المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[بستان آغا زاده] - النفحة المسكية فى الرحلة المكية

[السويدي]

فهرس الكتاب

- ‌المؤلف وكتابه

- ‌الفصل الأول سيرته

- ‌أسرته:

- ‌طفولته وصباه:

- ‌متاعب الدرس:

- ‌استقراره الاجتماعي:

- ‌دوره في الحياة العامة:

- ‌شهرته العلمية:

- ‌الفصل الثاني دوره في الحياة الفكرية

- ‌شيوخه وإجازاته العلمية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌أولا- في علوم القرآن:

- ‌ثانيا: في الحديث الشريف:

- ‌ثالثا: في علم الكلام (العقائد) :

- ‌رابعا: في الأذكار والأخلاق الدينية:

- ‌خامسا: في الردود:

- ‌سادسا: في اللغة:

- ‌سابعا- في النحو:

- ‌ثامنا- في الأدب:

- ‌مقامة أدبية

- ‌تاسعا- في البلاغة:

- ‌عاشرا- في التاريخ:

- ‌حادي عشر- في الرحلات:

- ‌ثاني عشر- في الشعر:

- ‌ثالث عشر- في موضوعات أخرى:

- ‌شخصيته العلمية:

- ‌شعره:

- ‌الفصل الثالث رحلته

- ‌زمن تأليف النفحة المسكية

- ‌منهجه:

- ‌1- ضبطه لأسماء الأعلام الجغرافية:

- ‌2- بحثه في أسباب تسمية الأعلام الجغرافية:

- ‌3- عنايته بالجغرافية الطبيعية:

- ‌أ- الجبال والتلال:

- ‌ب- السهول:

- ‌ج- الأنهار ومصادر المياه:

- ‌د- المناخ:

- ‌4- عنايته بالجغرافية الاقتصادية:

- ‌ا- وصفه للنبات:

- ‌ب- وصفه لطرق المواصلات:

- ‌5- عنايته بجغرافية المدن:

- ‌ا- معاييره في تصنيف المدن:

- ‌ب- وصفه للمدن القديمة:

- ‌ج- وصفه المدن القائمة:

- ‌6- عنايته بالجغرافية البشرية:

- ‌7- اهتمامه بالجوانب الثقافية:

- ‌وصف النسخ المعتمدة

- ‌منهجنا في التحقيق:

- ‌[المقدمه]

- ‌في الترجمة

- ‌[الرحلة]

- ‌[تل كوش]

- ‌[نهر الحسيني]

- ‌[حمارات]

- ‌[الفرحاتية]

- ‌[المحادر]

- ‌[مهيجير]

- ‌[العاشق]

- ‌[مدينة المنصور]

- ‌[تكريت]

- ‌[وادي الفرس]

- ‌[قزل خان]

- ‌[الغرابي]

- ‌[البلاليق]

- ‌[الخانوقة]

- ‌[القيّارة]

- ‌[المصايد]

- ‌[حمّام علي]

- ‌ الموصل

- ‌[بادوش]

- ‌[الموصل القديمة أو أسكي موصل]

- ‌[تل موس]

- ‌[عين زال]

- ‌[صفيّة]

- ‌[الرميلة]

- ‌[المتفلتة]

- ‌[أزناوور]

- ‌[نصيبين]

- ‌[قره دره]

- ‌[دنيسر]

- ‌[مشقوق]

- ‌[دده قرخين]

- ‌[العطشان الطويل]

- ‌[أصلان جايي]

- ‌[مرج ريحان]

- ‌[الرها]

- ‌[سروج]

- ‌[الجبجيلي]

- ‌[البيرة]

- ‌[الكرموش]

- ‌[ساجور]

- ‌[الباب]

- ‌[حلب]

- ‌[بستان حسين باشا القازوقجي]

- ‌[بستان آغا زاده]

- ‌فصل

- ‌[مسجد الخضر]

- ‌[جامع القلعة]

- ‌[مقام إبراهيم الأسفل]

- ‌[جبانة الصالحين]

- ‌[قرنبيا]

- ‌[باب الأربعين]

- ‌[خان تومان]

- ‌[سرمين]

- ‌[معرّة النعمان]

- ‌[كتف العاصي]

- ‌[خان شيخون]

- ‌[الرّستن]

- ‌الكنى 32

- ‌[حمص]

- ‌[حسية]

- ‌[شمسين]

- ‌[النبك]

- ‌[بريج]

- ‌[قارّة]

- ‌[القطيّفه]

- ‌[دمشق]

- ‌[زيارة المراقد]

- ‌[طبقات أهل دمشق]

- ‌[معالم دمشق]

- ‌[خان ذي النون]

- ‌[خان دله]

- ‌[المزيريب]

- ‌[المفرق]

- ‌[الزرقاء]

- ‌[البلقاء]

- ‌[خان الزبيب]

- ‌[زيزي]

- ‌[القطراني]

- ‌[الأحسا]

- ‌[معّان]

- ‌[عنزه]

- ‌[معّان أيضا]

- ‌[العقبة]

- ‌[جغيمان]

- ‌[المدورة]

- ‌[ذات حج]

- ‌[تبوك]

- ‌[المغر]

- ‌[الأخيضر]

- ‌[المعظم]

- ‌[الدار الحمرا]

- ‌[العلى]

- ‌[الحجر: ديار ثمود]

- ‌[آبار الغنم]

- ‌[البئر الجديد]

- ‌[هديّة]

- ‌[الفحلتين]

- ‌[العقبة السوداء، الشربة، العلم السعدي]

- ‌[وادي القرى]

- ‌[المدينة المنورة]

- ‌[ذو الحليفة]

- ‌[بين جبلين]

- ‌[الجديدة]

- ‌[بدر]

- ‌[الحمراء]

- ‌[الصفراء]

- ‌[القاع]

- ‌[رابغ]

- ‌[المستورة]

- ‌[خليص]

- ‌[الأميال السبعة]

- ‌[قديد]

- ‌[عسفان]

- ‌[مكة المكرمة]

- ‌[الفحلتين]

- ‌[العلى]

- ‌[دمشق]

- ‌[حلب]

- ‌[معان]

الفصل: ‌[بستان آغا زاده]

متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت «1»

وإن أقسمت لا تبرىء السقم برت

وسرد منها عشرين بيتا.

[بستان آغا زاده]

وأضافني ثالثة في بستان آغا زاده، ومعنا في الضيافة الشيخ طه الجبريني، والشيخ عبد الكريم الشراباتي، والشيخ عبد السلام الحريري، (60 أ) والشيخ الناسك السيد علي العطار، والشيخ السيد حسين الديري، والشيخ محمود الكردي المدرس بالشعبانية «2» ، والشيخ عبد الوهاب الموصلي الإمام بحضرة نبي الله جرجيس، والشيخ محمود الكردي الغريب، والسيد محمد «3» نائب المحكمة الصلاحية «4» ، وغيرهم ممّن كان يحضر تدريسه في البيضاوي «5» ، فدخلنا البستان فإذا هي ملتفة بالأشجار، مزينة بالأوراد والأزهار، فيها البلابل تترنم طربا، والنسيم يشق له من خلالها سربا، يشقها النهر المسمى بقويق نصفين، وهو نهر صاف عذب لأهل تلك الديار فيه أشعار كثيرة، منها قول القائل:

هو الماء أن يوصف بكنه صفاته

فللماء إغضاء لديه وإطراق

ص: 130

ففي اللون بلور وفي اللمع لؤلؤ

وفي الطيب قنديل وفي النفع درياق

إذا عبثت أيدي النسيم بوجهه

وقد لاح [منه] أبيض الوجه براق

(60 ب)

فطورا عليه منه زرق «1» حقيقة

وطورا عليه جوشن منه رقراق

وهي طويلة، وفيما ذكرنا كفاية.

ويمد هذا النهر قناة حلب، قيل: إن هذه القناة هي عين إبراهيم عليه السلام، وهي من حيلان قرية شمالي حلب «2» .

رجع «3» ، فانبسطنا يومنا كله، وقضيناه ما بين مذاكرة ومداعبة وإنشاد شعر، وكان منشدنا السيد محمد قزيزان، فمما أنشدنا ذلك اليوم موشح الأديب مصطفى أفندي البابي في وصف نهر عين الذهب، وهو نهر ذو فوائد كثيرة، ومنافع غزيرة، ينبئك عما فيه من العجب تسميته بعين الذهب، وقد نزلنا عليه في مرحلة الباب، وأشرنا ثمة إلى بعض ذلك، والموشح هو هذا:

بأبي وأيأبي وبي جرعة من ماء عين الذهب

يا رعاه الله من واد وسيم

رقّ فيه الماء واعتل النسيم

تعرف النّضرة فيه والنعيم

عيشنا فيه رخي اللبب

غفلت عنه عيون النوب

حيثما يممت روض وغدير

وإلى جانبه ظبي غرير

ص: 131

(61 أ) وفراش متقن الوشي وثير

كملت فيه دواعي الطرب

يؤخذ الصيد به عن كثب

في نديم شب في حجر الدلال

لو عصرت الظرف من عطفيه سال

وإذا ساجلته بالأدب

قمر ينظر من عيني غزال

يملأ الدلو لعقد الكرب

قم بنا ننشق أرواح السحر

قبل أن تصدى بأنفاس البشر

هذه الورق تغنّت في الشجر

وتناجت في رؤوس القضب

كل من ضيع ذا الوقت غبي

دأبنا شم ورود وخدود

وعناق من غصون وقدود

والهوى لف خصورا بزنود

لذة ما شانها من أشب «1»

خلصت من موبقات الريب

نفح روح الراح في جسم الزجاج

إنما يسمر عن غيظ المزاج

أيها الساقي فبادر بالعلاج

رصع الشمس لنا بالشهب

واسكب الفضة فوق الذهب

(61 ب) وممّن وصفه، كما في التاريخ، أبو نصر المنازي «2» حين تفيأ في واديه وقال «3» :

ص: 132

وقانا لفحة الرمضاء واد

سقاه مضاعف الوبل «1» العميم

نزلنا دوحة حنّت علينا

حنوّ المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا

ألذّ من المدامة للنديم

يصد «2» الشمس أنّى قابلتنا «3»

فيحجبها ويأذن للنسيم

تروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

وهذا البيت الأخير مما يخلب بالألباب، ويذهب بالعقول. قال ابن الشحنة في تاريخه «4» : يعني أن العذراء التي في عنقها عقد إذا وقفت عليه ونظرت خيال عقدها في مائة تظنّ أن عقدها قد انفصم ووقع فيه فتلمسه، وقد يكون المعنى أنها تشبه الحصى الذي في النهر بعقدها. قلت: وقد نزلنا على هذا النهر، ويحق للناظم ذلك، لأنه لم ير الفرات ولا دجلة، فإن أدنى نهر من أنهارها ألطف وأرق وأعذب وأسلس مما ذكر ولا أحد يذكره في بيت أو شعر أو مثل. ومما أنشدنا ذالية ظافر الحداد «5» ، وهي:

لو كان بالصبر الجميل ملاذه

ما شح وابل دمعه ورذاذه

ما زال جيش الحب يغزو قلبه

حتى وهى وتقطعت أفلاذه

لم يبق فيه من الغرام بقية

إلا رسيس يحتويه جذاذه

ص: 133

من كان يرغب في السلامة فليكن

أبدا من الحدق المراض عياذة

لا تخدعنّك بالفتور فإنه

نظر يضر بقلبك استلذاذه

يا أيها الرشا الذي من طرفه

سهم إلى حب القلوب نفاذه

در يلوح بفيك من نظّامه

خمر يجول عليه من نباذه

وقناة ذاك القد كيف تقومت

وسنان ذاك اللحظ ما فولاذه

رفقا بجسمك لا يذوب فإنني

أخشى بأن يجفو عليه لاذه

هاروت يعجز عن مواقع سحره

وهو الإمام فمن يرى «1» أستاذه

تا لله ما علقت محاسنه «2» امرءا

إلا وعزّ على الورى استنقاذه

مالي أتيت الحب «3» من أبوابه

جهدي فدام نفاره ولواذه

إياك من طمع المنى فعزيزه

كذليله وغنيه شحاذه

(62 ب) ومما أنشدته ثمة قول سيف الدولة ابن حمدان، وقيل لابن المعتز «4»

وساق صبيح للصبوح دعوته

فقام وفي أجفانه سنة الغمض

يطوف بكاسات العقار كأنجم

فمن بين منفض علينا ومنقض

وقد لبست أيدي الجنوب مطارفا

على الجو ركبا والحواشي على الأرض

يطرزها قوس السحاب بأحمر

على أصفر من أخضر إثر مبيض

كأذيال خود أقبلت في غلائل

مصبغة والبعض أقصر من بعض

ومما أنشدنا أيضا ثمة يائية ابن الفارض، من قوله:

ص: 134

يا أصيحابي تمادى بيننا

ولبعد بيننا لم يقض طي «1»

[إلى قوله]«2»

غير ما أوليت من عقدي ولا

عترة المبعوث حقا من قصي «3»

وإنما لم أكتب الأبيات التي أنشدها من تائية ويائية سيدي عمر ابن الفارض لشهرتها بين الناس بشهرة ديوانه.

وحضرنا مرّات عديدة درسه في البيضاوي، [فهو] يدرس في الأسبوع يوم الأحد في بيته، ويحضر في حلقة درسه غالب أجلاء حلب، منهم سيدنا الشيخ طه الجبريني، وسيدنا الشيخ (63 أ) عبد الكريم الشراباتي، وسيدنا السيد علي العطار وهو المملي للتفسير، وسيدنا الشيخ فتيان، والسيد محمد نائب الصلاحية التفتنازي «4» ، وسيدنا الشيخ محمود وغيرهم. وهؤلاء كلهم محققون فضلاء مدققون، لهم تآليف كثيرة، وتصانيف شهيرة، ويحضر في الدرس من الحواشي حاشية شيخي زاده، (وحاشية شيخ الإسلام زكريا الأنصاري)«5» ، وحاشية سعدي أفندي «6» ، وحاشية عصام، وحاشية سنان باشا و (حاشية)«7» الشهاب الخفاجي «8» . ويورد في الدرس كل ما في ذلك «9» من إشكال وغموض غير ما تستنبطه الأذهان في ذلك الآن. وهو- حفظه الله- كالبحر إذا زخر،

ص: 135

والليث إذا زأر، والجمل إذا (هدر)«1» ، والسيل إذا انهمر. كيف لا! وقد مكث في الجامع الأزهر أربعة عشر عاما يطلب فيها العلم، وقرأ أيضا على علماء الحرمين وغيرهم، حتى حصل جميع الفنون. حدثني أنه أخذ التفسير عن الشيخ (أحمد)«2» الملوي، وهو أخذه عن الشيخ عبد الله الكنكسي وثبته مشهور، وأخذ الحديث عن الشيخ أحمد النخلي وثبته المشهور، وعن محمد (63 ب) بن عبد الله المغربي وثبته مشهور، وله إجازة بثبت الشيخ علي العقدي عنه، وبثبت الشيخ منصور المنوفي عنه، وبثبت الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي عنه، وبثبت الشيخ عبدو الديوي عنه، وأخذ المعاني والبيان والنحو والصرف وسائر العربية والأصولين والمنطق عن الشيخين الشيخ منصور والشيخ أحمد الملوي. وأخذ الفقه الحنفي عن الشيخ علي العقدي «3» ، وهو عن عمه عيسى عن الحمودي، شارح الأشباه «4» . وأخذه عن الشيخ حسن الشرنبلالي «5» ، وهو عن أبيه مؤلف الحاشية «6» . وأخذ علم الكلام عن الشيخين الشيخ أحمد الملوي، والشيخ محمد بن عبد الله المغربي، وأخذ الحديث أيضا عن الشيخ محمد الميت ضد الحي «7» .

