الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ
ــ
كتاب قسم الصدقات
(القسم) بالفتح مصدر كما تقدم، وبالكسر: النصيب، والصدقات: جمع صدقة، سميت بذلك؛ لإشعارها بصدق باذلها.
والمراد هنا: الزكوات الواجبة، وأما زكاة التطوع .. فأفردها بفصل وجمعها؛ لاختلاف أنواعها والمزني والأكثرون ذكروه في هذا الموضع؛ لأن كلاً من مال الفيء والغنيمة والزكاة يتولى الإمام جمعه، وذكره الشافعي رضي الله عنه في (الأم) في آخر (الزكاة)، وتابعه عليه جماعة منهم المصنف في (الروضة) وهو أحسن.
وافتتحه في (المحرر) بقوله تعالى: {إِنَمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ} الآية فعلم من الحصر بـ (إنما): أنها لا تصرف لغيرهم وذلك مجمع عليه، وإنما وقع الخلاف في وجوب استيعابهم.
وفي (سنن أبي داوود) و (الترمذي) و (ابن ماجه) من حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فجاءه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزَّأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء .. أعطيتك حقك).
وأضاف الزكاة إلى الأصناف الأربعة الأول بلام التمليك، وإلى الأربعة الأخر بفي الظرفية، ففي الأول: إشعار بإطلاق الملك وعدم الحجر، وفي الثاني: إشعار بأن الصرف في فك الرقاب، ووفاء دين الغارمين، وإعانة الغزاة وابن السبيل.
فإذا لم يحصل الصرف في هذه المصارف .. استرجع، بخلاف الأربعة الأولى؛ فإن المقصود تمليكهم فلهم صرفها في أي جهة أرادوا؛ لحصول الغرض، حتى لو
(الْفَقِيرُ): مَنْ لَا مَالَ لَهُ ولَا كَسْبَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ،
ــ
وهبوها .. جاز ولا ينافيه حكمنا بالملك للأربعة الأخيرة؛ لأنه ملك مقيد لا مطلق، بخلاف الأربعة الأول.
قال: (((الفقير): من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته) رتب المصنف الأصناف الثمانية بحسب ترتيبهم في الآية الكريمة، فبدأ بـ (الفقير) وهو مما يستأنس به؛ لأنه أسوأ حالاً من المسكين، لأن من شأن العرب البداءة بالأهم فالأهم.
وبدأ في (التنبيه) بالعامل؛ لأنه يقدم في القسم على الأصح لكونه يأخذ عوضًا.
قوله: (يقع) أي: المذكور، وهو المال والكسب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لاحظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب) رواه أحمد وأبو داوود.
ولفظ (الفقير) مشتق من كسر الفقار الذي في الظهر، وفي معناه من يملك ما لا يقع موقعًا من كفايته، والمراد: الكفاية في المطعم والمسكن والملبس وما لابد منه على ما يليق بحاله ومن في نفقته من غير إسراف ولا تقتير، كمن يحتاج إلى عشرة فيجد درهمين ولا يمكنه أن يكتفي بهما ولا أن يكتسب، ولا فرق عندنا بين أن يكون يملك نصابًا من المال أو لا، فقد يكون النصاب لا يقع موقعًا من كفايته.
وعند أبي حنيفة الغني من يملك نصابًا زكويًا، وأحمد: من يملك خمسين درهمًا أو ما قيمته خمسون؛ لما روى الدارمي وغيره عن ابن مسعود أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من سأل وعنده ما يكفيه .. فإنما يستكثر من النار) قالوا: ما يكفيه؟ قال: (خمسون درهمًا أو ما يساوي خمسين درهمًا).
أما الذي له كسب تزول به ضرورته .. فليس بفقير، وإنما جعلنا الكسب كالمال؛ للحديث المذكور، فلو مرض المكتسب أو لم يجد من يستعمله .. فهو فقير، ولم يجعلوا الغني بالكسب كالمال فيما يجب عليه كالحج ونفقة القريب، بل فيما يجب له.
وَلَا يَمْنَعُ الْفَقْرَ مَسْكَنُهُ وَثِيَابُهُ، وَمَالُهُ الْغَائِبُ فِي مَرْحَلَتَيْنِ،
ــ
هذا فقير الزكاة، أما فقير العرايا .. فمن لا نقد معه كما تقدم، وفي العاقلة: من لا يملك ما يفضل عن كفايته على الدوام لا من لا يملك شيئًا أصلاً كما قاله ابن الرفعة هناك.
قال: (ولا يمنع الفقر مسكنه) أي: المملوك له (وثيابه) التي يلبسها للتجمل وإن تعددت إذا احتاج إليها، وكذا العبد الذي يحتاج إلى خدمته.
قال الشيخ: وإطلاق المسكن والثياب يقتضي أنه لا فرق بين اللائق وغيره؛ لأنه إذا ألفها .. شق عليه بيعها، وفيه نظر.
قال الرافعي: ولم يتعرضوا لعبده المحتاج إلى خدمته، وهو في سائر الأصول كالمسكن، قال المصنف: صرح ابن كج بأنه كالمسكن، وهو متعين.
ولو كان عليه دين .. قال الرافعي: يمكن أن يقال: لا عبرة بما يوفيه به كما في نفقة القريب والفطرة، وفي (فتاوى البغوي): لا يعطى بالفقر حتى يصرفه في الدين، واختاره الشيخ.
ولو لم يكن عبد ولا مسكن واحتاج إليهما ومعه ثمنهما .. قال الشيخ: لم أر فيه نقلاً، ويظهر أنه كوفاء الدين، فلو اعتاد السكن بالأجرة أو في المدرسة .. فالظاهر خروجه عن اسم الفقر به، وعن الإمام: أن ملك المسكن والخادم لا يمنع اسم المسكنة، بخلاف اسم الفقر.
