الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ
ــ
كتاب قَسم الفيء والغنيمة
(القَسم) بالفتح: مصدر قسمت الشيء.
و (الفيء): مصدر فاء يفيء: إذا رجع؛ لأنه مال راجع من الكفار إلى المسلمين.
قال القفال: سمي فيئًا؛ لأن الله تعالى خلق الدنيا وما فيها للاستعانة على طاعته، فمن خالفه .. فقد أغضبه، وسبيله الرد إلى من يطيعه.
و (الغنيمة) فعيلة بمعنى مفعولة، يقال: غنم الغنم يغنم غُنمًا بالضم من الغنم، وهو: الربح؛ لأنها فائدة محققة، وجمعها: غنائم.
وذكر المسعودي وطائفة: أن اسم كل واحد منهما يقع على الآخر، فهما إذا اتفقا .. افترقا، وإذا افترقا .. اتفقا، كاسمي الفقير والمسكين إذا وصى للفقراء والمساكين .. لا يجوز اختصاصه بواحد منهما، وإن وصى لأحدهما .. جاز أن يعطى للآخر.
والأصح: ما جزم به المصنف.
ثم إنه ذكر هذا الباب في هذا الموضع؛ اقتداء بالمزني وغيره، وافتتحه في (المحرر) بقوله تعالى:{ما أفاء اللهُ على رسُوله من أهلِ القُرَى} ، وقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمتُم من شيءٍ} الآيتين.
وكانت الغنائم قبل الإسلام لا تحل لأحد، بل كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا غنموا مالاً جمعوه فتأتي نار من السماء تأخذه، ثم أحلت للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في صدر الإسلام له صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه كالمقاتلين
(الْفَيْءُ): مَالٌ حَصَلَ مِنْ الْكُفَّارِ بِلَا قِتَالٍ وَإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ كَجِزْيَةٍ
ــ
كلهم؛ فإنه نصر بالرعب مسيرة شهر، والرعب منه وحده لم يَشْرَكْهُ فيه أحد من المسلمين، ولأن قوته وشجاعته صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد فهو قائم مقام جميع المقاتلين، وكذا كانت غنائم بدر، ثم نسخ ذلك واستقر الأمر على أن له منها الصفي، فيعطى من الغنيمة ما شاء.
قال: ((الفيء): مال حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب)، التقييد بـ (المال) تبع فيه (المحرر) و (الروضة) وغيرهما؛ جريًا على الغالب، وإلا .. فيرد عليه ما ليس بمال كالكلاب والخمرة المحترمة، وما ينتفع به من النجاسات؛ فهذه لا تسمى مالاً، والمذهب: أنها غنيمة تجري عليها أحكامها، لكن في بعض النسخ:(الفيء: ما حصل من الكفار)، وعلى هذا لا اعتراض.
و (الإيجاف): الإسراع، وقيل: الإعمال.
و (الركاب): الإبل خاصة، واحدها: راحلة من غير لفظها، واجتماع الخيل والإبل ليس بشرط، بل أحدهما كاف في انتفاء حكم الفيء، ولذلك قال تعالى:{ولا ركابٍ} ، فـ (الواو) في كلام المصنف بمعنى (أو)، والتي بين القتال وإيجاف محتملة لمعنى (أو) ولمعنى (الواو) الجامعة.
وقد صرح المصنف في كلامه على (التنبيه) بأن القتال شرط، وأما الإيجاف .. فذكره على الغالب؛ لأنه قد يكون القتال في السفن في البحر ومن الرجالة في البر والحاصل من ذلك غنيمة.
قال: (كجزية)؛ لأنهم إنما يعطونها عن خوف، ولكنه ليس خوفًا ناجزًا، بل هو مستقبل، وقصد بها إثبات عصمة مستدامة، فلذلك عدت مما أخذ من غير خوف، وكذلك الخراج المضروب عليهم.
وَعُشْرِ تِجَارَةٍ وَمَا جَلَوْا عَنْهُ خَوْفَاً، وَمَالِ مُرْتَدٍّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ، وَذِمِّيِّ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ .. فَيُخَمَّسُ،
ــ
قال: (وعشر تجارة وما جَلَوا عنه خوفًا) هذا يقتضي: أن ما جلوا عنه من غير خوف بل لضُرٍّ أصابهم ليس بفيء، ولم يقل به أحد، أو فيءٌ ولا يخمس، والصحيح خلافه، فلو حذف (خوفًا) .. أمن من الاعتراض.
وجوابه: أنه خرج مخرج الغالب، كما في قوله:(بإيجاف خيل وركاب).
وقيد في (الروضة)(الخوف) من المسلمين، وليس بشرط.
قال: (ومال مرتد قتل أو مات)؛ لأنه لا وارث له كما تقدم في بابه.
قال: (وذمي مات بلا وارث) وكذا ما فضل عن وارث له غير حائز، والمعتبر في الإرث إرث الإسلام كما تقدم.
وهذه الأنواع السبعة لا خلاف في إطلاق اسم الفيء عليها، وإنما الخلاف في التخميس كما سيأتي.
قال: (فيخمس)؛ لإطلاق قوله تعالى: {مَّا أفاءَ اللهُ على رَسُولِهِ} الآية، فيجعل خمسة أسهم متساوية كالغنيمة، وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه في الجديد.
ودليله فيه: ما رواه الشيخان عن عمر رضي الله عنه قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين، وكان ينفق منها على أهل بيته، فما فضل منها جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله).
قال الشافعي رضي الله عنه: ومعنى قول عمر رضي الله عنه: (فكانت له خاصة) يريد: ما كان للمؤمنين لو أوجفوا، وهي الأربعة الأخماس، أما الخمس .. فلأهل الخمس بدليل الآيتين.
وقال ابن المنذر: إن هذا شيء انفرد به لا نعلم أحدًا قال به قبله؛ أن الفيء يخمس.
ومذهب الأئمة الثلاثة - وهو القديم -: أنه لا يخمس، بل جميعه لمصالح المسلمين، احتجوا بقوله تعالى:{مَّا أفاءَ اللهُ على رَسُولِهِ} الآية، ولم يخمس.