ص: 136

والتمس مني أن أؤلف ثبتا باسم (ولده)«1» السيد مصطفى، وأذكر فيه سنداتي إذا وصلت إلى وطني بغداد، وأرسله إليه فأجبته والله الموفق. وقد طلب مني- حفظه الله- أن أجيزه، وولده النجيب السعيد السيد مصطفى، بجميع ما يجوز لي وعني روايته، فأجزته وولده بجميع ما لي فيه رواية البديري الدمياطي «2» وطلبت منه الإجازة لي ولولدي (القلبي أبي المحاسن)«3» حسين وأمه أم الفضل خديجة (64 أ) وأخيه علي، ولأولادي الصلبيين أبي الخير عبد الرحمن، وأبي السعود محمد، وأبي الفتوح إبراهيم، وشهاب الملة أبي المحامد أحمد، وأم الخير رقية، وأم العفاف سارة، وأم السعد صفية، فأجازني وإياهم بجميع ما رواه عن مشايخه المتقدمين، وكانت الإجازتان، إجازتي وإجازته ضحى يوم السبت الثامن عشر من شعبان عام «4» 1157 هـ.

عودا على بدء. وإن عادة هذا الشيخ في تقريره على التفسير لا يستعجل بل يقرر بتوءدة وتأنّ، من غير همهمة ولا هذرمة والاعتراضات عليه كرشق النبال، فيجيب من غير إمهال.

ومما منّ الله به عليّ أنه ما جرى بحث في التفسير أو الحواشي إلّا كنت المصيب، والحاضرون لهم إنصاف عظيم، وتسليم للحق القويم، لا عناد ولا خلاف، ولا خبط ولا اعتساف، ولا نزاع ولا شقاق، ولا خداع ولا نفاق، بل إنّهم- كثر الله في الإسلام أمثالهم- يتبعون الحق، ويأخذون العلم ولو عن أدنى منهم، فكان الشيخ الطرابلسي يجلسني في مكانه ويجلس هو مع سائر الطلبة، فالداخل يظن أني أنا المدرس، وكلما قرّر هذا الشيخ ينظر إلى كالمستفهم، ويقول: يا سيدي أليس كذا؟ وهذا كله من محاسن (64 ب) أخلاقه حفظه الله تعالى. وكانت العادة عند تمام درسه يسرع السيد محمد قزيزان بإنشاد قصيدة، وبفراغه

ص: 137

من الإنشاد ينفض مجلس الدرس. فمما أنشد (عقب الدرس)«1» قول (ابن الخياط الدمشقي)«2» :

خذا من «3» صبا نجد أمانا لقلبه

فقد كاد رياها يطير بلبه

وإياكما ذاك النسيم فإنه

متى هبّ كان الوجد أيسر خطبه

خليلي لو أحييتما لعلمتما

محل الهوى من مغرم القلب صبه «4»

تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى

يتوق ومن يعلق به الحب يصبه

غرام على يأس الهوى ورجائه

وشوق على بعد المزار وقربه

وفي الركب مطوي الضلوع على أسى

متى يدعه داعي الغرام يلبّه

إذا خطرت من جانب الرمل نفحة

تضمن منها داؤه دون صحبه

ومحتجب بين الأسنة معرض

وفي القلب من إعراضه مثل حجبه

أغار إذا أنّت وفي الحي أنة

حذارا وخوفا أن تكون لجبه «5»

ومما أنشدنا عقب درس الطرابلسي من همزية البوصيري «6» (65 أ)

ص: 138

من قوله:

فتنزّه في ذاته ومعانيه

استماعا ما عزّ منها اجتلاء «1»

إلى قوله: شق عن صدره.. البيت «2»

وكان من جملة ما أنشده من هذه، قوله «3» :

فإذا ما ضحا محا نوره الظل

وقد أثبت الظلال الضحاء

فكأن الغمامة استودعته

من أظلت من ظله الدففاء «4»

فقلت في المجلس: كيف تفهمون هذا البيت؟، فإن الشيخ الجوجري «5» قال: لم يظهر لي معناه، والشيخ ابن حجر شرحه»

إلا أنه لم يظهر لي المراد منه، فما معنى عبارة ابن حجر؟

فتوقفوا في البيت، وفي شرح ابن حجر، وراجعوا، فوجدوا الشيخ حسن البوريني «7» كتب عليه بعد ما ذكر (ما)«8» للشارحين فيه من الكلام الذي حاصله يرجع إلى ان الدففاء بفائين،

ص: 139

وأظلت فيه بالظاء المشالة، إلى أن قال: والذي فيه عندي أنه تحرف عليهم أجمعين، وإنما هو كذا، فكأن الغمامة استودعته مذ أظلت من ظله الدقعاء «1» ، فاستودعته وأظلت «2» مبنيان للمفعول، ومذ بميم مضمومة، وذال معجمة، والدقعاء «3» بدال مفتوحة وقاف «4» وعين مهملة، ثم مد، بمعنى الأرض، (64 ب) والمعني أن الغمام إنما أظلّه لئلا يمس ظلّه الأرض، فلهذا أخذه «5» وديعة عنده ليصونه عن مس التراب، وهذا معنى بديع يعرفه من ذاق حلاوة الشعر وعرف مغزاه.

وفي قوله: مذ أظلت. انتهى. معنيان أحدهما مذ مس ظله التراب، والآخر مذ صارت الأرض كلها في حمايته لأنه ظل الله. وفي معناه رباعية لي:

ما جر لذيل أحمد أذيال

في الأرض كرامة كذا قالوا

هذا عجب وكم له من عجب

والناس بظله جميعا قالوا

وفي التائية المنسوبة للإمام السبكي الذي نظم فيها معجزات النبي صلى الله عليه وسلم «6» ، وشرحها بعض المتأخرين:

لقد نزه الرحمن ظلك أن يرى

على الأرض ملقى فانطوى لمزية

وأثر في الأحجار مشيك ثم لم

يؤثر برمل فوق بطحاء مكة

قال شارحها: قيل إنّه عليه الصلاة والسلام كان لا يقع ظله على الأرض لأنه نور

ص: 140

روحاني:

مالطه رأى البرية ظلا

هو روح وليس للروح ظل

(66 أ) والنور لا ظل له، إلى آخر كلامه، وهو كلام حسن لو كانت الرواية مثلما ذكر، وأحسن ما رأيت في شرح هذا البيت ما ذكره بعض الشارحين حيث قال: ودفيف الطائر مدة فوق الأرض، والدفيف الدبيب وهو السير اللين، فدففاء على فعلاء جمع داف، كعالم وعلماء، وهو خبر كان. وجملة استودعته حال من الغمامة على إضمار قد، والهاء في استودعته تعود على الظل الممحو بنوره عليه الصلاة والسلام. والمعنى كأن الغمامة الدففاء، والحال أنها قد أودعت الظل (من النبي) «1» عليه الصلاة والسلام التي أظلته من ظله:

ما قال إلا ظلته غمامة

هي في الحقيقة تحت ظل القائل

(انتهى)«2» .

ومما أنشدنا في ضيافة الطرابلسي في بستان طه زاده قول الشيخ عبد الرحمن الموصلي «3» :

إلى علياك تعنو الأنبياء

ومن نجواك يقتبس الضياء

وكيف وأنت يا باهي المحيّا

عليك أتى من الله الثناء

وزادتك الشفاعة يوم حشر

كذاك الحوض فخرا واللواء «4»

(66 ب)

براك الله من نور نبيا

ولا أرض هناك ولا سماء

فكنت وآدم في ظهر غيب

ولا طين هناك وليس ماء

ص: 141

فبدء الكون أنت بغير شك

وسر الكائنات ولا مراء

وأحسن منك لم تر قط عيني

وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرءا من كل عيب

كأنك قد خلقت كما تشاء

وأنشدنا قصائد كثيرة بعد دروس البيضاوي، وفي بعض الضيافات ما كتبتها لضيق الوقت، وقد سألته- حفظه الله تعالى- عن قول عصام «1» : ولو جعل كنت، بمعنى صرت، لكان أعلى كعبا الواقعة على قول البيضاوي في تفسير قوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ

«2» أكد تهديده، وبالغ فيه من عدة وجوه، انتهى. وهذه العبارة ما رأيت أحدا أجاب عنها، بل غالبهم يقول: إنها سهو، ولما فتح الله لي بحلها سجدت لله شكرا وأنا في بغداد. وأما هذا الشيخ فثاني يوم [بعد] السؤال قال:

المراد من كنت في قول (67 أ) عصام هي: كنت التي تقدمت في آيات كثيرة في قوله تعالى وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ

«3» الآية، وهو عين الجواب الذي أجبت (به)«4» . وقد كتبت على كونه أعلى كعبا كلاما حسنا على هوامش الحاشية العصامية، والله «5» الموفق.

ومما وقع السؤال عنه عبارة القهستاني في شرحه لصدر الشريعة «6» عند قول الماتن:

ص: 142

ويغسل يديه إلى رسغيه ثلاثا للمستيقظ، حيث قال بفتح القاف، وإن اشتهر كسره، لموافقه الحديث، ولأن هذا التصريح بعد الكتابة لا يخلو عن شيء، انتهى. فلم يجب أحد منهم سوى الشيخ الطرابلسي فإنه كتب عليه، وهو غير ما كنت أفهمه «1» أولا. وصورة ما كتب:

المراد من الحديث الموافق: إذا استيقظ أحدكم من منامه، الحديث. ووجه موافقة المستيقظ بفتح القاف (له)«2» أنه يكون حينئذ مصدرا ميميا واللام فيه للوقت، فيفيدان سنية غسل اليدين وقت الاستيقاظ من النوم كإفادة الحديث لذلك. وقوله: ولأن الخبر علة ثانية لمخالفة المشهور. ووجه التعليل إن التصريح أي الإتيان (67 ب) بالاسم الصريح الظاهر بعد الضمير المسمى بالكناية «3» ، الواقع في يديه ورسغيه لا يخلو عن شيء، أي عن نكتة حاملة له على العدول عن الإضمار إلى الإظهار، وتلك النكتة هي إفادة الموافقة، وإنها لا تكون على زعمه إلّا بفتح القاف المخالف للمشهور، هذا ما وصل إليه الفهم الموصوف بالفتور. وفي كل من الوجهين نظر، إذ الموافقة للحديث حاصلة مع الموافقة للمشهور، أما بجعل اللام في المستيقظ للعهد، والمعهود هو الأحد المذكور في الحديث، وأما بأن المراد أول أزمان الاتصاف بهذه الصفة، وما ذكره علة للعدول يجري فيما ذكرناه من غير نكول، انتهى.

ومما وقع مني السؤال أيضا في التفسير المذكور، في قوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

«4» فقد ذكر في [تفسير سورة]«5» هود أن الفعل تعلق [بخلق]«6» ، وفي سورة الملك نفى التعليق «7» ، والآية في الموضعين واحدة، وهو تبع صاحب الكشاف في

ص: 143

الموضعين «1» ، فجرى البحث فيها كثيرا من جواب ورد، ثم انتقل الكلام إلى ما ذكر المحشون، فذكر سعدي أفندي، وشيخه شيخ الاسلام زكريا الأنصاري، تلفيقا وتوفيقا بين المحلين، إلا أنه (68 أ) تلفيق وتوفيق إقناعي لا يجدي نفعا فليراجع. ثم وذكر سنان باشا في حواشيه كلاما طويلا، ثم قال: وبالجملة إن هذا من مشكل هذا الكتاب، ولقد أنصف. ثم نشأ من عبارة الكشاف التي هي صريحة في أنّ المعلق لا يكون إلّا قبل الجزءين، فلو تقدم على المفعول الثاني فقط دون الأول لا يكون تعليقا «2» ، وتبعه البيضاوي في جميع ذلك. سؤال، وهو أنه هل أحد قال بتعليق المفعول الثاني فقط؟ فقلت: نعم، كما في قولنا علمت زيدا (أبو من) هو «3» ، ونقله الجلال السيوطي في شرح الألفية عن الناظم في الكافية. ثم رأيت شيخ الإسلام قال في هذا الحل أنه مذهب الأكثر.

ومما وقع مني أيضا السؤال عن عبارة البيضاوي، عند قوله (تعالى) «4» في سورة (ص) :

مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ

«5» وسمّي به العطاء، إلى أن قال: وفرقوا بين الفعلين، فقالوا: صفده إذا قيده وأصفده إذا أعطاه عكس وعدو، أو عدو، (وهي)«6» في ذلك نكتة، فوقع البحث في تعيين النكتة، فأتوا بالحواشي كحاشية سعدي «7» أفندي، وحاشية شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وحاشية شيخي زاده، فاختلفت الحواشي (68 ب) في تعيين النكتة، ولم يقرب إلى الصواب إلا شيخ الإسلام وجوابه في الحواشي مسطور، ولكن للنظر فيه مجال لا يخفى على فحول الرجال.

ص: 144

ومما وقع السؤال عنه في التفسير المذكور: كثير، لكنه ليس من البحث المشهور، وذلك كمعلق جار ومجرور، وإرجاع ضمير، ووصل وفصل وإعراب.

ومما وقع السؤال عنه عبارة الملّا عصام عن قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً

«1» الآية. فإنه هناك نقل كلام المحقق التفتازاني معترضا، ويفهم من عبارته الجواب عن الاعتراض المذكور وهو غير ما اعترض به التفتازاني فلينظر هناك، وقد أجبت عنه بجواب استحسنه الجميع، ولم تحضرني عبارة عصام هذا الوقت، وإلا لكنت ذكرت الجواب بعد تشخيص الإشكال.

وممن زارنا وصاحبنا وامتزج معنا امتزاج الروح بالجسد سيدنا ومولانا العالم الذي لا يجارى، والفاضل الذي لا يمارى، ذو التحقيقات التي تشهد بأنه البحر الزخار، والتدقيقات التي تخبر بأنه الشمس، الشيخ طه الجبريني بن مهنا، نسبة (69 أ) إلى جبرين، قرية من قرى حلب، فجرت بيننا وبينه أنهار المذاكرة، ودارت علينا كؤوس المباحثة والمناظرة، وهو- حفظه الله- أول من زارنا من علماء حلب، فلم يزل يوقع المسائل في غضون كلامه، ومطاوي صحبته، يوردها بالمناسبة، فطال ما بيني وبينه من المذاكرات في سائر الفنون، فإذا هو عالم علامة، وفاضل فهامة، مع ما اشتمل عليه من النسك والعبادة والصلاح- وفقه الله لطاعته آمين- فقد حصلت لي معه مباحثات شتى، حتى إنه كل يوم يعرض عليّ عبارات (الشرح)«2» المطول «3» وسواداته، وسبب ذلك أنه كان يقرأ المطول إذ ذاك ويعرض عليّ عبارات البيضاوي، لأنه من جملة من يحضر درس الطرابلسي في التفسير، ويعرض عليّ أحاديث البخاري وعبارات شروحه، لأنه كان يقرأ البخاري في الجامع الكبير عند المحراب

ص: 145

الأصفر «1» في مصلّى الشافعية. وأما المسائل المتعلقة بتحفة ابن حجر وبالنحو والصرف وسائر الفنون فهي أكثر من أن تحصى، وكان- حفظه الله- بحاثا بحيث كان يتعبني في المباحثة إلّا أن الغالب عليه عدم إظهار التسليم (69 ب) إلّا أن يلزم إلزاما لا مناص له منه.