قال: (وماله الغائب في مرحلتين) فله الأخذ إلى أن يصل إليه؛ لأنه معسر الآن، وهذا نقله الرافعي عن البغوي، والبغوي قاسه على فسخ المرأة النكاح لغيبة
وَالْمُؤَجَّلُ، وَكَسْبٌ لَا يَلِيقُ بِهِ
ــ
مال الزوج مرحلتين، وهو في (تعليق القاضي حسين) مخرج من نصه أن من ماله غائب .. يدفع إليه من سهم ابن السبيل إلى أن يصل إليه، وهو ضعيف نقلاً وتوجيهًا.
أما النقل .. فالذي يقتضيه كلام الجمهور أنه يعطى من سهم ابن السبيل لا من سهم الفقراء؛ لأنه لا يعطى كفاية سنة ولا كفاية العمر الغالب بالاتفاق، بل ما يوصله إلى ماله أو ما يكفيه إلى أن يأتيه ماله، فهو كابن السبيل.
وأما التوجيه .. فلأنه غني شرعًا وعرفًا فكيف يعطى من سهم الفقراء ويصدق عليه اسم الفقير؟!
نعم؛ إن كان قد حيل بينه وبين ماله كالمهاجرين الذين قال الله في حقهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَأَمْوَالِهِم} .. احتمل ذلك، بل لا تشترط في أولئك مسافة القصر، حتى لو كان ماله في البلد وقد حيل بينه وبينه .. فهو في حكم الفقير.
قال: (والمؤجل) أي: لا يمنع الفقر فيأخذ إلى أن يحل، كذا قاله الرافعي تبعًا للبغوي، وفيه ما في قبله من الإشكال، وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه كما قاله ابن الرفعة -: أنه لا يدفع له من سهم الفقراء.
قال: (وكسب لا يليق به)؛ لأن الانشغال به يذهب مروءته فكان كالعدم.
وإطلاق الحديث في الكسب محمول على اللائق؛ فإنه العرف الشرعي ولهذا: لو وجد من يستعمله ولكن كسبه حرام .. فله الأخذ من الزكاة إلى القدرة على الكسب الحلال كما أفتى به البغوي.
وأفتى الغزالي بأن أرباب البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالكسب لهم أخذ الزكاة، وينبغي حمله على ما إذا لم يعتادوا ذلك لغناهم، فأما عند الحاجة إليه .. فتركه ضرب من الحماقة ورعونات النفس، فلا وجه للترفع عن الكسب المباح
وَلَوِ اشْتَغَلَ بِعِلْمٍ وَالْكَسْبُ يَمْنَعُهُ .. فَفَقِيرٌ، وَلَوِ اشْتَغَلَ بِالنَّوَافِلِ .. فَلَا. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الزَّمَانَةُ وَلَا التَّعَفُّفُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْجَدِيدِ
ــ
وأخذ أوساخ الناس؛ فقد أجر علي رضي الله عنه نفسه ليهودي يستقي له كل دلو بتمرة كما تقدم في (الإجارة).
قال: (ولو اشتغل بعلم) أي: شرعي (والكسب يمنعه .. ففقير)؛ لأنه قام بفرض كفاية، وذكر الدارمي في المسألة ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كان نجيبًا يرجى نفع الناس به .. استحق، وإلا .. فلا، أما المعطل المعتكف في المدرسة ومن لا يتأتى منه التحصيل .. فلا يعطيان إن قدرا على الكسب.
واحترز بقوله: (والكسب يمنعه) عما لو كان لا يمنعه؛ فإنه لا يعطى إذا كان يليق به، ومثله في (البسيط) بالكسب بالوراقة وفيه نظر؛ لأن من لم يعط العلم كله .. لم يعطه العلم بعضه.
قال: (ولو اشتغل بالنوافل .. فلا)؛ لأن كسبه وقطع النظر عما في أيدي الناس أولى من الإقبال على النوافل مع الطمع، وادعى في (شرح المهذب) الاتفاق عليه، لكن في (فتاوى القفال): أن المستغرق الوقت بالعبادة والصلاة آناء الليل والنهار تحل له الزكاة كالمشتغل بالفقه وإن كان قوياً، أما غيره .. فلا وإن كان صوفيًا.
وفي (فتاوى ابن الصلاح): قوم يتزيون بزي الفقراء وهم قادرون على الكسب .. لا يحل لهم ذلك ولا تبرأ ذمة الدافع؛ لقدرتهم على كسب يليق بأمثالهم، وعلى الإمام منعهم وإلزامهم الكسب.
قال: (ولا يشترط فيه) أي: في الفقير (الزمانة ولا التعفف عن المسألة على الجديد) في المسألتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى من سأل الصدقة ولم يكن زمنًا، رواه مسلم.
وقال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِم حَقٌ للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وهو الذي لا يسأل وفيه ثمانية أقوال أخر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال الشعبي: أعياني أن أعلم المحروم منذ سبعين سنة، قال ابن عطية: الشعبي في هذه المسألة محروم.
فإن قيل: المدحة بالإعطاء لا يكون الحق في المال فإنه حاصل في كل ما أمر به وإن لم يخرج .. فالجواب: أنه قد أشير إلى أنهم قد جعلوا ما يعطونه ويتبرعون به على السائل والمحروم حقًا ثابتًا في أموالهم مستقرًا، وجعلوا أموالهم ظرفًا له، والظرف لا يراد إلا للمظروف، فكأنهم لم يريدوا المال إلا لحق السائل والمحروم.
وأضاف الأموال إليهم ولم يضف الرزق إليهم في قوله: {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} ؛ لأن المقصود هناك الحث على الإنفاق والمقصود هنا الثناء عليهم بما فعلوه، فحسنت الإضافة إليهم هاهنا، والإضافة إلى الله ثم.
