الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ:
يَجِبُ اسْتِيعَابُ الأَصْنَافِ إِنْ قَسَّمَ الإِمَامُ وَهُنَاكَ عَامِلٌ،
ــ
عقد ولا رغبة من العامل فيه، كالغنيمة يستحقها المجاهد في سبيل الله وإن لم يقصد إلا إعلاء كلمة الله، بل هو أعظم، وهكذا سهم العاملين فريضة من الله بعملهم قصدوها أو لم يقصدوها.
وإذا عمل على أن لا يأخذ شيئًا .. استحق، وإسقاطه بعد العمل لا يصح؛ لأن الصحيح: أن الزكاة تتعلق بالمال تعلق شركة، فلا يسقط ذلك الجزء الذي ملكه العامل من عين المال إلا بهبة أو نحوها مما ينقل الملك.
وإن قلنا: يتعلق بالذمة .. فلا يسقط إلا بإبراء صحيح بشرط العلم به، وعمر وابن الساعدي كل منهما لم يحصل منه شيء من ذلك، وليس كمن عمل لغيره عملاً على قصد التبرع حتى يقال: إن قاعدتنا أنه لا يستحق؛ لأن ذلك فيما يحتاج إلى شرط من المخلوق وهذا من الله تعالى كالميراث والغنيمة والفيء ونحوها.
قال: (فصل:
يجب استيعاب الأصناف إن قسم الإمام وهناك عامل)؛ لأن الله تعالى ملكهم بـ (لام) التمليك، وشرك بينهم بـ (واو) التشريك، فتقسم على ثمانية لكل صنف الثمن، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وعكرمة.
وقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز تخصيص بعض الأصناف وبعض آحاد الصنف، وبه قال الحسن والشعبي والثوري.
وقال مالك: يجوز الصرف إلى من هو أشد حاجة من الأصناف.
فاتفق أبو حنيفة ومالك على جواز صرفها إلى صنف واحد، ولكن أبو حنيفة يقول: أي صنف شاء، ومالك يقول: الأمس حاجة، وسواء في ذلك زكاة الفطر وزكاة المال.
وَإِلَاّ .. فَالْقِسْمَةُ عَلَى سَبْعَةٍ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُهُمْ .. فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ
ــ
وأغرب الحناطي فحكى عن الإصطخري جواز الاقتصار على ثلاثة من الفقراء، والمعروف ذلك عنه في الفطرة، وعن ابن الوكيل جواز صرف الزكاة لأهل الخمس، وهما شاذان.
وعن أبي ثور: إن قسم الإمام .. استوعب، أو المالك .. فله أن يخص صنفًا واحدًا.
قال: (وإلا .. فالقسمة على سبعة) لكل صنف السبع؛ لسقوط سهم العامل، وكذا إذا فرق رب المال بنفسه .. فإنه يسقط قطعًا، ووقع في (الشرح) و (الروضة) في موضع ما يوهم خلافه، وهو مؤول.
وحكي عن النص: أن المالك إذا قسم سهم المؤلفة أيضًا .. فتصير القسمة من ستة لكل صنف السدس.
قال الشيخ: وسقوط المؤلفة هنا عجيب، إن كان للفقد .. فلا خصوصية لهم، وسيأتي في حكم الفقد، ولعل سبب ذلك: أن الإمام هو الذي يتألف المؤلفة، بخلاف آحاد الناس.
قال: (فإن فقد بعضهم) أي: من البلد وغيره (.. فعلى الموجودين) اتفق الأصحاب عليه، كما لو وقف على اثنين فمات أحدهما .. فإن حصته تنتقل إلى الآخر على الصحيح المنصوص، وهذا بخلاف ما إذا أوصى لاثنين فرد أحدهما حيث يعود نصيبه إلى الورثة؛ لأن المال كان لهم لولا الوصية، والوصية تبرع والزكاة دين لازم.
وخالف أيضًا: ما إذا فضل الميراث عن ذوي الفروض؛ فإنه لا يرد عليهم على المذهب، لأن بيت المال وارث كالعصبة فلم يفضل شيء.
ثم لمسألة الكتاب صورتان:
إحداهما: فقد صنف بكماله كالمكاتبين.
والثانية: فقد بعض صنف بأن لا يجد منه إلا واحدًا أو اثنين، فليحمل كلامه عليهما.
