الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْلَّقِيطِ
التقاط المنبوذ فرض كفاية،
ــ
كتاب اللقيط
هو فعيل بمعنى مفعول، يقال للصبي الضائع: لقيط وملقوط ومنبوذ ودعي، وهذه الأسماء مأخوذة من طرفي حاله، فالمنبوذ: من نَبْذه وطرحه، واللقيط والدعي: من لَقْطِه وادعائِه، ولم يسموه نبيذًا؛ لئلا يلتبس بالمشروب سفهًا، وتسميته لقيطًا حقيقة شرعية.
والأصل في الباب: عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِ وَالتَّقْوَى} ، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ، فإنه بإحيائها يسقط فرض الكفاية عن الناس جميعًا، فإحياؤهم بالعصمة من عذاب الله لهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمان)، وقال:(من لا يرحم لا يرحم)، وقال:(لا تنزع الرحمة إلا من شقي) وسيأتي في الباب حديث أبي جميلة.
قال: (التقاط المنبوذ فرض كفاية) أركان الالتقاط الشرعي ثلاثة:
أحدها: نفس الالتقاط، وهو من فروض الكفايات صيانة للنفس المحرمة عن الهلاك، فإذا التقط أهل الحضانة .. سقط الفرض، وإلا .. أثم كل من علم به من المسلمين.
وَيَجِبُ الإِشْهَادُ عَلَيْهِ فِي الأَصَحِّ،
ــ
والركن الثاني: اللقيط وأشار إليه المصنف بقوله: (المنبوذ) وهو: كل صبي ضائع لا كافل له، فخرج بالصبي: البالغ، لأنه مستغن عن الحضانة والتعهد فلا معنى لالتقاطه، والأصح: أنه لا فرق بين المميز وغيره.
والمراد بالكافل: الأب والجد ومن يقوم مقامهما، والبالغ المجنون في ذلك كالصبي، ولكن ذكروا الصبي في الحد؛ لأنه الغالب، والمجنون في ذلك نادر.
والالتقاط: الأخذ، قال تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ} .
ونبذ الطفل من أقبح المنكرات، والتقاطه من نصر المظلوم الذي أمرنا به، ومن تغيير المنكرات الواجب تغييره، ولو لم يعلم به إلا واحد .. وجب عليه أخذه، فلو لم يلتقط حتى علم به غيره هل يكون الفرض عليهما، أو يختص الوجوب بالأول لتعلق الوجوب به قبل قدوم الآخر؟ قال ابن الرفعة: فيه احتمال يتلقى من خلاف في أن من سبق إلى الوقوف عليه هل يكون أحق به عند التزاحم، أو لا يكون أحق به بل يكونان فيه كما لو حضرا معًا؟
قال الشيخ: والذي ينبغي القطع به أن يكون عليهما؛ لأن الخطاب للجميع، ويجوز للملتقط دفعه إلى الحاكم على الأصح، ويحرم بعد أخذه رده إلى مكانه قطعًا.
قال: (ويجب الإشهاد عليه في الأصح) نص الشافعي هنا على وجوب الإشهاد وفي اللقطة على استحبابه، والصحيح: تقرير النصين.
والفرق: أن اللقيط يحتاج إلى حفظ حريته ونسبه .. فوجب الإشهاد كما في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النكاح، واللقطة المقصود منها المال، والإشهاد في التصرفات المالية مستحب لا واجب.
والطريقة الثانية: إثبات قولين، أو وجهين بالنقل والتخريج:
أحدهما: يجب فيهما.
والثاني: لا فيهما، وكل من قال في اللقطة بالوجوب قال به هنا.
ومن الأصحاب من قال: إن كان الملتقط عدلاً .. لم يجب الإشهاد، وإن كان مستورًا .. وجب.
وكان ينبغي أن يعبر بـ (المذهب) كما في (الشرحين) و (الروضة)؛ ففيهما طريقان: أصحهما: القطع، وقيل: قولان أو وجهان كاللقطة، وقيل: يلزم مستور العدالة دون ظاهرها.
وإذا أوجبنا الإشهاد على الملتقط فتركه .. قال في (الوسيط): لا تثبت له ولاية الحضانة ولغيره انتزاعه من يده، قال الرافعي: وهذا يشعر باختصاص الإشهاد الواجب بابتداء الالتقاط، وفي هذا الإشعار نظر.