وفي القديم: يشترطان؛ لأنه إذا سأل .. أعطي، وإذا لم يكن زمنًا .. كان له نوع كسب، فيكون مسكينًا لا فقيرًا.
و (الزمانة) بفتح الزاي: العاهة والآفة، ورجل زمن؛ أي: مبتلى، ويطلق على كل داء ملازم يزمن الإنسان فيمنعه من الكسب كالعمى والشلل، وقد يسمى الأخرس زمنًا وكذلك الأصم وقد يكتسبان، وما أحسن قول شيخنا الشيخ جمال الدين ابن نباتة رحمه الله تعالى [من الخفيف]:
سألتني مثيلة القمرين .... كيف حالي فقلت يا نور عيني
زمن اللهو والشباب تلاه .... زمن في اللسان والركبتين
وَالْمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ قَرِيبٍ أَوْ زَوْجٍ لَيْسَ فَقِيرًا فِي الأَصَحِّ
ــ
قال: (والمكفي بنفقة قريب أو زوج ليس فقيرًا في الأصح)؛ لعدم الحاجة، ونقل ابن المنذر فيه الإجماع، ولا مسكينًا أيضًا؛ لأن المدار على الحاجة، بل يعطى من سهم غيرهما.
والوجه الثاني: يعطيان؛ لاحتياجهما إلى غيرهما.
ويخرج من كلام القفال في الزوجة وجه ثالث: إن كانت لا تكتفي بما تأخذه من نفقتها بأن كان لها من تلزمها نفقته من رقيق، أو كانت مريضة وقلنا: لا تلزمه مداولتها، أو كثيرة الأكل لا يكفيها ما يجب لها .. فلها أخذ الزكاة، قال الإمام: ويكون من سهم المساكين.
والخلاف مفروض في (المحرر): في أنهما هل يعطيان أو لا؟ فهو مخالف لما في الكتاب، وهو مبني على الخلاف فيما لو وقف على فقراء أقاربه أو وصى لهم وكان فيهم مكفي بنفقة أب أو غيره ممن تلزمه نفقته، وفيها أربعة أوجه:
أحدها: يستحقان؛ لأنهما فقيران.
والثاني: لا؛ لأنهما غنيان بالنفقة المستحقة لهما.
والثالث: أن من في نفقة القريب يستحق دون الزوجة؛ لأنها تستحق فرضًا فيستقر في ذمة الزوج.
والرابع: أن الزوجة تستحق؛ لأن نفقتها مقدرة وقد لا تكفيها، والقريب نفقته قدر كفايته.
وقال البغوي: محل المنع في الزوجة إذا كانت طائعة، فإن نشزت .. أعطيت؛ لعدم استحقاقها النفقة فهي كالخلية، والأكثرون على أنها لا تعطى في هذه الحالة أيضًا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فلو سافرت بغير إذنه .. جاز إعطاؤها من سهم الفقر والمسكنة؛ لعدم قدرتها على العود في الحال.
وأفهم قوله: (المكفي) أن الزوج إذا كان ينفق نفقة المعسرين .. كان لها أن تأخذ الزكاة؛ فإنها لا تستطيع فسخ النكاح، وهو الذي أفتى به القفال وقال: إنه لا خلاف فيه.
وموضع الخلاف في القريب غير المنفق، أما القريب الذي تجب عليه نفقته .. فلا يعطيه قطعًا؛ لأنه يجر نفعًا إلى نفسه بدفع النفقة عنه.
فروع:
يجوز أن يعطى من تلزمه نفقته من سهم الغارمين والعاملين والمكاتبين والغزاة إذا كان بهذه الصفة، ويجوز أن يعطيه من سهم ابن السبيل قدر مؤنة السفر، دون ما يحتاج إليه حضرًا وسفرًا.
ويجوز أن يعطي الزوج امرأته من سهم المؤلفة على الأصح، وقال الشيخ أبو حامد: لا تكون المرأة من المؤلفة، وهو ضعيف، كذا في (الروضة) هنا، لكنه قال في آخر الباب من زوائده: لو دفع سهم المؤلفة ثم بان المدفوع إليه امرأة .. فكما لو بان عبدًا، والأصح في ظهوره عبدًا: عدم الإجزاء.
والمعتدة الواجبة النفقة من رجعية وبائن حامل .. كذات الزوج، وإن لم تجب نفقتها كالبائن الحائل .. تعط؛ لعدم وجوب نفقتها عليه.
ويجوز أن تصرف المرأة من سهم الفقراء والمساكين إلى زوجها إذا كان متصفًا بتلك الصفة؛ بل يستحب لها ذلك، وعن القاضي حسين وجه: أنه لا يجوز؛ لأنها تأخذه منه في نفقتها فيصير طريقًا إلى ذلك، والصواب الأول.
وَ (الْمِسْكِينُ): مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ
ــ
ففي (الصحيحين) أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتجزيء الصدقة عنها على زوجها وعلى أيتام في حجرها؟ فقال: (لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة) وترجم عليه البخاري (الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر)، وأخذ ذلك من قوله:(أفتجزيء عني)؛ لأن ذلك إنما يستعمل في الواجب غالبًا.
قال: (و (المسكين)): من قدر على مال أو كسب يقع موقعًا من كفايته ولا يكفيه) على ما يليق بحاله، كما إذا احتاج إلى عشرة وعنده سبعة أو ثمانية، وكذا كفاية من تلزمه نفقته.
والدليل على أن الفقير أشد حاجة من المسكين: أن الله تعالى بدأ به كما تقدم وقال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَكِينَ} فأثبت لهم مالاً، وقال:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَأَمْوالِهِم} ، وقال:{يَأيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ} أي: لا تملكون شيئًا، ولم يقل: أنتم المساكين.
