الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الفَرَائِضِ
ــ
كتاب الفرائض
هي جمع فريضة فعيلة من الفرض، وهو: القطع والتقدير، ويترجم أيضًا بالمواريث جمع ميراث.
وكان أهل الجاهلية يورثون الرجال دون النساء والكبار دون الصغار، ويجعلون حظ الزوجة أن ينفق عليها من مال الزوج سنة، ويورثون الأخ زوجة أخيه.
وكان في ابتداء الإسلام التوارث بالحلف والنصرة فيقول: دمي دمك ترثني وأرثك، ثم نسخ فتوارثوا بالإسلام والهجرة، ثم نسخ فكانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين، ثم نسخ بآيتي المواريث: آية الشتاء التي في أول النساء، وآية الصيف التي في آخرها.
وورد في السنة أحاديث في الحث على تعليمها وتعلمها، ذكر في (المحرر) منها ثلاثة:
أولها: حديث: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يقضي بينهما) رواه أحمد، وهو في (مستدرك الحاكم) عن ابن مسعود.
والثاني: حديث: (تعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم، وإنها نصف العلم، وإنها أول ما ينزع من أمتي) رواه بنحوه ابن ماجه.
الثالث: حديث: (إنها نصف العلم) رواه الحاكم والبيهقي وقال: (إنه ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإنما قيل للفرائض نصف العلم؛ لأن للإنسان حالتين: حالة حياة وحالة ممات، والفرائض تتعلق بحال الوفاة وسائر العلوم تتعلق بحال الحياة، ويكون لفظ النصف عبارة عن القسم الواحد من القسمين وإن لم يتساويا، قال الشاعر:
إذا مت كان الناس نصفان شامت .... وآخر مثن بالذي كنت أصنع
وقيل: إن العلم يستفاد بالنص تارة وبالقياس أخرى، وعلم الفرائض مستفاد من النص.
قال الماوردي: وإنما حث النبي صلى الله عليه وسلم على الفرائض؛ لأنهم كانوا قريبي العهد بغير هذا التوارث.
واستفتح في (الوسيط) الباب بحديث: (إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى نبي مرسل ولا إلى ملك مقرب، ولكن تولاها بنفسه فقسمها أبين قسم) قال ابن الصلاح: إنه لم يثبت.
وقال عمر رضي الله عنه: (إذا تحدثتم .. فتحدثوا بالفرائض، وإذا لهوتم .. فالهوا بالرمي)
واشتهر من الصحابة بعلم الفرائض أربعة: علي وزيد وابن مسعود وابن عباس، ولم يتفق هؤلاء الأربعة في مسألة إلا وافقتهم الأمة، وما اختلفوا إلا وقعوا فرداى ثلاثة في جانب، وواحد في جانب أو كل واحد وحده.
واختار الشافعي مذهب زيد؛ لأنه أقرب إلى القياس، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(أفرضكم زيد) رواه ابن السكن في (سننه الصحاح).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وروى الحاكم: (أفرض أمتي زيد بن ثابت) وقال: على شرط الشيخين.
وعن القفال: أن زيدًا لم يهجر له قول، بل جميع أقواله معمول بها بخلاف غيره.
ومعنى اختياره لمذهبه: أنه نظر في أدلته .. فوجدها مستقيمة فعمل بها لا أنه قلده، وقال في (المطلب): إن الشافعي رضي الله عنه قلده فيها.
عجيبة:
اجتمع في اسم زيد أصول الفرائض وغالب قواعدها، وذلك أن الزاي بسبعة وهي عدد الوارثات من النساء، وأصول المسائل سبعة، والياء بعشرة وهي عدد الوارثين من الرجال وأصناف ذوي الأرحام، والدال بأربعة عدد أسباب الميراث، ومن يرث ويورث، ولا يرث ولا يورث، ومن يورث ولا يرث وعكسه.
وجملة حروفه الثلاثة أحد وعشرون، وهو عدد أصحاب الفروض: النصف لخمسة والربع لاثنين والثمن لواحد والثلثان لأربعة والثلث لاثنين والسدس لسبعة، وضابطه:(هبادبز)، وموانع الإرث ثلاثة: والعصبات على ثلاثة أقسام، وصفة الإخوة والأعمام والأصول العائلة، والوارث قد يحجب حجب نقصان أو حرمان أو لا يحجب، والجد إذا كان معه ذو فرض مخير بين ثلاثة أشياء، والأب والجد يرثان بثلاث صفات.
وأيضًا الزاي حرف معجم من أعلاه بواحدة والياء من أسفله باثنتين والدال مهمل فهي تشبه الذكر والأنثى والخنثى المشكل.
ولفظ زيد يرجع إلى معنى الزيادة والفرائض راجعة إلى هذا المعنى.
وعلم الفرائض يحتاج إلى ثلاثة علوم: علم الفتوى وعلم الأنساب وعلم الحساب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وفي (سنن أبي داوود): عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة).
قال الخطابي: فيه حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه وتقديم لعلمه.
والآية المحكمة: التي لم تنسخ، والسنة القائمة: الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والفريضة العادلة: قيل: من العدل في القسمة، وقيل: إنها استنبطت من الكتاب والسنة فتكون تعدل ما نص عليه في الكتاب والسنة كمسألة زوج وأبوين.