والظاهر: أن مراده: لا تثبت له ولاية الحضانة ما لم يُشهد، فلا يشعر باختصاص الوجوب بالابتداء، فمتى أشهد .. تثبت له الولاية، ولا يبعد أن يقال: إن الوجوب على الفور، فمتى أخره .. فسق وخرج عن الأهلية، فلا يفيده الإشهاد بعد ذلك إلا أن يتوب فيكون كالالتقاط الجديد.
وخص الماوردي الخلاف بما إذا التقطه بنفسه، أما إذا سلمه له الحاكم .. فيندب للحاكم الإشهاد عليه به، فيغني تسليم الحاكم عن إشهاد الملتقط، ولا حاجة في ابتداء الأخذ ودوامه إلى مراجعة الحاكم إجماعًا.
وإذا أشهد .. فليشهد عليه وعلى المال الذي معه، ويكون ذلك أول أخذه.
وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الاِلْتِقَاطِ لِمُكَلَّفٍ حُرٍّ مُسْلِمٍ عَدلٍ رَشِيدٍ. وَلَوِ الْتَقَطَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ .. انْتُزِعَ مِنْهُ،
ــ
قال: (وإنما تثبت ولاية الالتقاط لمكلف حر مسلم عدل رشيد) هذا هو الركن الثالث وهو: الملتقط، ويعتبر فيه التكليف والحرية والإسلام والعدالة والرشد، فأضدادهم لا يصح التقاطهم؛ لأنها ولاية تثبت على الغير بالاختيار فاعتبر فيها الأوصاف المذكورة كولاية القضاء، لكن اشتراط الإسلام إنما يعتبر إذا كان اللقيط محكومًا بإسلامه، فإن كان محكومًا بكفره .. فللكافر التقاطه؛ لأنه أهل للولاية عليه بشرط أن يكون عدلاً في دينه.
ومقتضى إطلاقهم: جواز أن يلتقط اليهودي النصراني وبالعكس بدليل التوارث.
واشتراط المصنف العدالة مخالف لقوله وقول الرافعي: إن المستور يصح التقاطه، لكن يوكل به رقيب إلا أن يوثق به فيصير كالعدل.
لا جرم اعتبر الماوردي والروياني الأمانة وهو أقرب، ثم سيأتي في (الحضانة) كلام في اعتبار التنقي من العمى والبرص ونحو ذلك، ويشبه مجيئه هنا إذا كان الملتقط يتعاهد الطفل بنفسه.
وأفهمت عبارة المصنف: أنه لا يحتاج إلى إذن الحاكم وهو المشهور.
وحكى صاحب (التقريب) وجهًا: أنه لابد من إذن الإمام؛ لأنه من باب الولايات.
وقال الدارمي: إذا وجده ثم أعطاه غيره .. لم يجز حتى يرفعه إلى الحاكم، والمرأة في ذلك كالرجل، ولا يمنع الفقير، وقيل: ينزع من الفقير.
قال: (ولو التقط عبد بغير إذن سيده .. انتزع منه)؛ لأنه ولاية وتبرع وليس من أهلهما.
فَإِنْ عَلِمَهُ فَأَقَرَّهُ عِنْدَهُ أَو الْتَقَطَهُ بِإِذْنِهِ .. فَالسَّيِّدُ الْمُلْتَقِطُ. وَلَوِ الْتَقَطَ صَبِيٌّ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ أَوْ كَافِرٌ مُسْلِمًا .. انْتُزِعَ. وَلَوِ ازْدَحَمَ اثْنَانِ عَلَى أَخْذِهِ .. جَعَلَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا،
ــ
قال: (فإن علمه فأقره عنده أو التقطه بإذنه .. فالسيد الملتقط) ويكون العبد نائبه في الأخذ والتربية، قال الماوردي: هذا قبل الرفع إلى الحاكم، أما بعده .. فيدفعه إلى من يراه ولا حق للسيد فيه، وسواء في ذلك القن والمدبر ومعلق العتق بصفة وأم الولد.
والمكاتب إذا التقط بغير إذن السيد .. انتزع منه أيضًا، فإن التقط بإذنه .. ففيه الخلاف في تبرعاته بالإذن، لكن المذهب الانتزاع؛ لأن في التقاطه ولاية وليس هو أهلها، فإن قال السيد: التقط لي .. فالسيد هو الملتقط.
والمبعض إذا التقط في نوبته في استحقاقه الكفالة وجهان لم يصحح الرافعي منهما شيئًا، وهو عند عدم المهايأة كالتقاط الرقيق.