وَخُمُسُهُ لِخَمْسَةٍ: أَحَدُهَا: مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ كَالْثُّغُورِ وَالْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ،
ــ
قلنا: أطلق هاهنا وقيد في الغنيمة فحمل المطلق على المقيد جمعًا بينهما؛ لاتحاد الحكم، واختلاف السبب، فإن الحكم واحد وهو رجوع المال من المشركين للمسلمين، إلا أنه اختلف سببه بالقتال وعدمه كما حملنا الرقبة في الظهار على المؤمنة في كفارة القتل.
قال: (وخمسه لخمسة) كخمس الغنيمة المدلول عليه بقوله تعالى: {واعْلمُوا أنَّما غَنِمتُم من شَيءٍ} الآية، فيقسم مال الفيء أولاً على خمسة أقسام متساوية، ثم يؤخذ منها سهم يقسم خمسة أسهم فتكون القسمة من خمسة وعشرين، هكذا كان يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له الأخماس الأربعة وخمس الخمس الآخر، فله أحد وعشرون سهمًا ينفق منها على نفسه وعياله ويدخر مؤنة سنة، وما بقي يصرفه في المصالح، كذا قاله الجمهور.
وقال الغزالي وغيره: كان الفيء جميعه له صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، وإنما خمس بعد موته، وما جزم به المصنف هو المذهب.
وفي قول: جميع الفيء لخمسة؛ لظاهر آية (الحشر).
وأجاب الأول بأن المراد: يقسم الخمس منه لخمسة كخمس الغنيمة، والباقي لمن أضيف له في صدرها وهو النبي صلى الله عليه وسلم، كما بقيت الأخماس الأربعة للمقاتلين الذين أضيف إليهم في صدر آيتهم بقوله:{غَنِمتُم} .
قال: (أحدهما)؛ يعني: أحد الخمسة التي يقسم عليها خمس الفيء (مصالح المسلمين كالثغور)، وهي: مواضع المخافة من أطراف بلاد المسلمين الملاصقة لبلاد المشركين، والمراد: سدها بالرجال والعدد وإصلاحها؛ لأن بها يحفظ المسلمون.
قال: (والقضاة والعلماء)، وكذلك الأئمة والمؤذنون، وكذا كل من يفعل أمراً تعود منفعته على المسلمين ولو اشتغل بالكسب لتعطل عنه، كالمشتغل بالعلوم
يُقَدَّمُ الْأَهَمُّ
ــ
الشرعية، والقيام بالحسبة، ونواب القضاة والولاة، ونحوهم.
وأشار بهذا إلى: أن مصرفه مصرف القرب لا مصرف قضاء الشهوات كما يفعله الملوك.
والمراد: قضاة البلاد، وأما الذين يحكمون بين أهل الفيء وهم قضاة العسكر .. فإنما يرزقون من الأخماس الأربعة، قاله الماوردي وغيره، قال: وكذا أئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم، وهؤلاء يجوز أن يعطوا مع الغنى، ويختلف بضيق المال وسعته، كذا حكاه المصنف في (البيع) من (شرح المهذب).
وهذا السهم هو المضاف لله ورسوله في قوله تعالى: {فَلِلَّهِ وللرَّسُولِ} أضيف لله على جهة التبرك والابتداء باسمه؛ لأنا لو لم نصرفه إلى هذه القرب .. لكانت السهام ستة.
وقال أبو العالية: سهم الله تعالى يصرف إلى الكعبة، ومن هذا النوع بناء القناطر التي يجتاز عليها والحصون والمساجد، والمشهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم ملك هذا الخمس ولكنه جعل نفسه فيه كغيره تكرمًا، ولا يورث عنه بل هو بعده للمصالح.
وفي وجه: أن سهمه صلى الله عليه وسلم سقط بعد وفاته وبقيت القسمة على أربعة.
وقيل: يصرف إلى خليفة الزمان، حكاه في (الوسيط)، وإنما حكاه إمامه قولاً لبعض العلماء، والنقلان شاذان.
قال: (يقدم الأهم) أي: وجوبًا، وهو سد الثغور؛ لأنه تتعلق به مصلحة عامة.
فلو لم يدفع السلطان إلى المستحقين حقهم من بيت المال .. فهل لأحدهم أخذ شيء منه؟ حكى في (الإحياء) فيه أربعة مذاهب للعلماء:
أحدها: المنع؛ لأنه مشترك ولا يدري نصيبه منه حبة أو دانقًا أو غيرهما، قال: وهذا غلو.
وَالْثَّانِي: بَنُو هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ؛
ــ
والثاني: يأخذ قوت يومه فقط.
والثالث: كفاية سنة.
والرابع: ما يعطى وهو حصته والباقون مظلومون، قال: وهو القياس؛ لأن المال ليس مشتركًا كالميراث، ولذلك لو مات لا يصرف إلى ورثته، وبالأول جزم الشيخ عز الدين في (القواعد).
قال: (والثاني: بنو هاشم والمطلب)؛ لقوله تعالى: {وَلذِي القُربى)، وهم: آل النبي صلى الله عليه وسلم دون من في درجتهم من بني عبد شمس وبني نوفل وإن كانا ابني عبد مناف أيضًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أولئك ومنع هؤلاء، فسئل عن ذلك، فقال:(أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد) وشبك بين أصابعه، رواه البخاري.
وروي: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام).
فهاشم والمطلب شقيقان، وذووا قربى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقةً هم بنو هاشم؛ لأنه جد النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخل معهم صلى الله عليه وسلم بني المطلب؛ لأنهم لم يفارقوا بني هاشم في جاهلية ولا إسلام.
ولهما شقيق ثالث، وهو عبدُ شمسَ جدُّ عثمان بن عفان، كان متحداً مع أخيه لأبيه نوفل جد جبير بن مطعم، فلم يدخلا في ذوي القربى وإن شملهما اسمها، أما عبدُ شمسَ .. فواضح، وأما نوفل .. فأخرجه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(نحن وبنو المطلب شيء واحد).