روى عكرمة عن ابن عباس: أنه أرسل إلى زيد بن ثابت فسأله عن امرأة تركت زوجًا وأبوين فقال: (للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، فقال: تجده في كتاب الله أم تقوله برأي؟ قال: أقوله برأي، لا أفضل أمًا على أب) قال: فهذا من باب تعويل الفريضة إذا لم يكن فيها نص أن تعتبر بالمنصوص عليه وهو قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِهِ الثُّلُثُ} وكانَ هذا أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم وبخس الأب حقه برده إلى السدس، فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى قول زيد.
فائدة:
قال الحافظ أبو عمر وغيره: أول موروث في الإسلام عدي بن نضلة بن عبد العزى، هاجر هو وابنه النعمان بن عدي إلى أرض الحبشة فمات بها وورثه ولده هناك، فكان النعمان أول وارث في الإسلام، واستعمله عمر على ميسان ولم يستعمل من قومه غيره، وأراد امرأته على الخروج معه إلى ميسان فأبت فكتب إليها أبيات شعر وهي (من الطويل):
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها .... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية .... وصناجة تحدو على كل ميسم
يُبْدَأُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيْتِ بِمُؤْنَةِ تَجْهِيِزهِ،
ــ
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني .... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءُه .... تنادمنا في الجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فكتب إليه:
(بسم الله الرحمن الرحيم: {حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ الله العَزِيزِ العَلِيمِ غَافِرِ الذنبِ وقَابِلِ التوبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِى الطولِ لَا إِلَهَ إِلَا هُو إِلَيهِ المصِيرُ} .
أما بعد: فقد بلغني قولك (من الطويل):
لعل أمير المؤمنين يسوءُه .... تنادمنا في الجوسق المتهدم
وايم الله! لقد ساءني) ثم عزله، فلما قدم عليه سأله فقال: ما كان من هذا شيء، وما كان إلا فضل شعر وجدته، وما شربتها قط، فقال عمر رضي الله عنه:(أظن ذلك، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً).
فنزل البصرة، ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات، وشعره فصيح يستشهد أهل اللغة بقوله:(ندمان) في معنى (نديم).
قال: (يبدأ من تركة الميت بمؤنة تجهيزه) من كفن وحنوط وأجرة تغسيل وحفر وحمل وغير ذلك بالمعروف؛ لأنه يحتاج إليها كاحتياج المفلس إلى النفقة فتقدم نفقته قبل قسمة ماله، بل وصرح الماوردي في (باب الردة) بأن الموت مزيل للملك إلا عما لا يستغنى عنه من كفنه ومؤنة تجهيزه، وسيأتي وجه في (باب قطع السرقة): أن الكفن باق على ملك الميت.
والمراد بـ (التركة): ما يخلفه الميت، وهو أحسن من تعبير غيره بالمال؛ فإنه لو ترك خمرًا فتخللت أو نصب شبكة ووقع فيها بعد موته صيد .. روث أيضًا، وكذا الدية المأخوذة في قتله؛ بناء على الأصح في دخولها في ملكه قبيل الموت.
وكذلك يخرج من تركته مؤنة من تلزمه مؤنته كما نقله في زوائد (الروضة) في (باب الفلس) عن النص وكلام الأصحاب، وذلك على العرف في يساره وإعساره، ولا اعتبار بلباسه في حياته إسرافًا وتقتيرًا، فإن قصرت التركة عن تمام المؤنة .. أتمها من تلزمه إذا لم تكن تركة.
ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ، ثُمَّ وَصَايَاهُ
ــ
ومن الدليل على تقديم مؤنة التجهيز: أن مصعب بن عمير توفي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفن في نمرة له.
وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته: (كفنوه في ثويبه) ولم يستفصل في الواقعتين: هل عليه دين أو لا؟
وشذ ابن حزم فقال: يقدم دين الله ثم دين الآدمي ثم مؤنة التجهيز.
لكن يستثنى من إطلاق المصنف: المرأة المزوجة؛ فإن مؤنة تجهيزها على الزوج وإن كانت موسرة كما تقدم في (الجنائز).
قال: (ثم تقضى ديونه)؛ لوجوبها عليه، والمراد: المتعلقة بذمته، سواء كانت لآدمي أو لله من زكاة أو كفارة أو حج أو نذر، أذن في ذلك أم لا.
قال: (ثم وصاياه)؛ لقوله تعالى: {مِن بَعدٍ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْن} .
وفي (المستدرك) و (الترمذي) عن علي رضي الله عنه: (إنكم تقرؤون هذه الآية، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية).
وأجمع المسلمون على ذلك إلا ما نقل عن أبي ثور من تقديم الوصية على الدين، وتقدم في آخر (باب الرهن) أن للورثة إمساك التركة وقضاء الدين من مالهم، وتقدم في اجتماع دين الآدميين ودين الله تعالى كالزكاة والحج وغيرهما خلاف فليكن على البال هنا؛ لترتيب القضاء.
أما إذا اجتمع حج وزكاة .. فلا نقل في ذلك، والظاهر: أنه يقسم بينهما؛ إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر.
ومحل تنفيذ الوصية: إذا لم يكن الدين مستغرقًا، فإن استغرق .. لم تنفذ الوصية في شيء، لكن يحكم بانعقادها في الأصل حتى ينفذها لو تبرع متبرع بقضاء الدين أو
مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي،
ــ
أبرأ المستحق، قاله الرافعي في (باب الوصية).
قال: (من ثلث الباقي) بالإجماع، أما الوصية .. ففي الآية مطلقة، ولكن قيدتها السُّنة بالثلث، وهو ما في (الصحيحين) وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم:(الثلث والثلث كثير).