قال: (ولو التقط صبي أو فاسق أو محجور عليه أو كافر مسلمًا .. انتزع)؛ لعدم أهليتهم لذلك، وهذا الحكم اتفق عليه الأصحاب، ولم يجروا فيه القولين في انتزاع اللقطة من الفاسق والعبد؛ لأن المقصود هنا الحضانة وهي ولاية لا تثبت لهما، وفي اللقطة معنى الاكتساب وهو لهما.
والمراد بـ (المحجور عليه): السفيه المحجور عليه بالتبذير، فلا تثبت هذه الولاية له وإن كان عدلاً، ولا يشترط في الملتقط الذكورة، بل الحضانة بالإناث أليق، ولا كونه غنيًا؛ إذ ليست النفقة على الملتقط والفقير أهل للحضانة كالغني، وفي (المهذب) وجه: أنه لا يقر في يد الفقير؛ لأنه لا يتفرغ لحضانته لاشتغاله بطلب القوت، والصحيح الأول.
قال: (ولو ازدحم اثنان على أخذه .. جعله الحاكم عند من يراه منهما أو من غيرهما) صورة المسألة قبل الأخذ: إذا قال كل منهما: أنا آخذه وأحضنه؛ لأنه لا حق لهما قبل الأخذ.
فَإِنْ سَبَقَ وَاحِدٌ فَالْتَقَطَهُ .. مُنِعَ الآخَرُ مِنْ مُزَاحَمَتِهِ، وَإِنِ الْتَقَطَاهُ مَعًا وَهُمَا أَهْلٌ .. فَالأَصَحُّ: أَنَّهُ يُقَدَّمُ غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ، وَعَدْلٌ عَلَى مَسْتُورِ،
ــ
قال: (فإن سبق واحد فالتقطه .. منع الآخر من مزاحمته)؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه .. فهو أحق به) وقد تقدم أن أبا داوود رواه ولم يضعفه.
واحترز بالسبق بالأخذ عما إذا سبق بالوقوف عنده؛ فإن ذلك لا اعتبار به على الأصح.
قال: (وإن التقطاه معًا وهما أهل .. فالأصح: أنه يقدم غني على فقير)؛ لأنه ربما يواسيه بماله، ولأن الفقير قد يشتغل بطلب القوت عن الحضانة.
والثاني: أنهما يستويان ونسبه المتولي للجمهور؛ لأن الفقير أهل كالغني، ولأن نفقة اللقيط لا تجب على ملتقطه بلا فرق بين الغني والفقير.
وفي وجه ثالث: لا يقر بيد فقير وإن انفرد.
وعلى الأصح: لو تفاوتا في الغنى .. فهل يقدم أكثرهما مالاً؟ وجهان: أصحهما في زوائد (الروضة): لا يقدم، وقد يقال: إن الفقير السمح قد يكون أصلح وأشفق عليه من الغني الشحيح.
وينبغي أن يرجع في التقديم إلى اجتهاد القاضي العالم الأمين، فمن رآه منهما أصلح .. قدمه.
وينبغي جريان الخلاف فيما إذا كان أحدهما أحسن خلقًا أو أطيب حرفة والآخر بضد ذلك، ولم يذكروه.
قال: (وعدل على مستور)؛ احتياطًا للصبي.
والثاني: يستويان؛ لأن المستور لا يسلم مزية الآخر ويقول: لا أترك حقي بأن لم تعرفوا حالي.
و (المستور): من لم تثبت عدالته عند الحاكم، ومن علمت حاله بالتزكية فهو
فَإِنِ اسْتَوَيَا .. أُقْرِعَ
ــ
العدل باطنًا، أما العدل عند الله فلا يعلمه إلا هو سبحانه، والتفاوت فيها كثير، فمنهم العدل والأعدل، والحر أولى من المكاتب وإن التقط بإذن سيده.
ولو كان أحدهما عبدًا التقط بإذن سيده .. فالاعتبار بالسيد والآخر، ولا تقدم المرأة على الرجل، بخلاف الأم في الحضانة، لأن شفقتها أكمل.
ويتساوى المسلم والذمي في اللقيط المحكوم بكفره، وقيل: يقدم المسلم ليعلمه دينه، وقيل: الذمي؛ لأنه على دينه.
ويقدم البلدي عل القروي سواء وجداه في قرية أو بادية كما سيأتي.