فقوله: (فعلى الموجودين) في الأولى على بقية الأصناف، وفي الثانية على
وَإِذَا قَسَّمَ الإِمَامُ .. اسْتَوعَبَ مِنَ الزَّكَوَاتِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَهُ آحَادَ كُلِّ صِنْفٍ
ــ
الموجودين من ذلك الصنف، إما قطعًا وإما على الصحيح، لا على غيره إلا أن يستغني الموجود من ذلك الصنف فترد على باقي الأصناف.
قال ابن الصلاح: والموجود اليوم من الأصناف أربعة: الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل.
وقال ابن كج: سمعت القاضي أبا حامد يقول: أنا أفرق زكاة مالي على الفقراء والمساكين؛ لأني لا أجد غيرهم.
وسكتوا عن فقد الجميع؛ لأنه كالمستحيل، فإن فرض .. حفظت حتى يوجدوا أو بعضهم.
قيل: ويتعين للحفظ الإمام لا المالك، لكن في الحديث:(حتى يذهب الرجل بزكاة ماله اليوم واليومين فلا يجد من يأخذها منه) وهذا يدل على أنها تبقى عند المالك.
قال: (وإذا قسم الإمام) وكذا العامل الذي فوض إليه الصرف (.. استوعب من الزكوات الحاصلة عنده آحاد كل صنف)؛ لأنه لا يتعذر عليه ذلك.
وأشار المصنف بقوله: (من الزكوات الحاصلة عنده) إلى أنه لا يلزمه أن يستوعب من زكاة كل شخص الآحاد، بل له أن يعطي زكاة كل شخص بكمالها لواحد، وله أن يخص واحدًا بنوع وآخر بغيره؛ لأن الزكوات كلها في يده كزكاة واحدة، فلو أخل بصنف .. قال الماوردي: ضمن في مال الصدقات لا في مال نفسه قدرَ سهمهم من تلك الصدقة، بخلاف رب المال؛ فإنه يضمن ذلك في مال نفسه، وهذا الاستيعاب واجب على الأصح كما قاله في (تصحيح التنبيه).
قال في (شرح المهذب): وأطلق كثيرون ندبه، ولم يحفظ الرافعي هذا
وَكَذَا يَسْتَوْعِبُ الْمَالِكُ إِنِ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ وَوَفَّى بِهِمُ الْمَالُ، وَإِلَاّ .. فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ
ــ
الخلاف، وهو مخصوص - كما قاله في (الكفاية) - بما إذا أمكن بحيث تندفع حاجة الجميع، أما إذا لم يمكن بحيث لا تحصل لهم الكفاية بالاستيعاب .. فيستحب قطعًا؛ لئلا ينكسر قلب من لم يعط.
قال: (وكذا يستوعب المالك إن انحصر المستحقون في البلد ووفى بهم المال)؛ لتيسره حينئذ، وعبارة المصنف تدل على وجوب الاستيعاب عند الإمكان سواء قل عددهم أو كثر، حتى يجب استيعاب المحصورين إذا زادوا على ثلاثة.
وقد ذكر الرافعي في (الفروع المنثورة) آخر الباب: أنه لا يجب الاستيعاب إذا زادوا على ثلاثة، وذكر في (باب الوصية) مثله، وجمع الشيخ بين الكلامين فحمل الأول على ما إذا وفى المال، والكلام الذي بعده على ما إذا لم يوف.
ويتلخص من كلا النقلين أنهم إن كانوا ثلاثة فأقل .. تعين الصرف إليهم وفى بهم المال أم لا، وإن كانوا أكثر من ثلاثة، فإن عسر ضبطهم .. كان الملك للجهة، ويجوز الاقتصار على ثلاثة منهم، وهؤلاء إنما يملكون يوم القسمة وإن سهل ضبطهم، فإن وفى المال بحاجتهم .. كانوا كالثلاثة، وإن لم يوف .. كانوا كما لو عسر ضبطهم، لكن يستحب التعميم.
وضابط العدد المحصور - كما قال في (الإحياء) في اختلاط الحلال بالحرام -: أن كل عدد لو اجتمع في صعيد .. لعسر على الناظر عددهم كالألف فغير محصور، وإن سهل كعشرين .. فمحصور، وبينهما أوساط تلحق بأحدهما بالظن، وما شك فيه يستفتى فيه القلب.
