بعد ذلك خيانة .. لم يصر ضامنًا في الأصح) كما لا يصير المودع بذلك ضامنًا على المذهب.

ص: 26

فَإِنْ أَخَذَ بِقَصْدِ الْخِيَانَةِ .. فَضَامِنٌ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَهُ أَنْ يُعَرِّفْ وَيَتَمَلَّكَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَإِنْ أَخَذَ لِيُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ .. فَأَمَانَةُ مُدَّة الْتَعْرِيفِ، وَكَذَا بَعْدَهَا مَا لَمْ يَخْتَرِ الْتَمَلُّكَ فِي الأَصَحِّ

ــ

والثاني: يصير ضامنًا؛ لأنه لم يسلطه المالك، ومعها صار الملتقط ضامنًا في الدوام بحقيقة الخيانة أو بقصدها، فلو تاب ثم أقلع وأراد أن يعرف ويتملك .. فله ذلك على الأصح عند القاضي والبغوي.

وإيراد الغزالي يقتضي ترجيح مقابله، قال الرافعي: والخلاف شبيه بالخلاف فيما لو أراد سفرًا مباحًا ثم جعله معصية .. فإن الأصح فيه: أنه لا يترخص.

قال: (فإن أخذ بقصد الخيانة .. فضامن)؛ لأن الأصل في الإستيلاء على مال الغير الضمان، خرج عنه حالة قصد التملك بإذن الشارع ففي ما عداها على مقتضى الأصل، وفي براءته بالدفع إلى الحاكم الوجهان في الغاصب، ولو لم يقصد شيئًا أو قصد ونسي .. فله التملك ولا ضمان؛ لأن صورة الأخذ مأذون فيها شرعًا.

قال: (وليس له بعده أن يعرف ويتملك على المذهب) كما أن الغاصب ليس له ذلك، وقيل: فيه وجهان: ثانيهما: له ذلك؛ لوجود صورة الالتقاط والتعريف.

ولو طرأت الخيانة ثم أقلع وقصد التملك .. فله ذلك في الأصح.

قال: (وإن أخذ ليعرف ويتملك .. فأمانة مدة التعريف) هذا لا خلاف فيه؛ لأن الشارع أذن فيه.

قال: (وكذا بعدها ما لم يختر التملك في الأصح) كما قبل الحول، ومقابله قول الإمام والغزالى: إنها تكون مضمونة عليه وإن لم يتملكها؛ لأنه صار ممسكًا لنفسه، وإن أخذها لا يقصد خيانة ولا أمانة أو يقصد أحدهما وينساه .. لم تكن مضمونة عليه، وله التملك بشرطه.

ص: 27

وَيَعْرِفُ جِنْسَهَا وَصِفَتَهَا وَقَدْرَهَا وَعِفَاصَهَا وَوَكَاءَهَا، ثُمَّ يُعَرِّفُهَا

ــ

قال: (ويعرف جنسها وصفتها وقدرها وعفاصها ووكاءها)؛ للحديث، لئلا تختلط بماله، وليستدل بها على صدق الطالب، وذلك مستحب على المشهور، وفي (الكافى): أنه واجب، وكذلك يعرف موضع التقاطها سواء كان المال قليلاً أو كثيرًا، سواء وجب التعريف أم لا، وكذلك يعرف كيل المكيل وطول الثوب وعرضه ودقته وصفاقته، ويستحب تقييد ذلك بالكتابة ليأمن النسيان.

وقوله: (يعرف) بفتح الياء من المعرفة، وهي: العلم.

قال الشافعي: وإنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء تنبيهًا على أنه يردها مع ما فيها ونبه باليسير على حفظ الكثير كما قال: (أدوا المَخيط والمِخيَط؛ فإن الغلول نار).

فـ (العفاص): الوعاء من جلد وغيره.

و (الوكاء): بالمد: الذي يربط به من خيط وغيره.

قال: (ثم يعرفها) هذا بضم الياء، وهذا واجب إذا قصد التملك قطعًا، اللهم إلا أن يخشى من ظالم يأخذها إذا عرفها، فحينئذ لا يجوز التعريف، بل تكون أمانة في يده كما جزم به المصنف في (نكت التنبيه)، ومقتضاه: أنه لا يتملكها بعد السنة، وبه أفتى الغزالي، وفي (فتاوى ابن الصباغ): أنه بعد الحول يتملكها، وهو القياس.