قال: (فإن استويا) أي: في الصفات المعتبرة وتشاحا (.. أقرع)؛ لتعذر الاجتماع على الحضانة، ولأن إخراجه عنهما إبطال لحقهما، وتخصيص أحدهما بلا قرعة عند الأسبق لا سبيل إليه فتعينت القرعة كالزوج يسافر بإحدى زوجاته، وهذا هو الأصح المنصوص وقول الجمهور، واستأنسوا له بقوله تعالى:{إِذ يُلقُونَ أَقْلَامَهُم أَيُّهُم يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي: اقترعت الأحبار على كفالتها بإلقاء أقلامهم.
وقال أبو علي ابن خيران: لا قرعة بينهما ولكن يجتهد الحاكم، فأيهما رآه أصلح للقيط .. وضعه عنده، فإن استويا أو تحير .. أقرع، ونسب هذا الغزالي إلى ابن أبي هريرة ولعلهما توافقا، وهذا كالوجه المتقدم في مقاعد الأسواق والآتي في التزاحم في (الدعوى).
ولا يخير الصبي بينهما وإن كان له سبع سنين فأكثر، بخلاف تخييره بين الأبوين؛ لأن هناك يعول على الميل بسبب الولادة، وقال الإمام: يحتمل أن يخير، ويقدم اختياره على القرعة، لكنه صوره فيما إذا التقطاه ولم يتفق فصل الأمر حتى يلغ سن التمييز.
وإذا خرجت القرعة لأحدهما فترك حقه للآخر .. لم يجبر كما ليس للمنفرد نقل حقه إلى غيره، ولو ترك حقه قبل القرعة .. فوجهان:
وَإِذَا وَجَدَ بَلَدِيٌّ لَقِيطًا بِبَلَدٍ .. فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى بَادِيَةٍ،
ــ
أصحهما: ينفرد به الآخر كالشفيعين.
والثاني: لا، بل يرفع الأمر إلى الحاكم حتى يقره في يد الآخر إن رآه، وله أن يختار أمينًا آخر فيقرع بينه وبين صاحبه، فإن خرج عليه .. ألزمه القيام بحضانته.
ولو خرجت القرعة لأحدهما فترك حقه لصاحبه .. لم يجز كما لو أخذه المنفرد ليس له نقل حقه وتسليم اللقيط إلى غيره.
وقال الماوردي: له ذلك ولا يجبر على إمساكه، ويتسلمه الحاكم منه.
قال: (وإذا وجد بلدي لقيطًا ببلد .. فليس له نقله إلى بادية)؛ لمعنيين:
أصحهما: أن عيش أهل البادية خشن، والغالب قصورهم عن علوم الأديان والصناعات ففيه إضرار باللقيط.
والثاني: أن ظهور نسبه بموضع التقاطه أغلب؛ لأنه يطلب فيه، قال الرافعي:
فلو كان الموضع المنقول إليه من البادية قرييًا من البلد يسهل تحصيل ما يردا منه، فإن راعينا خشونة العيش .. لم يمنع، وإن راعينا النسب فإن كان أهل البلد يختلطون بأهل ذلك الموضع .. فكذلك، وإلا .. منع، ومتى فعل الملتقط ذلك أو قصده .. نزع اللقيط منه.
قال الشيخ: والبادية خلاف الحاضرة، والحاضرة هي المدن والبلاد والقرى والريف، فالريف هي الأرض التي فيها زرع وخصب، والقرية العمارة المجتمعة قليلة كانت أو كثيرة وغلب إطلاقها على القليلة، فإن كبرت سميت بلدًا؛ لحسن الإقامة فيها، فإن عظمت سميت مدينة.
وكما لا يجوز نقله من البلد إلى البادية لا يجوز نقله من البلد إلى القرى، كذا أطلقه الأصحاب، وهو على ما تقدم من تخصيص القرية في العرف بالصغيرة، وإلا .. فهي تشمل الصغيرة والكبيرة، وقد سمى الله تعالى مكة قرية فقال:{عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَريَتَينِ عَظِيمٍ} وسماها بلدًا في قوله: {لَا أُقسِمُ بِهَذَا البَلَدِ} فالقرية أعم والبلد أخص والمدينة أخص، فكل مدينة بلد ولا ينعكس، وكل بلد قرية ولا ينعكس، هذا في
وَالأَصَحُّ: أَنَّ لَهُ نَقلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَأَنَّ لِلْغَرِيبِ إِذَا الْتَقَطَ بِبَلَدٍ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى بَلَدِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِبَادِيَةٍ .. فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى بَلَدٍ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَدَوِيٌّ بِبَلَدٍ .. فَكَالْحَضَرِيِّ،
ــ
أصل الوضع، وأما في الإطلاق العرفي .. فعلى ما قدمناه، وعليه ينزل كلام الأصحاب في هذا الباب.