والاعتبار بالانتساب إلى الآباء، أما من انتسب منهم إلى الأمهات .. فلا؛ لأنه عليه الصلاة السلام لم يعط الزبير وعثمان وأم كل منهما هاشمية، لكن يستثنى من ذلك: أولاد بنات النبي صلى الله عليه وسلم كأمامة بنت أبي العاص بن الربيع وعبد الله بن عثمان من بنته رقية، وهما من ذوي القربى بلا شك؛ لأن من خصائص
يَشْتَرِكُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَالْنِّسَاءُ، وَيفَضَّلُ الْذَّكَرُ [كَالإِرْثِ]
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم انتساب أولاد بناته إليه، بخلاف غيره.
وعبارة المصنف موافقة لعبارة (المحرر)، وكأنهما اكتفيا بالعلم بأنه لا يتصور أن يكون بنو أحدهما بني الآخر، والعبارة المستقيمة: بنو هاشم وبنو المطلب.
قال: (يشترك الغني والفقير)؛ للاشتراك في العلة، ولإطلاق الآية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي العباس منه وهو من أيسر قريش.
وفي وجه شاذ: يختص بفقرائهم كاليتامى، وعلى الأصح: يسوى بينهم.
وقال الإمام: إنما يعطى الغني عند سَعة المال؛ فإن كان الحاصل إذا وزع لا يسد مسدًا .. قدم الأحوج، وتكون الحاجة مرجحة، وإن لم تكن معتبرة، ولا فرق بين الصغير والكبير وإن كانت النصرة لا توجد من الصغير.
قال: (والنساء)؛ لأن الزبير كان يأخذ منه سهم أمه صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصديق يدفع لفاطمة منه.
وفي (النسائي): أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم يوم حنين لصفية من ذوي القربى، ولولا ذلك .. لم يدفع لهن؛ لأن الآية لا تدل إلا على الصرف للذكور، فإن (ذوي) تختص بهم.
قال: (ويفضل الذكر (كالإرث))؛ لأنه عطية من الله تعالى فأشبه الإرث، ولأن معنى النصرة يراعى فيه مع القرابة، ولذلك دخل بنو المطلب؛ لنصرتهم لبني هاشم ودخولهم معهم الشعب، والمرأة فيها نصرة، ولكن نصرة الرجل أكثر ففضل على الأنثى.
وكأنهم عوضوا بذلك عن إرثهم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يورث.
وقال المزني: لا يفضل الذكر على الأنثى كالوصية للأقارب يسوى فيها بين الذكر والأنثى، وبه قال أبو ثور، وصححه ابن المنذر وجماعة، وقواه الشيخ؛ لأن الجد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يأخذ مع الأب، وابن الابن مع الابن، فدل على أنه ليس كالإرث.
وعلم من قوله: (كالإرث) أنه لا يفضل كبير على صغير، ولا ذكر على ذكر، ولا أنثى على أنثى، لكن يسوى بين من أدلى بجهتين ومن يدلي بجهة، خلافًا للقاضي حسين؛ فإنه فضل المدلي بهما على المدلي بجهة كما يقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب، والصحيح: أنه يعم بالعطاء الحاضر في موضع حصول الفيء والغائب عنه، لأنه يستحق بالقرابة.
وقيل: يدفع ما يحصل في كل إقليم إلى من فيه منهم؛ لما في النقل من المشقة فالتحق بالزكاة.
ويجري مثل هذا الخلاف في اليتامى والمساكين، فيفرق على أيتام جميع البلاد ومساكينهم على الصحيح، لأن صاحب ذلك الوجه - وهو أبو إسحاق - يؤدي قوله إلى حرمان بعضهم، وهو مخالف للآية، وخالف الزكاة؛ فإن المشقة ممنوعة هنا في حق الإمام، فإنه متمكِّن من ضبط ذلك في كل إقليم.
فروع:
للإمام أن يبيع العروض الحاصلة من أموال الفيء ويفرقه إذا رأى فيه مصلحة، إلا نصيب ذوي القربى؛ فإن بيعه يتوقف على إذنهم، لانتقاله إليهم على سبيل الميراث، ولا يعطي من سهم ذوي القربى لمواليهم.
ومن ادعى: أنه منهم .. لا يعطى إلا أن يعرف ذلك باستفاضة أو يثبت ببينة.
وحكى الماوردي في (كتاب العاقلة) عن الأكثرين: أن من ادعى: أنه من قريش .. تسمع دعواه.
وأفهمت عبارة المصنف: أنهم لو أعرضوا عن سهمهم .. لم يسقط، وهو الأصح، وقد ذكره المصنف في (السير).
وَالثِّالِثُ: الْيَتَامَى، وَهوَ: صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ، وَيُشْتَرَطُ فَقْرُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ
ــ
قال: (والثالث: اليتامى)؛ للآية، وإنما يستحق هذا السهم أيتام المسلمين؛ لأنه مال أخذ من الكفار فيختص المسلمون به.
قال: (وهو: صغير لا أب له) ذكرًا كان أو أنثى، سواء كان له جد أم لا، من أولاد المرتزقة أم غيرهم، قتل أبوه في الجهاد أم لا على الصحيح في الجميع، فوصف الصغير لابد منه؛ إذ لا يتم بعد احتلام.
وقوله: (لا أب له) يخالفه ما وقع في (الروضة) في (باب النكاح): أن اليتيمة هي التي لا جد لها، وكأنه سبق قلم، والصواب المذكور هنا.
وقال الغزالي: لا كافل له، وهو محمول على ذلك.
و (اليتم): الانفراد، ومنه: الدرة اليتيمة، وحق هذا الاسم أن يطلق على الكبار والصغار، إلا أنهم نفوه عمن بلغ واستقل؛ لقوله عليه الصلاة السلام:(لا يتم بعد احتلام).
وأما ما روي عن الشعبي: أن امرأة أتت إليه فقالت: إني امرأة يتيمة، فضحك منها أصحابه، فقال:(صدقت؛ النساء كلهن يتيمات) .. فإنما أراد بذلك ضعفهن.
وقال ابن السكيت وغيره: اليتم في الناسِ من قبَل الأب، وفي البهائم من قبل الأم.
قال ابن خالويه: وفي الطير بفقد الأب والأم؛ لأنهما يحضنانه ويرزقانه.
و (اللطيم): الذي يموت أبواه، و (العجي): الذي تموت أمه.