وممّا منّ الله عليّ أني ما بحثت مع أحد منهم إلّا وكان الصواب معي، فعظمت في أعينهم بحيث يعاملونني معاملتهم لمشايخهم. وكنت كل يوم أجتمع معه في الجامع الكبير، ويضيفني فيها، وتأدب معي غاية التأدب، والأبحاث بيننا غير منقطعه.

ومما وقع البحث فيه، قول الشاعر:

منينني بالوصل حتى

إن مللت من التمني

عرضن لي بالوصل حتى

قلت قد أعرضن عني

فقلت: فيكف يكون إعراضهن غاية لتعريضهن بالوصل، فتكلف في الجواب، ولم يقع على الصواب. والجواب إن (قد) هنا اسم فعل بمعنى كفى [و] ليست قد الحرفية.

ومما وقع البحث عنه قوله- صلى الله عليه وسلم إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة.

فسألته: ما معنى هذا الحديث؟ فتوقّف. والجواب، كما نقله الشيخ أحمد المقري «2» في تاريخ المغرب «3» عن أبي مدين، أن معناه أعطي نصف جنة. قال: عوض عن الإضافة، كما هو مذهب الكوفيين، أو إنها للعهد كما هو مذهب البصريين، فلم يسلم لهذا الجواب ظاهرا. فاتفق أني صليت العصر في الجامع الكبير، وهو في درس البخاري، فسمعته، وهو لم يرني، يقرر هذا الحديث ويفسره بعين ما ذكرته له.

ص: 146

ومما وقع السؤال عنه قوله صلى الله عليه وسلم: ما أسلم من عواصي قريش إلا المطيع بن سالم «1» ، فتحير في الجواب، وجوابه كما ذكره ابن الأثير في النهاية «2» : إن المعنى ما أسلم ممن تسمّى بالعاص إلّا مطيع، ومطيع هذا كان اسمه أولا العاصي فغيّر النبي صلى الله عليه وسلم اسمه، فسمّاه المطيع، فالعواصي جمع العاصي علما لا صفة.

ومما وقع السؤال عنه، على طريقة المداعبة، أني قلت له: إن بعض الناس يقول: إن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الجملة تمّ الحديث، وأفاد معنى حكما شرعيا، فأين مقول القول الذي يتوقف عليه المعنى؟ فتوقف. والجواب: إن قال الثاني من القيلولة لا من القول.

ومما جرى بيني وبينه أنّا حضرنا عقد نكاح، فرأيتهم يحرصون على حضور العدول، فقلت: ولم هذا؟ فقال: حتى يصبح العقد على مذهب الإمام الشافعي. فقلت: لا يصح في هذا المجلس، لأن الولي وأكثر (92 ب) الحاضرين لابسون حريرا، ولبس الحرير من الكبائر التي يفسق بها الولي والشهود، بل يفسق من كان جالسا معهم وله قدرة على دفع المنكر، أو يقدر على مفارقتهم، فأنكر أن يكون لبس الحرير من الكبائر، فأخرجت له الزواجر لأبن حجر «3» ، فذكر أن لبس الحرير من الكبائر. وذكر في موضع آخر: أن الاجتماع معهم، مع القدرة على جفاوتهم كبيرة، فلما رأى ذلك قال: لا أسلم ذلك! إنما أريد كتابا في الفقه ذكر ذلك، فنظرنا عبارة التحفة «4» ، فأحال الكبائر ومعرفتها على الزواجر. وعرضت عليه عبارة الذهبي فإنه صرح بأن ذلك كبيرة، وعبارة الشبراملسي فإنه قال: وهو من الكبائر، فتوقف حتى إني غضبت عليه، فقلت: لم هذا العناد مع تصريح الشيخ ابن حجر وأنت أولا

ص: 147

تفتي الناس بصحة نكاحاتهم ووقوع طلاقهم وتستند إلى قول ابن حجر فلم لم تقبله إذا كان عليك؟ فسكت ولم يردّ علي.

ومما وقع السؤال عنه، عبارة الشيخ ابن حجر عند قول النووي في المنهاج، وقد أكثر أصحابنا- رحمهم الله من التصنيف من المبسوطات والمختصرات، حيث قال: قيل والإيجاز لكونه (71 أ) حذف طول الكلام، وهو الإطناب، غير الاختصار، لأنه حذف تكريره مع اتحاد المعنى ويشهد له فذو دعاء عريض وفيه تحكم واستدلال بما لا يدل، إذ ليس في الآية حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته، فالحق ترادفهما كما في الصحاح، فسألته عن معنى هذه العبارة، فقرر خلاف المراد، ثم ذكرت له المعنى المراد من العبارة، فمنع منعا مجردا وأصرّ على ذلك. فاتفق ثاني يوم البحث، فرأيت بين أوراقه ورقة كتب فيها المعنى الذي ذكرته له ولم يخبرني بأنه رجع عما قال فيه إلى ما قلته، وأنا كذلك ما ذكرت له أني اطلعت على ورقتك، وإن فيها كذا وكذا. ولنرجع إلى عبارة الشيخ ابن حجر فنقول:

معناها إجمالا إن صاحب هذا القيل ادعى أن الإيجاز غير الاختصار، لأن الإيجاز حذف طول الكلام، والمسمى بالإطناب، والاختصار حذف تكريره الذي هو عرضه «1» ، واستشهد على الفرق بقوله: فذو دعاء عريض، فرده الشيخ بأن في هذا الفرق تحكّما أي دعوى بلا دليل، وإن فيه أيضا استدلالا بما لا يدل، فإنه استدل بالآية وليس فيها حذف ذلك العرض المسمى بالتكرير فضلا عن تسميته اختصارا، بل الذي في الآية لفظ دال على التكرير، (71 ب) لا أنه تكرير وحذف، فانظر يا أخي إلى أحوال الشيخ طه! فإنه- والله- عالم فاضل، محقق مدقق، له نظر في العبارة وقوة حافظة في ضبط القواعد من سائر العلوم، مع أدبه وتواضعه، فلا عيب فيه سوى أنه لا يسلم ظاهرا في غالب أحواله، ويستفيد من الخصم مع إنكاره ظاهرا، فسبحان من لا عيب فيه، غفر الله لنا وله.

ص: 148

وممّا وقع فيه السؤال، عبارة الشيخ ابن حجر في قول النووي: وكذا الباب المردود والشباك في الأصح حيث قال ثمة: وبما تقرر علم صحة صلاة الواقف على أبي قبيس بمن في المسجد، وهو ما نص عليه، ونصه على عدم الصحة محمول على العبد، وعلى إذا ما حدثت أبنية بحيث لا يصل إلى بناء الإمام لو توجه إليه من جهة إمامه إلا بازورار وانعطاف، بأن يكون بحيث لو ذهب إلى الإمام من مصلاه فلا يلتفت إلى جهة القبلة، بحيث يبقى ظهره إليها. فقلت: إن لا في قوله لا يلتفت زائدة من قلم الناسخ لأنه في صدد بيان الازورار والانعطاف، وهما يقتضيان الالتفات عن جهة القبلة لا عدمه، فكابر وعاند، وادعى أن قوله بأن يكون بحيث انتهى بيان لعدم الازورار. فقلت: عدم الازورار غير مذكور (72 أ) حتى يكون هذا بيانا، فقال هو مفهوم بطريق المخالفة وأصر على ذلك.

ومما وقع السؤال عنه، عبارة الشيخ ابن حجر، ونصها: وبحث الأسنوي «1» أن هذا في غير شباك بجدار مسجد، وإلّا كالمدارس التي بجدر المساجد الثلاثة صحة صلاة الواقف فيها لأن جدار المسجد منه، والحيلولة فيه لا تضر، ورده جمع وإن انتصر له آخرون بأن شرط الأبنية في المساجد تنافذ أبوابها على ما مر، فغاية جدار المسجد أن يكون كبناء فيه، فالصواب أنه لابد من وجود باب أو خوخة «2» فيه يستطرق منه إليه من غير أن يزور كما مر في غير المسجد، فقلت: صريح عبارة ابن حجر أن الازورار في المسجد يضر، وإن ذهب غيره إلى خلافه، كالحلبي وغيره. فقال الشيخ طه: لا تقتضي العبارة ذلك، وتمحل لها تمحلات بعيدة وتكلفات واهية غير سديدة تماما. ثم إنّا توافقنا أن نجعل الشيخ الطرابلسي حكما في المسألتين، وقلنا: إنه رجل حنفي ولا يعرف حكم المسألة عند الشافعية إلا من مدلول اللفظ، فنعرض عليه العبارتين ونسأله تقريرهما، فإن وافق تقرير أحدنا ينبغي للآخر أن يسلم.

ص: 149

فعرضنا عليه العبارتين (72 ب) فقرر طبق ما قررت- والحمد لله- فإن النزاع طال وامتد إلى سبعة أيام.

ويوم اجتمع بي، وجرت بيني وبينه المذاكرات، أنشدني متمثلا:

لم تزل منا شدة الركبان تخبرني

عن أحمد بن علي أطيب الخبر

فلما التقينا فلا والله ما سمعت «1»

أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري

أخذ الشيخ طه المذكور الحديث والفقه والأصول والنحو والمعاني والبيان وغير ذلك عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري ثم المكي، وعن الشيخ عيد البرلسي المصري، وعن الشيخ تاج الدين القلعي المفتي بمكة المكرمة، وعن الشيخ عبد القادر المفتي بها أيضا، وعن الشيخ يونس المصري، وعن الشيخ أبي الحسن السندي. وأخذ الفقه والنحو أيضا عن الشيخ مصطفى الحفسر جاوي ثم الحلبي، وعن الشيخ أحمد الشراباتي الحلبي. وأخذ الحساب والنحو عن الشيخ حسن التفتنازي ثم الحلبي.

والمنطق عن الشيخ محمد شلبي البرلسي المصري [وأخذ] هداية الحكمة عن الشيخ عبد الله الصادق بلاقي الكردي وغيرهم.

والتمست منه أن يجيز أولادي الصلبيين والقلبيين، وهم (73 أ) أبو المحاسن وأمه أم الفضل خديجة، وأبو المفاخر علي، وأبو الخير الشيخ عبد الرحمن الشعراني، وأبو السعود محمد، وأبو الفتوح إبراهيم، وأبو المحامد شهاب الدين (أحمد)«2» ، وأم الخير رقية، وأم العفاف سارة، وأم السعد صفية، فأجازهم بثبت الشيخ عبد الله بن سالم، وجميع ما يجوز له وعنه روايته، وذلك في واحد والعشرين من رجب الأصب من العام المذكور «3» ، منحه الله أعظم الأجور، آمين. وممّن زارنا وصاحبنا الصحبة الأكيدة، وواددنا المودّة المديدة، سيدنا

ص: 150

ومولانا العالم المحدث الثقة الثبت، تذكرة ابن الصلاح رواية، وخليفة ابن الأثير دراية، وجامع الفنون العديدة، وحائز العلوم المفيدة، الشيخ عبد الكريم ابن الشيخ أحمد الشراباتي الحلبي البصير، عمي- فيما أظن- عام سبعة وثلاثين ومائة وألف، له فكرة وقادة، وفطنة نقادة واشتغال تام، لا يفتر عن الإفادة والاستفادة يوما من الأيام أمين على العلم بحيث إذا ظهر خطؤه ولو بعد شدة النزاع رجع وأذعن وأقر بأنه كان مخطئا، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا تعتريه فيما إذا أخطأ ندامة نادم، لين (73 ب) العريكة، صافي السريرة والطوية، مخلص العزم في أعماله، حسن النية. عاشرني معاشرة ارتفعت فيما بيننا الحشمة «1» ، ومكنني من جميع كتبه، بل من جميع ما في بيته. وأول ما وقع عليه نظري وصافحني قال:

اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وأنا قلت حين المصافحة: اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وسلم، اللهم اغفر لي ولأخي هذا، وذلك لأنه المأمور به وقت المصافحة كما جاء في ذلك أحاديث كثيرة، وأخبار معروفة شهيرة، وكأنه استشعر مني الإنكار عليه، فقال: روينا عن الأذكار النووية «2» أنه، صلى الله عليه وسلم، ما أخذ بيد رجل وفارقه إلا قال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وكان- حفظه الله تعالى- لا يخاطبني إلا بيا شيخنا.

وكان يقول: والله علمنا الشيخ البغدادي كيفية البحث والمناظرة، واستفدنا منه شيئا كثيرا. وكان سخي النفس جدا، دعاني مرارا عديدة، وأول ما وقع نظري عليه أحبه قلبي محبة كثيرة، فقلت له (74 أ) : يا شيخ عبد الكريم! إني أحبك لله، فقال: أحبك الذي أحببتني لأجله.

نقل مرة مسألة عن كتاب فلم توجد فيه وإنما الموجود عكس ما قال، فقال: إني أحفظها

ص: 151

من غير هذا الكتاب، فقلت: يا شيخ إن العلم أمانة، وإنك ادّعيت أنك لا تحفظها إلّا من هذا الكتاب، فسكت طويلا ثم قال: جزاك الله خيرا، وعيناه تدمعان. قال صلى الله عليه وسلم: العلماء أمناء الله فانظروا عمّن تأخذون دينكم، أو كما قال. وأنا والله لا أحفظها إلّا من هذا الكتاب، لكن الأمر التبس عليّ فأنا مخطئ في حفظي! فبقي مدة كلما جرت مسألة يقول: جزاك الله خيرا، العلم أمانة، ثم يتكلّم بالمسألة.

