الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من غضبه وعقابه.
وأما المشايخ الذين هم غيرهم، فهم مراءون كذابون دجالون، يأكلون بدينهم، اللهم إلا أن يكون الصالح منهم مقبورا، ولهم أذكار في الجامع الأموي ما يشك أحد إذا رآهم أنها سخرية (136 ب) وملعبة، بل لا يفهم أحد ما يقولونه.
ومن عجيب أمرهم أن النساء يختلطن بالرجال سحر رمضان، وكذا وقت التراويح، ومرة صليت التراويح في [الجامع] الأموي فرأيت الناس جلوسا بين الصفوف يتحدثون، والأولاد لهم صياح وعياط ولعب بحيث يشوشون على المصلين، فتركت الصلاة فيه من حينئذ.
وهذا الجامع كبير واسع، في غاية الحسن من العمارة والنقش والأسطوانات والرواقات، بحيث يعلق في كل ليلة من رمضان نحو اثني عشر قنديلا كما قيل، وشهرته تغني عن تعريفه.
[معالم دمشق]
وأما أرض دمشق فإنها طيبة كثيرة المياه والأشجار، حتى إن المراحيض تجري فيها سواقي الماء فيذهب بالنجاسة ويستنجى به، وهي أرض مقدسة [فيها] مهاجر الأنبياء ومدافنهم، جنة من جنات الدنيا، إلا أن غالب سكانها البقر. ويوم عيد الفطر أخذنا صالح أفندي الموصلي إلى الصالحية «1» ، وبقينا في القصر العمادي من الضحى إلى العصر، وصلينا الجمعة في جامع سيدنا الشيخ محيي الدين بن العربي، ثم زرنا قبره الشريف، ودعونا لنا ولأحبابنا، وزرت قبر سيدي الشيخ عبد الغني (137 أ) النابلسي فصعدت على قصره، فرأيت الأشجار مد البصر من الجوانب الأربعة، حتى إن دمشق ترى كالشامة بين الأشجار.
وأما القصر العمادي فهو تجاه قبة النصر التي هي على ظهر جبل قاسيون، بناها الملك العادل «1» ، ناصر الدين «2» الذي دعا له الشيخ ابن العربي في مسامراته «3» . ودخلنا المدرسة التي بناها مقابل جامعه، فإذا هي من أحسن المدارس إلا أنها خربة «4» .
وجبل قاسيون هذا فيه أنس ظاهر ونورانية، يقال إن فيه دفن أنبياء كثيرون وأولياء غير قليلين، ودخلنا المدرسة العمرية «5» ، وفيها ثلاثمائة وست وستون حجرة.
وهي مدرسة عامرة ذات أوقاف كثيرة لا عيب فيها إلا أن العلم والتدريس مفقود بها.
وأخبرني غير واحد أن في الصالحية مدارس عدد أيام السنة إلا أن أكثرها اندرس، وأوقافها يأكلها ذوو الرتب من أهل الجهل. وزرنا ثمة في سطح الجبل المغارة الجوعية نسبة إلى الجوع، قيل: إنه مات فيها أنبياء من الجوع، والحاصل أن الصالحية جنة من جنان الدنيا.
ورجعنا من الصالحية على طريق شجر الآس «1» ، فمشينا نحو (137 ب) فرسخ بين البساتين، فيا لله ما ألطف تلك البقاع، وما أوفر أشجارها إلا أنها وقعت لأناس أكثرهم من نوع البقر، وسبب ذلك- على ما قيل- أنهم مبتلون بالحلف بالطلاق كذبا، فتأتي أولادهم على هذه الصفة المذكورة، لأنهم ليسوا أولاد نكاح صحيح- أعاذنا الله من سوء العاقبة- وكل ما سمعت عني في ذم أهل دمشق فهو محمول على الغالب، وإلا ففيهم أناس أهل عفاف وإنصاف وديانة وأمانة وصيانة ورفقة ولين جانب وكرم وغير ذلك.
وممن زارني الشيخ إسماعيل العجلوني شارح البخاري، جاء وأنا إذ ذاك مستقر في مدرسة سليمان باشا «2» ، فرآني نائما، فما استحسن إيقاظي، وجلس عند باب الحجرة ثم ذهب وقرضت على شرحه للبخاري المسمى بالفيض الجاري ما صورته: الحمد لله الباري على إنعامه الفيض الجاري، قوّى الضعيف المنقطع الغريب فأصبح عزيزا موصولا، وأهله بصحيح النية للعمل الحسن فكان بتواتر إحسانه المرسل مشهورا مأهولا، وشفى جرح اضطرابه بتعديل اعتقاده فلم ير بعد مضطربا معلولا، وأفاض (138 أ) عليه مسلسل رفده الذي ناف على الغوادي والسواري، والصلاة والسلام على المرفوع ذكره، المسند شرفه وفخره، المعنعن بطهارة الأصلاب نجره «3» ، المديح من الطرفين نسبه، السامي على الدراري، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء من غير تلبيس، وأعلام الاقتداء الموقوف عليهم الهدي النفيس، وحافظي الشريعة عن الشاذ المشهور المنكر، فلا إيهام ولا تدليس، فتابعوه صلى الله عليه وسلم متابعة شواهدها ظاهرة على الشموس في ذروة المجاري، وعلى من اقتفى آثارهم
في إيضاح المشكل، وتبيين الموضوع الغامض المعضل، ومحق المدبر عن الدين ونصر المقبل، ما دام يروي مسلم صحيح البخاري.
وبعد، فقد وقفت على شرح البخاري المسمى بالفيض الجاري فألفيته قد جمع فأوعى، وحيصل «1» على الإيضاح واستدعى، تأبط جميع شرح الأول، وزاد في كشف المشكل وإيضاح المجمل، فإذا هو الجامع الكبير في الترجيح، ومشكاة المصابيح في الجامع الصحيح، أومضت بروق تمييز الروايات من خلال المباني فهي لوامع بوارق، وسطعت (138 ب) الداريات من آفاق المعاني فهي لها مشارق، فلعمري إنه الفيض الجاري، ولا غرو لأنه فتح الباري، وطئت مقاصده فكان الموطأ، ولا يشك مسلم بأنه كشف عن البخاري المغطى، فيحق لي أن أنشد فيه بعض ما فيه: كيف ومؤلفه الذي نظم تعبيراته في سمط التحقيق، وحبّر في تحريراته حبر «2» التدقيق والتنميق، شيخ البسيطة على الإطلاق، وزين الشريعة بالاجماع والاتفاق، (139 أ) ثالث الشيخين على اصطلاح الفريقين، حكم كتابه بأنه ألحق الأوائل بالأواخر، وقضى بأنه كم ترك الأول للآخر، علامة المعقول والمنقول، فهامة الفروع والأصول، جمع الفنون العديدة فانحازت إليه، وحرر التصانيف المفيدة فكان معول الجمهور عليه، فإذا الواجب على ما تحرر أن أنشد فيه بعض ما حضر:
زفّ الحسان من البخاري جهرة
…
كم مسلم في حسنها [منبهر]«3»
ألا وهو الذي وضح الغوامض أتم إيضاح، وأفصح (139 ب) عنها أظهر إفصاح، الشيخ إسماعيل العجلوني ابن محمد جراح، وفقه الله للإفادة، ومنحه السعادة والسيادة آمين.
اعلم أيها الناظر في هذا التقريض، أن الشيخ حري بذلك إلا أنه لما كان يبالغ فيه، يراه الإنسان دون ذلك بكثير، وإلا ففي نفس الأمر له فضل باهر، وصلاح ظاهر، نفعنا الله به،
آمين. وجاءني يوم السبت ثاني شوّال من ولدي كتاب، صورته: ما روضة تدفقت أنهارها، وأينعت «1» أزهارها، وكساها الحيا سندسي الأثواب، ونسج عليها الصبا أحسن جلباب، وفككت منها الجنوب أزرار الورود، فهتكت منه أستار الكبود، بل ما صدح العنادل «2» فوق الخمائل، وتغريد البلابل لدى الأسحار والأصايل، بأحثّ من سلام يهدى من محله إلى أهله، ويبلغ بلوغ الهدى الواجب إلى محله، ناف على النيرين إضاءة وبهرا، وسما على الفرقدين مكانة وقدرا:
سلام لو تمثّل كان درا
…
وياقوتا يقلب باليدين
«140 أ» على من عنده روحي وعقلي ومسكنه سواد المقلتين سلام مزفوف بالتحيات، محفوف بالدعوات، بأن يديم الله سيدنا المقتدى بآثاره، المهتدى بأنواره، إمام محراب العلوم، مالك أزمة المنثور والمنظوم، أعلم من قضى وأفتى، وأفضل من تفرد في جميع العلوم، فدعا ابن الأثير «3» دونه في الأثر، وانفرد بصحة الرواية فمسلم «4» له صحة الخبر، وجنى ثمار البلاغة فسدّ على ابن الجوزي «5» طرق المجاز، وقطف أزهار البراعة ففتح على ابن معين باب
العواز «1» ، واعترف له ابن كثير «2» بقلة الجمع، وقال الفخر «3» لمعقوله: ما أنت وأدلة السمع، واكتسب عنه ابن مالك «4» الملكة العربية، وأقر ابن عصفور «5» بأنه ليست له حوصلة على هذه الفنون الأدبية، وأضحى مذهب الشافعية منصورا، وأمسى خبر مذهب النعمان عليه مقصورا، من أذعن لكثرة بحثه النادر شاه العجم، فظل طرفه ساهيا ولسانه قد انعجم، فسعى بالصلح بين الدولتين فحاز الفخار، (140 ب) والنجح في النشأتين، وحمل الشيعة على الإقرار بخلافة الصديق، وأنه الأفضل الأحق على التحقيق، نسأل الله أن يبقيه على رؤسنا تاجا، ويديمه لنفوسنا طريقا إلى الخير ومنهاجا.