قال: (والأصح: أن له نقله إلى بلد آخر)؛ بناء على العلة الصحيحة؛ لأن معيشة البلاد متقاربة بخلاف معيشة القرى والبوادي، وهذا هو المنصوص.
والثاني: ليس له نقله إلى بلد آخر، وينزع اللقيط منه رعاية لأمر النسب.
قال المتولي: ولا فرق بين سفر النقلة والتجارة والزيارة، ومحل الجواز عند أمن الطريق وتواصل الأخبار، ولم يفرق الأصحاب هنا بين مسافة القصر ودونها، وقطع الماوردي فيما دونها بالجواز، وخص الخلاف بمسافر القصر إذا تواصلت الأخبار.
قال: (وأن للغريب إذا التقط ببلد أن ينقله إلى بلده)؛ لتقارب المعيشة.
والثاني: لا؛ لأجل النسب، وحيث منعناه .. نزعنا اللقيط من يده كما تقدم، والمراد: الغريب الذي اختبرت أمانته، وإلا .. لم يقر في يده قولاً واحدًا.
قال: (وإن وجده) أي: البلدي (ببادية .. فله نقله إلى بلد)؛ لأنه أرفق به، فإن أقام هناك .. أقر في يده لا محالة، فإن كانت البادية مهلكة .. فلابد من نقله بلا خلاف، وإن كان في حلة أو قبيلة في البادية، فإن كان من أهل حلة مقيمين في موضع راتب .. أقر في يده، وإن كان ممن ينتقلون من موضع إلى موضع منتجعين .. ففي منعه وجهان: أصحهما في زوائد (الروضة): لا يمنع.
قال: (وإن وجده بدوي ببلد .. فكالحضري) فإن أراد الإقامة في البلد .. أقر في يده، وإن أراد الخروج إلى البادية .. نزع منه، وإن أراد الخروج إلى بلد آخر .. فعلى الوجهين السابقين في البلدي.
و (البدوي) من سكن البادية، قال الله تعالى:{وَجَاءَ بِكُم مِنَ البَدوِ} وقال صلى الله عليه وسلم: (من بدا .. جفا).
أَوْ بِبَادِيَةٍ .. أُقِرَّ بِيَدِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانُوا يَنْتَقِلُونَ لِلنُّجْعَةِ .. لَمْ يُقرَّ. وَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ الْعَامِّ كَوَقْفٍ عَلَى اللُّقَطَاءِ،
ــ
و (الحضري): من سكن الحاضرة وقد سبق تفسيرها.
قال: (أو ببادية .. أقر بيده)؛ لأن ذلك كبلدة أو قرية، وقيده الإمام بما إذا تواصلت أخبار الحلتين، فإن لم تتواصل .. فوجهان.
قال: (وقيل: إن كانوا ينتقلون للنجعة .. لم يقر)؛ لأن في ذلك تضييعًا لنسبه، ولم يصحح الرافعي في المسألة شيئًا، وصحح في (الروضة) ما صححه هنا.
و (النجعة) بضم النون وسكون الجيم: طلب الكلا في موضعه، تقول منه: انتجعت، وانتجعت فلانًا إذا أتيته تطلب معروفه.
قال ذو الرمة - واسمه غيلان -[من الوافر]:
رأيت الناس ينتجعون غيثًا .... فقلت لصيدح: انتجعي بلالا
قال: (ونفقته في ماله العام) قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها لا تجب على الملتقط، بل هي في ماله كالطفل الذي له أب، قال الشيخ: وليس هو في الحقيقة ماله، بل مال الجهة العامة، وكذا قوله بعد:(فإن لم يعرف له مال) أي: لا عام ولا خاص ففيه تجوز، والمراد: ما يستحق أن يصرف إليه منه وإن لم يكن ملكه.
قال: (كوقف على اللقطاء)؛ فإن الوقف عليهم صحيح بلا خلاف، ويكفي إمكان الجهة وإن لم يتحقق وجود اللقيط، وكذلك الوصية لهم، قال في (الوجيز): وكذلك الهبة لهم، قال الرافعي: لكن الهبة لغير معين مما يستبعد فيجوز تنزيله على ما إذا كان معينًا، أو تنزل الجهة العامة منزلة المسجد حتى يجوز تمليكها بالهبة ويقبلها القاضي، واختاره الشيخ.