وفي (سنن ابن ماجه) حديث (إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم) فلا تجوز الزيادة على الثلث فيمن له وارث بلا إجازة، وكذا فيمن لا وارث له عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: يجوز فيمن لا وارث له أن يوصي بجميع ماله؛ لأثر فيه عن ابن مسعود.
تنبيه:
قد تشارك الوصية الدين أو تتقدم عليه في إقرار الوارث كما نقله الرافعي في بابه عن الأكثرين في رجلين ادعى أحدهما أن الميت أوصى له بثلث ماله، والآخر دينًا بألف، والتركة ألف وصدقهما الوارث معًا .. تقسم بينهما أرباعًا: ربع للوصية وثلاثة أرباعها للدين، ولو صدق مدعي الوصية أولاً .. قدمت على رأي، والأصح: تقديم الدين.
فرع:
أوصى ذمي بجميع ماله ومات ولا وارث له .. هل نقول: تصح وصيته بجميع ماله، أو لا؛ لأن أهل الفيء تعلق حقهم بها؟ قال الشيخ:(لم أر فيه نقلاً، والأقرب: الثاني) اهـ
والذي مال إليه الشيخ صرح به القاضي حسين في (تعليقه)؛ لأن لماله مصرفًا معلومًا فأشبه من له وارث معين.
ثُمَّ يُقسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الوَرَثَةِ. قُلْتُ: فَإِنْ تعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقٌ كَالزَّكَاةِ وَالْجَانِي وَالْمَرْهُونِ وَالْمَبِيعِ إِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا .. قُدِّمَ عَلَى مُؤْنَةٍ تَجْهِيزِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
وحكى المتولي وجهين فيمن له وارث حائز أوصى له بماله كله:
أصحهما: بطلان الوصية، وأنه يأخذ التركة بالإرث.
والثاني: يصح ويأخذ بالوصية.
قال: (ثم يقسم الباقي بين الورثة) أي: على فرائض الله تعالى، وهذا مجمع عليه، وكيفية القسمة ستأتي.
وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين .. استحب إعطاؤهم مقدارًا غير مقدر؛ لظاهر الآية، وقال ابن حزم: يجب ذلك.
وكما تورث الأموال .. تورث الحقوق اللازمة المتعلقة بالمال كحق الخيار والشفعة، بخلاف حق الرجوع في الهبة.
والأصح: أن الكلاب تقسم باعتبار قيمتها عند من يرى لها قيمة كما في نظائرها.
قال: (قلت: فإن تعلق بعين التركة حق كالزكاة والجاني والمرهون والمبيع إذا مات المشتري مفلسًا .. قدم على مؤنة تجهيزه والله أعلم)؛ تقديمًا لحق صاحب التعلق على حقه كما في الحياة.
وصورة الأولى: إذا وجب عليه شاة زكاة ومات قبل إخراجها وهي باقية .. فيقدم مقدار الزكاة على سائر الحقوق.
قال الشيخ: واستثناء الزكاة لا حاجة إليه؛ لأن النصاب إن كان باقيًا .. فالأصح: أنه تعلق شركة فلا يكون تركة فليس مما نحن فيه، وإن قلنا: تعلق جناية أو رهن .. فقد ذكر، وإن علقناها بالذمة فقط أو كان النصاب تالفًا، فإن قدمنا دين
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الآدمي أو سوينا .. فلا استثناء، وإن قدمناها .. فتقدم على دين الآدمي لا على التجهيز؛ لما قدمناه، فظهر أنه لا حاجة إلى استثنائها، لكن الأستاذ أبو منصور استثناها واستثنى الشفيع والمردود بعيب.
وصورة الثانية: أن يجني العبد جناية توجب مالاً ثم يموت السيد .. فيخرج من التركة أقل الأمرين من أرش الجناية ومن قيمة العبد.
والثالثة: أن يرهن عبده بدين ثم يموت .. فيقدم حق المرتهن على سائر الحقوق.
والرابعة: أن يشتري شيئًا ولم يوف ثمنه ويموت مفلسًا ولم يتعلق به حق لازم كالكتابة مثلاً .. فللبائع الفسخ والتقديم بالمبيع على سائر الحقوق.
واقتضى إطلاقه: أنه لا فرق بين أن يحجر عليه بالفلس أو يموت معسرًا ولم يحجر عليه وهو كذلك، وبالثانية صرح الرافعي في (باب الفلس).
واحترز بقوله: (إذا مات مفلسًا) عما إذا مات موسرًا .. فلا يسترد المبيع وليس له بالفسخ.
تنبيهان:
أحدهما: الذي جزم به المصنف في هذه الصور هو المشهور، واستدركه في (تصحيح التنبيه) بالصواب.
وفي الجاني والمرهون وجه: أن مؤنة التجهيز تقدم عليهما، وحكى المصنف في (الزكاة) قولاً: أن الدين يقدم عليهما.
الثاني: أشار بقوله: (كالزكاة) إلى أن ذلك لا على سبيل حصرها وهو كذلك، فمن ذلك عامل القراض إذا مات المالك قبل القسمة .. فإن حقه يقدم على الكفن؛ لأنه متعلق بالعين.
ولو أصدقها عينًا ثم طلقها قبل الدخول وماتت وهي باقية .. فله نصفها.