أعيذك بالمعوذتين أنّي
…
أخاف عليك من نظر الحسود
وبعد، فالمملوك يقبّل أرضا ترافعت على الفرقدين والسماك، أرضا تقاعست دونها الأفلاك، أرضا أضحت حلبة الأدب، ألا وهي أرض المحروسة حلب، أرضا تقبلها شفاه الأفاضل، ويقصد سوحها كل فاضل، أرضا تناخ بها يعملات «6» الرجا، وتحط بها رحال من
قصد وجاء، وكيف ينكر لها هذا الفضل، أو يكفر لها الشرف في مثل هذا الفصل، وقد أضحت مأوى للمولى القمقام «1» ، ومنزلا للنحرير الهمام، لا زال السعد له قرينا، ولطف الله له ناصرا ومعينا، آمين، أطال الله بقاء مولاي، إنه قد ورد علينا من جنابكم كتاب كريم حقيق بالإجلال والتكريم، نافت معاقله على الحصن الحصين، وفاقت جواهره على الدر، «141 أ» عذبت مناهله، وبهرت فضائله، إذا فاضل كان ذا القدح المعلى، وإذا ساجل كان ذا التاج المحلى، ذو النسب الذي امتطى كيوان «2» ، والحسب الذي دونه العيوق والسماكان «3» ، وزان «4» المعارف فاتسم منها بأجل صفة، ولا بدع! إذ منه عرف الوزن والمعرفة، إن البيت قد كتبت عليه نحو ما أمرتم، وأرسلته إليكم حسب ما أشرتم، فأقول: قليل خبر ثالث لقوله، هو في البيت قبله، وتعدد الخبر جائز على الراجح، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف على طريقة الاستئناف البياني، فكأن سائلا يقول: كيف حال هذا الرجل الجواب الملازم للأسفار في الفلوات والقفار، وأنه أشعث أغبر إذا ارتفعت الشمس حيال رأسه برز لها ليدفأ، وإذا جاء العشي آلمه البرد، فقال: هو قليل. انتهى. وظله فاعل للوصف لاعتماده على مخبر عنه، ويجوز على مذهب الأخفش والكوفيين أن يكون الوصف مبتدأ وظله فاعلا، أعني عن الخبر، وذلك لعدم اشتراطهم اعتماد الوصف على نفي أو استفهام. على ظهر المطية متعلق «141 ب» بالوصف فالظرف لغو، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من ظله قدّم عليه، فالظرف مستفر، واختلاف المعنيين على اختلاف المتعلقين لا يخفى على ذي عينين، سوى أداة استثناء، وما موصول حر في صلته نفى عنه الرداء، أو المفعول محذوف، أي نفى الرداء الشمس، والضمير المجرور، بمن عائد إلى رجلا في البيت الأول، والمستثنى منه أعم الأوقات والأحوال والمعنى أن هذا الرجل الجوّاب الملازم للأسفار، الذي
تقاذفت به الفلوات وترامت به الأقطار، هو أشعث أغبر لعدم استقراره في الحضر، وأنه من تراكم المشاق ضعف جسمه، ودق عظمه، وصغر هيكله بحيث صار لا يحجب الشمس إلا قليلا، المستلزم ذلك قلة ظله إذ كثرة الظل وقلته باعتبار كثرة الحاجب وقلته، فيكون ظله على ظهر المطية قليلا في كل وقت وحال سوى وقت وحال تنحية الرداء عنه للشمس، أي وقت لبسه الرداء، فيكثر الظل حينئذ لكثرة الحاجب، ولا يخفى أن هذا المعنى من المعاني التي تخبر عنها الشعراء من المقدمات الشعرية والقضايا «142 أ» الخطابية، فيبرزون الموهوم بصورة المحسوس تخيلات تقبلها النفوس، وتارة يحكمون بخفاء المحسوس المعلوم ويعدونه أقسام الموهوم، فمن ذلك مما يناسب ما نحن فيه قول سيدي شرف الدين عمر بن الفارض:
خفيت ضنى حتى لقد ضلّ عائدي
…
وكيف ترى العواد من لا له ظل «1»
وقوله: «2»
قد تركت الصّب فيكم شبحا
…
ماله مما يراه الشوق فيّ
وقول المتنبي: «3»
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
…
لولا مخاطبتي اياك لم ترني
وقوله: «4»
ولو قلم ألقيت في شق رأسه
…
من السقم ما غيّرت من خطّ كاتب
وقولي من أبيات مقامتي التي سماها سيدنا الحسيب النسيب السيد مصطفى البكري الصديقي- حفظه الله تعالى- بالجامعة للأمثال العزيزة «5» الأمثال: صار يحكي شبحا ما له ظل، وفي غاب عن عواده مذ غدا ليس بشيء، أن يكون ما في البيت معرفة ناقصة أو نكرة
ناقصة، والجملة «142 ب» الفعلية أما صلة أو صفة، والضمير المجرور بمن عائد إلى ما، والمستثنى منه أما، الظهر مرادا به الأجزاء، أي أن ظله قليل على جميع أجزاء ظهر المطية، سوى الجزء الذي نحّى عنه الرداء، لأن الرداء يتجافى فيتسع الظل لكثرة حجب ضوء الشمس، فحينئذ يكثر الظل على الجزء الذي نحّى الرداء عنه ضوء الشمس لكثرة منع الرداء حينئذ ضوءها، الظل بناء على أن الإضافة استغراقية، والمعنى حينئذ أنه جميع افراد الظل على ظهر المطية قليل إلا الظل الذي نحّى عنه الرداء ضوء الشمس لكثرة منع الرداء حينئذ ضوءها المستلزم ذلك كثرة الظل، وذلك لما قدمنا من أن كثرة الظل وقلته باعتبار كثرة الحاجب وقلته، والمعنيان متلازمان، ويحتمل أن يراد بالظل نفس الشخص، والمعنى أن هذا الجواب الملازم للأسفار قد رق جلده ودق عظمه بحيث إن شخصه يرى على ظهر المطية قليلا أي صغيرا، إلا ما نحى عنه الرداء الفضاء فيرى في رأى الغير كثيرا كبيرا، وإطلاق القليل على الصغير والكثير على الكبير جائز بالاعتبار، والمستثنى منه يحتمل الأوجه السابقة كلها، وكذا لفظ ما يحتمل الاسمية والحرفية، وتشخيص المعاني على جميع التقادير (143 أ) لا يخفى على الناقد البصير. ثم أني وقفت على ما كتبه المنيني «1» فإذا هو بمراحل عن المعنى المراد والله تعالى أعلم.
ودعانا إلى بيته مرة ثانية، فقضينا تلك الليلة بلذيذ المسامرة، من إنشاد شعر، وضرب مثل، وإيراد مسألة، فما رأيت أحفظ منه للغة ولأبيات العرب، كأن اللغة أوحت إليه بحفظ ديوان المتنبي وديوان أبي تمام وديوان الأرّجاني، ما عدا القصائد والأبيات الخارجة عن ذلك، وهي كثيرة بحيث لو جمعت لبلغت دواوين.