حضرت درسه في المشكاة في الجامع الكبير «1» ، قبالة ضريح السيد زكريا «2» ، على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام، فبقي أينما جلس يقول: حضر درسنا الشيخ البغدادي، فانقطع نفسي، وتلجلج لساني من هيبته، أو كما قال، ولم يزل- حفظه الله- يسألني عمّا أشكل عليه طالبا الاستفادة. وبالجملة هو عالم عامل، والتمس مني أولا أن أجيزه بصلاة الشيخ عبد السلام بن بشيش «3» (74 ب) فأجزته بها، واستجزت بها أيضا فأجازني، وسنده أعلى من سندي بواحد، والتمس مني ثانيا أن أجيزه بجميع مروياتي فأجزته بما يجوز لي وعني روايته، واستجزته أيضا لأولادي الصلبيين والقلبيين فأجازنا بجميع مروياته، منها ما تضمنه ثبت الشيخ أحمد النخلي، وثبت الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وبما رواه عن جميع مشايخه. وأجازني بمثال نعل المصطفى- صلى الله عليه

ص: 152

وسلم- (عن شيخه والده)«1» عن الشيخ محمد الكاملي «2» عن الشيخ أحمد بن شاهين عن مؤلف فتح المتعال في أحوال النعال الشيخ «3» ، وهذا السند أعلى من أسانيدي المتصلة إلى الشيخ أحمد المقري. أخذ الشيخ المذكور التفسير عن والده العالم الكبير، والفاضل الشهير، أحمد الشراباتي وعن الشيخ عبد الله بن سالم البصري، والحديث عن جم غفير، أشهرهم والده الشيخ أحمد، والشيخ أحمد النخلي، والشيخ عبد الله بن سالم، والشيخ أبو المواهب الحنبلي الدمشقي «4» ، والشيخ (محمد)«5» الكاملي الدمشقي، والشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي، والشيخ أحمد الغزي مفتي الشافعية بدمشق «6» ، (75 أ) والشيخ الملا إلياس الكردي الكوراني «7» والشيخ عبد الرحمن المجلّد الدمشقي «8» ، والشيخ عبد القادر المجلد التغلبي «9» مفتي الحنابلة في دمشق، والشيخ عبد الرحيم الأزبكي الكابلي «10» . وأخذ

ص: 153

الأصول عن والده المرحوم، و (عن)«1» الشيخ مصطفى الحفسرجي. وأخذ المعاني والبيان عن الشيخ مصطفى المذكور، وعن الشيخ سليمان النحوي «2» . وأخذ النحو عن والده، وعن الشيخ سليمان المذكور، وعن الشيخ مصطفى الحفسرجي. وأخذ المنطق والاستعارات عن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ حيدر الكردي الصفوي «3» . وأخذ علم الكلام عن الملّا محمد أفندي الخشاني وأخذ الفقه عن الشيخ الحفسرجي، وعن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد اليخشي «4» . وأخذ سائر الفنون عن الشيخ أبي السعود الكواكبي «5» المفتي بحلب وغيرهم.

ولم تزل أولاده، الشيخ محمد، والشيخ مصطفى، وعبد الرحمن، في خدمتي، جزاه الله خيرا. ويوم وادعني أوقفني معه مستقبلي القبلة، ودعا لي وهو يبكي، ثم أنشد:

يا من يريد الرحيل عنا

أسعدك الله في ارتحالك

كان لك الله خير واق

سددك الله في المسالك

ص: 154

(75 ب)

وآب إلينا بكل خير

برغم من لا يريد ذلك

ثم قال: وجدت في تأليف السفيري «1» شارح البخاري أن هذه الأبيات ما أنشدت وودع بها مسافر إلّا رجع سالما مسرورا، والحمد لله على ذلك.

وممّن زارنا مرارا عديدة، وصاحبنا صحبة أكيدة، سيدنا السيد الأجل، والعالم الأكمل، المتضلع من سائر الفنون ولا سيما الفقه الشريف، السيد حسين ابن السيد محمد ابن السيد هاشم الحسني الحسيني الديري الشافعي، له سخاء وافر مع فقره، وتواضع ظاهر مع شرفه وفخره، أحببناه محبة خاللت الخلد، ورسخت في الفؤاد رسوخا مؤكدا «2» ، أضافنا ثلاث مرات، مرتين في داره، ومرة في البستان على حافة قويق، وصحبتنا من الكتب المقامات الحريرية، وشرح الحكم للنفزّي، وشرح درة الغواص للشهاب الخفاجي، ومغني اللبيب لابن هشام، فقضينا نهارنا بانبساط وانشراح وسرور وأفراح ومذاكرة ومحاورة. وكان معنا السيد محمد قزيزان فأنشدنا ذلك اليوم قول الأرّجاني «3» :

كأنّك بالأحباب قد جدّدوا العهدا

وأنجزت الأيام من وصلهم وعدا

وعادوا لما كانوا عليه من الوفا «4»

وقد أنعمت نعم وقد أسعدت سعدى

أماني لا تدني نوى غير أنها

تعلل منا أنفسا ملئت وجدا

ص: 155

وجمرة شوق كلما لام لائم

وردّد من أنفاسه زادها وقدا

أحن إلى ليلى على قرب دارها

حنين الذي يشكو لألافه بعدا

ولي سلك جسم ماؤه در أدمع

فلولا العدا أمسيت في جيدها عقدا

أكتم جهدي حبها وهو قاتلي

وكامن نار الزند لا يحرق الزندا

هلالية قوما وبعد منازل

فهل من سنا منها إلى مقلة يهدى

(76 ب)

غزالية للناظرين إذا بدت

إن انتقبت عينا وإن أسفرت خدّا

إذا رمتها «1» جر الرماح فوارس

لتقصيدها ممن يروم لها فقدا «2»

وحالوا بأطراف القنا دون ثغرها

كما ثاريحمي النحل بالأبر الشهدا

وآخر عهدي يوم جرعاء مالك

بمنعرج الوادي وأظعانهم تحدى

ولما دنت والستر مرخى ودونها

غيارى غدت تغلي صدورهم حقدا

تقدمت أبغي أن أبيع بنظرة

إلى جفنها «3» روحي لقد رخصت جدا

أسفت على ماضي عهود أحبتي

وهل يمكن المحزون للفائت الردا

أبوا أن يبيت الصب إلا معذبا

إذا بعدوا شوقا وإن قربوا صدّا

فلما ابتدأ في مطلع القصيدة تذكرت الأحباب، ففاضت (77 أ) بالدموع عيوني، وثارت صبابتي وتضاعفت شجوني، وتكدر عيشي بعد ما كان صافيا، وفر عني الصبر بعد أن كان وافيا. وقد طلب السيد المذكور الإجازة مني فأجزته بجميع رواياتي، وأجزت ولده السيد عبد القادر بالمثال، مثال نعل المصطفى، وكذا أجزت أخاه السيد بكري، وحذوت في المثالين لكل واحد مثال.

ص: 156

أخذ السيد المذكور التفسير عن قطب الزمان السيد محمد أفندي «1» مفتي حلب، وعنه أيضا المعاني والبيان. وقرأ المطوّل والحديث عليه، وعلى يوسف أفندي «2» المفتي بحلب، وعن أبي السعود أفندي الكواكبي المفتي «3» . وأخذ الفقه الشافعي عن والده السيد محمد، قرأ عليه شرح المنهج، وربع العبادات من تحفة ابن حجر المكي «4» ، وشرح التحرير، وعلم الفرائض. وأخذ النحو عن علامة الزمان الشيخ سليمان النحوي، وعن الشيخ إبراهيم النجشي «5» ، وعن السيد عبد السلام الحريري، وكذا المنطق وعلم الآداب.

وممن زارنا وزرناه، وأضافنا في بيته العالم الكبير، الفاضل الشهير، ذو الأخلاق الرضية، والتحقيقات المرضية والسخاء الوافر، والصلاح (77 ب) الباهر، عمدة في تحقيق العلوم، وعدة علماء الرسوم، علي أفندي الطرابلسي مفتي الحنفية بحلب، فلقد أكرمني «6» غاية الإكرام وتأدب معي غاية التأدب. وهو شيخ معمر، لين العريكة، عليه أثر الصلاح ظاهر، واتفق يوم زارني هو وأخوه الشيخ عثمان، والشيخ يوسف، [أن] «7» أنشد المفتي بالمناسبة قول الشاعر:

على حاله لو أن في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم

ص: 157

فرفع حاتما، فما تجرأت أن أراد عليه، فأعدت البيت، وجررت حاتما، فرد أخوه الشيخ عثمان عليّ وقال: هو بالرفع فاعل لضن، فقلت: إنه مجرور بدل من الضمير في جوده، كما استشهد به النحاة على ذلك، ولولا أن القافية مجرورة لصح الرفع، إلا أن فيه حيث «1» إقامة الظاهر مقام المضمر والأمر فيه سهل، فراجعوا شواهد العين فرأوا الأمر كما ذكرت والحمد لله.

وكان في المجلس ممّن زارني ذلك اليوم السيد محمد الطرابلسي، والشيخ طه الجبريني، والشيخ عبد الكريم الشراباتي، ومحمد أفندي الملقب بشكر أفندي.

وممن أضافني في بيته الشيخ السيد الصالح «2» ذو الحسب (78 أ) الباهر، والنسب الزاهر، سيدنا الشيخ أبو المواهب مفتي الحنفية «3» بحلب المحمية، فلقد زاد في إكرامي، جزاه الله عني خيرا.

وممّن زارني مرّات عديدة الشيخ الفاضل، والناسك الكامل، الفقيه الفرضي سيدي الشيخ عبد القادر الديري «4» ، وأضافني في بيته، ومعنا (في الضيافة)«5» السيد حسين الديري، والشيخ طه الجبريني، والسيد عبد الكافي، والشيخ المعمر الشيخ محمد الزمار، فأكرمني- حفظه الله- وقد تواتر في حلب أن الشيخ عبد القادر المذكور افقه فقهاء (حلب)«6» الشافعية، وأفرضهم.

ص: 158

وممّن خدمنا كثيرا، وأضافنا السيد العالم العامل، والحبر الفاضل، حافظ كتاب الله المجيد البالغ في الصلاح ما لا عليه مزيد، خليلنا المصافي، السيد عبد الكافي إمام الشافعية في المحراب الأصفر، له- حفظه الله- لين عريكة «1» ، وصغر نفس، وسخاء وافر، وفّقه الله لمرضاته، وأدرّ عليه سحائب خيراته، آمين.

وممن زارنا الشيخ المعمر، والعالم الذي أزرى بالبحور وبهر، ذي العلوم الفائقة، والتقريرات الرائقة، الغيث المدرار، والبحر الزخار، سيدنا الشيخ (78 ب) محمد الزمار «2» قيل إنه درس ستين عاما إلى هذا التاريخ، وهو رجل لا يتردد إلى أحد، ولا يلبس كسوة العلماء، فالذي يراه يظنه من العوام، له علم وافر، وصلاح ظاهر، طلب مني الإجازة فأجزته بجميع مروياتي، واستجزت منه لي ولأولادي المتقدمين، فأجازني وأجازهم، أمد الله في عمره، وقواه وأصلح فاسد أمره آمين.

أخذ الحديث والفقه والمعاني والبيان وجميع الفنون عن الشيخ أحمد الشراباتي، والشيخ مصطفى الحفسرجي الأزهري، وإجازة عن الملا إلياس «3» ، وعن الشيخ عبد الله البصري، وعن الشيخ محمد البديري الشهير بابن الميت «4» ، وقرأ المطول على الشيخ سليمان النحوي.

وأخذ علم العربية عن الشيخ عبد الرحمن العارف «5» الرحاوي «6» . وممن زارنا العالم الذكي، والفاضل الألمعي ذو الحافظة المستقيمة، والطباع الخالصة السليمة، العالم الذي لا طريق إلى

ص: 159

التفضل عليه ولا مساغ، سيدنا الشيخ علي الدباغ»

الموقّت في الجامع الكبير، له فنون غير قليلة، واطّلاعات جزيلة، ما رأيت أقوى «2» حافظة منه ولا سعة اطّلاع. طلب حفظه (79 أ) الله مني الإجازة فأجزته، واستجزت منه لي ولأولادي المتقدمين، فأجازني وأجازهم، وله- حفظه الله- تآليف تنوف على خمسين «3» مؤلفا، أطال الله بقاءه، وأسبغ عليه آلاءه آمين.

وممّن أضافنا في بيته الشيخ العالم الصوفي، والحبر البحر الوفي، سيدنا الشيخ محمد بن العالم الصالح الصوفي الشيخ صالح المواهبي «4» ، له- حفظه الله- في العلوم باع طويل، وفي التصوف ذهن غير كليل، هو الآن شيخ الحلوية «5» يصنع فيها ذكرا بعد صلاة الجمعة، وله وعظ في الجامع الكبير، يأتي بالمواعظ التي تخلب القلوب، وتكشف أستار الغيوب، بألفاظ فصيحة وتقريرات رجيحة. وله تدريس في الحديث في الجامع الكبير، يدرس في الجامع الصغير «6» بتأنّ وتؤدة وإمهال من غير هذرمة ولا دمدمة ولا استعجال، نفعنا الله بصالح دعواته، وأفاض علينا وافر بركاته آمين.

وقرأ علي الشيخ محمد العقاد شرح الوضعية، وشرح رسالة آداب البحث، وأضافني في بيته ومعنا الشيخ طه الجبريني، والسيد يونس الأدهمي، وأتانا بقصاص قص لنا من بعض سيرة الظاهر بيبرس، فما رأيت (79 ب) أحفظ من هذا القصاص، [فإنه]«7» أدرج في أثناء

ص: 160

القصة مقامة من مقامات الحريري، وأبيات ابن هاني المغربي الأندلسي «1» التي أولها «2» :

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر

حتى أتى إلى آخرها.

وأنشد معلقة زهير بن أبي سلمى مع صحة الألفاظ والإعراب، وهذا من أغرب ما سمعت، والشيخ محمد العقاد فاضل ماهر لولا صغر سنه لتعين في حلب، له في الفقه والعربية والأصول والقراءات باع طويل.

وممن زارنا السيد محمد (السرميني)«3» المعروف بالخاص، ومدحني بقصيدة، وإن كانت غير جزلة ولا فصيحة لكني أثبتها تبركا بأنفاسه وهي «4» :

يا ابن ودّي مر بي فديتك مني

لاح بدر قد فاق بدر السماء «5»

مذ رأينا نور المهابة قلنا

ذا ضباه أنار بالشهباء

طيب النفس جهبذ ذو كاء

وسناه يزهو كشمس ضحاء

سيّد ساد بالأصالة فرعا

ورقى سؤددا على الفضلاء

وسما رفعة لأوج وقار

وغدا عمدة لدى العلماء

(80 أ)

جاءنا زائرا بنية سعد

قاصدا بالتقى لخير الأنبياء «6»

لولا هذا لما حظينا بفضل

مذ هدينا بوجهه اللألاء

وجنينا ثماره وسمعنا

نظمه الرايق الشهي بوفاء

ص: 161

لم يزل يرتقي مكانة عز

ذروة المجد حالة السراء

زاده الله في الأنام وقارا

وارتقاء فوق العلا والسماء

ردّه الله للبلاد سليما

مغمرا بالعطاء من ذي سخاء

ووقاه الإله كيد حسود

سالما في الدنا من البلواء

وتهنّا عبد الإله ببكر

حلة المجد صغتها من ثناء

واعذر الآن محمد الخاص إني

ما مرامي سوى قبول دعائي

وهذا السيد محمد الخاص في عقله خلل كأنه مجذوب ومسلوب، نفعنا الله به وبأسلافه.