ولو أتلف المالك مال القراض بعد الربح إلا قدر حصة العامل ومات ولم يترك غيره .. تعين للعامل كما جزم به ابن الفركاح في (تعليقه).
وَأَسْبَابُ الإِرْثِ أَرْبَعَةٌ: قرَابَةٌ، وَنِكَاحٌ، وَوَلَاءٌ؛ فَيَرِثُ الْمُعْتِقُ الْعَتِيقَ
ــ
وإذا مات سيد المكاتب ولم يترك إلا قدرًا .. يجب إيتاؤه، والمعتدة عن الوفاة بالحمل سكناها تقدم على مؤنة التجهيز.
وإذا اقترض شيئًا وقبضه ثم مات المقترض ولم يخلف سواه .. فإن المقرض يقدم به.
والمردود بعيب وصورته: أن يكون باع سلعة قد ردها عليه المشتري بعيب .. فيقدم بثمنها من ردها عليه أو على ورثته، ونفقة الأمة المزوجة وإن كانت ملكًا للسيد إلا أن حقها يتعلق بها، كما أن كسب العبد ملك للسيد وتتعلق به نفقة زوجته.
وإذا أعطى الغاصب قيمة العبد أو غيره للحيلولة ثم قدر على العبد .. فإنه يرده ويرجع بما أعطاه، فإن كان المعطى تالفًا .. تعلق حقه بالعبد وقدم به كما نص عليه في (الأم).
ومنها: الشفيع وهو: أن يكون حق بعضهم شفعة في شقص اشتراه قبل موته .. فالشفيع أحق به إذا دفع ثمنه إلى ورثته، وألحق بعضهم ما إذا نذر شيئًا بذلك.
قال: (وأسباب الإرث أربعة) ضم إليها صاحب (التلخيص) خامسًا سماه: سبب النكاح، وهو: إذا طلق في مرض الموت وقلنا بالقديم: إنها ترث، وهذا سبب غير النكاح؛ لأن النكاح يورث به من الطرفين، وهي لو ماتت .. لم يرثها.
قال: (قرابة، ونكاح، وولاء) أما القرابة والنكاح .. فللآية، وأما الولاء .. فلما سيأتي في بابه من قوله صلى الله عليه وسلم:(الولاء لحمة كلحمة النسب) صححه ابن حبان والحاكم.
والمراد بـ (القرابة): الخاصة غير ذي الرحم، ويورث بها فرضًا وتعصيبًا، والنكاح لا يورث به إلا فرضًا، والولاء لا يورث به إلا تعصيبًا.
قال: (فيرث المعتق العتيق)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ورث بنت حمزة مولى لها كما سيأتي في بابه أيضًا، وهذا الحكم أجمعوا عليه وكفى بالإجماع حجة.
وَلَا عَكْسَ، وَالرَّابعُ: الإِسْلَامُ؛
ــ
ولا فرق بين أن يكون الإعتاق تطوعًا أو عن نذر أو كفارة أو كتابة أو بملك قرابة أو باعه نفسه، وقال القاضي أبو الطيب: إذا اشترى قريبه في مرض الموت .. عتق عليه ولا يرث.
قال: (ولا عكس) أي: لا يرث العتيق المعتق وهذا مجمع عليه إلا ما نقل عن الحسن بن زياد، ولما روى الترمذي والطبراني في (الكبير) من حديث عمرو بن دينار عن عكرمة وعوسجة عن ابن عباس:(أن النبي صلى الله عليه وسلم ورثه منه).
والجواب: أن البخاري قال: لا يصح حديث عوسجة عن ابن عباس، وعلى تقدير صحته أجيب بأنه أعطاه مصلحة لا ميراثًا، وقد قال الترمذي: العمل عند أهل العلم على أن من مات ولا عصبة له .. يجعل ميراثه في بيت مال المسلمين.
تنبيه:
لا يخفى أن المراد بقوله: (ولا عكس) حيث يتمحض كون العكس عتيقًا، وإلا .. فقد يتصور الإرث بالولاء من الطرفين في مسألتين:
إذا أعتق الذمي ذميًا ثم التحق السيد بدار الحرب فاسترقه عتيقه وأعتقه .. فكل منهما عتيق الآخر ومعتقه.
وإذا أعتق شخص عبدًا فاشترى العتيق أبا معتقه وأعتقه .. ثبت لكل منهما الولاء على الآخر، السيد بالمباشرة والعتيق بالسراية، فهذان شخصان لكل منهما الولاء على الآخر.
قال: (والرابع: الإسلام) أشار إلى أن جهة الإسلام هي الوارثة لا المسلمون،
فَتُصْرَفُ التَّرِكَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ بِالأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ
ــ
بدليل ما لو وصى بثلثه للمسلمين .. فإنه يصح، ولو كان المسلمون الورثة .. لم تصح الوصية، فلما صحت .. دل على أن الوارث الجهة فجعلوا الإسلام كالنسب، وجعلوه بطريق العصوبة؛ لأنهم يعقلون عنه فكان الميراث في مقابلة العقل.
وأرشد إلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه) رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان، وهو صلى الله عليه وسلم لم يرث لنفسه وإنما يصرفه في مصالح المسلمين، وإنما أفرده عما قبله؛ لأن جهته عامة، بخلاف الثلاثة الأول .. فإنها خاصة.
قال: (فتصرف التركة لبيت المال) هذا مجمع عليه عند فقد الوارث الخاص.
قال: (إرثًا) فعندنا لأجل عصوبة الإسلام، وعند أبي حنيفة لأخوة الدين.