وله- حفظه الله- نظم بليغ رائق قل أن رأيت مثله، فمن نظمه:
أيها المعرض الذي قد جفاني
…
ففؤادي في قبضة الوجد عاني
صار دمعي يسابق اللفظ بالش
…
كوى ويحكيه رقة في البيان
كم عتاب أبديه حتى إلى الكا
…
س واعذبه الذي قد عناني
بلسان من الدموع فصيح
…
أرسلته عينان نضاختان
يحمل الراح رقة فلهذا
…
تتوارى بحلة الأرجوان
قد براني جور الهوى وزماني
…
ليس يرى فما اراه يراني
«143 ب»
أفلا رحمة لصب يقاسي
…
من صروف الهوى وصنوف الهوان
ليت شعري ومن تمنّى تعنّى
…
ومحال لا شك بعض [الأماني]«1»
فأرى ساعة من العيش تصفو
…
لكريم من عربدات [الزمان]«2»
ومن نظمه:
عتا يعتو عتوّا فهو عات
…
عسى يعسو فهو عاس
«144 أ»
مضاعف جهله باد وأدهى
…
لنا المطوي تحت الاحتراس
مضى في الصرف نقد العمر منه
…
وما عرف الرصاص من النحاس
ثقيل قاصر الادراك قاس
…
غدا كالقوس من تحت القياس
كأن كلامه في كل فن
…
سهام في القلوب وفي الأناسي
قريب غائب يقظان ساه
…
متى يحفظ يحرف فهو ناس
إذا ما قال قال أبو فراس
…
حسبت الموت قبل الافتراس
وكم عين أعلّ وضم لكن
…
غدت منه البصيرة في انطماس
مزيد في المجالس لا لمعنى
…
ولكن للتثاؤب والنعاس
فيلزم صرفه منها وجوبا
…
يهز رأسه من غير باس
ولا تدري لسوء اللحن منه
…
أيشتم ام يشمّت للعطاس
وقال نظمت في التجنيس بيتا
…
فقلت بيت عسل للجناس
ولا والله ما هذا هجاء
…
ولكن كان قولا بالتماس
«144 ب»
وذاك يكون إن عنيت شخصا
…
بقصد أو عنيت بلا التباس
وله غير ذلك أشعار رائقة ناصعة، ونثر فقراته فائقة رائعة، لكنها لطولها وضيق الوقت منع في كتابتها. ونزلنا في مدرسة سليمان باشا «1» ، وهي مدرسة في صحنها بركة ماء ولها حجر فوقية وتحتية، ولها طعام وخبز للطلبة وعلوفة في كل شهر، إلا أن العلم فيها معدوم، ومتوليها ومدرسها الشيخ المعمر الشيخ محمد التدمري، جلسنا فيها مدة، كل يوم مقدار ساعة أو ساعتين أو أكثر، ولم نبت بها إلا ليلتين، رحم الله الواقف على ما كان منه.
وممن دعانا السيد هاشم الآلوسي، ودعا شيخه الشيخ عبد الرحمن الصناديقي «2» فاجتمعنا به، وإذا هو عالم فاضل محقق ناسك صالح ناجح راجح طلب العلم في الجامع الأزهر، ثم إنه طلب مني أن أكتب له إجازة الحديث وغيره، فكتبت له ما صورته: الحمد لله الذي قوى الضعيف بصحيح مستنده إليه، وأوصل المنقطع باعتماده الحسن عليه، والصلاة والسلام على المرفوع الذّكر بنص الذّكر، المشهور فضله، (145 أ) المتواتر نبله، والمسلسل فخره، والمعنعن بالطهارة بحرمة النبي المرسل من أشرف قبيل إلى أكرم جيل، وعلى آله وأصحابه الذين رووا عنه جميع الأحكام، وتابعوه متابعة شواهدها واضحة على مر الأيام، ما دار في القديم والحديث صيغة حدثنا في إسناد الحديث، أما بعد، فقد التمس بلا
أمر- وأمره واجب الامتثال- سيدنا الذي عزت به النظائر والأمثال، البارع الذي برع في سائر العلوم، الجامع الذي أحاط بمكنونات المنطوق والمفهوم، ذو التحقيقات التي دلت على طول باعه، والتدقيقات [التي] شهدت بافتضاضه أبكار المسائل، وافتراعه الذي اتفق الجمهور على أن عمله توفيقي، وفضله الباهر تحقيقي، زين الملة والدين، الشيخ عبد الرحمن الصناديقي، لا زالت أعلام إفادته منشورة، وتحرير عباراته بالإيضاح مشهورة، بأن أجيزه بما يجوز لي وعني روايته من كتب الحديث المشتملة على الجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء والمشيخات وغيرها، ومن كتب التفسير والفقه وأصوله وعلم الكلام والمصطلح (145 ب) والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض والمنطق والحكمة والهيئة والهندسة، وغير ذلك من منطوق ومفهوم، ومنثور ومنظوم، فأجزته بجميع ذلك بحسب ما اتصل عن مشايخي العظام وأساتذتي الفخام، بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، وإن هذا العبد الفقير لا يمكنه في هذا الوقت تفاصيل مسموعاته، ولا يسعه تشخيص جزيئات مروياته، اذ لا كتاب يعول «1» عليه، ولا مجموع يستند إليه، فإنه لقي من الغربة عرق القربة، فالواجب إذا الإتيان بما في وسع الاستطاعة، والانفاق على قدر البضاعة، فعن لي أن أجيزه بالأبيات المشهورة، والسندات المنشورة فقلت: أجزت المنوه بذكره بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني نزيل المدينة المنورة، المتصل إليّ بواسطة بعض الشيوخ، عن شيخنا الحبر الهمام، والفاضل القمقام، محدث العراقين، تذكرة إمام الحرمين، الملقب عند الحاضر والبادي، في كل نادي، بالخطيب البغدادي، شيخنا الشيخ خليل الخطيب «2» بجامع قطب العارفين، وسلطان الموحدين، الشيخ محيي الدين عبد القادر (146 أ) الجيلي- نفعنا الله ببركاته آمين- وأجزته بجميع ما تضمنه الثبت «3» المنسوب إلى الشيخ محمد بن سليمان
المغربي المالكي، المتصل إليّ عن المشايخ الكرام والأسانيد الفخام، سيدي أبي محمد الشيخ حسين، وسيدي الشيخ المحقق، نادرة العصر والأوان، وفريدة عقد هذا الزمان، سيبويه زمانه، وحافظ عصره وأوانه، الشيخ المشهور بكل مكان، شيخنا الشيخ سلطان بن ناصر الجبوري الخابوري، تغمده الله برحمته، وسيدي الشيخ المحدث الجامع، كاشف الأستار عن وجوه الغوامض ورافع البراقع، سيدنا الحري بالتكريم، أبي المواهب الشيخ عبد الكريم، وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ محمد بن عبد الله المغربي المالكي عن الشيخين عبد الكريم وحسين المتقدمين، وعن الشيخ العالم النحرير، والحبر الشهير، ذي الفنون الكثيرة، والتحقيقات الغزيرة، المحفوف باللطف القدسي، السيد السند الشيخ محمد الطرابلسي، فسّح الله في مدته، وأعاد على المسلمين عوائد بركته، آمين.
وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ أحمد النخلي، المتصل إليّ عن جماعة، أشهرهم الشيخ «146 ب» الذي سارت بذكره الركبان والرواحل، وتحدثت بفضله في جميع الأقطار القوافل، إمام الدنيا على الإطلاق، وعلامتها بالإجماع والاتفاق، سيدي السيد الحسيب النسيب، السيد أحمد أبو الطيب، ابن أبي القاسم بن محمد المحمدي المغربي المالكي، المنسوب الى حمزة بن إدريس الأصغر- رحمه الله رحمة واسعة آمين- وصاحبنا ذو التآليف العديدة، والتصانيف المفيدة، الملقب بلا نكير بالسيوطي الصغير، زين الملة والدين، أبو بكر ابن شيخنا الشيخ الهمام والعالم العلام، مرشد الطالبين، وشيخ الإسلام والمسلمين، المشهور عند القاصي والداني، بأنه ابن حجر الثاني، الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرحبي المفتي على المذهب الشافعي ببغداد دار السلام، لا زالت بأمن وسلام، وصاحبنا الذكي اللوذعي، والفاضل الألمعي، الفقيه الأصولي، الشيخ أبو محمد الحسين بن عمر الراوي، الملتجئ إلى الحرم المكي- رحمه الله رحمة واسعة آمين- وغيرهم، وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ عبد الله بن سالم، المتصل إليّ عن هؤلاء وعن (146 أ) الشيخين الإمامين، والحبرين البحرين، سيدي أبي عبد الله السيد محمد الطرابلسي، وأبي المواهب الشيخ عبد الكريم
الشراباتي- أمد الله في حياتهما آمين- وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، وثبت الشيخ منصور المنوفي، والشيخ عبد الله الكنكسي المصريين، المتصل جميع ذلك إليّ عن السيد أبي عبد الله محمد المذكور، وأجزته بجميع ما تضمنه الثبت المنسوب بالمراسلة إلى العالم الفاضل أبي بكر أفندي الشرواني «1» ، المتصل إليّ عن عمي العارف الصوفي، الملقب الشيخ المعروفي «2» الشيخ أحمد ابن سويد- رحمه الله رحمة تدفقت أنهارها، وتفتحت بالرضوان أزهارها، وأجزته بجميع ما أخذته عن الناسك الصالح الفقيه، العالم العامل النبيه، ذي النسب العالي، والحسب المتلالي، الشيخ علي الأنصاري، من بني النجار أنصار رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وأجزته بجميع ما أخذته عن شيخي العالم الرباني، المعروف بأنه أبو يوسف الثاني، الشيخ حسين نوح الحديثي الحنفي- رحمه الله رحمة عامة آمين- وأجزته بجميع ما أخذته عن السيد السند الشريف، صاحب الفضل الوافر المنيف، السيد درويش (146 ب) العشاقي- عليه رحمة الله الباقي آمين- وأجزته بجميع ما أخذته عن سيدنا الجليل، والفاضل النبيه النبيل، السيد ذي المفاخر، الشيخ عبد القادر المكي الحارثي، وأجزته بجميع ما أخذته عن الصوفي العارف، والإمام الذي لا يستطيع حصر أوصافه واصف، ذي النعوت الجزيلة، والأخلاق الجميلة، الشيخ محمد عقيلة المكي الحنفي، ولا سيما مسلسلاته التي جمعها، وهي خمسة وأربعون مسلسلا- رحمه الله تعالى- وأجزته بجميع ما أخذته عن الشيخ المقري تذكرة أبي عمرو والكسائي، الشيخ محمد بن محمد المصري الشافعي، عن شيخه العلامة الشيخ إسماعيل البقري- رحمهما الله تعالى رحمة واسعة في الدين والدنيا والآخرة- وأجزته بجميع ما
أخذته عن ذي الفنون العديدة، والتصانيف المفيدة، الشيخ الفتح الموصلي، وأجزته بجميع ما أخذته عن البارع المحقق، والجامع المدقق، أبي الحسن يوسف الموصلي، وأجزته بجميع [ما أخذته]«1» عن مشايخي المتقدمين، مفرقا مما هو مقروء ومسموع، ومجاز ومرفوع، «147 أ» وهي الآن أكثر من عشرة. وأوصيه، ونفسي، بتقوى الله وطاعاته، في خلواته وجلواته وحركاته وسكناته، وأن يقول الحق ولو على نفسه، لا تأخذه فيه لومة لائم، وأوصيه إذا قرأ الحديث وسائر العلوم الشرعية أن يستقبل القبلة ولا يستدبرها كما يفعل جهلة المدرسين، وأن يجتنب، هو ومن حضر درسه، رفع الأصوات وكثرة اللغط، ولا سيما عند قراءة الحديث، بل يلاحظ في سره وعلنه كأنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأوصيه أن يستعمل الأدب «2» مع من يباحثه، وأن يسأل في الحادثة إذا أشكلت عليه ولو ممن هو أدنى منه، وأوصيه أن لا يماري السفهاء، وأن يكون جل قصده إظهار الصواب، وأسأله أن لا ينساني ومشايخي وأصولي وفروعي ومحبي من دعائه الصالح، وفقني الله وإياه لصالح العمل، وجانبنا الخطأ والخطل، آمين، وكتبه أبو البركات عبد الله بن الحسين بن ناصر الدين الدوري الشافعي المعروف بالسويدي، خادم السنة الغراء لدى ضريح قطب العارفين، ومركز دائرة الموحدين، سيدي محيي الدين الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره العزيز، ثامن (148 ب) رمضان عام سبع وخمسين ومائة وألف «3» .
وزرنا الحافظ ابن عساكر «4» مرتين والحمد لله، وزرنا القبور السبعة، وهم فقهاء الشام، توفوا فيما بين الستمائة والسبعمائة.
ومن عجائب دمشق السليمانية، وهو جامع بناه المرحوم السلطان سليمان «5» ، وهو جامع
جليل تحيط به البساتين من جوانبه الأربعة «1» ، في وسط صحنه بركة ماء واسعة فيها خمس فوارات، وفيه مطبخ يطبخ فيه الطعام، وله حجر متعددة، سقوفها قباب مطلية بالرصاص، وكذا قبة الجامع، وله منارتان حسنتان، والحاصل أنه جامع من عجائب الدنيا إلا أن مصلاه صغير، صلينا فيه الجمعة سادس عشر رمضان، ويتصل به مدرسة السليمانية، وهي ذات حجر كثيرة، في صحنها بركة ماء عشر في عشر، ذات فوّارات خمس، وموضع التدريس قبة واسعة تفتح شبابيكها على البساتين من الجوانب الأربعة «2» وجميع قباب الحجر وسطوحها مصفحة بصفائح الرصاص، بحيث إن الرصاص الذي فيها يقاوم «3» مالا عظيما لا يحصى، وسمعت ممن جاب البلاد أنه قال: ما في مملكة آل عثمان مثل هذه المدرسة، ولا عيب فيها سوى أن أصوات العلم فيها خامدة، ولا يصرف عشر العشر من أوقافها، وإنما يأكله (149 أ) الجهلة، نعوذ بالله من ذلك.
وممن زارنا، ونحن في مدرسة سليمان باشا، الشيخ المعمر الفاضل، الناسك الكامل، ذو التحقيقات الباهرة، والتدقيقات الزاهرة، سيدي الشيخ عبد الغني الصيدوي مفتي الحنفية بصيدا ابن الشيخ العالم الشيخ رضوان- عليه الرحمة والرضوان- المفتي بها قبل ولده، واجتمعنا به أيضا في دعوة أخينا السيد الشيخ عبد الرحمن الطرابلسي الإمام بالدرويشية «4» للجماعة الحنفية، وحصلت بيننا وبين الشيخ عبد الغني المذكور مذاكرات في علم الفقه والمنطق والبيان، فإذا هو رجل فاضل، وعالم عامل، حتى قيل إنه مظنة الكرامة، حصل غالب علمه في الجامع الأزهر [حيث] مكث فيه إحدى عشرة سنة، أخذ الفقه
الحنفي عن الشيخ علي العقدي، والحديث والأصول والعربية والمنطق والكلام عن الشيخ منصور، والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، والشيخ أحمد الملّوي. واستجزت لأولادي المذكورين غير مرة، فأجازهم بجميع مروياته، ثم إني استجزته فأبى إلا أن أجيزه، فأجزته ثم أجازني، وروى لنا حديث الرحمة «1» ، وهو أول حديث سمعته منه. وروى لنا (يرحمكم) مرفوعا ومجزوما، وقال لي: فيه روايتان، (149 ب) الرفع والجزم «2» .
وروى لنا حديث (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، وقال: إنه من ثلاثيات البخاري «3» ورواية شيخنا الشيخ منصور (في النار) في الظرفية، ورواية ابن سالم (بمن) .
وسألته الدعاء فدعا لي- حفظه الله- وسبب قدومه إلى دمشق أنه أراد السفر إلى الحج فلم بتيسر له وابتلى- عافاه الله- بالصمم فلا يسمع إلا الصوت العالي، وأكثر المخاطبة يفهمها بالقرينة والإشارة، جعله الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وممن لازمنا ملازمة التلميذ ووالفنا موالفة الولد لوالده الشيخ محمد ابن الشيخ مصطفى ابن الشيخ محمد العجلوني، فلم يزل ملازما لي ويسألني عن ما أشكل عليه من دروسه حتى كتبت على عبارة الفاكهي في شرح القطر «4» حيث قال:
والفعل ما دل على معنى في نفسه واقترن بأحد الأزمنة الثلاثة وضعا. وبيّنت فساد هذا التعريف من وجوه، ولم يزل يقول: والله إنه ليصعب عليّ مفارقتك، وإذا خطرت ببالي
يعتريني البكاء [و] وددت أني لا أفارقكم ففراقكم أشد علي من فراق روحي، وأتمنى أن تكون لي شيخا لأن هذا التقرير ما وجدته عند (150 أ) غيرك. وأضافني في بيته وكتب ورقة يودعني فيها وقال: لتكن عندك فإذا رأيتها تذكرني. وهذا أبو الحسن عمره أربع عشرة سنة له محيا زاهر، وجمال باهر، ما وقع نظري على أحسن منه، وهو فريد الجمال في دمشق مع أن حسن تلك الأقطار مشهور اشتهار الشمس في رابعة النهار. ولما خرجت ودعني إلى الخيام وعيناه تذرفان بالدموع ويقول: ليتني لم أعرفك، وفقه الله لصالح العمل آمين.