وشملت عبارة المصنف: ولد الزنا؛ فإنه لا أب له، لكن كان من حقه أن يقيده بالمسلم كما تقدم.
قال: (ويشترط فقره على المشهور)؛ لأن لفظ اليتم يشعر بالحاجة، وكأنهم أعطوا بدلاً عما فاتهم من كفالة الآباء.
وَالْرَّابِعُ وَالْخَامِسُ: الْمَسَاكِينُ وَابْنُ الْسَّبِيلِ
ــ
وقول المصنف: (يشترط فقره) المراد: في إعطائه لا في تسميته، ولو عبر بالمسكنة .. كان أشمل، ولأنه لو اشترط .. لم يفد التنصيص عليه؛ لدخوله في المساكين، ورد بأن الفائدة عدم الحرمان.
والثاني: لا يشترط فيشترك فيه الفقير والغني كذوي القربى؛ لإطلاق الآية، ولأنه لو اشترط فيهم الفقر .. لدخلوا في جملة المساكين ولم يكن للتنصيص عليهم فائدة.
وأجاب ابن الرفعة بأن الفائدة عدم حرمانهم.
وتعبيره بـ (المشهور) يقتضي ضعف الخلاف، وهو مخالف لقول القاضي حسين: إن الثاني مذهب عامة الأصحاب، وكان ينبغي أن يعبر بالأظهر، والمذهب: أنه يجب استيعابهم.
وقال أبو إسحاق: يجب صرف ما حصل في كل إقليم إلى من فيه منهم كما قاله في الأقارب، ومن ادعى: أنه يتيم .. لم يعط إلا ببينة.
قال: (والرابع والخامس: المساكين وابن السبيل)؛ للآية، وسيأتي في كتاب (قسم الصدقات) بيان حقيقة الفقير والمسكين والفرق بينهما، وذلك عند ذكرهما معًا، فأما عند ذكر أحدهما خاصة .. فيتناول القسمين.
ولا فرق بين أن يكونوا من المرتزقة وغيرهم على المذهب، ولكن يشترط فيهم: أن يكونوا مسلمين، فلا يعطى الكافر من الخمس شيئًا، إلا من سهم المصالح؛ فإنه يعطى منه الكافر عند وجود المصلحة.
قال الماوردي: ويجتهد الإمام رأيه في التسوية والتفضيل بحسب الحاجة، ويجوز له أن يجمع لهم بين سهمهم من الزكاة وسهمهم من الخمس وحقهم من الكفارات، فيصير لهم ثلاثة أموال، وتجب التسوية بينهم حتى بين الذكر والأنثى، وإذا اجتمع في واحد يتم ومسكنة .. أعطي باليتم دون المسكنة؛ لأن اليتم وصف لازم والمسكنة زائلة.
وَيَعُمُّ الأَصْنَافَ الأَرْبَعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالحَاصِلِ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ فِيهَا مِنْهُمْ. وَأَمَّا الأَخْمَاسُ الأَرْبَعَةُ فالأَظْهَرُ: أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ - وَهُمُ: الأَجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ-
ــ
وقيل: يشترط في ابن السبيل هنا الحاجة بخلاف الزكاة، ومن فقد من الأصناف الأربعة .. فرق نصيبه على الباقين.
قال: (ويعم الأصناف الأربعة المتأخرة)؛ لعموم الآية وصدق الاسم كالميراث، فيعطى الحاضر والغائب عن موضع حصول الفيء؛ إذ لا مشقة في ذلك، لأن الإمام هو الذى يقسم، وهو قادر على ذلك بأمر أمنائه في كل إقليم بضبط من فيه.
قال: (وقيل: يختص بالحاصل في كل ناحية من فيها منهم)؛ لما في النقل من المشقة فالتحق بالزكاة، وهذا قد تقدمت الإشارة إليه.
ولا يجوز الاقتصار على ثلاثة من كل صنف كالزكاة إذا فرق الإمام، ويجوز أن يفاوت بين اليتامى وبين المساكين وأبناء السبيل؛ لأنهم يستحقون بالحاجة فتراعى، بخلاف ذوي القربى؛ فإنهم يستحقون بالقرابة، ومن ادعى فقرًا أو مسكنة .. قبل قوله بلا بينة.
قال: (وأما الأخماس الأربعة) وهي التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته (فالأظهر: أنها للمرتزقة - وهم: الأجناد المرصدون للجهاد-)؛ لأنها كانت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم له لحصول النصرة به كما تقدم، وبعده جند الإسلام هم المرصدون للنصرة وإرعاب الكفار.
والمراد: الذين أرصدوا للجهاد بتعيين الإمام وإثباتهم في الديوان، بخلاف المتطوعة الذين يغزون إذا شاؤوا، ويقعدون إذا شاؤوا، فهؤلاء يعطون من الزكاة لا من الفيء عكس المرتزقة.
نعم؛ إذا لم يف الفيء بحاجتهم وليسوا أغنياء .. فللإمام أن يصرف إليهم من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن هذه الأخماس الأربعة للمصالح كخمس الخمس.
فَيَضَعُ الإِمَامُ دِيوَانًا، وَيَنْصِبُ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ عَرِيفًا،
ــ
والثالث: أنها تقسم كما يقسم الخمس، ونسبه الإمام إلى التقديم.
و (الأجناد): الأعوان والأنصار، واحدهم: جندي.
قال: (فيضع الإمام ديوانًا)؛ اقتداء بعمر رضي الله عنه، فهو أول من وضعه في الإسلام.
و (الديوان) بكسر الدال: الدفتر الذي تكتب فيه الأسماء.
وقيل: الكُتّاب الذين يضبطون الأسماء، سمي مكانهم باسمهم، وهو فارسي معرب، وقيل: عربي.
قيل: أول من سماه بذلك كسرى؛ لأنه اطلع يومًا على ديوانه وهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانة؛ أي: مجانين، فسمي موضع قعودهم: ديوانًا.
فإن قيل: هذا لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر رضي الله عنه فهو بدعة وضلالة .. فالجواب: أن هذا أمر دعت الحاجة إليه واستحسن بين المسلمين، وقال صلى الله عليه وسلم:(ما رآه المسلمون حسنًا .. فهو عند الله حسن).