أَوِ الْخَاصِّ وَهُوَ: مَا اخْتَصَّ بِهِ كَثِيَابٍ مَلْفُوفَةٍ عَلَيْهِ وَمَفْرُوشَةٍ تَحْتَهُ وَمَا فِي جَيْبِهِ مِنْ دَرَاهِمَ [وَغَيْرِهَا] وَمَهْدِهِ وَدَنَانِيرَ مَنْثُورَةٍ فَوْقَهُ وَتَحْتَهُ. وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارٍ .. فَهِيَ لَهُ. وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ مَدْفُونٌ تَحْتَهُ
ــ
قال: (أو الخاص وهو) كل (ما اختص به كثياب ملفوفة عليه) وكذلك الملبوسة له من باب أولى؛ لأن للصغير يدًا واختصاصًا كالبالغ، فإن الأب إذا مات وترك طفلاً ومالاً .. كان المال في يد الطفل، فيحكم له بملك ما يتصل به من ذلك.
قال: (ومفروشة تحته) وكذلك المغطى بها كاللحاف، ومن المختص به ما وقف عليه بخصوصه، أو وصي له به، أو وهب له وقبله له الحاكم.
قال: (وما في جيبه من دراهم [وغيرها] ومهده ودنانير منثورة فوقه وتحته)؛ لما قلناه من أن له يدًا كالبالغ، وكذلك المشدودة عليه وعلى ثوبه، وفي المنثورة تحت فراشه وجه في (الحاوي)، وكذلك يقضى له بالدابة التي عنانها بيده أو مشدودًا في وسطه أو راكبها.
قال: (وإن وجد في دار .. فهي له)؛ لليد، لأنها تقصد للإيواء والسكنى، وكذلك الخيمة والحانوت، وفي البستان وجهان طردهما صاحب (المستظهري) في الضيعة، قال المصنف: وهو بعيد، وينبغي القطع بأنها لا تكون له.
هذا إذا لم يكن فيها غيره، فإن كان .. فهل يكون بينهما أو لا يكون للقيط فيها ملك؟ فيه نظر، وإذا قلنا بالشركة وكان فيها جماعة فهل يكون له النصف ولغيره النصف أو تكون بينهم على عدد الرؤوس؟ فيه أيضًا نظر واحتمال.
قال: (وليس له مال مدفون تحته) قال في (الكافي): بلا خلاف، ولأن الكبير لو كان جالسًا على أرض تحتها دفين .. لم يحكم بأنه له، ولأنه لا يقصد بالدفن الضم إلى الطفل، ثم ينظر: فإن كان عليه ضرب الإسلام .. فهو لقطة، وإلا .. فهو ركاز
وَكَذَا ثِيَابٌ وَأَمْتِعَةٌ مَوْضُوعَةٌ بِقُرْبِهِ فِي الأَصَحِّ
ــ
يملكه واجده ويخمسه، فلو كان معه أو في الدفين رقعة مكتوب فيها: أنه له .. فوجهان: أصحهما عند الغزالي: أنه له بقرينة المكتوب، والموافق لكلام الأكثرين: أنه لا أثر لذلك، وهو الأصح.
قال الإمام: ليت شعري! ما يقول الأول لو دلت على دفين بعيد؟
قال المصنف: مقتضاه: أنه يجعله للقيط؛ فإن الاعتماد إنما هو على الرقعة لا على كونه تحته.
نعم؛ لو كان الدفين في يد غيره .. فلا يعول على الرقعة قطعًا.
قال: (وكذا ثياب وأمتعة موضوعة بقربه في الأصح) كما لو كانت بعيدة.
والثاني - وهو قول ابن أبي هريرة -: أنها تجعل له؛ لأن مثل هذا يثبت له اليد والاختصاص، ألا ترى أن الأمتعة الموضوعة في السوق بقرب الشخص تجعل له.
واحترز بـ (القريبة) عن البعيدة عنه؛ فإن البالغ لا يضاف إليه البعيد منه فاللقيط أولى، ولم يتعرض الأصحاب لضابط القرب والبعد، قال الشيخ: والظاهر: أن المعتبر في ذلك العرف.
تنبيه:
قال المصنف في (نكته): محل الخلاف في كون الأمتعة القريبة والدفين ليس له إذا لم يحكم بكون الأرض له كمسجد أو طريق أو صحراء، فإن كان فيما يحكم له به كدار ونحوها .. فإطلاق الأصحاب في (باب الركاز) أنه لصاحب الأرض يقتضي: أنه يكون للقيط، وبه صرح الدارمي، وأشار إليه صاحب (التقريب) وغيره.
فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ .. فَالأظْهَرُ: أَنَّهُ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ،
ــ
فرع:
الدابة التي ترعى بالقرب منه في كونها له وجهان حكاهما سليم في (المجرد)، وصحح: أنها له، والمعروف: أنها ليست له، ولم يحك الإمام خلافًا في أن المسيبة لا تكون له، وكذلك المربوطة بالبعد عنه، ولو كانت مشدودة باللقيط وعليها راكب .. فهي بينهما عند ابن كج، وأقره عليه الشيخان، وضعفه في (المهمات) بأن اللقيط في هذه الحالة غايته أن يكون كرجل عاقل قائد لدابة وعليها راكب، وصحح الشيخان في (باب الصلح): أن اليد فيها للراكب. اهـ
والذي قاله ابن كج ظاهر منقاس؛ لأن الراكب إذا كان ضعيفًا أو صغيرًا .. يحكم بأنها لهما لعدم أولوية أحدهما، وإن كان كبيراً بالغًا .. فلا؛ لأنه لو كانت الدابة له .. لنزعها من اللقيط، فغايته أن للكبير يدًا فعلية وللقيط يدًا حكمية فتعادلا، والذي استشهد به في (المهمات) محله في البالغين العاقلين المستقلين.
قال: (فإن لم يعرف له مال) أي: لا بالخصوص ولا بالعموم (.. فالأظهر: أنه ينفق عليه من بيت المال)؛ لأن الكبير العاجز ينفق عليه من بيت المال فهذا أولى، ويكون من سهم المصالح وهو خمس الخمس، واستدل له الرافعي بأن عمر استشار الصحابة في نفق اللقيط فقالوا:(من بيت المال)، ومقتضى كلام ابن المنذر: أن هذا قول عامة أهل العلم.
والذي رواه مالك والشافعي والبيهقي: أن رجلاً من سليم - يقال له: سفيان أبو جميلة - وجد منبوذًا في زمن عمر فجيء به إليه، فلما رآه .. قال: عسى الغوير أبؤسًا، ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال: وجدتها ضائعة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فأخذتها، فقال عريفي: إنه رجل صالح، قال: فاذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته.
والقول الثاني: لا ينفق عليه من مال بيت المال؛ لأن مال بيت المال يصرف إلى ما لا وجه له سواه، واللقيط يجوز أن يكون رقيقًا فنفقته على سيده، أو حرًا له مال أو قريب فنفقته في ماله أو على قريبه.
فعلى هذا: يستقرض الإمام لنفقته من بيت المال أو من واحد من الناس، فإن لم يكن في بيت المال شيء ولم يقرض أحد من الناس .. جمع الإمام أهل الثروة من البلد وقسط عليهم نفقته، ويجعل نفسه منهم إن كان موسرًا، ثم إن بان رقيقًا .. رجعوا على سيده عليه، وإن بان حرًا وله مال أو قريب .. فالرجوع عليه، وإن بان حرًا لا قريب له ولا مال ولا كسب .. قضى الإمام حقهم من سهم الفقراء والمساكين أو الغارمين كما يراه، كذا قاله الرافعي تبعًا للماوردي والروياني، وقال في زوائد (الروضة): اعتبار القريب غريب قل من ذكره، وهو ضعيف؛ فإن نفقة القريب تقسط بمضي الزمان. اهـ
واعترض عليه بأن نفقة القريب بالاستقراض لا تسقط بذلك كما سيأتي في بابه.
وحيث قلنا: تسقط النفقة على الأغنياء .. فذلك عند إمكان الاستيعاب، فإن كثروا وتعذر التوزيع عليهم .. قال الإمام: يضربها السلطان على من يراه منهم يجتهد فيه، فإن استووا في نظره .. تخير.
كل هذا في اللقيط المحكوم بإسلامه، وكذا في المحكوم بكفره على الأصح عند الرافعي والمصنف، والأصح في (الكفاية): المنع، ونقله القاضي حسين عن النص؛ لأن مال بيت المال معد لمصالح المسلمين، والصحيح: الأول؛ إذ لا وجه لتضييعه، وعلى الثاني: يجمع الإمام أهل الذمة ويقسط نفقته عليهم دينًا عليه.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ .. قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِكِفَايَتِهِ قَرْضًا، وَفِي قَوْلٍ: نَفَقَةً. وَلِلْمُلْتَقِطِ الاِسْتِقْلَالُ بِحِفْظِ مَالِهِ فِي الأَصَحِّ،
ــ
قال: (فإن لم يكن) أي: في بيت المال شيء، أو كان ما هو أهم منه (.. قام المسلمون بكفايته)؛ إذ لا يحل تضييعه، وهذا أمر واجب عليهم بالاتفاق، فإذا قام به بعضهم .. حصل الغرض واندفع الحرج عن الباقين، وإن امتنعوا .. أثموا كلهم، وطالبهم الإمام، فإن أصروا .. قاتلهم، وهذا تفريع على القول الأظهر.