وزرت قبر سيدي معاوية الأصغر «1» وقبر ابن الجوزي «2» ، وقبر بهلول المجذوب «3» ، وقبر الصابوني «4» . ولما دعاني السيد أحمد بن نقطة إلى بيته حدثني أن في دارهم الشهداء الشرفاء الثلاثة، وأنه لما عمروا الدار كشفوا عنهم فإذا هم لابسوا دروعهم وواحد منهم على نحره خنجر من خناجر المشركين رضي الله عنهم.
وزرت ذا النون المصري «1» والشيخ حسن الجباوي «2» والقطب الغوث الشيخ بهاء الدين «3» ، وقرأت الفاتحة لسيدي أويس القرني [الذي] قيل إنه مدفون في تلك المحلة «4» .
وجاءني وأنا في دمشق كتاب من ولدي الشيخ عبد الرحمن صورته:
والله ما أنا منصف لو أن لي عيشا يطيب وجيرتي غيّاب كيف والشوق أوهى جلدي، وفت هذا البعد «5» كبدي، وازداد منه وجدي وكمدي، كذلك القلب لا يصغي إلى أحد، شوق أجرى كبدي من عيوني، وأضنى جسدي وأكثر شجوني، أيم الله ما مر ذكر كم إلا وتنفست الصعداء، وما خطر بالبال رسمكم إلا وفاضت العبرات ممزوجة بالدماء، وما رأيت ذاتكم طيفا إلا قبّلت مضجعي ألفا، كرامة لمن زار على بعد المزار، ولا سيما يوم كتابتي لهذا الكتاب، والله شاهد، نائبا عمن غاب، أتشوق إليكم تشوق الصادي إلى الماء، وأتشوف أخباركم تشوف محب به برحاء «6» يا من هو السبب في إيجادي، وغاية مقصدي ونهاية مرادي، إن سألت عنا فالحمد لله، ولكن بغداد في قحط عظيم «7» ، وعام جدبه
عميم، أزال عن الناس تخم السنين الماضيات، حيث تروضوا على أكل اللقيمات، لا سيما وهذا رمضان قد أقبل، وذهب شعبان وقارب أن يأفل:
رمضان أقبل والأنام أرامل
…
قبلا فكل شهورهم رمضان
إلى آخر كتابه (152 أ) .
وجاءني كتاب من حلب، من الأكرام الأمجد إسماعيل آغا ميرو زاده «1» ، صورته: نحمد الله سبحانه الكريم المتعال، ونتوسل بأفضل رسول وأشرف آل، وأكرم أصحاب ذوي أفضال، أن ينفح تلك الذات العلية نفحة من نفحاته القدسية، ويحرسها بعينه التي لا تنام، من تقلبات الليالي والأيام، ويضاعف علوها وتفردها، ويزيد كمالها وسؤددها، ويخلد عليها صنوف النعم، ويجدد لديها ثمرات السؤدد والكرم. أما بعد إهداء تسليمات هن رياحين أفئدة المحبين، فالمعروض كثرة الشوق، والقلق والتوق، إلى مولانا العلامة الأوحد، والفهامة الأمجد، حلّال المشكلات بألطف تحريرات، واحد الدهر، وطراز حلّة المجد والفخر، فسح الله تعالى في مدة حياته، وبلغه الوطن مصحوبا بالسلامة، منعما بكامل مسراته آمين.
وقد ورد كتابكم الكريم المرغوب، ووقع موقع قميص يوسف من أجفان يعقوب، فجدد أنسا وسرورا، وأصبحت به شاكرا مشكورا، والآن بسبب توجه ابن الأخ وباقي الأحباب والسادات والأصحاب إلى تلك الديار الشهية، ومشاهدتهم تلك (152 ب) الطلعة السعيدة البهية، حررت للجناب كتابي لينوب منابي، فإن المراسلة نصف المواصلة، وما بنا من ألم الأشواق، التي لا تطاق، يشهدها قلبكم الكريم، المعمور السليم، ونرجو عدم إخراجنا من فيض الخواطر الشريفة، وعدم إبعادنا من الصدور النيرة اللطيفة، وأن لا تنسونا من صالح دعائكم الصالح بتلك الأماكن المشرفة كما هو المأمول، وعلى الله القبول، والسلام عليكم ورحمته وبركاته.
وجاءني من ولدي الشيخ عبد الرحمن نظم في ورقة منفردة، ومعها كتاب، وصورة
النظم «1» :
الشوق لم تحصه الأوراق والكتب
…
إلى الذي فاق من أفتوا ومن كتبوا
مولاي ذي المجد يا من عزّه فخرت «2»
…
به المكارم فاختالت به حلب
تأبى المفاخر إلا أن تكون به
…
مخصوصة وتراه ربها الرتب
سامي الفخار مليك الجود أجمعه
…
زاكي النجار إلى العلياء ينتسب
«153 أ»
علامة العصر بحر لا يناظره
…
من الأنام فتى إلا وينغلب
صبحا بصحن نظام الفضل منتصب
…
يفيد علما لمن للعلم قد طلبوا «3»
نجم رحى العلم والتوقيع تعرفه
…
ودائرات القوافي أنه القطب
إمام سنتنا الغرا وقدوتنا
…
بحر طويل لإيجادي هو السبب
بيت يحجّه أهل العلم قبلتنا
…
إليه وجهت وجهي إن تكن إرب
سابي الدقائق من علم ومن أدب
…
به العويصات عنها ترفع النقب
كثير بحث عليم في محاورة
…
منه المسائل تستجنى وتكتسب
ما ناظرته نحارير بمسألة
…
إلا وأفحمهم في الحال فاكتأبوا
لسانه شهد يشفى العليل به
…
لكن على رائم «4» أبحاثه عطب
(153 ب)
يا والدي شمس أيام لنا سلفت
…
عسى تعود فعنّا تنجلي كرب
يا والدي هل أرى بغداد تجمعنا
…
في دار عز بها الأفراح والطرب
فإن بحر اشتياقي صار منسرحا
…
مني إليك ولكن موجه وصب
وسفن صبري قد سارت على عجل
…
ومهجتي وحشاشاتي بها ركبوا
يا والدي بعدك الزوراء في ظمأ
…
من العلوم فدع تروى بكم حلب
يا والدي على هذا الدهر يجمعنا
…
خير اجتماع به نال العدى غضب
وعل يوما «1» ظلال»
النخل مجلسنا
…
في كرخنا وعلينا يسقط الرطب
وأنت فينا كبدر لاح من شغف
…
وإننا لك هالات ولا عجب
تجنى ثمار علوم في التخاطب في
…
أيدي التفكر والأذهان تنسكب
من للمطول والتلخيص بعدك من
…
أليفه كتب المعقول والأدب «3»
(154 أ)
يا والدي دم بذي الشهباء منشرحا
…
بغداد في القبض إذ قد مسها سغب
بسادة لخصال الجود قد جلبوا
…
كرام أصل لثدي الفضل قد حلبوا
قوم لقد شرف الله الوجود بهم
…
أبناء مجد لهم خيم لهم حسب
فوق السّماكين معقود منصتهم
…
النجم يخدمهم والسبعة الشهب
نهر المجرة أمسى موردا لهم
…
وفاكهات السّما أكلا إذا سغبوا
جبال علم على نفع الورى جبلوا
…
شم الأنوف لأخلاق الندى جلبوا
غر الوجوه لأصناف التقى طلبوا
…
فأدركوها فيالله ما طلبوا
لدى المحاريب تلقاهم نجوم هدى
…
وفي الحروب إذا قامت هم الشهب
هم الكرام فلا الطائي يشبههم
…
للضيف أنفسهم «1» إن رامها وهبوا
تفردوا بخصال الفضل فاجتمعوا
…
على التقى وإلى العلياء قد نسبوا
بكأسها من عيون الجمع قد كرعوا
…
وعين فرق بهم قد نالها نضب
هم الملائك إلا أنهم بشر
…
وجملة الصّيد إلا أنهم عرب
وصورة الكتاب: ما شوق غريب بعد وطنه، ووجد أديب فارقه سكنه، بل ما شوق أعرابية بانت دارها، فبعد عنها هجوعها وقرارها، فحنت إلى بان الحجاز ورنده، وأخنت عليها المنية بسيف البعاد، وحد إفرنده بأكثر من شوقي إليكم الدائم، ووجدي عليكم الملازم.