قال: (وينصب لكل قبيلة أو جماعة عريفًا)؛ ليجمعهم عند الحاجة إليهم، ويسهل عليه ما يريده منهم، ويعرفه بأحوالهم، ويرجع إليه الإمام في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة هوازن:(ارجعوا حتى أسأل عرفاءكم) وكان قد عرف على كل عشرة عريفًا.
وهذا النصب مندوب لا واجب، كما أفاده في زيادات (الروضة)، وبه صرح الإمام.
وروى البيهقي وغيره عن جابر قال: (لما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة .. فرض الفرائض، ودوّن الدواوين، وعرف العرفاء).
وَيَبْحَثُ عَنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ وَعِيَالِهِ وَمَا يَكْفِيهِمْ، فَيُعْطِيهِ كِفَايَتَهُمْ
ــ
وروى أبو داوود وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العرافة حق ولابد للناس منها، ولكن العرفاء في النار) حذر بذلك عن التعرض للرئاسة؛ لما في ذلك من الفتنة، لأنه إذا لم يقم بحقها .. أثم واستحق النار.
و (العريف) فعيل بمعنى: فاعل، وهو: الذي يعلم دخيلة القوم ويعرف مناقبهم، وجمعه: عرفاء، قال الجوهري: وهو النقيب، وهو دون الرئيس، تقول منه: عَرُف فلان بالضم عرافة.
وقال الماوردي وغيره: النقيب أكبر من العريف، فالنقيب يكون على طائفة من العرفاء.
وفي (مسند الدرامي): قال عطاء بن يسار: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة، ومعناه: أنهم رؤساء أهلها.
قال: (ويبحث) أي: الإمام وجوبًا (عن حال كل واحد وعياله وما يكفيهم، فيعطيه كفايتهم)؛ ليتفرغ للجهاد، ويراعي في حاجتهم الزمان والمكان، والرخص والغلاء، وعادة الشخص مروءةً وضدها، ويزداد كلما ازدادت الحاجة؛ بزيادة ولد، وزيادة عدد، وحدوث زوجة ولو إلى أربع، فيكفيه هذه المؤنات؛ ليتفرغ للجهاد، ويدفع ذلك إليه، وفي قول: يتولى الإمام تعهد عياله بنفسه.
ويعطى أيضًا: مؤنة عبد يقاتل معه أو يخدمه، إن كان ممن يخدم ولا يزاد على واحد إن اندفعت الحاجة به، وإلا .. فيزاد، ويعطيه مؤنة فرسه إن كان ممن يركب في الحرب.
وقال ابن الرفعة: أما أمهات الأولاد فلا يعطي إلا لواحدة منهن؛ لأنهن غير محصورات، بخلاف الزوجات، والحاجة تندفع بواحدة.
ثم ما يصرفه إليه لزوجته وولده هل يملكه هو ويصير إليهم من جهته، أو لا يملكه بل الملك حصل لهم من الفيء؟ وجهان: أصحهما: الثاني.
وَيُقَدِّمُ فِي إِثْبَاتِ الاِسْمِ والإِعْطَاءِ قُرَيْشًا-
ــ
فرع:
نص الشافعي رضي الله عنه: على أنه يسوي بين المرتزقة، ومعناه: أنه يعطي كل واحد قدر حاجته، ولا يفضل بعضهم على بعض بالسبق إلى الإسلام أو الهجرة له أو لآبائه ولا علم ولا ورع ولا شرف نسب، بل يعطي كل واحد على قدر حاجته، ويسوي بين الشريف وغيره، كما يسوي في الإرث بين البار والعاق، وفي الغنيمة بين الشجاع والجبان؛ لأنهم مرصدون للجهاد.
وكذا حَكَم أبو بكر وعلي رضي الله عنهما.
وإلى التفضيل ذهب عمر وعثمان رضي الله عنهما، ثم رجع عمر إلى قول أبي بكر، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأبي بكر رضي الله عنه:(أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم كمن دخل الإسلام كرهًا؟!) فقال أبو بكر رضي الله عنه: (إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ).
فلما آل الأمر إلى عمر رضي الله عنه فاضل بينهم بحسب الفضائل؛ ترغيبًا للناس فيها؛ فأعطى المهاجرين خمسة آلاف، والأنصار أربعة آلاف، وفضل عائشة رضي الله عنها على ابنته حفصة رضي الله عنها، وقال:(إن أباها كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى عائشة رضي الله عنها اثني عشر ألفًا، وأعطى بقية نسائه العربيات عشرة آلاف درهم لكل واحدة، وأعطى صفية وجويرية ستة ستة؛ لأنهما كانتا معتقتين، وأعطى كلاً من علي والعباس ستة آلاف، وأعطى الحسن والحسين أربعة أربعة، وأسامة بن زيد ألفين، وولده عبد الله ألفًا وخمس مئة فقال: (أتفضل عليَّ أسامة؟!) قال: (نعم؛ لأنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وأبوه أحب إليه من أبيك).
قال: (ويقدم في إثبات الاسم والإعطاء قريشًا)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
وَهُمْ وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ - وَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ ثُمَّ عَبْدِ شَمَسَ ثُمَّ نَوْفَلٍ ثُمَّ عَبْدِ الْعُزَّى
ــ
(قدّموا قريشًا ولا تَقَّدموها) رواه ابن أبي شيبة والطبراني والطيالسي والشافعي، وقال ابن حزم: إسناده صحيح.
ولأنهم تشرفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} .
وسموا قريشًا؛ لتقرشهم، وهو تجمعهم، وقيل: لشدتهم.
قال: (وهم ولد النضر بن كنانة)، هذا قول أكثر النسابين، واسم النضر: قيس.
وقيل: إنهم أولاد إلياس.
وقيل: أولاد مضر بن نزار.
وقيل: ولد فهر بن مالك، قال البيهقي: إنه قول أكثر أهل العلم، واختاره الحافظ الدمياطي والشيخ، قالا: ولا يكاد يظهر تفاوت بين القولين.
قال: (ويقدم منهم بني هاشم)؛ لأن الله تعالى شرفهم بكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، واسم هاشم عمرو، وسمي بذلك؛ لأنه هشم الثريد لقومه، قال الشاعر (من الكامل):
عمرو الذي هشمَ الثريدَ لقومه
…
...