ومما أنشدنا السيد محمد قزيزان بعد درس البيضاوي في بيت الطرابلسي (80 ب)(قصيدة)«1» :

وكم حزن أهدى سرورا لربه

كما الدوح يعلو شامخا أن يعلم «2»

أرى زهرة الدنيا وريحان غيها

إذا ذبلا في دمنة الحي ترتمي

ومن يك فرعا للمكارم مثمرا

رفيعا بأحجار الملامة يرجم «3»

ومن يك في ماء الشباب معوجا

فليس له غير اللظى من مقوم

ومن ينظر الدنيا بأجفان عبرة

على ما مضى أن فات لم يتندم

فليس به شيء يسر ويرتجى

وتحمد عقباه فسل عنه تعلم

سوى أنّها مثوى لأشرف مرسل

على فترة من بعد عيسي بن مريم

فمذ قبّلت أقدامه الأرض أصبحت

لنا معبدا رحبا وطهر تيمم

نبي أتى الذكر الحكيم بمدحه

بمعجز آي رائق النظم محكم

حكيم مزاج الدين صحّ بطبّه

وكم من مريض الذنب للخوف يحتمي

ص: 162

(81 أ)

فإن نبضت أعراق شرك بنبضه

يعالجها ممّا يريق من الدم

حليم فلا يسطو على الحلم غيظه

وليس حليم الخيم كالمتحلّم

نبي أتى الأنصار في أرض طيبة

فحل محل البرء في رأس مسلم

وأضحت بيمنى رجله حرما فلا

بها مرض يخشى ولا أمّ ملدم

يقول أنا الأمي في اللوح ناظر «1»

وفي مكتب الأرواح ربي معلمي

ودر ثمين لم يهذبه كافل

وآدابه ليست إلى الناس تنتمي

إذا لاح في موضونة السر خلته

خضمّا تردى بالغدير المسنّم

أيا ابن الذبيحين الذي ذبح العدى

لتطبخ في نار الجحيم المحطّم

فديتك يا روحي فداء مؤكدا

بنفس وعين لا بعين ودرهم

(81 ب)

عليك صلاة الله في كل فينة

وصحبك ثم الآل مورد من ظمي

ومما أنشدنا في حجرة الشيخ طه «2» فائية ابن هاني الأندلسي رحمه الله رحمة واسعة) «3» التي مطلعها:

أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا

وقدّت لنا الظلماء من جلدها الحفا «4»

وبات لنا ساق يصول «5» على الدجى

بشمعة نجم لا تقط ولا تطفى

(حتى أتى إلى آخرها)«6»

ص: 163

ومما أنشدنا في بيت السيد حسين (الديري)«1» قول ابن الخيّاط «2» :

هو الرّسم لو أغنى الوقوف على الرّسم

هو الحزم لولا طول عهدك بالحزم

تجاهلت عرفاني به غير جاهل

وللشّوق آيات تدلّ على علمي

عشيّة جنّ القلب فيها جنونه

ونازعني شوقي منازعة الخصم

وقفت أداري الوجد خوف مدامع

تبيح من السر الممنّع ما أحمي

(104 أ)

أغالط بالشك اليقين صبابة

وأدفع في صدر الحقيقة بالوهم

فلما أبى إلا البكاء لي الأسى

بكيت فما أبقيت للرسم من رسم

وما مستفيض من غروب تنازعت

عراها السّواني فهي سجم على سجم

بأغزر من عيني حين تمثّلت

على الظّن أعلام وبانت على الرّجم

كأني بإجراع الثنيّة مسلم

إلى ثائر لا يعرف الصفح عن جرم

لقد وجدت وجدي الدّيار بأهلها

ولو لم تجد وجدي لما سقمت سقمي

عليهن وسم للفراق وإنها

على به ما ليس للنار من وسم

وكم قسّم البين الصبا بين منزل

وبيني ولكنّ الهوى جائر القسم

منازل أدراس شجاني نحو لها

فهلا شجاها ناحل القلب والجسم

سقاها الحيا قبلي فلما سقيتها

بدمعي رأت فضل الوليّ على الوسم

ولو أنني أنصفتها ما عذلتها

عن الكرم الفيّاض والنائل الجمّ

وممن التمس مني إجازة الحديث الشيخ الصالح الناسك الشيخ مصطفى الغريب المقدسي، فكتبت في الإجازة: الحمد لله الذي أوصل بصحيح النية من انقطع إليه، وقوى

ص: 164

الضعيف الذي أطاعه بالحسن من الأعمال لما توكل (82 أ) عليه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المرسل من أشرف قبيل، وعلى آله وأصحابه أكرم جيل.

وبعد، فيقول العبد الفقير إلى الله الغني، خادم الحديث، أبو البركات عبد الله السويدي:

قد التمس مني الشيخ الصالح الناسك سيدي الشيخ مصطفى الغريب المقدسي نزيل حلب أن أجيزه بمروياتي فأجزته- بعد الاستخارة- بجميع ما يجوز لي، وعني، روايته من منطوق ومفهوم ومنثور ومنظور، ولا سيما كتب التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام والنحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والحكمة والهيئة والتصوف وجميع الأحزاب والأوراد وسلسلة الطريق وغير ذلك، بحسب روايتي لذلك من مشايخي.

وأجزته بجميع مؤلفاتي من منثور ومنظوم، بشرط أن لا ينساني، ومشايخي وأصولي وفروعي ومحبّىّ من دعائه، وكتبه الفقير خادم الحديث أبو البركات عبد الله السويدي المدرس بآستانة «1» الشيخ عبد القادر الجيلي، قدّس سرّه العزيز.

ومما وقع السؤال عنه عبارة القاضي البيضاوي «2» على قوله تعالى فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ

«3» حيث قال: (83 أ) :

والتغليب للإيجاز والتعليل والمبالغة «4» . فكثر الكلام فيها، وطال النزاع، وجيىء بالحواشي المتعلقة بالبيضاوي، لم يشف أحدهم الغليل، لكن رأيت في بعض المجاميع عبارة منسوبة إلى زين العابدين، والظاهر أنه البكري الصديقي هي أحسن مما رأيت من الأجوبة وهي: أقول: لا منج «5» إما أن يكون الدعاء بالسحق واقعا في الدنيا، وفي قول الأفواج في

ص: 165

الآخرة، أو يقدر وقوع أحدهم في وقت وقوع الآخر على ما يشعر به قوله فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ

وعلى الأول «1» ، أما جعل التغليب مجازا فيما يشبه التغليب من تغيير النظم، كما يجعل لفظ التضمين في واضع من كلام المصنف مجازا فيما يشبهه، وإنما جعله تغليبا للكفرة على فسّاق الموحدين على سبيل التهديد كما صرّح به المفسرون في الدعاء في الغضب واللعن الواقع على سبيل الإيقاع كما توهّم، فيكون من تغليب الأكثر من الجنس في وصف اتصف به على الأقل منه «2» الخالي من ذلك الوصف كما اتفق عليه علماء البلاغة، فعدم إطلاق أصحاب على الفساق لا ينافي ذلك كما لا ينافي كون باب التغليب من المجاز كما لا يخفى على المتدرب، أو المراد تغليب الواقع على وجه على الواقع على وجه (83 ب) آخر، فإن باب التغليب باب واسع على ما قرر في محله، فيفيد الإيجاز من حيث أن ظاهر السوق أن يقال فسحقا لهم ولسائر من يدخل السعير، ويفيد التعليل من حيث استحقاقهم للدعاء عليهم إنما حصل بسبب جعلهم أنفسهم الفسق، وأوجه في استحقاق مشاركة الاسم والرسم مع الكفرة بذلك إلى الأبد إنما نشأ من شؤم كفرهم، وحقيقته كلمة العذاب وصحبة السعير عليهم على قاعدة ترتب الحكم على المشتق، وأيضا يفيد المبالغة من حيث إنه فيه دعاء عليهم بالسحق، وإطلاقا لوصف صحبة النار وملازمتها عليهم على الوجه الأعم المتجاوز عنهم، مع جعل الفساق الملحقين بهم بحسب الضم «3» متساوين معهم في ذلك تهديدا، وعلى الثاني (وهو تقديرا وقوع أحدهما في وقت وقوع الآخر، فيكون تغليبا لأصحاب السعير بالفعل على الملقين في جهنم المغايرين لهم على ما يستفاد من قولهم ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ

»

أي واقفين) «5» فيهم بعداد جملتهم دون أن

ص: 166

يقولوا: ما كنا أصحاب «1» السعير. وإن كان أمر الكل راجعا إلى صحبة السعير، وتوضيحه أن القائل في قوله: قالوا، وقوله: ما كنا، (84 أ) إن كان مجموع الأفواج فالمراد تغليب الشياطين الذين صحبوا السعير بالفعل قبل على ما دل عليه قوله تعالى وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ

«2» كما صرح به المولى أبو السعود «3» لما فيه من الإشعار بتقدم وقوع صحبتهم عليهم ولا ينافي إطلاق أصحاب السعير على غيرهم، ولا التصريح بكون السعير معتدة لهم أيضا في آيات أخر كما توهم، وإن كان كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر من النظم الجليل، فالمراد تغليب من عداهم من الشياطين فقط أو مع الكفرة الذين وصلوا إلى صحبة السعير بالفعل قبل الفوج القائل وهو على التقديرين من تغليب ما وجد على ما لم يوجد، كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

«4» مع كون المنزل بالفعل حينئذ بعض القرآن لا كله المراد في المقام واستعمال الأصحاب في المركب من الذين صحبوا بالفعل والذين لم يصحبوا استعمال في غير ما وضع له كما هو قانون التغليب، وفيه إيجاز باعتبار أن ظاهر السّوق: فسحقا لهم ولأصحاب السعير، وفيه تعليل لاستحقاق السحق يكون الكل أصحاب السعير، وأيضا فيه مبالغة باعتبار اشتراك الفريقين في الحكم الواقع بالفعل على السوية، (84 ب) والإيماء إلى أنه لا فرق بين صحبتهم لهم وصحبة الأصحاب بالفعل إلا بمقدار من التقدم والتأخّر يقع مثله بين المشاركين في الاسم الواحد والوصف المعين، وأما ما قاله المولى الخلخالي «5» من أن التغليب إما هو بالفعل الماضي المقدر للفوج

ص: 167

الذين سحقوا بالإلقاء في جهنم على الذين يسحقون بذلك، وإنه من تغليب الموجود على المترقب، وإطلاق اسم الجزء على الكل، فمع «1» بنائه على إخراج الجملة عن الدعاء سخيف من وجوه منها أن الحذف ينافي التغليب، ومنها أن السحق هو الإبعاد عن الرحمة، وهو لا يتوقف على الإلقاء في جهنّم، فلا فرق في ذلك بين الأفواج، ومنها أنه على تسليم كونه ماضيا صرفا مربوطا بالإلقاء في جهنم يكون من قبيل فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ

«2» والأفواج كلها في عدم وقوع ذلك قبل يوم القيامة، وكذا في القول بأن متحقق الوقوع كالواقع على السوية، ومنها على أن لا يحصل للتعليل على ما له وجه ظاهر إلى غير ذلك، هكذا ينبغي أن يقرأ هذا المحل، انتهت عبارة زين العابدين. وقال اللاقاني «3» : بيانه أي قوله البيضاوي أن أصحاب السعير هم (85 أ) الشياطين «4» بدليل قوله وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ

«5» وأن أصحاب جهنم هم الذين كفروا بربهم بدليل قوله تعالى وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ

«6» وسمى أحد الفريقين «7» أصحاب جهنم بخلودهم فيها، وصاحب لغة الملازم المستمر، وقوله تعالى بعد ذكر الفريقين وتسميتهما بما ذكر فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ

أراد به الفريقين معا فأطلق عليهما معا ما حقه أن يطلق حقيقة على الشياطين خاصة إطلاقا على سبيل تغليب الشياطين على الذين كفروا دون العكس، لأن الشياطين هم بالأصل في الهوى والضلال، والذين كفروا تبع لهم

3

ص: 168

في ذلك. وفوائد هذا التغليب ثلاث: الأولى الإيجاز إذ أصحاب السعير فيه إيجاز بالنسبة إلى الشياطين والذين كفروا، والثانية المبالغة في وصف الذين كفروا للإفراط في الكفر والضلال حتى كأنهم صاروا نفس الشياطين الذين هم أصحاب السعير حقيقة. الثالثة التعليل وذلك لأن قوله تعالى سحقا، معناه فبعدا لهم عن رحمته، أي عن جنته التي هي دار لرحمته، أي ثوابه وإنعامه، وقد علق بقوله تعالى لأصحاب السعير، والحكم إذا علق بوصف أشعر بعلية الوصف المعلق عليه للحكم المعلق كما هو (85 ب) مقرر في محله كقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا

«1» وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا

«2» وللخفاء في أن كونهم أصحاب السعير الملازمين لها الخالدين علة لبعدهم عن الجنة التي هي دار رحمته، انتهى. قلت: وفي العبارتين محل «3» تأمل.

ومما وقع السؤال عنه، قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ

«4» سألت الشيخ الجبريني «5» : لم أكّد الموت باللام مع كونه أمرا معلوما لا ينكره أحد، ولم يؤكد البعث بها مع كون المنكرين له كثيرين؟ فلم يستطع الجواب وجوابه- والله أعلم- أن المخاطبين لما كانوا منهمكين في الدنيا مقبلين على شهواتها ولذاتها مغترين بزهرتها ونضارتها، غير مكترنين بالأمور الأخروية، بل إنهم معرضون عنها بالكلية نزلوا منزلة من اشتد إنكاره للموت فألقى إليهم الخبر مؤكدا باللام، وأما البعث فإنه لمّا قامت عليه الدلائل الساطعة والبراهين القاطعة فكأنه محسوس مشاهد، نزلوا منزلة من لم يشتد إنكاره

ص: 169

فألقى إليهم الخبر مجردا عن اللام، وهذا أحسن من جواب الإمام الرازي «1» حيث قال: إن الواو العاطفة تشرك ما بعدها في الحكم (86 أ) لما قبلها فكأن المعطوف مؤكّد باللام وهذا معنى كلامه، وللنظر فيه مجال.

وممن زارنا السيد الحسيب النسيب السيد محمد النائب في المحكمة الصلاحية ابن العالم الفاضل سيدنا السيد حسن أفندي التفتنازي، نسبة إلى تفتناز قرية من قرى حلب. ذكر لي ولده السيد محمد أن والده كان من الفضلاء المحققين، وأن له من المؤلفات نظم السراجية وشرحه، وله ثلاثة مؤلفات في الفقه الحنفي، وله رسالة في علم المعاني والبيان ورسالة في شرح حديثين، أحدهما حديث (إن الله يبعث على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها)«2» وثانيهما حديث (استعينوا بضعفائكم)«3» . توفي في مكة المكرمة سنة «4» 1139.

وممن زارنا الشيخ الفقيه الصالح الحافظ لكلام الله الشيخ عبد الرحمن الحنبلي الدمشقي «5» نزيل حلب، له محاضرة حسنة ونظم ليس بالعالي، وله مؤلفات في الفقه الحنبلي وفي الفرائض وفي النحو. طلب مني قراءة صحيح البخاري والإجازة فلم يتيسر ذلك، وعسى أن يكون خيرا.

ص: 170

واجتمعت مع الشيخ المجذوب المسلوب الشيخ علي شاتيله، وقبلت يده. يزعم أهل حلب أن له كرامات (86 ب) ظاهرة، نفعنا الله تعالى به. واجتمعت أيضا بالأمير محمد الداراني «1» ، وهو أيضا من المجاذيب إلّا أنه يصلي ويصوم ويقرأ العلم. قرأ عليّ وأنا في الموصل شرح تعليم المتعلم «2» عام سبع وعشرين ومائة وألف «3» ، وكان إذ ذاك يلقب بالأخ العزيز لكثرة ما تجري هذه الكلمة على لسانه يقولها لكل من خاطبه، وكان إذ ذاك فيه نوع جذب، وأهل الموصل يعتقدونه، واليوم له في حلب نحو الستة عشر عاما، وأهلها يحسنون الظن به، نفعنا الله تعالى به، آمين. وممن دعانا للضيافة في بيته سيدنا العالم الفاضل السيد عبد الرحيم بن السيد أبي بكر الفنصاوي «4» [و] هو ووالده من ذوي الرتب في حلب.

