الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرحاب، فالله أسأل، وعليه المعول، أن يديم ظلكم الوريف، ويشيد ركنكم الحصين المنيف، ويسبغ عليكم الآلاء والنعم، ويدفع عنكم اللأواء والنقم آمين، ثم ذكرت له بعض الأحوال التي حدثت.
[طبقات أهل دمشق]
وأما أهل دمشق الشام فهم على ثلاث مراتب، أما المرتبة السفلى فهم أجلاف جفاة لا دين ولا مروءة، وهم الينكجرية «1» ، ومن كان على طريقهم من الأراذل الأنذال، وأما الطبقة العليا من أكابر وعلماء ومشايخ طريق فهم فراعنة كذابون مراءون، لا علم ولا عمل، أما المتصوفة فلهم طريق إلى جلب الدنيا، يودّون أن كل أحد يقبّل أيديهم ويأخذ عنهم الطريق، ولا يبالون بأحد، يظهرون للعوام أنهم الهداة المرشدون، حتى لو قدر في الشاهد أن أويس القرني «2» ، أو حبيب العجمي «3» ، جاء إلى بلادهم، لمدوا أيديهم لتقبل ولا يعتنون بهما، وهذا من تلبيس إبليس عليهم، حسّن لهم كل شيء تنكره (133 ب) العوام وان كان فيه طاعة الله ورضاه، أنهم «4» يتركونه. الحاصل لهم حالة يجلبون بها قلوب العوام، ويموهون عليهم ويراؤنهم، فالذي تستحسنه العوام فعلوه، والذي ينكرونه تركوه، لا يثبتون لغيرهم صلاحا ولا فلاحا، ظاهر حالهم تنبىء على أنهم أفضل من الشيخ عبد القادر «5» ومحيي الدين ابن العربي، بل لو جاء إليهما «6» لمدوا أيديهم لتقبيلها، فمنهم من
إذا خرج إلى الصلاة يضع على عاتقه سجادة، ولا ترضى نفسه بأن يصلي على حصر المسجد، ومنهم من يلازم بيته لتزوره العوام وأهل الدنيا، وإذا وقع بأيديهم شىء ولو من مال المكس والظلم أخذوه وبلعوه. وأكثرهم جمع من الدنيا ما لا يوصف، أعاذنا الله من أفعالهم، وجانبنا ردىء أحوالهم آمين.
وأما علماؤهم «1» ، فهم لا تحقيق عندهم ولا إتقان، حضرت درس الشيخ إسماعيل العجلوني «2» ، مرات، وحوله جماعة من طلبته، كل واحد على رأسه عمّة كالفلك الأطلس، وهو يقرئ البخاري، وبيده شرحه الذي جمعه من عدة شروح، مجرد نقول لا محاكمة فيه ولا تحرير معنى، ولا (134 أ) ضبط مبنى، بل إنّه ينقل عبارة بعض الشروح ثم يعقبها بعبارة شرح آخر، ويكون بين العبارتين مخالفة، فما يرجح أحد القولين على الآخر، ولا يجمع بينهما، وتارة تكون العبارتان متفقتين فينقلهما فتؤول إلى التطويل من غير فائدة.
ورأيت المملي يقرأ حديث البخاري قراءة خفيفة بهمهمة ودمدمة بحيث لا يسمع إلا نفسه، فيشرع الشيخ بقراءة الشرح من غير تقرير ولا تحرير، ولا حل إشكال ولا فلّ تركيب.
وكنت اسمع عن أهل دمشق مدحه كثيرا بحيث إنهم يبالغون فيه غاية المبالغة، وهذه عادتهم مع علمائهم وصلحائهم يبالغون فيهم عكس بلادنا، فو الله إن أدنى طالب في بلادنا أفضل منهم، لكن هذا الشيخ أفضلهم على الإطلاق، وأصلحهم وأكملهم، له علم وتحقيق
في الجملة، إلا أن شهرته أكثر من علمه، وله إنصاف وافر. يستفيد ولو ممن هو أدنى منه.
وبالجملة هو عالم فاضل ناسك كامل، يسلك مسالك العلماء السلف، لا دعوى ولا أنانية، إلا أنه لما كان أهل دمشق يبالغون فيه إلى حد الإغراق، يرى علمه أقل مما ذكروا، نعم لولا مبالغتهم لرآه الرائي عالما فاضلا نحريرا (134 ب) . ورأيت درس الشيخ (أحمد)«1» المنيني «2» ، فرأيته كالأول، بيده كراس القسطلاني «3» ويمليه من غير تقرير ولا تحرير، لكنه ملك من الدنيا شيئا كثيرا، مدخوله كل يوم ألف عثماني، وكذا الشيخ الأول، له دنيا واسعة ومال كثير، ولا أحد من الطلبة أو من الغرباء رأى بيوتهم، أو أكل منهم، ولو أتتهم الصدقات والزكوات أخذوها، ولهم طريقة يحافظون على أنفسهم لئلا يظهر جهلهم، وهي أنهم لا يؤالفون الغرباء ولا يخالطونهم ولا يلائمونهم، غلاظ شداد جفاة أجلاف، لا يسلمون لأحد، حتى هو يسلم لهم جميع الفضائل، فيسلّمون له بعضها، لكن هؤلاء الطبقة العليا منهم. وأما الوسطى فهم أهل تحقيق وتدقيق وملاءمة وسخاء وحسن أخلاق ورقة جانب، يطلبون الفائدة ويوقرون العالم ويحترمونه ويأخذون عنه، لكن لما غلب شهرة هؤلاء يرى الرائي بادي الرأي أنهم كلهم كذلك، فوا أسفا على علمائنا وصلحائنا! فو الله إن جهالنا أفضل منهم، وفسّاقنا أصلح من مشايخهم، ولهم هذه الثروة وهذا المال، وعلماؤنا مع تحقيقهم وفضلهم وصلاحهم (135 أ) لا يستطيعون ادخار درهم.