…
وبطون مكة مسنتون عجاف
قال: (والمطلب)؛ لتسويته صلى الله عليه وسلم بينهما، وفيه ما سبق.
قال: (ثم عبد شمسَ)؛ لأنه شقيق هاشم والمطلب، والمراد: ثم بني عبد شمس، ويقرأ عبد شمسَ بفتح آخره؛ فإنه لا ينصرف للعلمية والتأنيث، حكاه في (العباب) عن الفارسي.
قال: (ثم نوفل)؛ لأنه أخوهم لأبيهم عبد مناف.
قال: (ثم عبد العزى)، وهو ابن قصي أخو عبد مناف، ومنهم الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، وأيضًا هو أصهار النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن خديجة بنت خويلد بن عبد العزى.
ثُمَّ سَائِرَ الْبُطُونِ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ الأَنْصَارَ،
ــ
ثم بعد عبد العزى بني عبد الدار، وهما ابنا قصي.
قال: (ثم سائر البطون الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل الشرف والخير في القرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقدم بعد عبد الدار بني زهرة بن كلاب، وهو أخو قصي، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، ثم بنو تيم، ومنهم أبو بكر وطلحة رضي الله عنهما، وقدموا على بني مخزوم؛ لأن عائشة رضي الله عنها منهم، وهكذا.
قال: (ثم الأنصار) أي: بعد انتهاء قريش يقدم الأنصار من الأوس والخزرج؛ لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ} ، ولأن لهم من الأثر في الإسلام ما ليس لغيرهم؛ فإنهم آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وآثروه وأصحابه على أنفسهم في المنازل والأموال، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث طويل:(لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، والأنصار شعار والناس دثار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا .. لسلكت وادي الأنصار وشعبها).
وفي (صحيح البخاري) في (كتاب المغازي) عن أنس أنه قال: (قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون).
وفيه أيضًا عن غيلان بن جرير قال: (قلت لأنس بن مالك: أرأيت اسم الأنصار أكنتم تسمون به أم سماكم الله به؟ قال: بل سمانا الله تعالى به).
وروى أحمد عن أنس: أن الأنصار اجتمعوا فقالوا: إلى متى نشرب من هذه الآبار، فلو أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو لنا أن يفجر الله لنا من هذه الجبال عيونًا، فجاؤوا بجماعته إليه صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم
…
قال: (مرحبًا وأهلاً، لقد جاء بكم إلينا حاجة؟) قالوا: إي والله يا رسول الله، قال:
ثُمَّ سَائِرَ الْعَرَبِ،
ــ
(فإنكم لن تسألوني اليوم شيئًا إلا أوتيتموه، ولا أسأل الله شيئًا إلا أعطانيه)، فأقبل بعضهم على بعض وقالوا: الدنيا تريدون! اطلبوا الآخرة، فقالوا بجماعتهم: يا رسول الله؛ ادع الله أن يغفر لنا، فقال:(اللهم؛ اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار) قالوا: وأولادنا من غيرنا، قال:(وأولادكم من غيركم) قالوا: يا رسول الله؛ وموالينا، قال:(وموالي الأنصار).
وفي (ابن حبان) مرفوعًا: (اللهم؛ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء أبناء الأنصار، ولنساء أبناء أبناء الأنصار).
وفي (الطبراني الكبير) من حديث معاذ بن رفاعة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم؛ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولذراريهم، ولجيرانهم).
وفيه من حديث ابن عباس مرفوعًا: (لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يحب ثقيفًا رجل يؤمن بالله واليوم الآخر).
وفي (ابن حبان): (اللهم؛ اغفر للأنصار، ولذراريهم، ولذراري ذراريهم، ولموالي الأنصار، ولجيرانهم).
فائدة:
في الصحابة ثلاثة مهاجرون أنصاريون: ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب، والعباس بن عبادة بن نضلة، لا رابع لهم.
قال: (ثم سائر العرب)؛ لأنهم أشرف من العجم وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
ثُمَّ الْعَجَمَ
ــ
قال الرافعي: كذا رتبوه، وحمله السرخسي على من هم أبعد من الأنصار، فأما من هو أقرب من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فمقدمون.
وفي (الحاوي): يقدم بعد الأنصار مضر، ثم ربيعة، ثم جميع ولد عدنان، ثم قحطان.
قال: (ثم العجم)؛ لتأخرهم عن العرب، والتقديم فيهم بالسن والفضيلة لا بالنسب، وهذا التقديم مستحب لا واجب؛ فإن استوى اثنان في القرب .. قدم أسنهما، فإن استويا فيه .. فأقدمهما إسلامًا وهجرة.
قال: وقد أطلقوا هنا تقديم النسب على السن، بخلاف المرجح في إمام الصلاة، فليتأمل الفرق.
وفرق غيره؛ بأن دعاء الأسن أقرب إلى الإجابة، فقدم لذلك.
وعكس الماوردي ترتيب الرافعي، قال في (الروضة): وهو المختار.
ثم يقدم الشجاعة، ثم ولي الأمر بالخيار بين أن يرتبهم بالقرعة أو برأيه واجتهاده، ونص في (الأم) و (المختصر) على: أن التقديم بالسابقة عند التساوي.
فإن قيل: قال الله تعالى: {إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقاكم} ، وقال صلى الله عليه وسلم:(لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى)، وقال يوم فتح مكة:(إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها بالآباء، إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله) ثم قرأ الآية، فلم فضلتم العرب على العجم .. فالجواب: أن هذا في الزجر عن الازدراء بالناس والتحقير لهم والاستطالة بالنسب على من ليس بنسيب، وأيضًا الأنساب اعتبرت في الدنيا لصلاح أحوال الخلق، وأما في الآخرة .. فينقطع الاحتياج لتلك المصالح
وَلَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ أَعْمَى وَلَا زَمِنا وَلَا مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ. وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَالُهُ .. أُعْطِيَ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ .. فَالأَظْهَرُ: أَنَّهُ يُعْطَى،
ــ
ولا يبقى إلا التقوى، وأشير إلى ذلك بقوله تعالى:{عند الله} .