وفي قول أو وجه: إن ذلك ينتقل إلى بيت المال على جهة المصلحة؛ إذ لا يخلو عن ابن عم وإن بعد فألحق بالمال الضائع، والقائل بهذا لا يجعل الإسلام سببًا في الإرث، بل أسباب الإرث عنده ثلاثة فقط.
فعلى الصحيح: لا يجوز صرفه إلى المكاتبين والكفار، ولا إلى القاتل على الأصح، ويجوز صرفه إلى من أوصي له بشيء على الأصح، وهذا يدل على أن الوارث عموم الجهة لا خصوص المسلمين.
ولا خلاف أنه يجوز تخصيص طائفة من المسلمين به، ويجوز صرفه إلى من ولد بعد موته أو كان رقيقًا فعتق، وأنه يجوز أن يسوي بين الذكر والأنثى إذا تساوت حاجتهما.
قال: (إذا لم يكن وارث بالأسباب الثلاثة) هذا ليس بقيد، فلو كان ولم يستغرق .. فالباقي لبيت المال أيضًا.
هذا في المسلم، أما الذمي إذا مات لا عن وارث .. فينتقل ماله لبيت المال فيئًا، ونص في (الأم) على أنه لا يرثه الكفار بالجهة العامة؛ لأنهم لا يعقلون عنه فلما تعذر إرثهم .. صار هذا مالاً لا مالك له، والمسلمون لا يرثونه؛ لأن المسلم لا يرث الكافر فرجع إلى المسلمين فيئًا كسائر ما يؤخذ من الكفار بغير قتال.
وَالْمُجْمَعُ عَلَى تَوْرِيثِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ: الاِبْنُ وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، وَالأَبُ وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، وَالأَخُ وَابْنُهُ إِلَاّ مِنَ الأُمِّ، وَالْعَمُّ
ــ
قال: (والمجتمع على توريثهم من الرجال عشرة) هذا بطريق الاختصار، وهم خمسة عشر إذا بسطوا، والعجب أن صاحب (التنبيه) ذكر فيه الطريقة المبسوطة في الرجال والنساء، وفي (المهذب) طريقة الاختصار.
والألف واللام في (الرجال) للجنس؛ ليشمل الأطفال، ولو عبر بالذكور .. كان أحسن.
وأورد على حصره عصبات المعتق ومعتق المعتق؛ فإن اسم المعتق لا يشمل ذلك.
والجواب: أن المراد بالمعتق: من صدر منه الإعتاق أو ورث به.
قال: (الابن وابنه وإن سفل، والأب وأبوه وإن علا) لا خلاف في ذلك مع اختلافهم في إطلاق الابن على ابن الابن.
ولفظة (سفل) ضبطها المصنف - تبعًا لابن سيده وغيره - بفتح الفاء وضمها والفتح أشهر، ومنعاها: نزل عن ابن الابن، والفقهاء شبهوا عمود النسب بالشيء المدلى من علو، فأصل كل إنسان أعلى منه، وفرعه أسفل منه وإن كان مقتضى تشبيهه بالشجرة أن يكون أصله أسفل منه وفرعه أعلى.
قال: (والأخ)؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِن كَانُوا إِخوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِ الأُنَثَيينِ} .
قال: (وابنه إلا من الأم) فابن الأخ الشقيق وابن الاخ للأب بالإجماع؛ لأنهم في معنى آبائهم كما أن بني الابن في معنى الابن.
قال: (والعم)؛ للإجماع، ولحديث ابنتي سعد بن الربيع: أن أمهما أتت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هاتان بنتا سعد بن الربيع قتل معك يوم أحد، وقد أخذ عمهما مالهما فلم يدع لهما مالاً فما ترى يا رسول الله؟ فوالله! لا تنكحان أبدًا إلا ولهما مال، فقال:(يقضي الله في ذلك) قال: فنزلت سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَولَادِكُم} فقال: (ادعوا لي المرأة وصاحبها) فقال
إِلَاّ لِلأُمِّ، وَكَذَا ابنُهُ، وَالزَّوْجُ، وَالْمُعْتِقُ. وَمِنَ النِّسَاءِ سَبْعٌ: الْبِنْتُ، وَبِنْتُ الاِبْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالأُخْتُ
ــ
لعمهما: (أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك) ولأن العم أخو الأب فأشبه أخا الميت بجامع النسب القوي القريب.
قال: (إلا للأم)؛ فإنه من ذوي الأرحام.
قال: (وكذا ابنه) أي: ابن العم الشقيق يرث، وابن العم للأب كذلك، وابن العم للأم لا يرث كأبيه.
قال: (والزوج)؛ لقوله: {وَلَكُم نِصفُ مَاتَرَكَ أَزْوَجُكُم} الآية.
قال: (والمعتق)؛ للإجماع، والمراد: من صدر منه الإعتاق أو ورث به كما تقدم.
قال: (ومن النساء سبع) أي: المجمع على توريثهم من النساء سبع، والألف واللام فيه - كما قلنا - للجنس؛ لينطلق على الكبار والصغار، إذ هو حقيقة في الكبار مجاز في الصغار بمعنى أنهن سيصرن نساء، ولو قال من الإناث .. كان أولى.
قال: (البنت)؛ لقوله تعالى: {وَإِن كَانَت وَاحِدَةً فَلَهَا النِصفُ} .