قال: (وإلا) أي: وإن لم ينحصروا ولم يف المال بهم.
قال: (.. فيجب إعطاء ثلاثة) أي: فصاعدًا؛ لأن الله تعالى ذكرهم بلفظ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الجمع، والثلاثة أقله، ولا ينقص عن ثلاثة بلا خلاف نظرًا إلى المعنى.
نعم؛ يجوز أن يكون العامل واحدًا إذا حصلت به الكفاية، وقد استثناه في (التنبيه)، وأهمله في (المهذب)، وتعجب المصنف في (شرحه) من إهماله، وهو وارد عليه هنا.
وقيل: يكفي في ابن السبيل واحد؛ لأنه لم يذكر بلفظ الجمع، وجوز بعضهم طرده في الغزاة، فعلى الأصح: إذا دفع السهم إلى اثنين .. غرم للثالث أقل متمول على الأقيس.
والمنصوص: أنه يغرم ثلث نصيب ذلك الصنف، فإن لم يقدر على ثالث .. أعطى من وجده، وصرف باقي السهم إليه إذا كان مستحقًا على الأصح.
ولو صرف الإمام إلى بعض المستحقين كل السهم .. ضمن للباقين قدر حاجتهم.
ثم إن عدم الانحصار .. قد يكون مع إمكان الاستيعاب ومع عدمه، ولا شك أنه مع عدم الإمكان يسقط الوجوب والاستحباب؛ إذ لا تكليف معه.
فروع:
ختم في (الروضة) هذا الباب بنقله عن (الإحياء): أنه يجب على الآخذ أن يسأل دافع الزكاة عن قدرها، فيأخذ بعض الثمن بحيث يبقى من الثمن ما يدفع إلى اثنين من صنفه، فإن دفع إليه الثمن بكماله .. لم يحل له الأخذ، قال: وإنما يجوز ترك السؤال عن هذا إذا لم يغلب على الظن احتمال التحريم.
وقوله: (الثمن) تمثيل؛ فإن سهم العامل يسقط إذا فرق المالك كما تقدم.
وإذا كثرت زكاة رجل بحيث لو بسطها على محاويج بلده كفتهم بعض كفاية، فصرفها إلى ثلاثة من كل صنف ولم يكن في القطر من يرعى المحاويج غيره .. برئت ذمته من الزكاة وعصى بتضييعهم، ولو بسطها عليهم .. سقط فرض العين وفرض الكفاية.
وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَصْنَافِ، لَا بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ، إِلَاّ أَنْ يُقَسِّمَ الإِمَامُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيلُ مَعَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ ..
ــ
وإذا امتنع الفقراء من أخذ الزكاة .. قوتلوا، ولا يصح إبراء الفقراء المحصورين ربَّ المال من الزكاة إن قلنا: تجب في العين، وهو الأصح.
قال: (وتجب التسوية بين الأصناف) ولو زادت حاجة بعضهم، سواء قسم الإمام أو المالك؛ لأن الله تعالى جمع بينهم بـ (واو) التشريك فاقتضى أن يكونوا سواء، هذا إذا كانوا غير محصورين، فإن انحصروا .. لم تجب التسوية وإن وجب تعميمهم، نقله الرافعي عن (التهذيب)، وأسقطه من (الروضة)، لكن تستثنى صورتان:
إحداهما: العامل حيث يستحق .. فلا يزاد على أجرة المثل، ولا يجوز أن يصرف إليه الثمن.
والثانية: إذا قسم فنقص سهم بعض الأصناف عن الكفاية وزاد سهم بعضهم عليها .. فهل يصرف ما زاد إلى من نقص نصيبه أو ينتقل إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد؟ وجهان: مقتضى كلام (الروضة): ترجيح الأول، لكنه صحح في (تصحيح التنبيه) نقله.
قال: (لا بين آحاد الصنف) أي: إن قسم المالك؛ لأن الحاجات متفاوتة غير منضبطة فاكتفي بصدق الاسم، لكن يستحب عند تساوي الحاجات.
والفرق: أن الأصناف محصورة فتمكن التسوية بينهم، بخلاف آحاد الصنف، وبخلاف الوصية لفقراء بلد؛ فإنه تجب التسوية؛ لأن الحق في الوصية لهم على التعيين.