وتعبيره بـ (ثم) يقتضي أنه لا تجب المبادرة إلى التعريف عقب الالتقاط وهو الأصح؛ لإطلاق الحديث، وخالف القاضي أبو الطيب فأوجبه على الفور؛ لأنه أقرب إلى لقي صاحبها.

ومقتضى ما صححه الشيخان: أنه لو كتمها عشرين سنة ثم عرفها .. يكفي، وهو

ص: 28

فِي الأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا

ــ

في غاية البعد، وسيأتي عن الرافعي تصحيح: أنه لا يكفي تعريف سنة متفرقة، والظاهر: أن مرادهما بذلك: عدم الفورية المتصلة بالالتقاط، لا جرم صحح في (البسيط) مقالة القاضي أبي الطيب، وهو الظاهر إذا لم يكن عذر.

قال: (في الأسواق وأبواب المساجد)؛ لأنها مظنة اجتماع الناس.

والمراد بـ (الأسواق): حال قيامها، و (أبواب المساجد): عند خروج الناس منها ووجود الجماعات فيها، ولا يعرف في المساجد، كما لا يطلب الضالة فيها.

واستثنى بعضهم من ذلك المسجد الحرام، وصححه الماوردي والشاشي، ولعل ذلك مخصوص بأيام الحج، أما في سائر السنة .. فكغيره من المساجد، وينبغي استثناء مسجد منى في أيام التشريق، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس أيام زيارتهما.

وظاهر كلام الشيخين وابن الرفعة: أن التعريف في المسجد حرام، ونقل الماوردي الاتفاق عليه، والمنقول فيه: الكراهة كما جزم به في (شرح المهذب) في آخر (باب الجناية). لكن حكى الماوردي الاتفاق على تحريمه.

قال: (ونحوها) المراد بذلك: كل موضع يجتمع فيه الناس كالمجامع والمحافل ومناخ الأسفار لما ذكرناه؛ إذ لا فائدة للتعريف في الأماكن الخالية.

ثم إذا التقط في بلد أو قرية .. فلا بد من التعريف فيها، وليكن أكثر تعريفه في البقعة التي وجدها بها؛ لأن طلب الشيء في موضع ضياعه أكثر، فإن حضره سفر ..

ص: 29

سَنَةٌ

ــ

فوض التعريف إلى غيره، ولا يسافر بها، وإن التقط في الصحراء .. عرفها بأقرب البلاد إليها، والأصح: أنه لا يكلف العدول إلى غير مقصده.

وليس للملتقط تسليم المال إلى غيره ليعرفه إلا بإذن الحاكم، فإن فعل .. ضمن.

ويشترط كون المعرف عاقلاً غير مشهور بالخلاعة والمجون، وإلا .. فلا يعتمد قوله ولا تحصل فائدة التعريف، وقال ابن الرفعة: لا تشترط فيه الأمانة إذا حصل الوثوق بقوله.

قال: (سنة) أي: تحديدًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (عرفها سنة، فإن لم تعرف .. فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك) رواه الشيخان من حديث زيد بن خالد.

وأما ما رواه من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل أن أبي بن كعب قال: وجدت صرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مئة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(عرفها حولاً) فعرفتها حولاً فلم أجد أحدًا يعرفها، فعدت إليه فقال:(عرفها حولاً) فعرفتها حولاً فأتيته فقال: (عرفها حولاً) فعرفتها ثم أتيته فقال: (احفظ عددها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها وإلا .. فاستمتع بها) فأخذ به بعض الناس فقال: يجب التعريف ثلاثة أحوال، ونقله الخُبُشاني في (شرح الوسيط) عن عمر بن الخطاب، ولعله لم يثبت عنه.

والجواب: أن الحديث له علة؛ فإن راويه سلمة بن كهيل، فقد قال شعبة: لقيته بعد ذلك بمكة فسألته فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولاً، وفي رواية: قال شعبة: سمعته بعد عشرين سنة يقول: عرفتها عامًا واحدًا، فبان لنا أن سلمة شك فلم يبق في

ص: 30

عَلَى الْعَادَةِ؛ يُعَرِّفُ أَوَّلاً كُلَّ يَوْمٍ طَرَفَىِ الْنَهَارِ، ثُمَّ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً، ثُمَّ كُلَّ أُسْبُوعٍ، ثُمَّ كُلَّ شَهْرٍ،

ــ

ذكر الثلاثة قبل ذلك حجة، وأشار البخاري إلى هذه العلة في (صحيحه) ، وعلى تقدير صحته .. فهو محمول على الورع وزيادة الاحتياط.