وقال الأصمعي: المسكين أحسن حالاً من الفقير، ووقع في كلام الرافعي وغيره الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر وسأل المسكنة، فاستعاذته من الفقر، رواها أبو داوود والنسائي من رواية أبي هريرة، وإسناده على شرط مسلم، ومتفق عليه أيضًا من رواية عائشة، لكن من فتنة الفقر.
وقوله: (اللهم؛ أحيني مسكينًا) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي بإسناد لا علة له، قال: والاستدلال بذلك خطأ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أغنى الخلق، والمسكنة التي سألها ليست أخت الفقر، إنما هي من السكون والتواضع، وهي من أعظم العبادات، فكأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين المتكبرين، وأن لا يحشره في زمرة الأغنياء المترفين، قاله البيهقي.
وقال أبو حنيفة: المسكين أسوأ حالاً من الفقير، وساعده أبو إسحاق المروزي، وهذا الخلاف لا تظهر له فائدة في الزكاة؛ فإنه لابد من إعطاء الصنفين، وإنما تظهر فيما إذا أوصى للفقراء بمئة وللمساكين بخمسين، أو بالعكس، أو وصى للفقراء دون
وَ (الْعَامِلُ): سَاعٍ، وَكَاتِبٌ، وَقَاسِمٌ، وَحَاشِرٌ: يَجْمَعُ ذَوِي الأَمْوَالِ، لَا الْقَاضِي وَالْوَالِي
ــ
المساكين أو بالعكس، وكذا في النذر والوقف.
ثم هل المراد عدم الكفاية في هذا اليوم، أو في تلك السنة، أو العمر الغالب؟ لم يصرحوا به، إلا أن في (فتاوى القفال) اعتبار السنة، وهذا بناء على اختياره أنه لا يدفع له زيادة عليها.
فرع:
من له كتب علم وهو عالم يجوز الصرف إليه من سهم الفقراء والمساكين، ولا تباع كتبه العلمية، وكذلك كتب الوعظ والطب إذا انتفع بها أو نفع، وتباع كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا ويمنع اسم المسكنة.
قال: (و (العامل): ساع، وكاتب، وقاسم، وحاشر: يجمع ذوي الأموال) كذلك الحاسب والعريف وحافظ المال والجابي إذا احتيج إليه، والساعي الأصل والباقي أعوان له، ولا خلاف أن العامل يأخذ مع الغنى وإن كان صدقة.
والأصح في (شرح التنبيه) لابن يونس: أن ما يأخذه العامل أجرة، والمذكور في (الحاوي) أنه صدقة، وحكاه عن الشافعي رضي الله عنه، واستدل له بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية.
وجميع ما تقرر فيمن نصبه الإمام ليأخذ العمالة من الصدقات، فإن استأجره من بيت المال أو جعل له جعلاً .. لم يأخذ من الزكاة.
قال الشافعي رضي الله عنه: والعامل يأخذ من نفسه لنفسه، وعلله الجرجاني بأنه أمين شرعًا، وبه يندفع إشكال استقلاله، فالشريك لا يقسم وحده ويؤخذ من اسمه أنه لابد من العمل، فلو فرق المالك أو حملها إلى الإمام .. سقط، وقال القاضي أبو الطيب: لو تولاها الإمام .. سقط سهم العامل، ولا يأخذه الإمام.
قال: (لا القاضي والوالي) والمراد: والي الإقليم عمومًا؛ لتشمل ولايته قبضها
وَ (الْمُؤَلَّفَةُ): مَنْ أَسْلَمَ وَنِيَّتُهُ ضَعِيفَةٌ، أَوْ لَهُ شَرَفٌ يُتَوَقَّعُ بِإِعْطَائِهِ إِسْلَامُ غَيْرِهِ.
ــ
وتفريقها، وكذا الإمام؛ لأن رزقهم إذا لم يتطوعوا من خمس الخمس المرصد للمصالح.
روى مالك والبيهقي عن زيد بن أسلم: أن عمر رضي الله عنه شرب لبنًا فاستطابه، فأعلم أنه من نعم الصدقة .. فاستقاءه، قيل: ليعلم الناس تحريمها على الإمام أو استحبابًا، وعندنا لا يجب في الحرام، بل يندب.
وعبارته تقتضي: أن للقاضي قبضها وصرفها، وذلك في مال أيتام تحت نظره، أما إذا لم يجعل لها الإمام ناظرًا .. ففي دخولها في عموم ولايته وجهان، وأطلق الهروي الدخول، قاله الرافعي في (الأقضية).
فرع:
أجرة الكيال والوزان وعاد النعم ليميز نصيب الأصناف من سهم العامل، وليميز نصيبهم من نصيب المالك الأصح: أنها على المالك، وأجرة الراعي والحافظ بعد القبض الأصح عند المصنف: أنها من الأصل كالناقل والمخزن.
قال: (و (المؤلفة): من أسلم ونيته ضعيفة) فيعطى ليقوى إيمانه، ويقبل قوله بلا يمين.
والمؤلفة جمع المؤلف مأخوذ من التأليف: وهو جمع القلوب.
واحترز بقوله: (من أسلم) عن مؤلفة الكفار؛ فإنهم لا يعطون من الزكاة قطعًا ولا من غيرها على الأظهر.
قال: (أو له شرف يتوقع بإعطائه إسلام غيره)، ولا يقبل قوله في شرفه إلا ببينة.
وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ
ــ
قال: (والمذهب: أنهم يعطون من الزكاة)؛ لعموم الآية، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وأبا سفيان وصفوان بن أمية وهم من الصنف الأول، وعدي بن حاتم والزبرقان بن بدر وهم من الثاني، كذا قاله الأصحاب.