قال: (قرضًا، وفي قول: نفقة) يعني: إذا ألزمنا المسلمين كفايته .. فالأظهر المنصوص - وهو قول الأكثرين -: أن طريقه طريق القرض حتى يثبت الرجوع، كما يبذل الطعام للمضطر بالعوض؛ لأنه قد يكون رقيقًا أو حرًا وله مال أو قريب.
والثاني - وهو قول الصيدلاني -: أن طريقه طريق النفقة؛ لأنه محتاج عاجز فأشبه المجنون والفقير والزمن.
قال الرافعي: ولم يتعرض الأصحاب لطرد الخلاف في أنه إنفاق أو اقتراض إذا كان في بيت المال مال وقلنا: نفقته منه، والقياس طرده، قال المصنف: ظاهر كلامهم: أنه إنفاق فلا رجوع لبيت المال قطعًا، قال الشيخ: وهذا هو المختار.
قالا: وحيث قلنا: يقسطها الإمام على الأغنياء فذاك عند إمكان استيعابهم، فإن كثروا وتعذر التوزيع عليهم .. قال الإمام: يضربها السلطان على من يراه منهم باجتهاده، فإن استووا في اجتهاده .. تخير، والمراد: أغنياء تلك البلدة أو القرية.
وقوله: (قرضًا) منصوب على نزع الخافض؛ أي: على جهة القرض.
قال: (وللملتقط الاستقلال بحفظ ماله في الأصح)؛ لأنه يستقل بحفظ المالك، وهو أولى به من القاضي فكان أولى بحفظ ماله.
والثاني: ليس له ذلك، بل يحتاج إلى إذن القاضي؛ لأن إثبات اليد على المال يحتاج إلى ولاية عامة أو خاصة، ولا ولاية للملتقط.
وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ إِلَاّ بِإِذْنِ الْقَاضِي قَطْعًا
ــ
والظاهر: تخصيص الخلاف بالعدل الذي يجوز إيداع مال اليتيم عنده لا في كل ملتقط.
والأصح: أنه إذا ظهر منازع للمنبوذ في المال المخصوص به .. لم يكن للملتقط مخاصمته.
قال: (ولا ينفق عليه منه إلا بإذن القاضي)؛ لأن ولاية المال لا تثبت لقريب غير الأب والجد، فالأجنبي أولى، فإن أنفق بغير إذن .. ضمن.
قال: (قطعًا) ليس قطعًا، بل في المسألة قولان شهيران حكاهما القفال والشيخ أبو محمد في (السلسلة) في (كتاب الدعوى) في الكلام على مسألة الظفر، والرافعي ذكر الخلاف أيضًا هناك، ولم يذكر في (المحرر) ولا في (الروضة) لفظ (قطعًا)، ومحله: إذا أمكنت مراجعته، وإلا .. أنفق بنفسه، وفي قول: يدفع إلى أمين لينفق، لكن يشترط الإشهاد، فإن تركه .. ضمن في الأصح.
تتمة:
قال المتولي وغيره: إذا جوزنا أن يأذن له في الإنفاق فأنفق، ثم بلغ اللقيط واختلفنا .. فالقول قول الملتقط إذا كنا ما يدعيه قدرًا لائقًا بالحال، قال الرافعي: وقد سبق في هرب الجمال وجه: أن القول قول الجمال، والقياس طرده هنا، وإن ادعى زيادة على اللائق .. فهو مقر بتفريطه فيضمن، ولا معنى للتحليف.
قال الإمام: لكن لو وقع النزاع في عين فزعم الملتقط أنه أنفقها .. فيصدق لتنقطع المطالبة بالعين، ثم يضمن كالغاصب إذا ادعى التلف.
هذا كله إذا أمكن مراجعة القاضي، فإن لم يكن هناك قاض فهل ينفق من مال اللقيط عليه بنفسه أم يدفع إلى أمين ينفق عليه؟ قولان: أظهرهما: الأول.
فعلى هذا: إن أشهد .. لم يضمن على الصحيح؛ وإلا .. ضمن على الأصح.