وقد أجمع العلماء على الاكتفاء بتعريف سنة، وحكى الماوردي عن أحمد أنه يعرفها شهرًا واحدًا، وعن غيره ثلاثة أيام.

وقد يتصور تعريف سنتين فيما إذا قصد الحفظ وقلنا: لا يجب التعريف فعرفه، ثم اختار التملك .. فإنه لابد من تعريفه سنة من حين اختيار التملك.

قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه إنما يجب التعربف حولاً واحدًا.

فرع:

التقاط اثنان لقطة .. اشتركا في التعريف، وملكاها بعده نصفين، قاله القاضي حسين والشيخ نصر وغيرهما، وقال ابن الرفعة: الأشبه: أن يعرف كل منهما سنة؛ لأنه في النصف كملتقط كامل.

وقال الشيخ: الأشبه أن يعرف أحدهما نصفها والآخر نصفها؛ لأنها لقطة واحدة والتعريف من كل منهما لكلها لا لنصفها، وإنما تقسم بينهما عند التملك، قال: وليس لأحدهما انفراد باليد لا على الجميع ولا على النصف في السنة الأولى كالوكيلين والوصيين إذا لم ينص لهما على الانفراد، وليس لأحدهما نقل حقه إلى صاحبه.

قال: (على العادة) فلا يشترط استيعابها كلها، ولا يعرف ليلاً ولا وقت القيلولة.

قال: (يعرف أولاً كل يوم طرفي النهار، ثم كل يوم مرة، ثم كل أسبوع، مرة ثم كل شهر) وذلك على سبيل التقريب، ولا يكفي القدر اليسير من السنة؛ لأنه لا يفيد

ص: 31

وَلَا تَكْفِي سَنَةٌ مٌتَفَرَّقَةٌ فِي الأَصَحِّ. قُلْتُ: الأَصَحُّ: تَكْفِي، وَاللهُ أَعْلَمُ

ــ

المقصود، ولا يكفي التعريف في أوقات الخلوات، بل يراعي التعريف المعتاد، فيعرف في الابتداء في كل يوم مرتين طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم في كل شهر بحيث لا ينسى أنه تكرار للأول.

وقال القاضي والخوارزمي يعرف في الأسبوع الأول كل يوم طرفي النهار، وفي الثاني كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرتين، ثم في كل عشرة مرة.

وقال المزني: يكون أكثر تعريفه في الجمعة التي وجدها فيها.

قال: (ولا تكفي سنة متفرقة في الأصح) بأن يعرف شهرين مثلاً ويترك شهرين، أو اثني عشر شهرًا من اثنتي عشرة سنة؛ لأنه إذا فعل ذلك .. لا تظهر فائدة التعريف، ولأن المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم:(عرفها سنة) التوالي كما لو حلف لا أكلم زيدًا سنة.

فعلى هذا: إذا قطع مدة .. وجب الاستئناف، وقد تقدم أن هذا يشكل على ما تقدم عن الرافعي من تصحيح عدم وجوب الفور في التعريف.

قال: (قلت: الأصح: تكفي والله أعلم)؛ لأنه عرف سنة، وكما لو نذر صوم سنة .. فإنه يجوز تفريقها، ولم يصحح الرافعي في (الشرحين) شيئًا منهما، وعبر في (المحرر) عن الأول بالأحسن لا بالأصح.

قال الإمام: وللقول بالاكتفاء شرط وهو: أن يبين في التعريف زمان الوجدان، ويسنده إلى الوقت الذي وجدت فيه، حتى يكون ذلك في مقابلة ما جرى من التأخير المنسي.

ولو مات الملتقط في أثناء مدة التعريف .. صرح القاضي أبو الطيب بأن وارثه يبني على ذلك ويقوم مقامه.