والصواب الذي رواه مسلم وغيره: أن صفوان أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك من غير الزكاة، وأن عديًا إنما أعطاه أبو بكر رضي الله عنه، كذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطاهم منها شيئًا، لكن يستدل للمذهب بأنه لو لم يعط هذين الصنفين من الزكاة .. لم نجد للآية الكريمة محملاً؛ لأنها نصت على المؤلفة، ولابد أن يكونوا مسلمين؛ لأن الزكاة لا تعطى لكافر.
والقول الثاني: لا يعطون؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام عن التألف بمال، ولأن أحدًا من الخلفاء الراشدين لم يعطهم شيئًا.
والثالث: يعطون من مال المصالح لا من الزكاة.
والخلاف أقوال لا طرق، فكان الصواب أن يعبر بالأظهر، وقد تقدم أن المرأة تعطى من سهم المؤلفة على الأصح.
وإنما تعطى المؤلفة عند الاحتياج إليهم، كذا قيده في (الكفاية)، وجرى عليه الماوردي وغيره، وقال الشيخ أبو محمد في (الفروق): إلا أن تدعو الحاجة إليه ويقتضيه اجتهاد الإمام، ويشترط أن يقسم الإمام، فإن قسم رب المال .. سقط سهمهم.
وحصر المؤلف (المؤلفة) في هذين خلاف الصحيح عند الشيخين، بل هم أربعة أصناف: هذان.
وَ (الرِّقَابُ): الْمُكَاتَبُونَ
ــ
والثالث: من يقاتل من يليه من الكفار.
والرابع: من يقاتل من يليه من مانعي الزكاة ويحملها إلى الإمام، ولهذا قال في (شرح المهذب): ما صححه الرافعي من الصرف إلى الأربعة هو الصحيح.
قال: (و (الرقاب): المكاتبون) هذا قول أكثر فقهاء الأمصار.
وقال مالك وأحمد يشترى عبيد ويعتقون.
لنا: أن الله تعالى جعلها في الرقاب لا في السادة، وأن سائر الأصناف يستحقون الأخذ فكذا المكاتب، ولو أريد العتق .. لأتى بلفظ التحرير كالكفارة، ولأنهم قرنوا بالغارمين الآخذين؛ لما في ذمتهم، كما قرن الفقراء والمساكين؛ لاشتراكهما في الحاجة، وسبيل الله وابن السبيل؛ لأخذهما لمعنى مستقل.
فروع:
إنما يعطى المكاتب كتابة صحيحة كما ذكره المصنف في بابها، وأن لا يكون معه ما يفي بالنجم، وحيث صحت كتابة بعض عبد كما إذا أوصى بكتابته فلم يخرج من الثلث إلا بعضه ولم تجز الورثة وهو الأصح .. فإنه لا يعطى؛ لانضمام ما يأخذه إلى القدر الرقيق.
وفي ثالث استحسنه الرافعي: إن كان بينهما مهايأة .. صرف إليه في نوبته، وإلا .. فلا.
وليس للسيد صرف زكاته إلى مكاتبه في الأصح، ويجوز الصرف إليه بغير إذن السيد، وكذا قبل الحلول في الأصح، كذا صححه الشيخان، وسيأتي عن المصنف في نظيره من الغارم تصحيح خلافه.
وَ (الْغَارِمُ): إِنِ اسْتَدَانَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ .. أُعْطِيَ. قُلْتُ: الأَصَحُّ: يُعْطَى إِذَا تَابَ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
ويجوز الدفع إلى السيد إذا أذن المكاتب، وهو أولى إذا حصل العتق به، وإلا .. فالمكاتب أولى؛ ليتجر فيه ليحصل له العتق، وإذا استغنى عنه بتنجيز عتق أو إبراء ونحوه .. استرد في الأصح، فإن تلف بعد العتق أو البراءة .. غرمه، أو قبله .. فلا في الأصح، وإن عجز .. استرد، فإن تلف .. غرمه في الأصح في ذمته، وقيل: في رقبته، ولو استمر على الكتابة وتلف المأخوذ في يده .. وقع الموقع.
قال: (و (الغارم): إن استدان لنفسه في غير معصية .. أُعطي)؛ لقوله تعالى: {وَالغَارِمِينَ} سواء كان طاعة كالاقتراض للحج والجهاد والنكاح حيث يستحب أم مباحًا كالنكاح حيث لا يستحب، أو النفقة أو الكسوة غير الواجبة التي خلت عن الإسراف، وكذلك المكاتب إذا استدان ووفى النجوم .. فإنه يعطى من سهم الغارمين.
فإن كان في معصية .. قال الرافعي: كثمن الخمر والإسراف في النفقة الخارج عن العادة فيما لا يكسب حمدًا ولا أجرًا .. لم يعط قبل التوبة، وفيه وجه غريب.
وتمثيله الاستدانة في المعصية بشراء الخمر فيه نظر؛ إذ لا يتصور ذلك إلا بعقد صحيح، فالفاسد لا يعلق بالذمة شيئًا إلا أن يكون إتلافًا محرمًا، فهو الذي يكون دينًا بسببه معصية، فالأولى التمثيل بشراء العنب لذلك.
وأيضًا قد سبق في (الحجر) عدم تحريم الإسراف في المطاعم ونحوها، واختار الشيخ تحريم كل سرف، لكن يرد على المصنف ما لو استدان لمعصية ثم صرفه في طاعة .. فإنه يعطى، وإذا استدان لا لمعصية ثم صرفه فيها .. فإنه يعطى عند الإمام إن تحقق ذلك منه، ولكنا لا نصدقه عند صرفه في معصية أنه ما استدان لها.
قال: (قلت: الأصح: يعطى إذا تاب والله أعلم) أي: مع الفقر؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها.
والثاني: لا يعطى؛ لأنه قد يتخذ التوبة ذريعة ثم يعود.
قال الرافعي: ولم يتعرض الأصحاب هنا لاستبراء حاله ومضي مدة بعد توبته.