أتقلب في الطول والعرض، داعيا مبدل الأرض (155 أ) غير الأرض، بأن يعيد علينا ما منحنا قبلا، ويذهب الهم عنا كرما وفضلا، بالتمتع بجناب مولانا الأكرم، المستجار والملتزم، لا زال مرفوع الجناب مخفوض الأعداء، مجزوما باحتشامه من رب السماء، آمين، وبعد، فإن سألتم عنا فالحمد لله المتعال، كثير الجود والنوال:
في عيشة تعشو القلوب لضوئها
…
ومسرة الأوقات والأيام
والحمد لله على ذلك، إلى آخر كتابه.
وجاءني من ولدي الأصغر أبو السعود محمد، كتاب صورته: ما روضة جرت من تحتها الأنهار، وأينعت فيها الأثمار، وأزهرت فيها الرياحين، وصنوف الورود، وأضحت مأوى للعاشقين، ودار الخلود، وغنت فيها الأطيار أرق غناء، وأعلن البلبل بنيل الأوطار، وزوال العناء، وكساها الربيع جلبابا من حرير وإستبرق، وأشجى القمري أحبابا فرق الغصون والورق، وما رائحة المسك الأذفر، وما شم الطيب والعنبر، بأطيب من سلام يهدى من محله إلى أهله، ويبلغ بلوغ الهدي الواجب إلى محله، سلام لا تدرك «155 ب» وصفه الوصاف والكتاب، ولا يحاول نهايته الوصاف ولا كتاب، سلام سطعت من آفاق الوداد أنواره،
ونفحت في رياض الاشتياق أزهاره.
سلام فاق الدرر «1» نظما ونثرا، وسما على الفراقد مكانة وقدرا:
إلى من عنده روحي وعقلي «2»
…
ومسكنه سواد المقلتين
إلى العالم الذي عجز عن وصفه الواصفون ولم يحاولوا غايته، والفاضل الذي غاص في بحره الفاضلون ولم يدركوا نهايته، علامة العلماء واللج الذي لا ينتهي، ولكل لج ساحل، المتصدر للتدريس والإفتاء، والفائق على من كتب وأفتى، عالم زمانه، ووحيد أوانه، العالم العلامة، والحبر الفهامة، رئيس المدققين، وخاتمة المحققين، الجامع للمعقول والمنقول، والمستنبط للفروع من الأصول:(156 أ) .
اللهم يا من زين «3» السماء بزينة الكواكب، وأطلع في دنياه شموس علم وأنجما ثواقب، بجاه رسولك إليك، وبتقربه لديك، أن تديم والدنا لتحقيق كل عويصة ودقيقة، وتعلي درجات الفضل وتقوّم به طريقه، ووجّه وجهته أينما توجّه، وسهّل له من سبل الخير واديه وفجه، فإنك كريم قد وعدت بالإجابة من رفع أكف دعائه، وبشرت بالقبول من ابتهل إليك في صباحه ومسائه، آمين. وبعد ذلك، فالعبد اكتفى عن تقبيل الأقدام بالأثر، ورضي عن تلذذ المشاهد بسماع الخبر، وإن الشوق ما برح تزايده، وما انفك كثيره وزائده:
شوقي إلى والدي الأفخم، والملاذ الأعظم، والمستجار والملتزم، أدامه الله لرؤوسنا تاجا، وأبقاه للمسلمين شرعة ومنهاجا، آمين. ورد إلينا كتابكم [الذي] أنبأنا عن صحة (156 ب) الحال، والحمد لله على السلامة والعافية والاعتدال، فأضحى بيننا كهلال شوال، وحق في وصفه قول من قال: وأضحى ينقل من يد إلى يد إلى أن أتى إلى يد الضعيف، قبّله ألف مرة وقرأه مائة كرة، إلى آخر كتابه.
وجاءني «1» من ولدي الكبير الشيخ عبد الرحمن كتاب:
ثم يهدي سلاما صدر من قلب لض «2» بالنوى، وتحيات نطق بها لسان الشوق لا عن الهوى، إلى مولاي ووالدي النحرير، والهمام الإمام الكبير، رب الفضل وأهله، ورئيس النبل قد عز أمثال مثله، حفظه الله من طوارق الزمان، وبوائق الحدثان «3» ، آمين «4» أما بعد، فإنا نحمد إليك الله، ولا نشكر إلا إياه، لم يمسنا سغب ولا نصب، بل أكلنا النعيم الناعم، وأكثر فاكهتنا القثاء مع الرطب، هذا مع القحط الذي لا يوصف، والجدب الذي لم يكن (157 أ) قبل يعرف، والحمد لله كيلنا زائد كثير، وبرنا وافر غزير، والحمد لله على ذلك، إلى آخر كتابه «5» .
وجاءني كتاب من ولدي الأصغر أبو السعود محمد صورته: إن أشرف ما تتوج به المفارق والرءوس، وأبهى ما تبتهج به المهارق والطروس «6» ، وأبهى ما ينظم في سلوك السطور، من الدرر الباهرة لدرر النحور «7» وأبهى ما يرقم في صكوك الصدور، من الغرر المضاهية للآلىء البحور، تحيات نظمت لإخلاص عقودها، وتسليمات رقمت بطرز اختصاص برودها، تشققها «8» الأدعية على ألسن المقربين تتلى، وتشيعها الأثنية التي في مناص «9» الكروبيين «10» تجلى، مرفوعة في الموقف الأعظم، متلوة في المستجار والملتزم، بأن
يديم الله للعلم وأهله، ويبقى الفرع «1» وأصله «2» ، بقاء مولانا الأستاذ الأعظم، والملاذ الأعصم «3» ، والجهبذ النقاد، والكوكب النفاد «4» ، عالم الإسلام على الحقيقة، الجامع للشريعة والطريقة، الأمجد المحترم، والدنا المكرم، لا زال منتصبا للتدريس والتأليف، وكل فن له صاحب وأليف، آمين، من عبد اكتفى عن المشاهدة بالخبر، وبالإنابة عن الأيدي بتقبيل الأثر (157 ب) لا يوصف شوقه، ولا يبرد حرقه، لكم من الداعين في سائر الأوقات، ودبر الصلوات، فالمرجو الدعاء ببيت الله الحرام، ولدى زيارة النبي عليه الصلاة والسلام.
وجاءني منه كتابان آخران ضيق الوقت منع من كتابتهما.
وجاء من ولدي الشيخ عبد الرحمن كتاب يثني فيه على علماء حلب، إلا أنه لم يصل إليهم، لأنه ورد عليّ وأنا في دمشق الشام، وصورته «5» : الأذن تعشق قبل العين بعض الأحيان، والمستوصف مستغن بالخبر عن العيان:
فالمملوك مشتاق لم تساعده الأقدار، ولم يقض الله برؤيتكم وكل شيء عنده بمقدار، فالله أسأل أن يطوي من البين شقة البين، ويكحل ما يمتد الاجتماع منا العين، بسادة ترافعت حضراتهم على السماك، وتقاعست دونها الأفلاك، من تفردوا في جمع العلوم، وتوحدوا بمعرفة المنطوق والمفهوم، فلله درهم من رجال جديرون بأن تشد إليهم الرحال، اقتطفوا أزهار البلاغة ببنان (158 أ) الأفكار، وكرعوا من أنهار البراعة بكاسات «6» الابتكار، فلو أبصرهم المتنبي لترك سفاسف قرآنه، وأخذ بمدحهم واعتد بشانه، ولساعده
على ذلك قس ابن ساعده «1» ، ولم ينكر في هذا الشأن من شأنه الإنكار ولا المساعدة، ولو رآهم ابن العميد «2» لعمد إلى ترك ما ادعاه، ولصير سيف بلاغته غميدا «3» بعد ما انتضاه، ولو سمع بهم سحبان «4» لسحب أذيال الخجل وندم على دعواه الفصاحة وعدل، فليست فضيلتهم استعارة مبناها التشبيه، إذ لا مثل لهم ولا شبيه، بل حقيقية مصرحة، ومكنية مرشحة، مجردة عن ترك الأينه، الفاعلون الجود، وكل فاعل مرفوع والمنصبون لإكرام الوفود، من رفيع وموضوع، فباهت بهم الشهباء، وأمنت بتركهم من اللأواء «5» :
وكيف لا تباهي، وقد حوت الشرف الغير المتناهي «6» ، بل يحق أن تفخر على الزوراء، لتفردها بالرتبة العلياء، حوت رجالا هم الجبال، وسادة متسمين بمحاسن الأفعال:
أبناء مجد كرام قبل ما فطموا
…
على «7» الرضاع لأخلاق الندى جلبوا
قوم إذا ذكروا الرحمن من وجل
…
لانوا وإن شهدوا يوم الوغى صعبوا
لا يسكن «8» الحقّ إلّا حيثما سكنوا
…
وليس يذهب إلّا حيثما ذهبوا
إذا تنشقت ريّاهم عرفتهم
…
بأنهم من جناب القدس قد قربوا
أطال الله بقاء الموالي، أصحاب الشرف الباذخ العالي، ومتع المسلمين بمدة حياتهم، وأعاد علينا وعليهم عوائد دعواتهم، آمين.