ومن أعجب ما رأيت فيها أن رجلا من عوامنا، ممن كان من أعوان الظلمة، في بغداد لا علم له ولا حال، إلا أنا كلنا نسمع أنه يتعلم الرمل والجفر، ولا يعرف شيئا منها، جاء إلى دمشق، وادعى المشيخة في الطريق، واتخذ شبكة وقلل الخروج من بيته، [و] كان يسمى أولا بحسن، والآن عندهم يسمى الشيخ حسن، فو الله إنه ما سأل عن حالي ولا زارني مع إلفتي معه في بغداد، ومعرفته بي غاية المعرفة. وما فعل هذا الجاهل لئلا يسقط قدره عند القوم ويقولون الشيخ حسن زار فلانا فالظاهر أنه أفضل منه، هذا الذي انطوت عليه نفسه الخبيثة، وكذا سائر من هو من أمثاله مثله، وقد سمعت من غير واحد أن لكل عالم منهم ولدا يتعشقه ولا يقرئ إلا إذا أحضر ذلك الولد، فإنا لله وإنا إليه راجعون. والظاهر أن جميع علمائهم لا علم لهم لأني رأيت هذين الشيخين ومدحهما في دمشق الشام منشور، فكيف بمن لا ذكر له بل هو من تلامذتهم؟ فالظاهر أنه دونهم فإنا لله وإنا إليه (135 ب) راجعون.
وأما المرتبة الوسطى فلهم رقة وديانة وصلاح وأمان وإكرام للغرباء وحسن ظن بالصلحاء، يواددون الغريب ويكرمونه ويجلونه، وهؤلاء أهل الحرف كالعطارين والبزازين والبقالين وبعض العلماء ومن ينحو نحوهم. ومن أغرب ما رأيت في دمشق الشام أن الزواني يدرن في الأسواق جهرا، ويخالطونهن السفهاء، ويأكلن في رمضان على ملأ من الناس، ومكانهن عند باب الجامع المسمى بجامع السّباهية «1» ولا أحد ينهاهن أو يزجرهن أو يزجر من يقبّلهن جهرا في الأسواق فإنا لله وإنا إليه راجعون «2» .
ومن عجيب ما رأيت فيها أن غالبهم، حتى الأولاد الذين [هم] أبناء ست سنوات، على رؤوسهم عمائم، كل عمامة أكبر من حجر القنبرة والمنجنيق، حتى رأيت بعض العوام عمائمهم كذلك. ولعلمائهم لباس نفيس من الفرى السمورية والسنجابية والقاقمية «1» وغيرها، بحيث يساوي مالا جزيلا.
وأكثرهم لا يحسن [قراءة]«2» الفاتحة، وأكثر مصروفهم من الأوقاف، حتى إني سمعت أن في دمشق نحو ألف مدرسة أكثرها اندرس والباقي صار منازل للناس وأوقافها يأكلها هؤلاء الجهلة. ومما اعتادوه (136 أ) أنهم يذهبون إلى الدولة العلية، ويشتري [أحدهم]«3» له مرتبة تدريس على قانون علماء الأتراك، فيكتسب بذلك الكبر والظلم، ويتخذ له المماليك الحسان، وهو أجهل من حمار، فوا أسفي على علمائنا، فما أفقرهم وما أحوجهم وما أعلمهم وما أصلحهم، فو الله إن أدنى علماء دمشق يملك أكثر مما يملكه والي بغداد مع سعة إيرادها. وأما مشايخ الطريقة فأولاد الشيخ عبد القادر، الذين هم في الشام لهم مظالم ويتعاطون الربويات، ولهم بيوت صرفوا عليها ما لا يعد ولا يحصى، شاهقة نحو السماء، بحيث لو بناها فرعون لأنكر عليه، فوا أسفي على أولاد الشيخ الذين هم سدنة قبره وخدام ضريحه، فما أفقرهم وما أحوجهم وما ألينهم وما أودعهم وما أكرمهم رضي الله عنهم، وأما أولئك فهم أبخل من مادر «4» ، وأفجر من فرعون، لهم كبر وأنانية أعظم من نمرود، أعاذنا الله