فإن قيل: التقوى من الأعمال، والعلم أشرف من العمل، فهلا قيل: الأكرم الأعلم؟ .. فالجواب: أن الأعلم هو الأتقى، وإنما ينفع العلم بالعمل، فكان ذكر الأتقى مستلزمًا لذكر الأعلم ومنبهًا لحصول نتيجة العلم ومقصوده من العمل.
قال: (ولا يثبت في الديوان أعمى ولا زمنًا ولا من لا يصلح للغزو)؛ إذ لا كفاية فيهم، ولا يثبت اسم صبي، ولا مجنون ولا امرأة ولا عبد لا ضعيف لا يصلح للغزو، وإنما يثبت الرجال المكلفين المستعدين للغزو، ومن شرطهم الإسلام بالاتفاق، واشترط الماوردي: أن يكون فيهم الإقدام على القتال ومعرفة به، قال: ويثبت الأخرس والأصم والأعرج إن كان يقاتل فارسًا لا راجلاً، ولا يثبت الأقطع، قال: وإذا كتبه في الديوان، فإن كان مشهور الاسم .. لم تحسن تحليته، وإن كان مغمورًا، أي: ليس بمشهور .. وصف وحلي بحيث يتميز عن غيره.
قال: (ولو مرض بعضهم أو جن ورجي زواله .. أعطي) ولو طال مرضه؛ لئلا يرغب الناس عن الجهاد.
قال: (وإن لم يرج .. فالأظهر: أنه يعطى)؛ لما ذكرناه، ولكن يقطع اسمه من الديوان.
والثاني: لا يعطى؛ لأنه ليس من المقاتلين، والمراد: أنه يعطى كفايته وكفاية عياله اللائقة به في الحالة الراهنة.
ويسقط من الديوان اسم من لم يرج زوال عذره، بخلاف المرجو.
قال: (وكذا زوجته وأولاده إذا مات)؛ لئلا يشتغل المجاهدون بالكسب خشية ضياع أولادهم فيتعطل فرض الجهاد.
وفي معنى الأولاد: من تجب نفقته كالوالدين وإن كانوا من أهل الذمة؛ لأن المقاتل هو الذي يأخذ، بخلاف ما سيأتي في زوجته الذمية بعده؛ لأنها عطية لها مبتدأة فمنعت هذا الذي يظهر في المسألتين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والثاني: لا يعطون؛ لأنهم ليسوا مقاتلين، والتابع يزول بزوال المتبوع، ووقع في (الكفاية): أن الرافعي قال: هذا القول أظهر، وهو وهم.
وإفراد المصنف الزوجة وجمع الأولاد يوهم اعتبار الوحدة في الزوجة، والأصح: أنه يعطي الزوجات، بخلاف ما تقدم في العبيد.
وإطلاقه يشمل الزوجة الذمية، ولم يصرحوا بها، والظاهر: أنها لا تعطى، وفيما إذا أسلمت بعد موته نظر، والظاهر: إلحاق أم الولد بالزوجة، وفيها بحث تقدم قريبًا.
والمراد بإعطائهم: أن يعطوا ما يليق بهم في حالتهم تلك، لا جميع ما كان لأبيهم.
فائدة:
أخذ الشيخ من هذه المسألة: أن الفقيه أو المعيد أو المدرس إذا مات .. تعطى زوجته وأولاده مما كان يأخذ ما يقوم بهم، للعلة المذكورة، وهي الترغيب في الجهاد، فإن فضل المال عن كفايتهم .. صرف الباقي لمن يقوم بالوظيفة، فشرط الله في ماله أعظم من شرط الواقف في ماله
…
، وأطال في تقرير ذلك.
ولك أن تفرق بينهما؛ بأن العلم محبوب للنفوس ولا يصد عنه راغب فوكل الناس فيه إلى ميلهم إليه، والجهاد مكروه للنفوس فيحتاج الناس في إرصاد أنفسهم له إلى
وَكَذَا زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ إِذَا مَاتَ فَتُعْطَى الزَّوْجَةُ حَتَّى تَنْكِحَ، وَالأَوْلَادُ حَتَّى يَسْتَقِلُّوا
ــ
التألف، وإلا .. فمحبة الزوجة والولد قد تصد عنه.
قال: (فتعطى الزوجة حتى تنكح) والمراد: حتى تستغني بزوج أو إرث أو هبة أو وصية، فإن كانت ممن لا يُرغب في نكاحها .. أعطيت إلى أن تموت، وينبغي النظر في أنها لو خطبت ورغب في نكاحها الأكفاء فامتنعت .. هل يسقط بذلك حقها؟ لم أر من تعرض له، فإن كان الزوج الثاني مرتزقًا .. قدر لها قدر كفايتها تبعًا له.
قال: (الأولاد حتى يستقلوا) أي: يبلغوا ويستقلوا بالكسب، فمن أحب إثبات اسمه في الديوان .. أثبت، وإلا .. قطع، فإن بلغوا مستمرين على العجز .. صرف لهم، والبنات يرزقن إلى أن ينكحن كالزوجة.
فروع:
مات بعد جمع المال وانقضاء المدة المضروبة للإعطاء من حول أو دونه فنصيبه لورثته أو بعد الجمع وقبل انقضاء المدة .. فلهم القسط كالإجارة.
وقيل: لا كالجعالة أو عكسه، فظاهر النص - وقال به جماعة -: أنه لا شيء لهم.
وينبغي للإمام أن يفرق أرزاق المجاهدين في كل سنة مرة، ويجعل له وقتًا معينًا، ويختار أن يكون أول المحرم، فلو رأى أن يفرق في كل ستة أشهر أو أربعة أو ثلاثة - قال الماوردي: أو كل شهر - جاز، ولا يبعض النفقة بالتفرقة في كل أسبوع، وفي وجه: لا يجوز أن يفرق إلا مرة واحدة في السنة كالزكاة، وغلَّط الماوردي قائله.