وَالأَظْهَرُ: اشْتِرَاطُ حَاجَتِهِ
ــ
قال المصنف: والظاهر ما قاله الروياني أنه إذا غلب على الظن صدق توبته .. أعطي وإن قصرت المدة.
فروع:
إذا استدان لمصلحة عامة كبناء مسجد أو قنطرة أو فكاك أسير .. فهو كالذي استدان لنفسه فيعطى مع الفقر، وكذا الغني بالعقار لا بالناض؛ لأنه متوسط بين مصلحة ذات البين ومصلحة نفسه.
وإذا تحمل قيمة مال تلف .. أعطي مع الغنى على الأصح.
وقيل: لا؛ لأن فتنة الدم أشد.
وإذا مات رجل عليه دين ولا مال له .. لم يقض من سهم الغارمين في أصح الوجهين.
قال: (والأظهر: اشتراط حاجته) فلو وجد ما يقضي الدين منه من نقد وغيره .. لم يعط من الزكاة؛ لأنه يأخذ لحاجته إلينا لا لحاجتنا إليه كالمكاتب وابن السبيل.
والثاني - ونصه في القديم -: لا تشترط حاجته، بل يعطى مع الغنى؛ لعموم الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق عليه فأهداها المسكين للغني) رواه أبو داوود وابن ماجه.
وقال الماوردي: محل القولين إذا كان غنيًا بغير النقدين، فإن كان غنيًا بأحدهما .. لم يعط قطعًا، فلو وجد ما يقضي به بعض الدين .. قضي عنه الباقي، ولو قدر بالكسب .. أعطي في الأصح.
والمراد بـ (الحاجة) هنا: كونه لا يملك شيئًا يتصور صرفه إلى الدين.
دُونَ حُلُولِ الدَّيْنِ. قُلْتُ: الأَصَحُّ: اشْتِرَاطُ حُلُولِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
وقيل: لا يعتبر المسكن والملبس والآنية والفراش، وكذا الخادم والمركب إن اقتضاهما حاله، فيقضى دينه وإن ملك ذلك، وحيث جاز الصرف إليه جاز الدفع إلى الغريم بإذنه، ولا يجوز بغير إذنه.
والفرق بينه وبين المكاتب - حيث جاز الدفع إلى سيده بغير إذنه - أن المكاتب محجور عليه في حق سيده، بخلاف الغارم.
نعم؛ لو حجر على الغارم بالفلس فدُفع إلى غرمائه بالحصص مالٌ .. جاز من غير إذنه؛ لأنه في معنى المكاتب.
وإنما يعطى الغارم إذا بقي الدين، فإن أداه من ماله أو بذل ماله ابتداء .. لم يعط.
وإذا مات قبل قبض الزكاة .. لا يصرف إليه بعد موته شيء من الزكاة بالإجماع، والسبب فيه أن الحي محتاج إلى وفاء دينه، والميت إن كان عصى به أو بتأخيره .. فلا يناسب حاله الوفاء عنه، وإلا .. فهو غير مطالب به ولا حاجة له والزكاة إنما تعطى لمحتاج، بخلاف الأداء عنه لبراءة ذمته والتخفيف عنه بالآخرة، وعلى هذا يحمل حديث أبي قتادة.
قال: (دون حلول الدين) أي: الأظهر أنه لا يشترط أن يكون الدين حالاً، فيعطى قبل محله؛ لأنه مدين في الحال لكن لا مطالبة.
ومقتضى كلام المصنف: أن الخلاف قولان، وهذا لا يلائم تعبيره بعده بـ (الأصح)، لكن الخلاف في (الشرح) وجهان.
قال: (قلت: الأصح: اشتراط حلوله والله أعلم) فلا يعطى إذا لم يحل؛ لأنه غير محتاج إليه في تلك الحالة، والخلاف كالخلاف في نجوم الكتابة إذا لم تحل، ولهذا استشكل على المصنف ترجيحه هنا اشتراط الحلول مع موافقته على عدم اشتراط حلول النجم.
ويمكن الفرق بأن الحاجة إلى الخلاص من الرق أهم، والغارم ينتظر اليسار، فإن لم يحصل .. فلا حبس ولا ملازمة.
أَوْ لإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ .. أُعْطِيَ مَعَ الْغِنَى، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ غَنِيًّا بِنَقْدٍ .. فَلَا
ــ
وفي وجه ثالث: إن كان الأجل يحل في تلك السنة .. أعطي، وإلا .. فلا يعطى من صدقات تلك السنة.
قال: (أو لإصلاح ذات البين .. أعطي مع الغنى) هذا هو النوع الثاني من الغارمين، وهو من غرم لغيره بأن وقع شر أو فتنة بين شخصين أو قبيلتين في قتل أو غيره فاستدان وأعطى الدية أو الأرش، أو تحمله لإخماد الفتنة قاصدًا الإصلاح.
قال الصيمري: إن كان القاتل معروفًا .. لم يعط هذا الدين إلا مع الفقر، وإن لم يعرف .. فيعطى من سهم الغارمين فقيرًا كان أو غنيًا، قال المصنف: وهو ضعيف، فلا تأثير لمعرفته وعدمها، ولهذا أطلق في الكتاب، وسواء كان غنيًا بالناض أو العروض أو العقار؛ لأن المقصود تسكين الثائرة، وهي لا تسكن بتحمل الفقير.
و (البين): الفراق، والبين: الوصل فهو من الأضداد، والمباينة: المفارقة، وتباين القوم: تهاجروا.
والمراد بـ (ذات البين): إصلاح الأحوال التي تباينوا بسببها، ولما كانت ملابسة للبين .. وصفت به، قيل لها: ذات البين كما قيل للأسرار: ذات الصدور.
قال: (وقيل: إن كان غنيًا بنقد .. فلا)؛ إذ ليس في صرفه إلى الدين ما يهتك المروءة.