قال: (وبنت الابن)؛ لأنها في معنى البنت كما أن ابن الابن في معنى الابن.
قال: (وإن سفل) الضمير يعود على الابن؛ أي: ابن الابن، وهكذا عبر في (الروضة) وهو الصواب، ولا يصح أن يقال: سفلت بالتاء كما في (المحرر) و (الشرحين)؛ لئلا تدخل بنت بنت الابن.
قال: (والأم)؛ لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيهِ لِكُلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} .
قال: (والجدة)؛ لأنها أم أو في معنى الأم، والمقصود هنا: أنها وارثة في الجملة وهو مجمع عليه.
قال: (والأخت)؛ لقوله تعالى: {وَلَهُ أُختٌ فَلَهَا نِصفُ مَا تَرَكَ} ، ولقوله تعالى:{وَلَهُ أَخُ أَوْ أُختٌ فَلِكُلِ وَاحِدٍ مِنهُمَا السُّدُسُ} .
وَالزَّوْجَةُ وَالْمُعْتِقَةُ. فَلَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ الرِّجَالِ .. وَرِثَ الأَبُ والاِبْنُ وَالزَّوْجُ فَقَطْ، أَوِ النِّسَاءِ .. فَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الاِبْنِ وَالأُمُّ وَالأُخْتُ لِلأبَوَيْنِ وَالزَّوْجَةُ، أَوِ الَّذِينَ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمْ مِنَ الصِّنْفَيْنِ .. فَالأَبَوانِ وَالاِبْنُ وَالْبِنْتُ وَأَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
ــ
قال: (والزوجة)؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُم} ، والأفصح فيها حذف الهاء، لكن يتعين هنا استعمال اللغة القليلة؛ ليحصل الفرق بين الزوجين، واستدل لهذه اللغة بقول الفرزدق (من الطويل):
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي .... كساع إلى أسد الشرا يستبيلها
ويقول عمار بن ياسر في عائشة رضي الله عنهما: (والله! إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم) ذكره البخاري.
واختار هذه اللغة الكسائي.
و (الشرا): طريق في سلمى كثير الأسد، و (يستبيلها) يأخذ بولها في يده، وقيل: يأخذ أولادها وهو حسن.
قال: (والمعتقة) كما تقدم في المعتق.
والأصل في الذكور العصوبة إلا ما أخرجه الدليل، وفي الإناث الفرض إلا ما أخرجه الدليل.
قال: (فلو اجتمع كل الرجال .. ورث الأب والابن والزوج فقط)؛ لأنهم لا يحجبون، ولفظة (كل) من زيادة (المنهاج) وهي حسنة، وتصح المسألة من اثني عشر: للأب السدس سهمان، وللزوج الربع ثلاثة، والباقي للابن.
قال: (أو النساء .. فالبنت وبنت الابن والأم والأخت للأبوين والزوجة)؛ لأن من عداهم محجوب، وأصلها من أربعة وعشرين: للزوجة الثمن ثلاثة، وللأم السدس أربعة، وللبنت النصف اثنا عشر، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين أربعة، وللأخت الباقي وهو سهم واحد.
قال: (أو الذين يمكن اجتماعهم من الصنفين .. فالأبوان والابن والبنت وأحد الزوجين)؛ لأن الإرث ينحصر في الخمسة ومن عداهم محجوب بهم، فأصل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المسألة من أربعة وعشرين: للزوجة الثمن وللأب السدس وللأم السدس والباقي بين الابن والبنت، ولا ثلث للباقي وهو ثلاثة عشر فتضرب ثلاثة في أربعة وعشرين تبلغ اثنين وسبعين، فمن كان له شيء من أصل المسألة .. أخذه مضروبًا فيما ضربت فيه.
الحالة الثانية: أن يكون الميت امرأة، فأصلها من اثني عشر للأبوين السدسان أربعة، وللزوج الربع ثلاثة، والباقي وهو خمسة بين الابن والبنت أثلاثًا، ولا ينقسم عليهم فتضرب ثلاثة في اثني عشر تبلغ ستة وثلاثين ومنها تصح.
تنبيه:
أشار بقوله: (يمكن اجتماعهم) إلى استحالة اجتماع الصنفين؛ لأن الزوج والزوجة لا يجتمعان في فريضة واحدة، كذا قاله الأصحاب، ويمكن أن يتصور ذلك في الخنثى إذا أقام رجل بينة على ميت مكفن أنه امرأته وهؤلاء أولاده منها، وأقامت امرأة بينة أنه زوجها وأولادها منه، فكشف عنه فإذا هو خنثى .. ففي (طبقات العبادي) و (أدب القضاء) للهروي أن الشافعي رضي الله عنه قال: يقسم المال بنيهما.
وقال الأستاذ أبو طاهر: بينة الرجل أولى؛ لأن الولادة صحت من طريق المشاهدة، والإلحاق بالأب أمر حكمي والمشاهدة أقوى، فعلى النص: ما لا يختلف كنصيب الأبوين واضح، وما يختلف كالزوجين يدفع للزوج نصيب الزوجة؛ لأنها لا تنازعه فيه، والقدر المتنازع فيه يقسم، وكذا الأولاد الذكور والإناث من الجهتين، فأما إذا فرعنا على إبطالهما أو الترجيح .. فلا يقسم، وحينئذ ترجح مقالة الأستاذ.