قال: والعطاء يكون لما مضى؛ لأن أرزاقهم تجري مجرى الجعالة، ثم قال: ويقسم المأخوذ سواء كان ذهبًا أو فضة، والورق أخص بالعطاء من الذهب، إلا إذا
فَإِنْ فَضَلَتِ الأَخْمَاسُ الأَرْبَعَةُ عَنْ حَاجَاتِ الْمُرْتَزِقَةِ .. وُزِّعَ عَلَيْهم عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِمْ، وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ بَعْضُهُ فِي إِصْلَاحِ الثُغُورِ وَالسِّلَاحِ وَالكُرَاعِ
ــ
كان الأغلب في مال الفيء أو كان الأغلب في المعاملات، ولا يعطي الفلوس وإن راجت.
وقال الإمام: ذهب المحققون من الأصحاب العارفون بأحكام الإنالة: أنه لو أعد ذخيرة للجند .. لا يعترض عليه، وإذا أمرهم الإمام بالغزو .. وجب؛ لأنهم أخذوا الرزق لذلك، فإن امتنعوا من غير عذر .. سقطت أرزاقهم، وإذا أتى رجل يطلب إثبات اسمه في الديوان .. أجابه الإمام إن وجد في بيت المال سعة وفي الطالب أهلية، وإلا .. فلا، وإذا أراد ولي الأمر إسقاط بعضهم بسبب .. جاز، وبغير سبب .. لا يجوز، وإذا أراد بعضهم إخراج نفسه من الديوان .. جاز إن استغني عنه، ولا يجوز مع الحاجة إلا لعذر.
قال: (فإن فضلت الأخماس الأربعة عن حاجات المرتزقة .. وزع عليهم على قدر مؤنتهم)؛ لأنها مختصة بهم، فيفعل في ذلك كما يفعل في المقرر لهم، فإن كان لواحد نصفه ولآخر ثلثه .. أعطاهم من الفاضل بهذه النسبة.
وقال الإمام: إنه يوزع على عدد رؤوسهم بالسوية؛ لأن الحاجة قد زالت فاستووا فيه، قال: ويختص بذلك رجالهم دون الورثة.
قال: (والأصح: أنه يجوز أن يصرف بعضه في إصلاح الثغور والسلاح والكراع) وهو الخيل؛ فإنهم قاموا في استحقاقه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
والثاني: المنع، بل يوزع كما تقدم، وصححه في (الكفاية).
كل هذا تفريع على الأصح، وهو: أن الأربعة الأخماس مصروفة للمرتزقة، أما إذا قلنا: إنها للمصالح .. فما فضل يصرف في سائر المصالح، فإن فضل شيء ..
هَذَا حُكْمُ مَنْقُولِ الْفَيْءِ، فَأَمَّا عَقَارُهُ .. فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُجْعَلُ وَقْفاً، وَتُقْسَمُ غَلَّتُهُ كَذَلِكَ
ــ
ففي جواز صرفه إليهم وجهان، ويجوز صرفه إليهم عن كفاية السنة القابلة بلا خلاف.
والقصد من هذا كله: أن الإمام لا يُبقي في بيت المال شيئًا من الفيء ما وجد له مصرفًا، فإن لم يجد .. ابتدأ في بناء رباطات ومساجد على حسب الرأي، وتأسى الشافعي رضي الله عنه في ذلك بالشيخين رضي الله عنهما؛ فإنهما ما كانا يدخران، بل كانا يصرفان كل سنة إلى مصارفه ولا يخبئان شيئًا؛ خوفًا من نازلة، فإن ألمت ملمة وتعين القيام بها .. خاطب أصحاب الثروة من المسلمين.
قال: (هذا حكم منقول الفيء، فأما عقاره .. فالمذهب: أنه يجعل وقفًا، وتقسم غلته كذلك) أي: في كل عام أبدًا؛ لأنه أنفع لهم، هذا هو المنصوص، وتقابله أوجه:
أحدها: أنه يصير وقفًا بنفس الحصول، كما ترق النساء والصبيان بنفس الأسر، ورجحه الماوردي.
والثاني: أن المراد بالوقف منع التصرف لا الوقف الشرعي.
والثالث: يقسم كالمنقول، أما ما حصل للمصالح .. فإنه لا تمكن قسمته استدامة للمصلحة، ووقع في (الكفاية): أن المصنف اختار هذا، وهو وهم؛ فإنه صحح في (التصحيح) ما في الكتاب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تتمة:
يجوز أن يكون عامل الفيء وهو الناظر فيه من أولي القربى.
قال الماوردي: عامل الفيء إذا ولي وضع أموال الفيء وتقريرها .. اشترط أن يكون حرًا مسلمًا مجتهدًا عارفًا بالحساب والمساحة، وإن ولي جباية أمواله بعد تقريرها .. سقط الشرط الثالث، وإن ولي جباية نوع خاص من الفيء، فإن لم يستغن فيه عن استنابة .. اشترط إسلامه وحريته ومعرفة الحساب والمساحة؛ لما فيه من معنى الولاية، وإن استغنى عن الاستنابة .. جاز أن يكون عبدًا؛ لأنه كالرسول المأمور.
وأما توليته الذمي، فإن كانت جباية من أهل الذمة كالجزية وعشر التجارة .. جاز، وإن كانت من المسلمين .. فوجهان: فال المصنف: أصحهما: المنع.
وقال الشيخ: تجويز كونه ذميًا في الصورتين منكر، والصواب: أنه لا يجوز كونه ذميًا مطلقًا، وقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه غلام نصراني اسمه إسحاق، وكان يقول له:(أسلم حتى أستعملك؛ فإني لا أستعمل على المسلمين إلا مسلمًا).
وروي: (أن أبا موسى الأشعري رفع إلى عمر رضي الله عنهما حسابًا استحسنه فقال: من كتب هذا؟ قال: كاتبي، قال: وأين هو؟ قال: على باب المسجد قال: أجنب هو؟ قال: لا ولكنه نصراني فقال: لا تأتمنوهم وقد خونهم الله، ولا تقرِّبوهم وقد بعدهم الله).
ثم إذا فسدت ولاية العامل وقبض المال مع فسادها بريء الدافع؛ لبقاء الإذن، فلو نهي عن القبض بعد فسادها .. لم يبرأ الدافع إليه إن علم النهي، وإن جهله .. فوجهان كالوكيل.