المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قبة كبيرة وبجنبها قبة أصغر منها فيها قبر المرحوم علي - النفحة المسكية فى الرحلة المكية

[السويدي]

فهرس الكتاب

- ‌المؤلف وكتابه

- ‌الفصل الأول سيرته

- ‌أسرته:

- ‌طفولته وصباه:

- ‌متاعب الدرس:

- ‌استقراره الاجتماعي:

- ‌دوره في الحياة العامة:

- ‌شهرته العلمية:

- ‌الفصل الثاني دوره في الحياة الفكرية

- ‌شيوخه وإجازاته العلمية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌أولا- في علوم القرآن:

- ‌ثانيا: في الحديث الشريف:

- ‌ثالثا: في علم الكلام (العقائد) :

- ‌رابعا: في الأذكار والأخلاق الدينية:

- ‌خامسا: في الردود:

- ‌سادسا: في اللغة:

- ‌سابعا- في النحو:

- ‌ثامنا- في الأدب:

- ‌مقامة أدبية

- ‌تاسعا- في البلاغة:

- ‌عاشرا- في التاريخ:

- ‌حادي عشر- في الرحلات:

- ‌ثاني عشر- في الشعر:

- ‌ثالث عشر- في موضوعات أخرى:

- ‌شخصيته العلمية:

- ‌شعره:

- ‌الفصل الثالث رحلته

- ‌زمن تأليف النفحة المسكية

- ‌منهجه:

- ‌1- ضبطه لأسماء الأعلام الجغرافية:

- ‌2- بحثه في أسباب تسمية الأعلام الجغرافية:

- ‌3- عنايته بالجغرافية الطبيعية:

- ‌أ- الجبال والتلال:

- ‌ب- السهول:

- ‌ج- الأنهار ومصادر المياه:

- ‌د- المناخ:

- ‌4- عنايته بالجغرافية الاقتصادية:

- ‌ا- وصفه للنبات:

- ‌ب- وصفه لطرق المواصلات:

- ‌5- عنايته بجغرافية المدن:

- ‌ا- معاييره في تصنيف المدن:

- ‌ب- وصفه للمدن القديمة:

- ‌ج- وصفه المدن القائمة:

- ‌6- عنايته بالجغرافية البشرية:

- ‌7- اهتمامه بالجوانب الثقافية:

- ‌وصف النسخ المعتمدة

- ‌منهجنا في التحقيق:

- ‌[المقدمه]

- ‌في الترجمة

- ‌[الرحلة]

- ‌[تل كوش]

- ‌[نهر الحسيني]

- ‌[حمارات]

- ‌[الفرحاتية]

- ‌[المحادر]

- ‌[مهيجير]

- ‌[العاشق]

- ‌[مدينة المنصور]

- ‌[تكريت]

- ‌[وادي الفرس]

- ‌[قزل خان]

- ‌[الغرابي]

- ‌[البلاليق]

- ‌[الخانوقة]

- ‌[القيّارة]

- ‌[المصايد]

- ‌[حمّام علي]

- ‌ الموصل

- ‌[بادوش]

- ‌[الموصل القديمة أو أسكي موصل]

- ‌[تل موس]

- ‌[عين زال]

- ‌[صفيّة]

- ‌[الرميلة]

- ‌[المتفلتة]

- ‌[أزناوور]

- ‌[نصيبين]

- ‌[قره دره]

- ‌[دنيسر]

- ‌[مشقوق]

- ‌[دده قرخين]

- ‌[العطشان الطويل]

- ‌[أصلان جايي]

- ‌[مرج ريحان]

- ‌[الرها]

- ‌[سروج]

- ‌[الجبجيلي]

- ‌[البيرة]

- ‌[الكرموش]

- ‌[ساجور]

- ‌[الباب]

- ‌[حلب]

- ‌[بستان حسين باشا القازوقجي]

- ‌[بستان آغا زاده]

- ‌فصل

- ‌[مسجد الخضر]

- ‌[جامع القلعة]

- ‌[مقام إبراهيم الأسفل]