قال: (إلا أن يقسم الإمام فيحرم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات)؛ لأن عليه التعميم فلزمه التسوية، بخلاف المالك؛ فإنه لا تعميم عليه فلا تسوية، وحرمة
وَالأَظْهَرُ: مَنْعُ نَقْلِ الزَّكَاةِ
ــ
التفضيل في هذه الصورة حكاه الرافعي عن المتولي فقط، وكلام ابن الصباغ يوافقه، واختاره الشيخ، وجزم به في (المحرر)، فتبعه في (المنهاج)، وقال في (الروضة): إنه قوي إلا أنه خلاف إطلاق الجمهور استحبابَ التسوية، ونقله الصيدلاني عن النص، وجزم به ابن القشيري في (تفسيره).
قال: (والأظهر: منع نقل الزكاة) أي: إذا كانت في البلد وأمكن الصرف إليهم .. فيحرم نقلها، ولا يسقط به الفرض؛ لخبر معاذ المتقدم، ولأن طمع الفقراء في كل بلد يمتد إلى ما فيها من المال والنقل يوحشهم، وبهذا قال مالك وأحمد.
ولا فرق في التحريم: بين أن ينقل إلى مسافة القصر أو دونها، فلذلك أطلقه المصنف؛ لأنه نقل إلى بلد آخر ويتضرر بذلك أهل بلده، فأشبه النقل إلى مسافة القصر، ويخالف الرخص؛ فإنها متعلقة بالسفر المشق.
وقيل: يجوز؛ لأنه في حكم الحضر بالنسبة إلى القصر وغيره.
والثاني - وبه قال أبو حنيفة -: يجوز؛ لإطلاق الآية ولم يحك ابن المنذر عن الشافعي رضي الله عنه غيره، وقال الخطابي والبغوي في (شرح السنة): عليه أكثر العلماء، واختاره الروياني في (الحلية)، وأفتى به ابن الصلاح وابن الفركاح عند وجود مصلحة لأجل قريب ونحوه.
وظاهر تعبير المصنف: أن القولين في التحريم، لكن المرجح في (الروضة) و (أصلها): أنهما في الإجزاء، أما التحريم .. فلا خلاف فيه، وقيل: بالعكس، وقيل: فيهما، وقال في (الشرح الصغير): لا يبعد التعميم.
وإطلاق المصنف يقتضي التعميم في مسافة القصر وما دونها، وهو الصحيح.
وقيل: بل الخلاف في مسافة القصر، ولا بأس بالنقل لدونها، لكن يستثنى من إطلاقه صور:
إحداها: ما إذا فرق الإمام .. فالأشبه: جواز النقل، فيفرق كيف شاء،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكذلك الساعي؛ لأنه في معناه.
الثانية: إذا كان له نصاب من الغنم نصفه ببلد ونصفه ببلد آخر .. فإن له أن يخرج شاة بأحد البلدين على الأصح؛ فرارًا من التشقيص.
الثالثة: إذا جاء الحول والمال ببادية .. فإنه يفرق في أقرب البلاد إليه.
الرابعة: إذا فارق المستحقون أو بعضهم بلد المال .. فله النقل اعتبارًا بالأخذ لا بالبقعة، نقله الإمام، قال: ومنعه بعضهم عند انتقال بعضهم وفي المقيمين مقنع.
فروع:
مؤنة النقل - حيث جاز أو وجب - على المالك، قال الرافعي: ويمكن تخريجه على أجرة الكيال، قال الشيخ: هذا عند الوجوب صحيح، وإلا .. فعلى المالك قطعًا؛ لإمكان الصرف في البلد.
ولو كان المال في بلد والمالك في بلد .. فالاعتبار ببلد المال؛ لأنه سبب الوجوب، والأصح في زكاة الفطر: اعتبار بلد المالك.
وأهل الخيام الذين ينتقلون من بقعة إلى بقعة يصرفون الزكاة إلى من معهم، فإن لم يكن معهم. فإلى أقرب البلاد إليهم عند تمام الحول.
ولو دخل إلى بلد المال غريب حين وجوب الزكاة .. كان كالقاطن في البلد، لكن تقديم القاطن في البلد أولى عند الشافعي رضي الله عنه من الداخل.