تنبيه:
أهمل المصنف نوعًا ثالثًا من الغارمين، وهو من لزمه دين بطريق الضمان عن معين لا في تسكين فتنة، فالضامن والمضمون إما أن يكونا موسرين أو معسرين، أو أحدهما موسرًا والآخر معسرًا.
فإن كانا معسرين .. أعطي الضامن ما يقضي به الدين، وقيده ابن الرفعة بما إذا لم يكن سببه معصية، ويجوز صرف ذلك إلى المضمون عنه، قال المتولي: وهو أولى إذا كان الضمان بالإذن.
وإن كانا موسرين، فإن ضمن بإذنه .. لم يعط، أو بغير إذنه .. فالأصح كذلك.
وَ (سَبِيلُ اللهِ): غُزَاةٌ لَا فَيْءَ لَهُمْ، فَيُعْطَوْنَ مَعَ الغِنَى. وَ (ابْنُ السَّبِيلِ): مُنْشِيءُ سَفَرٍ أَوْ مُجْتَازٌ،
ــ
وإن كان المضمون عنه موسرًا والضامن معسرًا، فإن ضمن بإذنه .. لم يعط على الصحيح، أو بغير إذنه .. أعطي.
وإن كان الضامن موسرًا والمضمون عنه معسرًا .. فيجوز أن يعطى المضمون، وفي الضامن وجهان: أشبههما عند الرافعي: لا يعطى.
قال: (و (سبيل الله): غزاة لا فيء لهم) أي: لا اسم لهم في الديوان، إنما يغزون إذا نشطوا (فيعطون مع الغنى)؛ لعموم الآية.
وإنما فسر السبيل بالغزاة؛ لأن استعماله في الجهاد أغلب عرفًا وشرعًا، بدليل قوله تعالى في غير موضع:{يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} .
وإنما سمي الغزو سبيل الله؛ لأن الجهاد طريق إلى الشهادة الموصلة إلى الله، فهو أحق بإطلاق اسم سبيل الله عليه، ويشهد لما قلناه الحديث المتقدم؛ فإنه أرخص للغازي أن يأخذ من الصدقة وإن كان غنيًا.
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغني منهم.
وفسر أحمد (سبيل الله) بالحج فيعطى للحجيج.
أما الذي له اسم في الديوان .. فلا يعطى؛ لأنه لا يجمع بين الفيء والصدقة، لأن المرتزقة أخذوا بدل جهادهم من الفيء .. فلو أخذوا من الزكاة .. لأخذوا بدلين عن مبدل وذلك ممتنع، فإن عدم الفيء .. ففي الصرف لهم قولان: أظهرهما: لا، بل تجب إعانتهم على أغنياء المسلمين؛ إذ تجب عليهم إعانة المرتزقة ليكفوا المسلمين الشر.
قال: (و (ابن السبيل): منشيء سفر) أي: من بلد الزكاة (أو مجتاز) أي: به؛ للآية، أما الثاني .. فبالإجماع، والأول .. بالقياس عليه، فإن المعنى الذي استحق به المستديم للسفر موجود في المنشيء.
وخالف فيه مالك وأبو حنيفة فخصاه بالمجتاز؛ لأن الطريق لا تضاف إلا لمن كان فيها، واختاره الفوراني بناء على منع نقل الزكاة، وهو ضعيف؛ فإنه يأخذ لما بين
وَشَرْطُهُ: الْحَاجَةُ وَعَدَمُ الْمَعْصِيَةِ
ــ
يديه لما مضى فاستويا، وقواه الشيخ عز الدين في (القواعد) فقال: إن المجاز باعتبار ما يؤول إليه مغلوب، والشافعى لا يجمع بينه وبين الحقيقة، فإن من حلف لا يجلس على فراش فجلس على الأرض، أو لا يستند إلى وتد فاستند إلى جبل، أو لا ينام تحت سقف فنام تحت السماء .. لا يحنث؛ لكونه مجازًا مغلوبًا، فلا يجمع بينه وبين الحقيقة، وإنما يجمع بينهما عند التكاثر في الاستعمال، أو التعارض فيه.
وسمي ابن السبيل؛ لملازمته السبيل وهي الطريق، وهو صادق على الذكر والأنثى، والواحد والاثنين والجماعة، ولم يأت في القرآن إلا مفردًا؛ لأن السفر محل الوحدة والانفراد.
قال: (وشرطه: الحاجة) بأن لا يجد ما يبلغه غير الصدقة؛ لأنه إنما يأخذ لحاجته لا لحاجتنا إليه، وقد تقدم أن من كان كذلك .. يأخذ مع الفقر دون الغنى.
ويستوي فيه من لا مال له أصلاً ومن له مال بغير البلد، لكن لو كان ماله ببلد ووجد من يقرضه إلى بلد ماله .. كان له أخذ الزكاة ولا يجب عليه ا?قتراض، قاله ابن كج، وحكى بعض الفقهاء عن نص البويطي خلافه.
فرع:
قال الماوردي: منشيء السفر بالخيار بين سهم الفقراء وسهم المساكين إن كان منهم، وبين سهم أبناء السبيل، وأما المجتاز .. فليس له الأخذ من سهم الفقراء ولا المساكين، وهو تفريغ على منع نقل الصدقة.
قال: (وعدم المعصية)؛ لأن المقصود إعانته والله تعالى قال:} وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ {فيعطى في سفر الطاعة واجبًا كان أو مندوبًا، وكذا المباح كالتجارة والتنزه في أصح الأوجه.
وقال الماوردي: سفر التنزه لا يبيح الإعطاء وإن أباح الترخص.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أما العاصي بسفره كقاطع الطريق والهارب من حق لزمه وهو قادر عليه .. فلا يعطى قطعًا، لكن قال أبو إسحاق: يعطى سد رمقه في الحال لا ما يسافر به إلا أن يبقى منقطعًا به، ويعطى في الرجوع إلى وطنه، ويحتمل أن لا يعطى سد الرمق حتى يتوب كقول الجويني في الميتة، ويقال له: تب وكل.