المملوك يتمنّى له تقبيل أرض حوت أولئك الأكابر، وارثي الفضل كابرا عن كابر، ثم يهدي سلاما عبق الكون نشره، وشاع في الآفاق ذكره وفخره. سلام سليم عن الرياء والنفاق، محفوف بالدعاء والأشواق، إلى الفضلاء الأنجاب، والسادة الأتراب، معادن الشرف الأثيل، الجديرين بالتكريم والتبجيل، لا زال العلم بهم مشهورا، والدين بوجودهم محبورا منصورا، آمين وبعد، فقد ورد إلينا من الوالد (159 أ) كتاب كريم، فيه الثناء العميم، مدحكم فيه بما تلتذ به الأسماع، وتميل إليه الطباع، وذكر فيه فضلكم على التفصيل، من غير إطناب ولا تطويل، وما جرى بينكم له من المحاورات، والمباحثات والمناظرات، وذكر أنكم مكرموه غاية الإكرام، ومحترموه نهاية الاحترام، فسرّ المملوك لذلك غاية السرور، ولم يزل منذ سمع ذلك بانشراح وحبور، فجزاكم [الله] عنا جزاء الأخيار، وآمنكم من الأنكاد والأكدار:
إلى آخر كتابه.
وجاءني في كتاب من الأكرم الأمجد، حمزة آغا محصل حلب، إنشاء الشيخ محمد الطرابلسي فيه عتاب، حيث إني لم أخصه بكتاب، وصورته: أيد الله كعبة الأفاضل، ومسعى كل مباحث ومناضل، الرامي جماره بدرّ المسائل، الساعي مساعي التحقيق، الواقف مواقف التدقيق، الأخ الأعز الأكرم، الشيخ عبد الله حفظه الله وسلم، وبعد إهدائه أنواع التحية البهية، وأصناف الأدعية المرضية (159 ب) الزكية، فالذي نعرضه أن المحبة بيننا رفيعة الذرى، وثيقة العرى، ومنذ رحلتم ونحن في طيب ذكراكم، وبث محاسنكم. وفي خلال ذلك تنمو دواعي المحبة، وتتحرك لواعج الصحبة، فتظن النفس بأنه يرد علينا منكم كتاب كريم، يشتمل على در نظيم، يكون به تسلية عن مشاهدة الوجوه «1» النضير، وإيقان بسلامة ذلك الجناب الخطير، وبينما نحن في الوارد، إذ وردت كتبكم على الأخ الأعز،
فأخذ كل كتابه بيمينه، وأثبت ظن وده بيقينه، غير أننا لم نر لنا سطرا، وكان الأخ الأعز خلع الذمة العراقية، وتردى بالصفات الشامية، ورقة طبعه تشهد لذلك، وإلا فود العراق، مما وقع عليه الاتفاق، وحفظ الصداقة شاد عليهم نطاقه، أو أنه قد اقترف منا ذنبا يقتضي الهجران، وأنسج علينا عناكب النسيان، فالرجا عدم الإخراج من الخاطر، خصوصا عند مشاهدتكم الروضة النبوية، على ساكنها أزكى سلام وأعطر تحية، بدعاء مقبول، وتوسل بأكرم رسول، كذا في كل موطن إجابة، نرجو بذل الدعاء لنا ولولدنا محمد آغا، وكذا كاتب الأحرف. السيد محمد يبلغكم السلام، ويرجو ما نرجو والدعاء.
وكتب الشيخ علي الدباغ مشايخه (160 أ) وأرسل ما كتبه إليّ وأنا في دمشق الشام «1» ، وسبب ذلك أني لما استجزته لأولادي، طلب مني أن أجيزه فأجزته، ثم سألته الإجازة لي، فأجازني. والتمست أن يكتب لي مشايخه الذين أخذ عنهم، فلم يتهيأ له الكتابة وأنا في حلب، وصورة ما كتب: الحمد لله المجيب لمن دعاه، المقبل على من ناداه، الذي خص أهل الحديث بالرحمة والنضرة، وجعلهم من بين زمر العلماء خير زمرة، واستجاب فيهم دعوة نبيهم المختار، وحباهم برقة القلب وطول الأعمار، وحفظ بهم على الأمة أمر الدنيا والدين، وما يقرب في الدارين، من المنزلة العليا، وجعلهم أقرب الخلق في القيامة إليه، لكثرة صلواتهم وسلامهم عليه، على تلك الذات العلية، التي هي لظهور الموجودات العلّة الفانية»
أبو الأرواح، وممدها بالفلاح والهداية، القائل:(بلغوا عني ولو آية)«3» ، والمأثور في المسانيد عنه:(رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)«4» ، وعلى آله شموس الاقتداء، وأصحابه بدور الاهتداء، الذين سنوا الرّحلة في الحديث، وسعوا في طلب العلو السعي
الحثيث، آمين أما بعد، فإن طلب الإسناد من الدين، وفي قربه قرب ربّ العالمين، ولولاه لقال ما شاء (160 ب) وأراد، واختلق ما اختار وسلم من النقاد، طالما افتضح به الكذابون، ورقى به أوج السعادة الصادقون، ولنعم العلم هو إذا اقترن به مع الرواية الدراية، ولعمري لقد أحرز معها من هذا المضمار الغاية، لا كمن يقتصر على الفرق بين الخباط والخناط «1» ، وقصاراه أن يعرف من يكنّى بأبي محمد الهلالي أو يلقب بسناط، وإذا نشرت له مسألة علمية تراه قد طوى من تحتها البساط، وقد قيّض الله في كل عصر أقواما لهذا المطلب العالي، فبذلوا الوسع في سماع النازل والعالي، وصرفوا نقد أعمارهم على تحصيل هذا العلق النفيس الغالي، فلله در هاتيك العصابة، التي فوقت «2» لهذا الغرض سهام الإصابة، وارتحلت للبلاد الشاسعة والأقطار، وركبت البحار وجابت القفار، ولقيت الأخطار، حتى توضحت لهم المهمات، وتميزت لديهم الضعفاء من الثقات، وقد اطلع الله سبحانه وتعالى منهم بأفق شهبائنا واسطة عقدهم، ودرة تاج مجدهم، واحدهم الذي لا يقاوم ولا يقاول، وأوحدهم الذي لا يشابه ولا يماثل، علامة قطر العراق، ومن ثبت له الفضل بالاستحقاق، وصار تفرده وتفوقه كلمة اتفاق، وسارت (161 أ) بمعارفه الركبان، وتناقلتها الرواة في البلدان، واعترف بها الخاص والعام، وقصرت عن استيفائها أفواه الدوى «3» وألسنة الأقلام، وألفاظ المنشئين وأفكار النظام، جناب سيدنا ومولانا الشيخ عبد الله أفندي السويدي، الذي ساد أهل السواد، وألزم العجم ولمذهب أهل السنة أشاد، وأفحم بمباحثاته أهل الغواية، وأني رفعوا راية علم نقلي أو عقلي كان على آية تلك الراية، أدامه الله لفضل ينشره بين أهله، ويسوقه كالهدي إلى محله، فنشر من فضائله ما نشر، إلى أن صغر الخبر «4» الخبر، ورأيناه كزيد
الخير «1» أو جعفر بن فلاح «2» ، أو ابن الشجري «3» حين اجتمع بالزمخشري «4» ، وبصحبته اغتبط وارتاح، ومن فرط كماله والكمال «5» يقبل الكمال، إن رآه على بقايا المسندين من الرجال، ولم يقنع باللقى والسماع، بل سأل عموم الإجازة له ولأولاده المعممين وذوات القناع، بناء على قولهم لا يكمل الرجل حتى يأخذ عمن فوقه، وعن مساويه وعمن دونه، وإلا فهو ممن تشد إليه الرحال في هذا الغرض ولا يعدونه، ثم حمله شره الاستكثار على طلب ذلك حتى من الصغار، فطلب ذلك مرارا «6» من العبد (161 ب) الفقير، الذي لا يعد بين أهل هذا الشأن في العير ولا في النفير، رغبة منه في رواية الأكابر عن الأصاغر، وقصدا إلى الاتصال بأسانيد شيوخي الجامعين للكمالات والمفاخر، فامتنعت لقصوري عن هذا المقام، فراسلني بذلك من الشام، ونظر إليّ بعين الرضا، ولم ينظر إلى أن عليّا لم تتصل بيائه ميم، ومع الرياض النضرة لا يرعى الهشيم، فأجبت سؤاله حينئذ متمثلا، وأقول مجيبا ومجيزا خجلا:
ولم أشرط سوى دعوات خير
…
لأن الشّرط منهم ذو رسوخ
وأبحت لهم رواية مسموعاتي ومقروءاتي، وإجازاتي ومناولاتي، من تفسير، وحديث لقديم وحديث، وفقه وعقائد وضوابط وقواعد ومنقول ومعقول، وفروع وأصول، ومنثور ومنظوم، في أنواع العلوم، وأخبرهم، أدام الله سموهم، ويسر لهم تفردهم في هذا (162 أ)
الشأن وعلوهم، أني سمعت بعدة بلاد، منها حلب الشهباء وإدلب «1» ومعرة النعمان وحماه وحمص ودمشق والمدينة المنورة ومكة ومنى والجديدة وظهر عقبة أيلة ومصر والقاهرة والآثار الشريفة وبولاق ودمياط وصيدا وطرابلس واللاذقية والشغر ونابلس وبيت المقدس والخليل، وغيرها من أئمة تشرفت بذكرهم المسانيد والجوامع، وإذا كانت شيوخ الرجل آباءه في الدين، فأولئك آبائي الذين بهم أفتخر إذا جمعتنا المجامع، فممن سمعت منه، وأخذت عنه، من أهل حلب، الشيخ إبراهيم النخشبي، والشيخ زين الدين الجلوي، والشيخ عبد الرحمن العمادي، والمحدث الكبير الشيخ أحمد الشراباتي، والمحقق الشيخ الشعيفي، والمسند الشيخ حسن السكري، والشيخ المعمر أبو هريرة الهريري «2» ، تلميذ الشيخ وفا العرضي، والشيخ عبد القادر الإمام بأموي حلب «3» ، والسيد أبو السعود الكواكبي مفتي السادة الحنفية، والشيخ سليمان النحوي، والشيخ حسن السرميني، والسيد يوسف الشامي، والشيخ طه اليوسفي، والشيخ يس الفرضي، والشيخ أحمد المداري.