فائدة:
إذا لم يعلم الإمام بحاجة أهل الصدقة حتى قسمها في غيرهم، أو فعل ذلك بعض عماله ثم علم هو به .. فإنه يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أضعف الصدقة في مثل هذا من قابل.
وَلَوْ عُدِمَ الأَصْنَافُ فِي الْبَلَدِ .. وَجَبَ النَّقْلُ،
ــ
بينا عمر نصف النهار قائل في ظل شجرة إذا أعرابية فتوسمت الناس، فجاءته فقالت: إني امرأة مسكينة ولي بنون، وإن أمير المؤمنين عمر بعث محمد بن سلمة ساعيًا فلم يعطنا، فلعلك يرحمك الله أن تشفع لنا إليه فصاح بيرفأ أن ادع لي محمد بن مسلمة، فقالت: إنه أنجح لحاجتي أن تقوم معي إليه، فقال: إنه سيفعل إن شاء الله.
وروي أنه قال لها: اذهبي فقولي له: هذا الرجل يدعوك فقالت: ليس هكذا يكون الشفيع، فجاء محمد بن سلمة فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فاستحيت المرأة فقال عمر: والله ما آلو أن أختار خياركم، كيف أنت قائل إذا سألك الله عن هذه؟! فدمعت عينا محمد ثم قال: أد إليها صدقة العام وعام أول، وما أدري لعلي ما أبعثك، ثم دعا إليها بجمل وأعطاها دقيقًا وزيتًا وقال: خذي هذا حتى تلحقينا بخيبر فإنا نزيدك، فأتته بخيبر .. فدعا لها بجملين آخرين وقال: خذي هذا حتى يأتيك محمد فقد أمرته أن يعطيك حقك للعام وعام أول.
قال الشيخ رحمه الله: في هذا الأثر دليل على أن مال السنة إذا فرق على المستحقين وتأخر بعضهم .. يعطى من تأخر من السنة القابلة عنها وعن الماضية، وهذا يقع كثيرًا في المدارس، ويقول من لا علم له: لا نفرق مال سنة في سنة، وإنما ذلك عند عدم المباشرة والاستحقاق، أما معهما .. فيعطى؛ لهذا الأثر، ويكون المتأخر لتلك المرأة دينًا على جهة الزكاة كدين على بيت المال، وكذا نقول في المتأخر لفقيه على وقف.
قال: (ولو عدم الأصناف في البلد .. وجب النقل) أي: إلى أقرب بلد بالاتفاق كما أنا نراعي بقية الأصناف بالرد، فإذا لم نجدهم .. انتقلنا إليهم، ولأن صدقات بني تميم قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وصدقات طيء قدمت مع عدي بن حاتم على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
وليكن النقل إلى أقرب البلاد إليه، وإلا .. فهو على الخلاف في نقل الصدقات،
أَوْ بَعْضُهُمْ وَجَوَّزْنَا النَّقْلَ .. وَجَبَ، وَإِلَاّ .. فَيُرَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ، وَقِيلَ: يُنْقَلُ. وَشَرْطُ السَّاعِي كَوْنُهُ: حُرًّا، عَدْلاً، فَقِيهًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ،
ــ
وهذا بخلاف الدم الواجب في الحرم؛ فإنه إذا فقد فيه المسكين .. لم يجز نقله، سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا؛ لأنه وجب لمساكين الحرم كمن نذر التصدق عليهم.
قال: (أو بعضهم وجوزنا النقل .. وجب)؛ لتصل الزكاة إلى أربابها.
والمراد بـ (البعض): غير العامل؛ فإن نصيبه إذا عدم .. يرد على الباقين بلا خلاف.
قال: (وإلا .. فيرد على الباقين) أي: وجوبًا؛ لانحصار الاستحقاق فيهم.
قال: (وقيل: ينقل)؛ لأن استحقاق الأصناف منصوص عليه، فيقدم على رعاية المكان الذي ثبت بالاجتهاد، وعلى هذا القول: لو نقل إلى البلد البعيد مع إمكان القريب أورد على الباقين .. ضمن، ونقله في (الكفاية) عن تصحيح الرافعي وهو سهو، ونقل فيها عن البندنيجي: أن محل الخلاف إذا لم يكف الباقين نصيبهم، فإن كفاهم .. نقل.
والقولان مبنيان على أن المغلب حكم البلد أو حكم الأصناف، فالأول على الأول، والثاني على الثاني.