- ‌[جبانة الصالحين]

- ‌[قرنبيا]

- ‌[باب الأربعين]

- ‌[خان تومان]

- ‌[سرمين]

- ‌[معرّة النعمان]

- ‌[كتف العاصي]

- ‌[خان شيخون]

- ‌[الرّستن]

- ‌الكنى 32

- ‌[حمص]

- ‌[حسية]

- ‌[شمسين]

- ‌[النبك]

- ‌[بريج]

- ‌[قارّة]

- ‌[القطيّفه]

- ‌[دمشق]

- ‌[زيارة المراقد]

- ‌[طبقات أهل دمشق]

- ‌[معالم دمشق]

- ‌[خان ذي النون]

- ‌[خان دله]

- ‌[المزيريب]

- ‌[المفرق]

- ‌[الزرقاء]

- ‌[البلقاء]

- ‌[خان الزبيب]

- ‌[زيزي]

- ‌[القطراني]

- ‌[الأحسا]

- ‌[معّان]

- ‌[عنزه]

- ‌[معّان أيضا]

- ‌[العقبة]

- ‌[جغيمان]

- ‌[المدورة]

- ‌[ذات حج]

- ‌[تبوك]

- ‌[المغر]

- ‌[الأخيضر]

- ‌[المعظم]

- ‌[الدار الحمرا]

- ‌[العلى]

- ‌[الحجر: ديار ثمود]

- ‌[آبار الغنم]

- ‌[البئر الجديد]

- ‌[هديّة]

- ‌[الفحلتين]

- ‌[العقبة السوداء، الشربة، العلم السعدي]

- ‌[وادي القرى]

- ‌[المدينة المنورة]

- ‌[ذو الحليفة]

- ‌[بين جبلين]

- ‌[الجديدة]

- ‌[بدر]

- ‌[الحمراء]

- ‌[الصفراء]

- ‌[القاع]

- ‌[رابغ]

- ‌[المستورة]

- ‌[خليص]

- ‌[الأميال السبعة]

- ‌[قديد]

- ‌[عسفان]

- ‌[مكة المكرمة]

- ‌[الفحلتين]

- ‌[العلى]

- ‌[دمشق]

- ‌[حلب]

- ‌[معان]

الفصل: قبة كبيرة وبجنبها قبة أصغر منها فيها قبر المرحوم علي

قبة كبيرة وبجنبها قبة أصغر منها فيها قبر المرحوم علي باشا ابن المقتول، كان أمير الحج في عصرنا، فمات هناك حين قفوله من مكة، ودفن وأخفي موته عن الأعراب الأشقياء.

[الأميال السبعة]

ومررنا في طريقنا على سبعة أميال مبنية بالحجر والجص، كل واحد (190 أ) قدر قامة ونصف [و] بين كل ميل مسافة ميل، بناها إسماعيل بك ابن عيواز أحد أمراء الحاج المصري، وذلك لأن تلك الأرض رملها كثير فيحصل من تراكمه تلال عظام فيتيه ركب الحاج فبناها لتكون علامة ونصبا على الطريق. ومررنا أيضا وقت السحر على عقبة على كل طرف منها علم، والعلمان متقابلان، تزعم الجمالة أن في أحدهما مكتوبا: خرا ابن خرا من يحج بمره وعلى الآخر: خرا ابن خرا من لم يحج بمره! والظاهر لا أصل لذلك.

[قديد]

ومررنا أيضا- وقد مضى نصف الليل- على قديد، وأنخنا بها نحو ساعة ونصف، والمسافة وأحد وعشرون فرسخا.

[عسفان]

وتليها مرحلة بين عسفان «1» ووادي فاطمة، نزلنا في بر أفيح لا ماء فيه. ومررنا على عسفان، وفيه ثغر وعرذ وجنادل كبار وشعوب من السيل ولذلك سمي الموضع بعسفان لعسف السيول، وفيه صلى النبي- صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، والمسافة خمسة عشر فرسخا.