ص: 32

وَيَذْكُرُ بَعْضَ أَوْصَافِهَا وَلَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الْتَعْرِّيِف إِنْ أَخَذَ لِحِفْظٍ، بَلْ يُرَّتِّبُهَا الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اوْ يَقْتَرِضُ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ أَخَذَ لِتَمَلُّكٍ .. لَزِمَتْهُ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَتَمَلَّكَ .. فَعَلَى الْمَالِكِ

ــ

قال: (ويذكر بعد أوصافها) لأنه أقرب إلى الظفر بالمالك، والأصح: أن هذا على جهة الاستحباب.

ولم يبين المصنف البعض، وقال: في (التنبيه): يقول: من ضاع منه شيء، أو من ضاع منه دنانير، قال ابن الرفعة: وهي صريحة في التخبير، وبه صرح جماعة، ويجوز أن يكون إشارة إلى خلاف الأصحاب في وجوب ذكر شيء من الصفات، فإن شرطناه .. فهل يكفي ذكر الجنس بأن يقول: من ضاع منه دراهم؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجب، بل يكفي أن يتعرض للعفاص والوكاء ومكان الالتقاط وتاريخه، ولا يستوعب الصفات ولا يبالغ؛ لئلا يعتمدها الكاذب، فإن بالغ .. ففي صيرورته ضامنًا وجهان:

أحدهما: لا؛ لأنه لا يلزمه الدفع إلا ببينة.

وأصحهما في زوائد (الروضة): أنه يضمن؛ لأنه قد يرفعه إلى من يلزمه الدفع بالصفات.

قال: (ولا تلزمه مؤنة التعريف إن أخذ لحفظ، بل يرتبها القاضي من بيت المال أو يقترض على المالك)؛ لأن القصد بأخذها رعاية مصلحة المالك، ويجوز أن يأمر الملتقط به ليرجع كما في هرب الجمال، وإن رأى القاضي بيع بعضها فيه .. فله ذلك، فهذه أربعة أشياء يجتهد القاضي فيها، فإن لم يوجب التعريف .. فهو متبرع بما أنفقه.

قال: (وإن أخذ لتملك .. لزمته)؛ لأنه قبض العين لغرض نفسه.

قال: (وقيل: إن لم يمتلك .. فعلى المالك)؛ لعود الفائدة إليه، فلو قصد الأمانة أولاً ثم قصد التملك .. ففيه الوجهان؛ نظرًا: إلى منتهى الأمر ومستقره.

هذا في مطلق التصرف، أما الصبي إذا رأى وليه التملك .. لم يصرف مؤنة التعريف من ماله، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليبيع جزءًا من اللقطه لذلك.

ص: 33

وَالأَصَحُّ: أَنَّ الْحَقِيرَ لَا يُعَرَّفُ سَنَةً، بَلْ زَمَنًا يُظَنُّ أَنَّ فَاقِدَهُ يُعْرِضُ عَنْهُ غَالِبًا

ــ

فرع:

ليس للملتقط تسليم المال إلى غيره ليعرفه إلا بإذن الحاكم، فإن فعل .. ضمن.

قال: (والأصح: أن الحقير لا يعرف سنة، بل زمنًا يظن أن فاقده يعرض عنه غالبًا) أشار بذلك إلى تعريف اللقطة إنما يجب إذا جمعت وصفين:

أحدهما: أن يكون شيئًا لا يفسد في مدة التعريف، فإن كان يفسد كالهريسة والرطب .. فقد تقدم حكمه.

والثاني: كون الملتقط كثيرًا، فإن كان قليلاً .. ينظر، إن انتهت قلته إلى حد يسقط تموله كحبة الحنطة والزبيبة .. فلا يعرف، ولواجده الاستبداد به؛ لأن عمر رأى رجلاً يعرف زبيبة فضربه بالدرة وقال:(إن من الورع ما يمقته الله) وإن كان متمولاً مع قلته .. وجب تعريفه؛ لأن فاقده يطلبه، خلافًا لأبي حنيفة ومالك، وفيه وجه منقول في (الإستذكار).

نعم؛ يستثنى من التعريف: ما لو التقط بالصحراء ما يسرع فساده كرطب وهريسة؛ فإنه لا يجب تعريفه على الظاهر؛ إذ لا فائدة له بالصحراء، وإذا تأخر .. بَعُدَ العثور على المستحقين.