قاعدة:
كل من يورث يرث إلا الجنين في غرته والمبعض على الأظهر، والمعتَق يورث ولا يرث أيضًا، والعمة يرثها ابن أخيها وهي لا ترثه، والجدة ترث أولاد بنتها وهم
وَلَوْ فُقِدُوا كُلُّهُمْ .. فَأَصْلُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ ذَوُوْ الأَرْحَامِ،
ــ
لا يرثونها، وبنات الأخ والعم لا يرثن عمهن ولا أولاد عمهن وأبناء عمهن يرثونهن.
وكل من انفرد من الذكور .. حاز جميع التركة إلا الزوج والأخ للأم، ومن قال بالرد لا يستثني إلا الزوج، وكل من انفرد من النساء لا يحوز جميع المال إلا المعتِقة، ومن قال بالرد استثنى الزوجة.
قال: (ولو فقدوا كلهم .. فأصل المذهب: أنه لا يورث ذوو الأرحام)؛ لما روى الحاكم وقال: صحيح الإسناد - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على حمار فلقيه رجل فقال: يا رسول الله؛ رجل خلف عمته وخالته لا وارث له غيرهما، فرفع رأسه إلى السماء وقال:(اللهم! رجل ترك عمته وخالته لا وارث له غيرهما) ثم قال (أين السائل؟) قال: هأنذا، قال:(لا ميراث لهما).
وبمذهبنا قال مالك، ونقله في (الإستذكار) عن فقهاء الحجاز وأكثر التابعين والفقهاء السبعة.
وقال المزني وابن سريج وأبو حنيفة وأحمد: إنهم يرثون؛ لقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبَعْضٍ} ، ولأن ثابت بن الدحداح لما مات .. قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بميراثه لابن أخته.
والجواب: أن الآية منسوخة والحديث منقطع، وأيضًا ثابت مات يوم أحد، والمواريث إنما نزلت بعد أحد أو بعد حنين، واحتجوا بحديث:(الخال وارث من لا وارث له) وهو في (سنن أبي داوود)، وصححه ابن خزيمة والحاكم، وحسنه أبو زرعة.
والجواب: أنه ضعيف، وعلى تقدير تسليم ما ادعاه فمعناه: نقي إرثه كما يقال: الجوع طعام من لا طعام له، والدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له؛ أي: ليست بدار ولا مال.
وَلَا يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الْفَرْضِ، بَلِ الْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَأَفْتَى الْمُتَأَخِّرُونَ: إِذَا لَمْ يَنُتَظِمْ أَمْرُ بَيْتِ الْمَالِ بِالرَّدِ عَلَى أَهْلِ الْفَرْضِ
ــ
وموضع الخلاف بيننا وبينهم عند صلاح بيت المال بأن يكون الإمام عادلاً ويصرف المال في وجوهه ولا يعدل به عنها، وهذا معنى قوله:(أصل المذهب) يعني: أن هذا هو المذهب في الأصل الذي يخالف القائلين بالرد وبتوريث ذوي الأرحام، وقد يطرأ على الأصل ما يقتضي مخالفة المذهب.
قال: (ولا يرد على أهل الفرض)؛ لأن الله تعالى جعل للأخ الجميع حيث جعل للأخت النصف، ولما روى النسائي: أن بنت حمزة أعتقت مولىّ لها فمات عن بنت .. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم نصف الميراث لبنته والباقي لها، وهو ظاهر في منع الدر؛ لأن القائلين به يقدمونه على الولاء، وكل من قال بتوريث ذوي الأرحام .. قال بالرد على أهل الفرض، ومن لا .. فلا، والرد عند القائل به مقدم على ذوي الأرحام.
قال: (بل المال لبيت المال)؛ لأنه وارث من لا وارث له، وتقدم أنه على سبيل الإرث لا على سبيل المصلحة.
قال ابن الرفعة: إذا قلنا بالإرث ومنعنا نقل الزكاة .. امتنع نقله عن بلد المال، فإذا مات من لا وارث له وماله في بلد آخر بينهما مسافة القصر .. فيكون كالزكاة يختص بأهل بلد المال، وهل يجوز صرفه إلى واحد أو لابد من جمع؟ قال الشيخ: الظاهر: أنه يجوز صرفه إلى واحد؛ لأن جهة الإسلام حاصلة فيه، وإنما اعتبرنا في الزكاة ثلاثة؛ لذكر الفقراء بصيغة الجمع.
قال: (وأفتى المتأخرون) أي: جمهورهم (إذا لم ينتظم أمر بيت المال بالرد على أهل الفرض)؛ لأن المال مستحق لهم أو لبيت المال بالاتفاق، فإذا تعذرت إحدى الجهتين .. تعينت الأخرى.
غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ
ــ
وعدم الانتظام: بأن يكون الإمام فاسقًا، أو عدلاً ولكن يصرف المال إلى غير وجوه المصالح، أو لا يكون إمام بأن يموت ويكون الناس في فترة، أو يكون غير مستحق الإمامة، وخالف فيه الشيخ أبو حامد وطائفة.
وفي وجه: أن من في يده المال لا يصرفه، بل يحفظه إلى أن يلي عادل. قال ابن عبد السلام: وهذا في زمن يتوقع فيه ذلك، أما في زماننا المأيوس فيه من ذلك .. فيتعين صرفه في الحال في مصارفه.
واختار الشيخ: أن يصرفه إلى الفقراء والمساكين؛ لأن الإمام نائب المسلمين ووكيل لهم، فإذا تعذر الرد إلى الوكيل .. وجب الرد إلى الموكل.