ومن أهل دمشق العارف بالله تعالى (162 ب) الشيخ عبد الغني النابلسي، ومفتي الحنابلة الشيخ أبو المواهب، أجاز لي ولم ألقه، والمحدث الكبير الشيخ محمد الكاملي، وولده الشيخ عبد السلام، والولي المجمع على فضله وجلالته الشيخ عبد القادر التغلبي الحنبلي، والشيخ المعمر البركة الشيخ عبد الرحمن المجلد، والسيد عبد الباقي بن مغيزل، والمحقق الشيخ عبد الرحيم الكابلي، والشيخ محمد العجلوني، وزاهد عصره الشيخ الملا إلياس الكوراني، ومفتي السادة الشافعية الشيخ أحمد الغزي، وابن عمه الشيخ محمد الغزي، والشيخ محمد الدكدكجي «4» ، والشيخ حسن المصري المقرئ، والسيد أسعد بن
المنير المقرئ «1» ، والشيخ محمد الحبال. ومن أهل المدينة والمتوطنين بها: الشيخ عبد الكريم الخليفتي «2» ، والشيخ طاهر ابن الشيخ إبراهيم الكوراني، والشيخ أبو الحسن السندي «3» صاحب الحواشي على الكتب الستة، والشيخ طيب السندي، والسيد عبد الرحمن السقاف «4» ، والشيخ محمد المغربي المعروف بالمشرفي، تلميذ الفاسي «5» شارح دلائل الخيرات، والشيخ موسى البصري. وأجاز لي منهم الشيخ محمد حياة السندي، وهو بعد في الأحياء. ومن أهل مكة والمتوطنين بها: محدث العصر الشيخ عبد الله بن سالم البصري، والشيخ تاج الدين الدهان، والعارف بالله (163 أ) الشيخ محمد الوليدي، وسيدي الشيخ محمد عقيلة صاحب المصنفات الجليلة، والشيخ يونس المصري، والشيخ عيد المصري، ومحمد بن عبد الله المغربي، ومصطفى فتح الله النحاس المصري «6» ، معارض المقامات
الحريرية، ودخلت في عموم إجازة الحسن العجيمي لمن أدرك حياته، كما شاهدت ذلك بخطه في فهرسته.
ومن أهل مصر والمتوطنين بها: الشيخ منصور المنوفي، والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، والشيخ إبراهيم الفيومي، والشيخ مصطفى العزيزي، والشيخ أحمد الدقدوسي، والشيخ محمد المنفلوطي «1» ، والسيد علي البصير السيواسي، والشيخ أحمد الملوي، والشيخ عبد الوهاب أبو النصر، والشيخ أحمد الأحمدي، والشيخ محمد عبد العزيز، والشيخ يوسف الملوي، والشيخ شلبي المالكي، والشيخ علي الطبلوني، والشيخ أحمد البرماوي «2» ، والشيخ أحمد الريزلي، والشيخ محمد المغربي المالكي، وكان ورده في كل يوم دلائل الخيرات أربعين مرة، والشيخ أحمد البقري «3» ، والشيخ خليل الزورقي، وغيرهم. ومن أهل دمياط: مسندها الشيخ محمد ابن الميتة، والشيخ مستحفظان، والشيخ فرحات، والشيخ إبراهيم الشبيتي، والشيخ محمد بن لقيمة «4» صاحب الحاشية (163 ب) على تفسير البيضاوي، والشيخ أحمد الأسقاطي «5» محشى الأشموني «6» .
ومن أهل نابلس: الشيخ عبد الغني «1» مفتيها. ومن أهل بيت المقدس: الشيخ محمد الخليلي «2» .
ومن أهل طرابلس: الشيخ عبد الجليل بن سنين، والشيخ عبد الله الخليلي.
ومن أهل إدلب: السيد أحمد الكاملي.
ومن الأكراد: الشيخ حسن المهاجري، والشيخ حسن الأعرج، والشيخ علي الحريري، والملا علي السوري، وعبد الله بن رسول الذكي، والملا محمود نزيل دمشق.
ومن أهل بغداد: الشيخ تاج العارفين البغدادي.
ومن داغستان «3» : المحقق الشيخ رمضان، والملا علي.
ومن أهل مرعش «4» : الشيخ محمد السجقلي «5» .
ومن أهل قسطمون «6» : الشيخ محمد القسطموني «7» .
ومن أهل الغرب: الشيخ محمد التفلالي. هذا ما حضرني من أسماء هؤلاء الأعيان، وأما من سمعت منهم أشعارهم، وقيدت نظامهم ونثارهم، وطارحتهم وراسلوني، وساجلتهم وساجلوني، فجمع غفير، وعدد كثير، نجمعهم إن شاء الله، ونفصّل المسموع والمقروء.
فهرست مروياتي: وأما مصنفاتي التي حقها أن لا تذكر، ومن شأنها أن تستر وتقبر، فمنها (الدر المصنوع في الخبر الموضوع) ، لخصت فيه مؤلفات السيوطي وغيره في هذا المعني، ورسائله في الكلام على حديث (كيفما تكونوا يولّى عليكم) ، (164 أ) وشرح على (دلائل الخيرات) فيه مناقشات مع الشارح، و (خبار الأنام في أخبار جرجيس عليه السلام و (نظم العضدية في الآداب) و (رسالة في العقيقة) و (نظم علل الأعاريض) ولي في تلخيص كثير من كتب التواريخ والأدب بمجاميع لطاف هي من بعدي، كما قال العماد الكاتب «1» ، أما مزاود «2» للعقاقير وأما بطائن للخفاف، وأما نظمي ونثري فكنت أقدر أن لا أسأل عنه بكونه من الترهات، ولو جمعت متفرقاته لجاءت في مجلدات، فمنه عقد حديث الرحمة.
أول ما أسمعنا أهل الأثر
…
مسلسل الرّحمة من خير البشر
للراحمين يرحم الرحمن ار
…
حموا لمن في الأرض تحظوا بالظفر
إن الجزا يرحمكم من في السّما
…
وحسبنا رحمتكم من افتقر
ولولا ضيق الوقت لأتيت بما تمله الأسماع، وتأنف منه الطباع، والمسؤول من فضل سيدي ومولاي أن لا ينساني من صالح دعواته في خلواته وجلواته، قال ذلك وكتب أبو الفتوح