قال: (وشرط الساعي كونه: حرًا، عدلاً)؛ لأن ذلك ولاية وتصرف في مال الغير، والعبد والفاسق ليسا من أهلها، ونبه بالعدالة على أنه لابد أن يكون مسلمًا مكلفًا، لكنه أهمل اشتراط الذكورة كما في (المهذب) و (شرحه)، وفي (الروضة) و (أصلها) اعتبارها، وفي (الكفاية) خلاف، وتقدم اشتراط: أن لا يكون من ذوي القربى ومواليهم والمرتزقة في الأصح؛ أي: إذا أخذ من الزكاة، فإن فوض إلى ذوي القربى ورزقه من المصالح .. جاز، قاله ابن الصباغ والماوردي في (الأحكام).
قال: (فقيهًا بأبواب الزكاة)؛ لأنها ولاية من جهة الشرع فافتقرت إلى الفقه كالقضاء.
فَإِنْ عُيِّنَ لَهُ أَخْذٌ وَدَفْعٌ .. لَمْ يُشْتَرَطِ الْفِقْهُ. وَلْيُعْلِمْ شَهْرًا لِأَخْذِهَا. وَيُسَنُّ وَسْمُ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَالْفَيْءِ
ــ
والمراد بـ (أبواب الزكاة): معرفة ما تجب فيه الزكاة وقدرها، ومن تجب عليه ومن تجب له، وقدر ما يستحقه، فلا يجوز استعمال الجاهل بأحكامها وإن عرف غيرها، ويجوز تولية من عرفها وإن جهل غيرها.
قال الماوردي: ويجوز استعمال المرأة لكن يكره.
قال: (فإن عين له أخذ ودفع .. لم يشترط الفقه)؛ لأنها رسالة لا ولاية، قال الماوردي: ولا الإسلام ولا الحرية، قال في (الروضة): في عدم اشتراط الإسلام نظر، وقال في (شرح المهذب): المختار اشتراطه، قال الشيخ: وما قاله الماوردي لا يعرج عليه.
قال: (وليعلم شهرًا لأخذها)؛ ليتهيأ أرباب الأموال لأداء زكاتهم، وهذا الإعلام إما من الساعي أو الإمام، والأصح: أنه مستحب، وقيل: واجب.
وقال الشافعي والأصحاب: ينبغي أن يكون ذلك الشهر المحرم؛ لقول عثمان رضي الله عنه، المحرم شهر زكاتكم، ولأنه أول العام، ولا فرق في ذلك بين الشتاء والصيف، وفي (الشامل الصغير): رمضان أولى؛ لمضاعفة الثواب فيه.
كل هذا في الزكاة التي يشترط فيها الحول، أما زكاة الزروع والثمار .. فتبعث وقت وجوبها، وهو في الزرع عند الاشتداد، وفي الثمار عند بدو الصلاح، وينبغي لأرباب الأموال إذا قدم عليهم الساعي قبل وجوبها على بعضهم .. أن يعجلها له؛ حتى لا يحتاج أن يقدم مرة أخرى، ولئلا تتعطل مصلحة الساعي والفقراء.
قال: (ويسن وسم نعم الصدقة والفيء)، وكذا الجزية والخيل والحمير؛ لتتميز وليردها من وجدها ضالة، وليعرفها المتصدق فلا يتملكها؛ لأنه يكره لمن تصدق بشيء أن يتملكه اختيارًا.
فِي مَوْضِعٍ لَا يَكْثُرُ شَعْرُهُ،
ــ
وقال أبو حنيفة: الوسم مكروه؛ لأنه تعذيب ومثلة، وقد نهى عنهما الشارع.
لنا: ما روى الشيخان عن أنس أنه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه، فوافيته وبيده الميسم يسم إبل الصدقة، ويجعل ميسم الغنم ألطف من ميسم البقر، وميسم البقر ألطف من ميسم الإبل، قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: في آذانها، وفي رواية لأحمد وابن ماجه: يسم غنمًا في آذانها.
وعبد الله بن أبي طلحة المذكور هو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبويه: (بارك الله لكما في ليلتكما)، فولدته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد له عشرة ذكور كلهم قرؤوا القرآن والعلم، وأشهرهم إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة شيخ مالك.