وكم يعرف؟ فيه وجهان:

أحدهما: سنة؛ لإطلاق الأخبار، وهو ظاهر نص (المختصر)، واختاره العراقيون والقاضي حسين والشيخ، وشذ الغزالي في (البسيط) فزعم: أنه لم يقل به أحد.

والثاني: المنع؛ لأن الشيء الحقير لا يدوم فاقده على طلبه، بخلاف الخطير، (و) لأن عمر رضي الله عنه رأى جرابًا فيه سويق تطؤه الإبل، فأخذه فعرفه، فلم يعرفه أحد، فأمر بقدح فشرب منه وسقى أصحابه وقال:(هذا خير من أن تطؤه الإبل) ولم ينكر عليه، وهذا أشبه باختيار المعظم.

ص: 34

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وعلى هذا: فأوجه:

أحدها - ويروى عن الإصطخري ورجحه في (التنبيه) -: يكفي منه التعريف مرة؛ ليخرج بها عن حد الكاتم، وليس بعدها ضبط يعتمد.

والثاني: ثلاثة أيام؛ لما روى أحمد والطبراني والبيهقي عن أبي حكيم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من التقط لقطة يسيرة .. فليعرفها ثلاثة أيام) والجواب: أنه ضعيف، وقال ابن حزم: في إسناده من إسرائيل إلى أبي حكيم ظلمات بعضها فوق بعض.

والثالث - وهو الأصح -: أنه يعرف مدة يغلب على الظن في مثلها طلب الفاقد له، فإذا غلب على الظن إعراضه .. سقط الطلب، وكان الصواب أن يقول المصنف: يظن أن فاقده لا يعرض عنه غالبًا، ويختلف ذلك باختلاف قدر المال، قال الروياني: فدانق الفضة يعرف في الحال، ودانق الذهب يعرف يومًا أو يومين أو ثلاثة.

وأما الفرق بين القليل والكثير .. ففيه أوجه:

أصحها: لا يقدر، بل ما يغلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه، ولا يطول طلبه له غالبًا.

والثاني: القليل ما دون نصاب السرقة؛ لقول عائشة: (ما كانت الأيدي تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه) رواه ابن أبي شيبة في (مسنده)، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة.

والثالث: عن رواية الماسرجسي وغيره: أن الدينار فما دونه قليل؛ لما روى أبو داوود: أن عليًا وجد دينارًا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هذا رزق الله فاشتر به دقيقًا ولحمًا) ففعل وأكل هو والنبي صلى الله عليه وسلم منه وفاطمة، ثم جاء صاحب الدينار ينشده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(يا علي؛ أد الدينار).

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والرابع: أن ما دون الدرهم قليل، والدرهم فما فوقه كثير؛ لما روي عن عائشة أنها قالت:(لا بأس بما دون الدرهم أن ينتفع به) كذا استدل به الرافعي وهو غريب.

فائدة:

قال الشيخ: استدل لعدم وجوب التعريف في الحقير بما روى الشيخان عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق مطروحة فقال: (لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة .. لأكلتها) ومر ابن عمر بتمرة مطروحة في الطريق فأكلها.

وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأدخل بيتي فاجد التمرة مطروحة على فراشي ولا أدري من تمر الصدقة أو من تمر أهلي فأدعها) رواه أبو داوود، وهذا ليس بلقطة، والأول هو الذي تكلم عليه الفقهاء، والاستدلال به جيد من جهة أن المانع من أكلها احتمال كونها صدقة وهو لا يأكل الصدقة، وإذا تأملناها .. وجدناها ليست لقطة؛ لأن اللقطة ما تؤخذ لتتملك بعوض، أو لتحفظ لصاحبها بسبب تطلعه إليه، وهذه ليست كذلك.

قال: وبهذا يندفع سؤال سمعته من شيخنا الحافظ شرف الدين الدمياطي عن قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز أنه قال: كيف لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم التمرة والإمام يأخذ المال الضائع للحفظ؟

فأجاب بعض الناس بأنه إن ما في الحديث نفي الأكل، وقد يكون أخذها، وأنا أقول: إنما يأخذ المال الضائع الذي صاحبه متطلع إليه، أما ما هو معرض عنه .. فيترك لكل أحد يريد أخذه.

ص: 36