وألحق الإمام بسفر المعصية السفر لا لقصد صحيح كالهائم، ويوافقه ما في (فتاوى القفال): أنه لا يجوز صرف سهم ابن السبيل إلى الصوفية؛ لأن سفرهم لا غرض فيه.
وإطلاق المصنف يقتضي: أنه يعطى وإن كان قادرًا على الكسب، وحكاه في (شرح المهذب) عن الأصحاب، وهو خلاف ما سبق في الفقير والمسكين من تنزيل الكسب منزلة المال، وكأنهم لم يعتبروه هنا لضرورة الاشتغال بالسفر.
قال الشيخ: وإطلاقهم يقتضي: أنه لا فرق في ابن السبيل بين أن يكون مقصده مسافة القصر أو دونها، وسموه في أحد قسميه غنيًا في بلده، وذكروا في الفقير: أنه لا يسلبه اسم الفقر كون ماله في مسافة القصر، وبين الإطلاقين اختلاف في تسمية ذاك فقيرًا وهذا غنيًا.
فروع:
من عليه زكاة: ليس له أن يساقط من له عليه دين من زكاته، وفيه وجه: أنه يجوز، وبه قال الحسن وعطاء.
ولو قال رب الدين للمدين: أعطني هذا الدينار الذي معك في ديني حتى أرده عليك من زكاتي فأداه إليه .. وقع عن الدين قطعًا، ويتخير الآخذ بين أن يرده عليه من الزكاة أم لا.
ولو قال المديون له: أعطني دينارًا من زكاتك حتى أقضي به دينك ففعل .. أجزأ
وَشَرْطُ آخِذِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذِهِ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ: الإسْلَامُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا مُطَّلبِيًّا،
ــ
عن الزكاة، ويتخير المديون بين أن يدفعه من دينه أم لا.
ولو أعطى مسكينًا زكاة ووعده أن يردها عليه ببيع، أو هبة أو أن يصرفها المزكي فى كسوة المسكين ومصالحه .. لم يجز على الأصح كما لو شرط أن يرده من دينه.
قال: (وشرط آخذ الزكاة من هذه الأصناف الثمانية: الإسلام) فلا تدفع لكافر بالإجماع.
وروي أن عمر جاءه مشرك يلتمس مالاً من الزكاة فلم يعطه وقال: (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) عزاه النووى إلى البيهقي وليس فيه، لكن استأنسوا له بقوله صلى الله عليه وسلم:(تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) يعني: أغنياء المسلمين وفقراءهم، ولأنها عبادة مطهرة فلا تدنس بكافر.
نعم؛ يجوز أن يكون الكيال والحمال والحافظ كفارًا؛ فإنه يصرف إليهم من سهم العامل؛ لأنه أجرة ، ولا خلاف أن الكافر لا يجوز أن يكون عاملاً في الزكاة؛ لأنا إن قلنا: صدقة .. فلا حق له في الصدقة المفروضة، وإن قلنا: أجرة .. فلا يجوز أن ينصب فيها؛ لعدم أمانته كما لا يجوز أن يستعمل على مال يتيم أو وقف.
وقال ابن الرفعة: قد يقال: إن هذا يفارق العمل في جباية مال اليتيم والوقف من جهة أن له فعل ذلك بالإذن، وإن كان لا يجوز .. استحق أجرة المثل، وفي الزكاة إذا فعل ذلك بالإذن أو بغيره .. لا يستحق شيئًا، وسواء في ذلك زكاة الفطر وزكاة المال؛ لعموم الخبر، وخالف أبو حنيفة في زكاة الفطر.
قال: (وأن لا يكون هاشميًا)؛ لأن الزكاة على بني هاشم محرمة لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنا لا تحل لنا الصدقة وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس) رواه الشيخان، وأجمع العلماء على ذلك.
قال: (ولا مطلبيًا)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب
وَكَذَا مَوْلَاهُمْ فِى الأَصَحُ
ــ
شيء واحد) رواه البخاري، وروي:(سي) بالسين المهملة المكسورة، وهو المثل.
وقال أبو حنيفة: لا تحرم على بني عبد المطلب، وسواء منعوا حقهم من خمس الخمس أم لا.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يجوز صرف الزكاة إليهم إذا منعوا حقهم من الخمس، واختاره أبو سعيد الهروي، وبه أفتى محمد بن يحيى، والأكثرون منعوا ذلك؛ لعموم الحديث.
فلو استعمل الإمام هاشميًا أو مطلبيًا في حفظ مال الزكاة أو نقلها .. فله الأجرة، أو في غير ذلك .. لم يحل له سهم العامل على الأصح؛ لما روى مسلم: أن الفضل بن العباس طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عاملاً على الصدقة فقال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد).
وخالف في ذلك القفال والإمام والعبادي، ويجري الخلاف: فيما إذا جعل بعض المرزقة عاملاً.
قال: (وكذا مولاهم في الأصح)؛ لما روى أبو داوود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي رافع مولاه: (إن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم منهم).
وأبو رافع اسمه إبراهيم، كان عبدًا للعباس فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بشره بإسلام العباس .. أعتقه.
والوجه الثاني - وبه قال مالك -: أنها تحل للموالي؛ لأنه لم يصرح في الحديث بالتحريم عليهم، وقد جاء في (البخاري):(ابن أخت القوم منهم) ولا تحرم الصدقة على ابن أخت ذوي القربى بالاتفاق، ولأنهم ليسوا أكفاء لمواليهم في النكاح، كما أنهم لم يلحقوا بهم في استحقاق خمس الخمس.