وممن دعانا إلى الضيافة في داره حسين آغا بن الحاج محمد المعروف بالجتجي البغدادي «5» أضافنا ضيافة حسنة في الغاية [والنهاية]«6» .

ص: 171

وفي خامس رجب الأصب «1» جاءني، وأنا في حلب، كتاب من ولدي الشيخ أبو الخير عبد الرحمن- حفظه الله من مكائد الشيطان وطوارق الحدثان- وصورته: العبد المملوك الذي أسره غرامه، وتيّمه هيامه، ذو الشوق (87 أ) المتكاثر، المفصح عنه قول الشاعر:

والشوق أعظم أن يحيط بوصفه

نظم أو يطوى عليه كتاب

يقبل الأرض التي تشرفت بقدومك إليها، وتزخرفت بوطئك عليها، ويهدي سلاما أبهى من النيرين، بل أسمى من الفرقدين، سلام لو تمثل كان درا وياقوتا يقلّب باليدين، سلام صادر من محله إلى أهله، بالغ بلوغ الهدى إلى محله، وتحيات صافيات، ودعوات ضافيات بأن يديم الله مولانا الذي شيد به ركن الدين، لما به رحمة للناس في هذا الحين، العالم العامل، والفاضل الفاصل بين الحق والباطل، أدام الله ظله، ولا أعدم مثله، ولا زال السعد له أليفا، والأمان لحياته وركابه حليفا، فأنا إليك أشوق، وبقول القائل أليق:

يا من له بين الضلوع مرابع

أناشيق أناشيق أناشيق

نسأل الله تعالى أن يجمعنا بعد قضاء الأوطار، ويزيل (87 ب) عنا الكرب والأكدار، إنّه الفاعل المختار. سألتم عنا، فالحمد لله إنا نتقلب بالنعم بطنا وظهرا، ونسير في وديان الثروة نجدا وغورا، والأهل والأولاد والمحبون إليكم متشوقون، ولكم بالخير داعون. وممن زارنا الشيخ الصالح الناسك الشيخ أحمد بن العالم الفاضل الشيخ محمد الحافظ الحلبي.

والتمس مني رواية حديث الرحمة المسلسل بالأولية، فرويته له، ثم التمس أن أكتب له سندي فيه، فكتبت ما صورته: الحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على سيد السادات، ذو النعوت السامية الجلية، والمجد المسلسل بالأولية، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم «2» المرفوع ذكره، المرسل عن التقييد فخره، وعلى آله وأصحابه

ص: 172

وجنده وأحزابه «1» . وبعد، فلما كان الإسناد من الدين، ووصلة إلى سيد المرسلين، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط المحدث خبط عشواء، التمس الشيخ العالم الصالح الناسك الشيخ أحمد بن العالم المحدث الشيخ محمد الحافظ الحلبي أن أروي له حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وأبيّن له رجاله (88 أ) ذوي المناقب العالية، فأقول: أروي حديث الرحمة بطرق مختلفة، وأسانيد متنوعة، مسلسلا وغير مسلسل، (أشهرها ما رويته مسلسلا)«2» عن شيخنا علامة الزمان، وفريد العصر والأوان، السيد الحسيب النسيب السيد أبو الطيب ابن أبي القاسم (محمد)«3» المحمدي المغربي المالكي حين إقامته ببغداد، في بيته الذي هو قرب مرقد الشيخ عبد الكريم الجيلي «4» في محلة العوينة «5» في الجانب الشرقي من بغداد، وهو أول حديث سمعته منه، قال (حدثني به الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالنخلي، وهو أول حديث سمعته منه قال)«6» : حدثنا في مكة المشرفة الشيخ يحيى الشاوي «7» لما

ص: 173

حج في سنة خمس وثمانين وألف «1» بحديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو أول حديث سمعناه منه، قال: أخبرنا به الشيخ سعيد الجزائري الشهير بقدورة «2» ، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا به الشيخ المحقق سعيد بن محمد المقري، قال، هو أول حديث سمعته عن الولي الكامل أحمد حجي الوهراني، وهو أول حديث سمعته منه، عن شيخ الإسلام العارف بالله تعالى سيدي إبراهيم التازي، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال:

قرأت على المحدث الرباني أبي الفتح محمد بن أبي بكر بن الحسين المراغي، قال، وهو أول حديث قرأته عليه، قال: سمعت من لفظ شيخنا زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم البكري الميدومي، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا النجيب أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني «3» ، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي «4» ، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن أبي صالح النيسابوري «5» ، قال، وهو أول حديث سمعه منه، قال:

ص: 174

أخبرنا والدي أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن «1» قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي «2» قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى البزاز «3» قال، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار «4» عن أبي قابوس «5» مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو «6» رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)«7» . قال شيخنا أبو الطيب: إن السلسلة انقطعت من سفيان «8» ، وقال بعض مشايخنا ممن روينا عنهم حديث الرحمة: إن الرواية بالجزم في يرحمكم، روى هذا الحديث الترمذي، وقال: حسن صحيح، وجمع طرقه جماعة وهو أصح المسلسلات. وقد نظم هذا

ص: 175

الحديث جماعة من العلماء منهم الحافظ ابن عساكر «1» - رحمه الله تعالى- قال:

بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنما

ولا تكن عن قليل الخير منحرما

واشكر لمولاك ما أولاك من نعم

فالشكر يستوجب الأفضال والكرما

وارحم بقلبك خلق الله وارعهم

فإنما يرحم الرحمن من رحما

وللحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى (رحمة واسعة)«2»

إن من يرحم في الأرض قد

جاءنا يرحمه من في السما

(89 ب)

فارحم الخلق جميعا إنما

يرحم الرحمن منا الرّحما

وللحافظ العراقي رحمه الله تعالى:

إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما

ولا الفقير إذا يشكو لك العدما

فكيف ترجو من الرحمن رحمته

فإنما يرحم الرحمن من رحما

وللشيخ رضوان بن حمد العقبي رحمه الله تعالى:

الحب فيك مسلسل بالأول

فارحم ولا تسمع كلام العذل

وارحم عباد الله يا من قد علا

من يرحم السفلي يرحمه العلي

ولشيخ الإسلام القاضي زكريا رحمه الله تعالى: من يرحم أهل السّفل يرحمه العلي:

فارحم جميع الخلق يرحمك الولي

وللشهاب المنصوري رحمه الله تعالى:

ص: 176

أخلق بمن يظلم أن يظلما

وبالذي يرحم أن يرحما

من لم يكن يرحم بالقلب من

في الأرض لم يرحمه من في السما

وأرسلت من حلب، يوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، إلى الرها كتابا لسيدي العالم الفاضل حسن أفندي الرهاوي (90 أ) المنصوري المعروف بحليم زاده، وصورته:

إن أمثل ما نسجته اليراعة، من حبر البراعة، وأفضل ما نظمته من درر البلاغة في سلك خير صناعة، تسليمات لاحت بروق الوداد من آفاق مبانيها، وبزغت شموس الاتحاد من أفلاك معانيها، سمت على النيرين قدرا، ونمت على السماكين، فخرا على العالم الذي كشف الغموض عن وجوه المشكلات، ورفع حجاب الخفاء عن محيّا المعضلات ولا بدع إذ هو المتفرد في دهره، والمتوحّد بين أبناء عصره، ولا غرو! فإن ليلة القدر من جملة الليال، وإن المسلك بعض دم الغزال. سيدنا الذي أخذ من كلّ فنّ أوفر نصيب، وجاز من كل علم على المعلى والرقيب، باهت به على جميع الأقطار الترها، ولولاه لما اتّبع علم بها وزها، سيدنا الأمثل النبيل، الحري بأن أنشد فيه:

علامة الأزمان والدهور

فهّامة الأديان والعصور

فهو الذي يسمو إلى أوج العلى

بفضله المنشور والمشهور

مولاي ذو الفضل الذي لا يرتقي

شمس المعالي حسن المنصوري

(90 ب) لا زالت ألوية إفاداته منشورة على كواهل الطالبين، ولا برحت أظلة تحقيقاته وريفة، محيطة بالمستفيدين، آمين. أما بعد فيا أيها الحبر البحر الكامل، والجهبذ النحرير الفاضل، أن تموّج عباب خاطر كم الزاخر، بالسؤال عن أحوال هذا الداعي في الباطن والظاهر، فهو قد أناخ ركابه في أفنية حلب الشهباء، لا زالت محط رحال المحققين الفضلاء، عمرها الله بالمسرات، وغمرها بالنعم والمبرات، واجتمع هذا الفقير بفضلاء يشار إليهم بالبنان، ولم يدان فضلهم أحد من هذا الزمان، فجرت بيننا بعض المذاكرات، ودارت علينا كؤوس المحاورات، وأخذنا بأطراف الفنون، وهصرنا عذبات البحث والحديث شجون،

ص: 177

فكلهم ألقى عصي التسليم وسلم، واستوت سفينة إذعانه على شاطىء اليم، فلله درّهم من فضلاء قد جبلوا على الإنصاف، وزايلوا وعار الخبط والاعتساف، كثر الله أمثالهم ونصب على الحسنى أحوالهم آمين. هذا فإن الأشواق إلى ذلك الجناب جلّت أن تدخل تحت أعداد الحساب، ولم أزل أتذكر محاسن أخلاقكم الحميدة، (91 أ) وشمائلكم السامية السديدة، فنرجوا الدعاء في خلواتكم وجلواتكم، وعقب الدرس الذي هو أنفس أوقاتكم، لا زلتم معدن الإفادة، ولا برحتم في بحبوبة السعادة آمين، والمأمول من الجناب الرفيع تبليغ الدعاء الأتم، والثناء الأعم، إلى من طاب محتده ونجاره، وسما على الجوزاء فخاره، ولدنا العديم الأشباه بلا اشتباه، النجيب السيد عبد الله ابن المفخم والدستور المكرم أحمد باشا، والي الرها لا زال لاقيا من الكمالات ما يسمو على السهى.

وأرسلت منها إلى بغداد كتابا لولدي القلبي حسين بك، وصورته: الحمد لله الذي أنعم على من أمّه وحجّ إليه، وأكرم من طاف حول حماه وسعى إليه، وأجزل ثواب من أحرم بإخلاص النية، وعظم من لبى دعوته بسلامة الطوية، ورمى شيطان خلافه بجمرات الأعمال، والصلاة والسلام على كعبة القصاد، ومرام الوفاد، ومنبع الرشاد، وينبوع السداد، وختام الرسالة، ورئيس الجلالة، وواسطة عقد البسالة، ومركز دائرة العدالة، محمد المبعوث من أشرف قبيل، إلى أكرم جيل، وعلى آله الذين (91 ب) طهروا من دنس الأرجاس، وأصحابه الذين هم نجوم هدى لجميع الناس. أما بعد، فتحيات انتظمت بالبلاغة عقودها، وربطت بالبراعة مناطقها وبنودها، تزف إلى من جد في المعارف منذ فطامه، واجتهد في العوارف قبل إبّان احتلامه، ذي النسب الذي دونه مناط العيوق «1» ، والحسب الذي هو أعز من بيض الأنوق «2» ، والمجد الذي قصر عنه رضوى وثهلان «3» ، وتقاعد دونه الخورنق وغمدان «4» ، فرع شجرة

ص: 178

المجد الأثيل، وغصن دوحة الكرم العريض الطويل، قرة العين، وزين كل زين، أبي المحاسن حسين، لا زالت مراتبه رفيعة العماد، ومآثره شامخة الأعلام والأطواد آمين، فيا من حل من العين سواد سوادها، ونفى عنها الكرى بإقامة سهادها، من أين لي صبر وهو قد فر ساعة الوداع؟ كنت أظن أن تفي معي الدموع، والآن لم يبق سوى نفس يتردد، لا نوم ولا رقاد، ولا شراب ولا زاد، ومما. أنشدت بعض النظام:

يا جيرة بالنوى صبري لقد سلبوا

فليتهم وهبوا بعض الذي نهبوا

(92 أ)

أستودع الله في بغداد لي سكنا

لم أقض بعض الذي من حقه يجب

أبا المحاسن مولاي الحسين له

فوق السماكين مجد زانه حسب

ودعته ودموع العين جارية

وفي الحشاشة من توديعه لهب

واستوثق القلب في بغداد مرتهنا

والجسم مني قد أودت به حلب

فليت شعري وما الآمال نافعة

متى تزول عن العاني بهم كرب

وهل تعود ليال بالحمى سلفت

كيما تعود لنا الأفراح والطرب

وهل أراني بذاك الحي ذا جذل

حينا وأني لنشر العلم منتصب

أقري حسينا فنونا جل موقعها

سعادة الدين منها صاح تكتسب

وهل ترى مقلتي أهلا أسر بهم

لا سيما الولد إذ في بعدهم عطب

ففي فؤادي لهيب من فراقهم

والعين مدمعها كالغيث منسكب

(91 ب)

وهل تقربهم عيناي منشرحا

وتنجلي عني الأسواء والنوب

وهل أراني والتدريس شنشنتي

أفيد علما لمن في العلم قد رغبوا

وهل بدجلة يروي القلب من ظمأ

فتنتفي علة الصادي وتستلب

ص: 179

وهل على الجسر تسعى ساعة قدمي

وماء دجلة من تحتي له سرب

وهل أسرح طرفي في النخيل ضحى

وإن فاكهتي من حملها الرطب

فالله أسأله قرب الديار فما

من غيره تطلب الآمال والأرب

ثم فصلت له جميع الحوادث والوقائع، وتركت كتابتها لأنها ليست بلازمة في الواقع.

وأرسلت إليه أيضا كتابا صورته: ما أنة مهجور تعوّد الوصال، وما حسرة مأسور، ضاقت عليه الأغلال، وما حزن مقلاة «1» فقد وحيدها، وما ضيعة أطفال عدم كافلها ورشيدها بأعظم من أشواق زفرة في الجوانح، وتسعرت في أحشاء (92 أ) الصب الغريب النازح، لم تزل في الأفئدة شاعلة، وللأفكار والأذهان شاغلة، لم تطفها الدموع الهواطل، ولو مدت بكل هتان وابل، يحن حنين من فارق أليفه، وزايل مربعه ومشتاه ومصيفه، قد أنحل جسمه البعاد، حتى خفي على الزوار والعواد، لا يستطيع أن يبث ما لقي من النحول، ولا حول ولا قوة له على الوصول.

كيف الوصول إلى سعاد ودونها

قلل الجبال ودونهن حتوف

لم يزل ديدنه الحنين إلى الديار، وهجيراه ادكار ما سلف فيها من الأوطار:

ولنا بهاتيك الديار مواسم

كانت تقام لطيبها الأسواق

فأباننا عنها الزمان بسرعة

وغدت تعللنا بها الأشواق

يتشوق إلى العراق تشوق الصادي إلى الزلال، ويرتاح لذكره ارتياح من أنعم بالوصال، كلما هب النسيم تنفس الصعداء، وكلما أومض برق ناح (92 ب) كما الخنساء شوقا إلى ذي الجناب الذي سمت مكانته، وشيدت بالمفاخر رصانته، ألا وهو الذي شب على الأخلاق الرفيعة، وتربى بحصون الكمالات المنيعة، ولدي الذي سما فخره على النيرين، وناف سموه على الفرقدين، الأنجب الأسعد الأمد أبي المحاسن حسين لا زال في سعادة أبدية، وسيادة دائمة سرمدية. أيها الولد! إني- والحمد لله- بنعمة وافية، وصحة وعافية، غير عافية. الله نسأل أن يمنّ باللقاء، ويدفع عنا بلطفه خطوب اللأواء آمين.