واستشكل الشيخ على هذا تصحيح جواز صرف الزكاة إلى الإمام الجائر، بل جعلوه أفضل على رأي، وواجبًا على قول في الأموال الظاهرة.
وإذا صرفناه إلى ذوي الأرحام .. فالأصح: تعميمهم ولا يختص به الفقراء، وعلى هذا: هل هو إرث أو شيء مصلحي؟ وجهان: صحح المصنف الأول، والرافعي والشيخ الثاني؛ لعدم قرابتهما.
قال: (غير الزوجين) هو بالجر، هذا في زياداته على (المحرر) ولابد منه، فلا يرد على الزوجين؛ لأنه لا قرابة بينهما.
وموضع الاستثناء إذا لم يكونا من ذوي الأرحام، فإن كان مع الزوجية رحم كبنت الخالة وبنت العمة وبنت العم .. وجب عند القائلين بالرد أن يرد عليها، وهذا
مَا فَضَلَ عَنْ فُرُوضِهِمْ بِالنِّسبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا .. صُرِفَ إِلَى ذَوِي الأَرْحَامِ
ــ
لا يرد على المصنف؛ فإن الصرف إليها حينئذ بالرحم لا بالزوجية.
قال: (ما فضل عن فروضهم بالنسبة) أي: بنسبة فروضهم طلبًا للعدل بينهم، فإن كان من يرد عليهم صنفًا واحدًا كالبنت والأخت .. أخذ الفرض والباقي بالرد، أو جماعة .. فبالسوية، أو صنفين فأكثر .. رد الباقي بنسبة سهامهم.
مثاله:
أم وبنت، أصلها من ستة وسهامهما أربعة نجعلها أصل المسألة.
أم وبنت وبنت ابن سهامهن خمسة.
والرد عكس العول؛ لأنه ناقص عن سهام المسألة كأم وبنت هي من ستة وسهامهما أربعة فتجعل منها.
زوج وبنت وأم، هي من اثني عشر سدسها اثنان فرض الأم، ونصفها ستة فرض البنت، وربعها ثلاثة فرض الزوج، يبقى سهم يرد على الأم والبنت بنسبة فرضيهما: ثلاثة أرباعه للبنت والربع للأم، ولو لم تكن إلا الأم والبنت .. فالمال بينهما كذلك.
قال: (فإن لم يكونوا .. صرف) المال (إلى ذوي الأرحام)؛ لحديث: (الخال وارث من لا وارث له)، ولأن القرابة المفيدة لاستحقاق الفرض أقوى فقدموا عليهم.
قال القاضي حسين: والتوريث بالرحم توريث بالعصوبة بدليل أنه يراعى فيه القرب ويفضل فيه الذكر على الأنثى ويحوز المنفرد منهم جميع المال.
وللمسألة شبه بما إذا فقد بعض أصحاب الزكاة .. فإنه يرد للباقي، ثم الأصح: يعمهم ولا يخص به الفقراء.
وفي كيفية الصرف إلى ذوي الأرحام مذهبان:
وَهُمْ: مَنْ سِوى الْمَذْكُورِيْنَ مِنَ الأَقَارِبِ، وَهُمْ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ: أَبُو الأُمِّ، وَكُلُّ جَدٍّ وَجَدَّةٍ سَاقِطَيْنِ، وَأوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَبَنَاتُ الإِخْوَةِ، وَأَوْلادُ الأَخَوَاتِ، وَبَنُو الإِخْوَةِ لِلأُمِّ، وَالْعَمُّ لِلأُمِّ، وَبَنَاتُ الأَعْمَامِ، وَالْعَمَّاتُ، وَالأَخْوَالُ، وَالْخَالَاتُ، وَالْمُدْلُونَ بِهِمْ
ــ
أحدهما: مذهب أهل التنزيل، وهو أن ينزل كلاً منهم منزلة من يدلي به فيجعل ولد البنت والأخت كأميهما، وبنت الأخ والعم كأبويهما، وأبو الأم والخال والخالة كالأم، والعم للأم والعمة كالأب، وقال المصنف: إنه الأصح الأقيس.
الثاني: مذهب أهل القرابة، وهو أنهم يقدمون الأقرب إلى الميت.
مثاله: بنت بنت وبنت بنت ابن، فعلى الأول: المال بينهما أرباعًا بالفرض والرد كما هو بين البنت وبنت الابن، وعلى الثاني: الجميع لبنت البنت، وقس عليه.
قال: (وهم: من سوى المذكورين من الأقارب) هذا بيان لهم على جهة الإجمال ثم فصلهم فقال:
(وهو عشرة أصناف) الصنف: النوع والضرب، والصنف بالفتح لغة فيه.
قال: (أبو الأم، وكل جد وجدة ساقطين) هذا كله صنف، ومن جعلهم صنفين .. عدهم أحد عشر.
قال: (وأولاد البنات) أي: ذكرهم وأنثاهم، ولم يذكر أولاد بنات الابن؛ لأن لفظ البنات شامل لهم.
قال: (وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وبنو الإخوة للأم، والعم للأم، وبنات الأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات) فهؤلاء العشرة أولوا الأرحام عند الفقهاء.
ويطلق لغة على كل قريب، لأن الأرحام جمع رحم وهي: القرابة، وفيه اللغات الأربعة في فخذ.
قال: (والمدلون بهم) هذا معطوف على الأصناف العشرة لا أنه منهم؛ لأن المدلي بمن لا يرث لا يرث.