والمتولي للوسم كل من له ولاية على النعم من إمام أو ساع أو غيرهما.
ويكتب في الزكاة: لله، واستبعده بعضهم بتعريضه للنجاسة، وأجيب بأنه فعل للتمييز لا للذكر والتبرك، ويختلف التعظيم باختلاف القصد، كما يتلفظ الجنب بقرآن على قصد غيره، هكذا أجاب الرافعي وغيره.
والأحسن أن يستدل بما رواه البيهقي عن صفوان بن عمرو قال: كنت بباب عمر بن عبد العزيز فخرجت علينا خيل مكتوب على أفخاذها: عدة لله، فالشافعي رضي الله عنه اقتدى به في ذلك.
و (الوسم): أثر الكي، وهو بالسين المهملة، وجوز بعضهم إعجامها، حكاه في (شرح مسلم)، وبعضهم جعل المهملة للوجه والمعجمة لسائر الجسد.
قال: (في موضع لا يكثر شعره)؛ ليكون أهون على البهيمة وأظهر لمن يراه، والمراد: أن يكون مع ذلك صلبًا.
والأولى في الغنم: الأذن، والإبل والبقر: أصول أفخاذها؛ لأن النبي صلى الله
وَيُكْرَهُ فِي اَلْوَجْهِ. قُلْتُ: الأَصَحُّ: يَحْرُمُ، وبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ، وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) لَعْنُ فَاعِلهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
عليه وسلم وسم الغنم في آذانها، رواه ابن ماجه، وفي الإبل، رواه الشافعي رضي الله عنه.
وفي (البيهقي) عن جنادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أخر أخر) حتى وصل إلى أفخاذها فقال له: (سِمْ على بركة الله) وقيس الخيل والبقر على الإبل؛ لقوتها وجلادتها.
قال الإمام: والوسم في غير الموضع الصلب .. كلام القاضي يقتضي تحريمه.
قال: (ويكره في الوجه)؛ لما روى مسلم عن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسم في الوجه).
قال: (قلت: الأصح: يحرم، وبه جزم البغوي، وفي (صحيح مسلم): (لعن فاعله) والله أعلم) ولفظه: عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بحمار وسم في وجهه فقال: (لعن الله الذي وسمه) واللعن يقتضي التحريم.
ودل ذلك على أنه يجوز لعن أصحاب المعاصي من غير تعيين؛ ففي (الصحيحين): أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة).
و: (آكل الربا) و (المصورين).
و: (من غير منار الأرض، والسارق، ومن لعن والديه، ومن ذبح لغير الله).
و: (من أحدث في المدينة حدثًا، أو آوى محدثًا).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
و: (لعن رعلاً وذكوان وعصية).
و: (لعن اليهود).
و: (المتشبهين بالنساء وعكسه).
و: (لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا).
أما البغوي .. فهو الإمام العلامة، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود، منسوب إلى (بغ) بفتح الباء وبالغين المعجمة: مدينة معروفة بخراسان بين مرو وهراة، أحد أئمة المذهب، صنف في التفسير والحديث والفقه، وكان زاهدًا يأكل الخبز البحت، فعدل في ذلك فصار يأدمه بالزيت، ولم يلق درسًا إلا وهو على طهارة، مات سنة ست عشرة وخمس مئة، ودفن عند شيخه القاضي حسين.
تتمة:
كما يجوز وسم الحيوان للحاجة - وهو تعذيب - يجوز أن يخصى ما يؤكل لحمه في الصغر؛ لأنه يؤثر في طيب اللحم، ولا يجوز في الكبر وما لا يؤكل لحمه، ومنع ابن المنذر ذلك في الكبير والصغير مطلقًا؛ لأن فيه تعذيبًا للحيوان.
وقال المصنف: الكي إذا لم تدع إليه حاجة حرام، سواء كوى نفسه أو غيره، آدميًا أو غيره، وإن دعت إليه حاجة بقول أهل الخبرة .. جاز.
ويكره إنزاء الحمر على الخيل والعكس؛ لما روى أبو داوود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وسبب النهي: أن ذلك يؤدي إلى قلة الخيل وضعفها، قال الحليمي: هذا في عتاقها، أما البراذين .. فلا، وهو حسن قريب في المعنى مما قاله الشيخ أبو محمد في إركابها أهل الذمة، وتوقف الشيخ تقي