ص: 180

وممن زارنا الشيخ العالم المتضلع من سائر العلوم، البليغ في سبك المنثور وسكب المنظوم، سيدي الشيخ قاسم البكره جي «1» ، له بديعية بديعة شرحها بشرح نحو خمس عشرة كراسة، وذكر في آخر كل شرح سبع بديعيات، الأولى بديعية الصفي الحلي «2» ، والثانية للعز الموصلي، والثالثة لابن حجة الحموي، والرابعة لعائشة الباعونية «3» ، والخامسة لأبي الوفا العرضي الحلبي «4» ، والسادسة والسابعة للشيخ عبد الغني النابلسي فإن له بديعيتين، بديعية ذكر فيها ألقاب البديع لكنه «5» لم يشرحها. وللشيخ قاسم شرح الخزرجية «6» في العروض لكنه شرح مختصر، وله نظم العلل وألقاب العروض (94 أ) وشرحها، وله نظم كثير من تغزّل ومديح وألغاز وأحاجي. ثم إنه- رحمه الله تعالى- التمس مني أن أقرّض على شرح بديعيته، فأجببته إلى ذلك، وصورة ما كتبته: نحمدك اللهم على ما أطلعتنا من بديع هذه الفرائد التي عزّ لها مراعاة النظير، وأوقفتنا على افتنان تفريع هذه الفوائد التي حسن فيها نوادر تدبيج للتصريف «7» والتصدير، ونصلي ونسلم على من اتسم بالاشتقاق من مصدر أشرف العرب، ووسم بأنه المبعوث إلى كافة الخلق بالقول الموجب، وطلع من حسن مطلع فكانت البراعة فيه حين الاستهلال، وسبق الفصحاء في المذهب الكلامي وإن جدوا في الاستطراد والإيغال، سيدنا محمد الذي نزاهته أحرى

ص: 181

بإرسال المثل، وذاته أجدر بالتأديب والتهذيب في القول والعمل، وعلى آله وأصحابه الذين قوّى للتشريع بهم الاحتباك «1» ، وانتظموا في سلك حسن الاتباع بلا استثناء ولا استدراك. أما بعد، فإني وقفت على هذه البديعية وشرحها وقوف ذي انتقاد، ثم التفتّ إليها التفات مستدر نقّاد، وكررت إليها المراجعة وثنّيت عنان التوجيه بلا موادعة، وطابقتها مع أمثالها مطابقة (94 ب) القذة بالقذّة «2» على الترتيب، وقايستها مع نظائرها، مقايسة تحديد لا تقريب، فألفيتها في حسن الانسجام جلّت عن المقابلة، وفي سلامة الاختراع عظمت عن المزاوجة والمشاكلة، قد جانس مبناها المعنى فكان الجناس التام، وأعجزت من بعدها فكانت لعقد رسائل البلاغة ختام. ولعمري- ولا مبالغة في ذلك ولا غلو ولا إغراق- أنها في تلخيص البيان وإيضاح المعاني من بنات الحقاق «3» ، أقامت مبانيها دلائل الإعجاز، وفضّت معانيها بأسرار البلاغة من غير مجاز، فإذا كان الواجب على ما تقرر، أن أنشد فيها من الارتجال ما حضر «4» :

عقود من لجين أم نضار

ودر ما رأينا أم دراري

نعم! ذي درة الغواص باهت

على كيوان تسمو بالفخار

قضت أن لا يدانيها نظام

وأن لا يزدهيها «5» من مبار

أرتني من بديع النظم وشيا

فأنّى للبديع بأن يجارى

شذاها يخلب الألباب طيبا

فأزرى بالحميا والعقار

(95 أ)

لقد رقّت مبانيها وراقت

معانيها وجلّت عن عوار

تنادي من يناديها بنصح

حذار اليوم من فتكي حذار

ص: 182

كيف وهي نسيج من هو نسج وحده، فريد عصره وفريد عقده، البليغ الذي سحب ذيله على سحبان بن وائل، وألحق بإبداع بديعته البديعة الأواخر بالأوائل، فصحّ قول الأديب الشاعر:

كم ترك الأول للأواخر

نعم! لو رآها جرير لجر ذيول الخجل، أو سمعها بليغ تغلب «1» لغلب وصمت أذناه ودعي بالأخطل، أو قرعت أذن الحلي «2» لحل بنود حلّته وحل في زوايا حلّته، وصرّح بأن الرفض مذهبه، وأن التقية منهله ومشربه، أو شهدها ابن حجة «3» لسجل على نفسه بالعجز عن الحجة، وقال: وهت ودحضت حججي بأبي المعالي القاسم البكرة جي، لا زال فمه ينثر الدرر، ولا برح قلمه يوشي الحبر، آمين. أيّها الناظر في هذا التقريض لا يذهب عليك أني جمعت فيه غالب أنواع البديع، فتأمل وتدبر!.

ثم إنه- حفظه الله تعالى- أرسل لي ورقة صورتها: سيدي ومولاي، علم التحقيق والتدقيق، وإنسان عين أهل التحرير والتوفيق، من جمع كل العلوم والتقوى (95 ب) وله القول الراجح وعليه الفتوى، فارس المنثور والمنظوم، ومالك أزمة المنطوق والمعلوم:

فلا تعجبوا من فضله وذكائه

فكم في ضمير الغيب سر يحجب

من إذا نظم فلا ينكر النظام «4» أنه الجوهر الفرد، وإذا نثر قضى له القاضي «5» أنه مالك

ص: 183

الحل والعقد، لا زالت أغصان روضة فضائله يانعة، وكواكب سماء كمالاته نيرة طالعة، إلى الله أبسط أكف الابتهال بأن يمن عليكم بانشراح البال، ولا يزال أهل الفضل والأدب تطفل على موائدك، وتلتقط درر المعاني من فرائدك، ولا برح لسان المجد ينطق ببراعتك ورياض الفضل تغدق ببراعتك وصلت الفقير الفريدة والعقود النضيدة فجنيت بأنامل الفكر جني ثمراتها، واجتليت بإنسان التأمل محاسن مخدراتها، فإذا هي روضة فارقة وريحانة عبقة، ويتيمة مجد، ومطالع بدور كمال، ومشارق شموس إقبال من نثر مفتّق الفكر «1» ، ونظم متسق الدرر، فلم أدر أقطع جمان أم وشي حبر أم قلائد غوان، أم حدائق زهر (96 أ) ، كلا! بل هو سحر حلال يؤثر، بروق يمان أم بيان تألقت «2» شوق صدور، أم سطور تألفت، فحنوت على فرائد جواهرها لكونها يتامى، وترشفت من كؤوس ألفاظها مداما، ومذ ملأت محاجر مسامعي درّا قلت:

سبحان الله! إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا، فأقول:

بدور أسفرت تلك القوافي

بليل الوصل أم خل موافي

أهاتيك الفواصل وصل حب

أتانا زائرا والليل صافي

أتت تختال من تيه وعجب

أرتنا كيف تنتظم القوافي

فحيّت ثم أحيتنا وقالت

حذار حذار من قول منافي

وكيف وقد أتت من عند ندب

همام بالفضائل غير خافي

أبي البركات عبد الله من جا

لداء النظم بالإتقان شافي

فريد العصر مولانا السويدي

كريم الخيم ذي ود مصافي

زكي ألمعي لو ذعي

طويل الباع من غير اختلاف

ص: 184

(96 ب)

إليك أبا الفضائل بنت فكر

شتيت ذي عبارات ضعاف

وعذرا أيها المولى وصفحا

عن العبد المقصر ذي اعتساف

لأني قد تركت النظم شغلا

بما أبغيه من أمر العفاف

إذا أنا كنت «1» في سري وجهري

أقول الله حسبي وهو كافي

وأرسل لي بعض أبيات من نظمه أحب أن أودعها في الرحلة، فمنها قوله متغزلا:

قف بالمعاهد يا معنّى

وانشد هناك فؤاد مضني

قلب به حرق الأسى

لمّا رأى كمدا وحزنا

تلك المعاهد جادها

صوب الدموع حيا ومزنا

وغدوت أنشد عندها

من كل مغنى رق معنى

(97 أ)

يا ظبية سفكت دمي

بالبيض من سود فتنا

ورمت حبال سوالف

شركا تصيد القلب منا

رفقا بمن سلب الهوى

منه القوى وكساه وهنا

أضناه حب شويدن

ملأ الورى هيفا وحسنا

لا زال أسمر قده

العسال يعمل فيّ طعنا

وعيونه النجل المراض

بفعلها الماضي فتكنا

أمعذّبي كم ذا الدلال

بنار خديك احترقنا

يا مالكا رقي أما

يكفيك تعذيب المعنّى

أضرمت نار الحب في

كبدي إذا ما الليل جنا

ص: 185

وله مشطرا:

هاك عهدي فلا أخونك عهدا

يا حبيبا لديه أمسيت عبدا

لا- وحق الهوى- سلوتك يوما

وكفى بالهوى ذماما وعقدا

(97 ب)

إن قلبي يضيق إن يسع الصبر

لأني فنيت عظما وجلدا

وفؤادي لا يعتريه هوى الغير

لأني ملأته فيك وجدا

يا مهاة الصريم عينا وجيدا «1»

وأخا الورد في الطراوة خدا

وشقيق الخنساء في الناس قلبا

وقضيب الأراك لينا وقدا

كيفما كنت ليس لي عنك بد

فأبحني ودا وإن شئت صدا

قد ملكت الفؤاد منّي كلا

فافعلن ما أردت هزلا وجدا

يا ليالي الوصال كم لك عندي

خلوات مع الغزال المفدّى

كم جنينا ثمارك وهي عندي

من يد كان شكرها لا يؤدّى

(98 أ)

فسقتك الدموع من وابل

الغيث المديد البحار جزرا ومدا

وبكتك دما عيوني من دمعي

بديلا فهن أغزر وردا

هل لماضيك عودة فلقد آن

جمال الحبيب أن يتبدا

كنت قدما أعرتك اللهو وقد حق

لذاك المعار أن يستردا «2»

وقال مضمنا:

وشادن من بني الأتراك ذي هيف

في ضيق مقلته النجلاء تخييل

يختال تيها على عشاقه وغدا

من عجبه كثرت فيه الأقاويل

له محيا كبدر لاح في غسق

وخط عارضه للحسن تكميل

ص: 186

فيروزج الخال في ياقوت وجنته

كأنه أثر أبقاه تقبيل

وله مخمسا: (98 ب)

كوامن داء الحب حل بقلبنا

وإن الذي نهواه ضن بطبنا

فعدنا نداوي ما بنا مع أننا

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا

على أن قرب الدار خير من البعد

تدانيت منها كي أفوز بشافع

إلى وصلها من كل ضد ومانع

فنادى منادي الحي في كل شارع

ألا إن قرب الدار ليس بنافع

إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ

وله معمّى في كامل:

قال من كان في المحبة مثلي

مذ رآني في ذي المحاسن مغرم

أيّ بدر تهواه؟ قلت مجيبا

كلّ بدر قد حاز قدّا ومبسم

وله معمى في اسم محمد:

يا عاذلي دع الملام واتئد

واتبع طريقتي ولازم معها

فوجه محبوبي وجيده النقي

قد أجريا من مقلتي مدمعها

(99 أ) وله معمى في اسم صادق:

وصاحب كان عديل مهجتي

ومنحه الوداد كان دأبي

صار بلا عاقبة فالجة «1»

إذ رام قطع وده عن قلبي

وله معنى في اسم طالب:

وذي دلال «2» وعجب

يجرّ أذيال فخر

ص: 187

قوامه غصن بان

وقلبه قلب صخر

وله معمى في اسم علي:

أيا جيرة قد صيّروا القلب والها

أما للفتى من هجركم سبب يدرى

فرقّوا لحال المستهام ترحما

فمن هجركم قد صار في تعب شهرا

وله محاجيا باسم سلامة:

أيا من غدا مغرم

بكشف خفاء ذي الأحرف

أفدني مثل ما قال

المحاجي اطلبا أكفف

وله محاجيا باسم مريم:

يا فاضلا من ذكاه

بين الملا حاز فخرا

ما مثل قول المحاجي

لذي الحجا جاز بحرا

(99 ب) وبقي من الأبيات التي أرسلها شيء كثير تركته خوف الإطالة.

ولما جاءت ورقته، وفي صدرها نثر، ونظم يتضمن الثناء عليّ شطرت النظم وأرجعت مدح الكل إليه، وذكرت نثرا يضاهي نثره وإن لم يفضل عليه:

سيدي ومولاي العالم الذي بلغ في العلم أطوريه، ومارس المعضلات فانقادت إليه، جرّ على مجرى المجرة أذيال فضله، ونصب على هام السماكين فساطيط نبله، ذو التحقيقات التي هي أعز من بيض الأنوق، والتدقيقات التي دونها مناط العيوق، علامة العلماء، واللج الذي لا ينهى، ولكل لج ساحل، كيف وهو النحرير الذي إذا باحث أفحم، وإذا ناظر ألز، وإذا قرر أفهم، وإذا ألف أحكم، والبليغ الذي نثره يزري بالدر المنثور، وشعره يسمو على الشعرى العبور، أقرت له بذلك أقرانه، وأذعنت له أخدانه، وأترابه، وشهدت بتفرده أضداده، وحكمت بأنه العلم المفرد (100 أ) أنداده، والفضل ما شهدت به الأعداء، ولا بدع في مزيته على أبناء نوعه، ولا غرابة في إذعان كل بطوعه، فإن المسك بعض دم الغزال،

ص: 188

وليلة القدر من جملة الليال:

لا غرو إن فاق الأنام بفضله

ومن الحجارة أثمد في الأعين

فالمطري «1» وإن أطنب وأطال وأسهب لم يبلغ عشر عشر العشر من ذاك، فالعجز عن إدراك الإدراك إدراك.

من كان فوق محل الشمس موضعه

فليس يرفعه شيء ولا يضع

سيدي جاءت إليّ الخريدة، واليتيمة الفريدة، التي لم ينسج ناسج على منوالها ولم تستطع البلغاء أن تأتي بمثلها، جلّت عن أن تجارى، وكبرت عن أن تمارى، بعبارات هي السحر الحلال، حرية بأن تضرب لها نواقيس الأمثال، جمعت فتناثرت فرائده، وحوت نغما يود العقيان أن تحلى به قلائده، فكيف بالمعارضة ومبانيها، وأني بالمقابلة ومعانيها سدت ثغور المجاز، فاستوت سفينة (100 ب) هذا الغبي الباقل «2» في اليم، ورأى أن التسليم لسحبان البلاغة أسلم، وترك المعارضة أجدى وأحرى بعد أن كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى، لما أن العاقل يستر بالسكون جهله، حين لم يكن للفضل محله وأهله، لكن الذي جرأه على ما هناك، وسلكه مضايق هاتيك المسالك، علمه بأن مولاه يغضي عن ترهاته، ويبدل بسيئاته حسنات، فاختار التعجيز والتشطير ليكون دخيلا في نظم الشيخ الكبير، مستجيرا به من وصمة الإنكار، مستغيثا به من صولة الأخطار، فرد مدح الأصل والفرع إلى أستاذ النثر والنظام، لأن مدح أمثالي بما هو فوق ما فيه حرام، فالمؤمل أن تبردوا لوعته، وتؤمنوا روعته، فالمنسوب- كما قيل- محسوب، والمستجير يجب عنه دفع الخطوب، فقال:

بدور أسفرت تلك القوافي

بأفق النظم أم زهر قوافي

أم البرق اللموع له وميض

بليل الوصل أم خلّ موافي

أهاتيك الفواصل وصل حب

تمادى بالقطيعة والتجافي

ص: 189

فأحيا ميت الأحياء لما

أتانا زائرا والليل صافي

(101 أ)

أتت تختال في تيه وعجب

فألفينا التلاف من التلافي

وإذ في النظم تقفوها اللآلي

أرتنا كيف ننظم للقوافي

فحيتنا وأحيت ثم قالت

أما نظمي حوى رشف السلاف

فلا تحسوا عقارا غير هذا

حذار حذار من قول منافي

وكيف وقد أتت من عند ندب

فأني تحتوي عيب الزحاف

ففاقت حيث جاءت من إمام

همام بالفضائل غير خافي

سليل الأكرمين أبي المعالي

أثيل المجد حقا غير عافي

أخص البكرجي لقد أتانا

لداء النظم والإتقان شافي

فريد العصر للتقوى جناح

به تقوى القدامى والخوافي

غزير الفضل في علم وحلم

كريم الجود ذو ود مصافي

عريض «1» باتفاق

طويل الباع من غير اختلاف

إليك أبا الفضائل بنت فكر

تعثر بالخجالة في المطاف

وقد جاءت تلفع في نظام

شتيت ذي عبارات ضعاف

(101 ب)

وعذرا أيها المولى وصفحا

فاسبل ستر عفوك فهو ضافي

فعفوا أيها المصقاع عفوا

عن العبد المقصر باعتساف

لأني قد تركت النظم شغلا

بما قد دكّه عصف السوافي

وإني قد ولعت وذاك حق

بما أبغيه من أمر العفاف

إذا ما كنت في سري وجهري

مقرا صرت مأمون الخلاف

ص: 190

فإن تعذر فذا لطف وإلا

أقول الله حسبي وهو كافي

ومما وقع السؤال عنه عبارة سعدي أفندي «1» الواقعة على عبارة البيضاوي في قوله تعالى الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ

«2» حيث قال البيضاوي «3» : خلقه موفرا عليه ما يستعده ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة، وخلقه بدل (من كل بدل)«4» الاشتمال، وقيل علم كيف قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته وخلقه مفعول ثان، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف، فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل، وعلى الثاني بمتصل، انتهى.

قال سعدي أفندي: قوله فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل، يعني العقل، وفيه (102 أ) بحث فإنه صرح في أوائل [سورة] البقرة أن الشيء في أمثاله بمعنى المفعول فلا يحتاج إلى التخصيص، فإن قيل: لو سلّم [ب] ذلك فالله هو موجد الصفات الجليلة في ذاته المقدسة، بل هو موجود ذاته أيضا على ما زعم أكثر المتكلمين فما وجه الاحتياج إلى التخصيص؟ وما المانع عن الإبقاء على عمومه؟ قلنا: لفظ الخلق، فإنه الإخراج من العدم إلى الوجود لا الإيجاد مطلقا، ولهذا كفّروا من قال بخلق القرآن، وكذا صيغة أحسن تدل على الاختيار على ما حققه الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة، انتهى. قال العبد الفقير: لما وقفت على هذه العبارة وقف شعري، واقشعر بشري، حيث سلم أن الله موجد لذاته ولا يقول هذا من له أدنى مسكة في الإسلام- عافانا الله من ذلك، وسلك بنا أحسن المسالك- فإنه لا فرق بين الخلق والإيجاد كا هو معلوم من كتب (اللغة)«5» المعتبرة. ثم

ص: 191

وقفت على عبارة الشيخ الكواكبي «1» فلقد أحسن- رحمه الله كل الإحسان، ونصها:

أقول الشيء في الأصل وإن كان مصدرا أو يكون بمعنى المشيء «2» لكن إطلاقه لغة على ما يصح أن يخبر عنه فيعم الواجب والممكن والممتنع، فالتخصيص بناء. ثم قال سعدي أفندي (102 ب) هنا ما نصه: ولو سلم ذلك إلى قوله موجد ذاته، أقول لا يخفى ما فيه من البشاعة والشناعة فالإيجاد إحداث الوجود كما أن الإعدام إحداث العدم، ولذا قالوا: إنه لا يتعلق بالوجود الممكن لما فيه من تحصيل حاصل فضلا عن أن يتعلق بالواجب القديم الذي لا ينفك الوجود عنه. والذي عليه المتكلمون أن وجوده سبحانه مقتضى ذاته من غير احتياج إلى الغير، وأن صفاته واجبة به تعالى، وهذا لا يقتضي صحة أن يقال في حقه- سبحانه وتعالى أنه موجود ذاته أو صفاته، كيف والإيجاد إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. وأما الخلق فهو الإيجاد على قدر وتسوية كما ذكره القاضي «3» وغيره، فهو أخص من هذا الوجه لا من الوجه الذي ذكره المحشي ويشتركان في إحداث الوجود، فلو عبر في الآية الكريمة بالإيجاد بدل الخلق لاحتيج إلى التخصيص أيضا، فالإيجاد جعل الشيء موجودا «4» بعد أن لم يكن، أي لا يتعلق بالقديم «5» أيضا، انتهى. وهو كلام حسن بل هو الصواب والله أعلم.

ص: 192

وكتبت منها إلى الموصل، لقريبنا عثمان آغا ابن درباس الدوري ثم الموصلي «1» كتابا (103 أ) صورته: إن أبهى ما حاكته اليراعة من الوشي المحبر، وأشهى من مواصلة الحبيب بعد ما صد وهجر، تحيات صدرت من صدر عرى عن داء الملق، وسلم من عضال النفاق وبحسن الوفاق تخلق، واتخذ المودة ديدنه وشنشنته، وغرس المحبة في فؤاده فصارت خلقه وسجيته، تزف إلى من جر على مجرى المجرة ذيل مجده، وسما على كيوان فلك إقباله وسعده، تضوعت شمائله وأخلاقه، وزكت أصوله وأعراقه، وتخلص من الدنس محتده ونجاره، وعلا الجوزاء شرفه وفخاره، ذي الأخلاق التي يحاكيها المسك لولا فارته «2» ، والسمات التي يشبهها الورد لولا مرارته، والجهم «3» الذي لا تقرع صفاته، والندس «4» الذي لا تناط صفاته، عزت نظائر أمثاله، وضن الدهر بأن يأتي بمثاله، ولدنا الأكرم المطهر من وصمة الأدناس، السالم نسبه من قذر الأرجاس، عثمان آغا بن درباس، لا زالت ألوية سعده تخفق على كواهل الدوام، ولا برحت أعلام مجده منشورات على أعواد السمو بين الأنام.

وبعد، فإن منّ مولانا بالسؤال عن حال ودوده (103 ب) ، فهو مقيم على ما تعهد من عهود، إلا أن شوقه الشديد نغّص عليه عيشه الرغيد، يتذكر تلك الشمائل التي أزرت بالعنبر الأشهب، والأخلاق التي بزّت المسك فكيف الرند «5» والزرنب «6» ، لم يزل يذكر تلك الليالي التي كلها أعياد، والأوقات التي تجردت عن الأكدار والأنكاد:

أحن إذا خلوت إلى زمان

تقضّى لي بأفنية الربوع

ص: 193

وأذكر طيب أيام تولت

لنا فتفيض من أسف دموعي

نسأل الله أن يمنحنا رؤية محياكم، ويمنّ علينا بفضله بلقياكم، آمين.

وكتبت إليه أيضا: تسليمات زهت أزهارها، وتفتحت أنوارها، وترنمت عنادلها وأطيارها، وتسلسلت جداولها وأنهارها، على من ارتقى أفلاك السيادة، وامتطى متون السعادة، وربح في تجارة المفاخر، ونجح في بضاعة المآثر، فريد العصر والأوان، قرة عين الزمان، ووحيد الأتراب والأقران، ولدنا الأكرم الأمجد عثمان، لا زال سعده ثابتا بثبوت ثهلان، ولا برح إقباله باقيا ما بقي الفرقدان، أما بعد، فإن هذا (104 أ) الداعي مغمور بنعم الله الوفية، معمور الجوانب في آلائه الهنية، إلا أن الشوق تأججت زفراته، وتضرمت لوعاته، لم أنس أخلاقكم الحميدة، ولم أسل مكارمكم العديدة، عسى الله أن يمن باجتماعنا بعد البعاد، لنقضي «1» بالتملي بمحياكم غاية المراد، آمين.

وكتبت منها إلى الموصل، لسيدي الفقيه العالم الصالح الشيخ عبد العزيز كتابا صورته:

من العبد المفتقر إلى عفو مولاه الغني أبي البركات عبد الله بن الحسين المعروف بالسويدي «2» إلى العالم الذي عمل بما علم، وتجرد من علائق الدنيا، فسلم وسلم، الناسك الذي شد حبازيم الهمة لطاعة مولاه، وشمّر عن ساق الخدمة في عبادته ورضاه، ورأى حطام هذه الفانية عرضا غير دائم، فطوى دونه كشحا ولم يرعو لعذل عاذل ولوم لائم، اتخذ الليل جملا، وقطع عن هواه أملا، فأصلح لله عملا، ولم يبغ «3» عن امتثاله حولا، سيدي الشيخ عبد العزيز، طرز الله أحواله أنفس تطريز، ونفعنا بدعواته الصالحة، وجعل أحوالنا ببركة أنفاسه مستقيمة راجحة ناجحة. (أما)«4» بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو

ص: 194

وأصلي وأسلم على نبيه وحبيبه وصفيه سيدنا (104 ب) محمد المبعوث من أشرف جرثومة، وأكرم أرومة، فهدى الأمة، وكشف الغمة، فكان كما أخبر الله للعالمين رحمة «1» ، اللهم فصلّ عليه صلاة تحيط بجنابه الأعظم العالي صلاة دائمة ما دامت الأيام والليالي، وعلى آله وأصحابه نجوم الاقتداء، وشموس الاهتداء. السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وأني إلى ذلك المحيا «2» الزاهر لشائق، وإلى ذلك الجناب الرفيع لتائق، نرجو الإمداد بدعائكم وهو إن شاء الله لا يرد، ونأمل أن تدخلونا في حصن نظركم، وهو نعم المعقل والمستند «3» . ثم فصلت له أحوالي، وما وقع لي في حلب الشهباء، صانها الله عن كل (خطب)«4» وبلاء، آمين.

وممن خدمنا وأكرمنا الشاب الصالح طه ابن الحاج عبد الله الزنيني «5» ، فلقد حوى ذكاء ولطفا ورفة وظرفا وكرما وسخاء ومعرفة وحياء، وقد طلب دعاء يدعو به فأجزته بالدعاء المأثور عنه، صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر دعائه: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رضني بقضائك، وبارك فيما قدر لي حتى لا أحب تعجيل (105 أ) ما أخرت ولا تأخير ما عجلت، وأذنت له بأن يقرأه بعد كل فريضة ثلاث مرات.

واستجاز مني أيضا الشيخ الصالح المعمّر سيدي الشيخ بكري بن محرم الحلبي الأمشاطي دعاء يجعله وردا له، فأجزته بما هو مأثور عنه، صلى الله عليه وسلم، وهو: اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمرى، وتلم بها شعثي وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي

ص: 195

وتعصمني بها من كل سوء. فأجزته بقراءة ذلك بعد صلاة الصبح مرّة وبعد العصر مرة وبعد العشاء مرة.

وطلب مني الشيخ الصالح محمد أمين الخطيب ابن الشيخ خليل الإمام أن أجيزه بورد يتلوه، فأجزته بحزب سيدي السيد عبد الله بن علوي باحداد «1» ، بأن يتلوه خلف المكتوبات مرة وهو: يا الله، يا لطيف، يا رزاق يا قوي، يا عزيز! أسألك تألها إليك، واستغراقا فيك، وفناء عمن سواك، ولطفا شاملا جليا وخفيا، ورزقا طيبا هنيا ومريا، وقوة في الإيمان واليقين، وصلابة في الحق والدين، وعفوا بك (105 ب) يدوم ويخلد، وشرفا يبقى ويتأبد، لا يخالطه تكبر ولا عتو، ولا إرادة «2» فساد (ولا علو)«3» ، إنك سميع قريب، وسندي فيه عن شيخنا (السيد)«4» أبي الطيب المغربي، عن الشيخ أحمد النخلي، عن السيد عبد الرحمن باعلوي، تلميذ سيدنا السيد عبد الله الحداد، وزوج بنته عبد الله بن علوي الحداد باعلوي، مؤلف الحزب المذكور.

وطلب مني الشيخان الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الكريم الشراباتي والشيخ سليم مولى الحاج نعسان الحلبي أن أجيزهما بالدور الأعلى لسيدي شيخ المحققين وأستاذ العارفين الشيخ محيي الدين ابن العربي نفعنا الله تعالى به آمين، فأجزتها، وصورة ما كتبته في الإجازة:

الحمد لله الذي نصر حزبه الأنبياء في جميع أدوار القرون، وختمهم بسيدنا محمد المبعوث في الدور الأعلى من أشرف البطون، وعلى آله وأصحابه وجنده وأحزابه.

وبعد، فقد التمس مني الشيخان العالمان الفاضلان الصالحان الناسكان سيدي الشيخ أبو

ص: 196

الخير محمد ابن الشيخ عبد الكريم الشراباتي، وسيدي أبو الفضل الشيخ سليم مولى الحاج نعسان الحلبي، أن أجيزهما بالحزب المسمى بالدور (106 أ) الأعلى المنسوب إلى الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن العربي، فأجزتهما بذلك بشرط التأمل والفهم لكلام الشيخ- قدس سره- وبشرط الخشوع واستقبال القبلة، وأن يكونا على طهارة كاملة، وبشرط أن يدعوا لي ولمشايخي وأصولي وفروعي، وقد أجزتهما بقراءته أي وقت أرادا، لكن إذا اشتدت أزمة، أو قدحت نائبة، فليلازما قراءته ملازمة أكيدة، والله خليفتي عليهما، وفقني الله وإياهما لصالح الأعمال، وأحسن إلي وإليهما في جميع الأحوال آمين، وسندي فيه في عموم تآليف الشيخ محي الدين بن العربي عن الشيخين العالمين الشيخ محمد والشيخ حسين عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري ثم المكي، وعن الإمام زين العابدين الطبري «1» ، عن والده الإمام عبد القادر الطبري «2» ، عن جده يحيى بن مكرم الطبري، عن الحافظ عبد العزيز بن الحافظ عمر بن فهد المكي «3» ، عن والده النجم عمر بن فهد المكي «4» ، عن

ص: 197

الجمال محمد بن إبراهيم المرشدي المكي، عن الشيخ أبي محمد عبد الله بن محمد بن محمد بن (سليمان)«1» النشاوري المكي، عن الإمام أبي أحمد رضي الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي «2» عن الشيخ الإمام محي الدين محمد بن علي بن العربي الحاتمي (106 ب) الطائي الأندلسي ثم المكي ثم الدمشقي.

ص: 198