[مكة المكرمة]

وتليها مرحلة مكة المكرمة، دخلناها ضحى يوم الاثنين السابع من ذي الحجة الحرام «2» ومنذ جاوزنا التنعيم وهو أدنى الحل، ومحل العمرة الآن، مشينا إليها حفاة من طريق كداء،

ص: 319

بفتح الكاف والمد، (190 ب) وبقيت بقية ذلك اليوم حافيا، وطفت طواف القدوم، ودخلت البيت من باب بني شيبة، فلما شاهدت البيت أخذتني دهشة وحيرة، حتى إني نسيت أن أرمل، وبعد الطواف أتيت الملتزم، وألصقت صدري به، وألححت بالدعاء لي ولأصولي وفروعي وحواشي ومحبي حتى إني دعوت لأناس كثيرة بخصوص أسمائهم، لكن خصصت من أحسن إلي بزيادة.

وأتيت المقام وصليت فيه ركعتي الطواف، ودعوت كالأول وتضلعت ماء زمزم، وسألت الله عدة أشياء، منها المغفرة ودفع عطش يوم القيامة، ومهما خطر ببالي من الناس أحد شربت من ماء زمزم لمغفرته وإصلاح حاله ولو كان عدوا، وكذا عند الملتزم ومقام سيدنا إبراهيم والحجر وعرفة والمشعر الحرام (والمدّعى، حتى)«1» أني أضع كوز ماء زمزم بين يدي وأتذكر الناس، وكل من خطر ببالي أخذت الكوز وشربت منه على نية مغفرة ولو كان عدوا أو حسودا سوى (رجلين فلم ادع لهما ولا عليهما، حتى ترجّاهما)«2» السيد يونس الأدهمي في طواف الوداع، فدعوت الله أن يصلحهما، أكثر دعائي لرجلين وامرأة لأنهم أحنوا (191 أ) بعدي على أهل بيتي، وأكثر الكل كان دعائي لتلك الامرأة فإني والله ما نسيتها من الدعاء كل وقت لأنها غمرتني بإحسانها، فإنها جهزتني من داري إلى مكة، فكلما كان عندي فهو من إحسانها، ودعوت لها، وكلما رأيت أثرا من إحسانها دعوت لها، حتى إني كلما صادفت صالحا أو عالما سألته الدعاء لها ولأولادها وزوجها وأقاربها، فو الله لكنت أدعو لأقاربها كرامة لها مع أنه لم يصلني من إحسانهم شيء ولا لي معرفة بهم، وأخذت لها من العلماء الأساطين، والصوفية السلاطين، دعائم الإسلام، ورحمة الأنام إجازات في جميع العلوم وطرق الصوفية، أحياها الله وولديها وزوجها ومن تحبه الحياة الطيبة الهنية، ورزقها وإياهم السعادة الأبدية السنية. ومما وقع لي في الحرم أن قلت: إلهي

ص: 320

وسيدي! قد قلت في كتابك- وأنت أصدق القائلين- إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً

«1» فقد وتيت «2» إلهي إلا من دخوله ولم تذكر متعلق الأمن، فدل ذلك بمقتضى بلاغة كلامك أنه (191 ب) عام فيشمل الأمن من كل شيء، ومن أفراد الشيء الذنوب، فها أنا عبدك الجاني الآبق دخلت بيتك خائفا من ذنوبي مستجيرا بك من النار وإنك لا تخلف الميعاد، إلهي! أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، مقيل العثرات، وكاشف البليات، سبقت رحمتك عذابك فحاشا لك أن تطرد من لازم بابك. إلهي حلمك جرّأني على معاصيك، وأوقعني في ذلك حسن الظن فيك، وقد بلغني عن رسولك المصطفى فيما يرويه عنك أنك قلت (أنا عند ظن عبدي بي) إلهي! هذا البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار، الهي لا تضرك معصيتي، ولا تنقصك إساءتي، فأسألك العفو عما لا يضرك ولا ينفعك، إلهي! أدنى عبد إذا استجير به أجار، فها أنا عبدك الآبق، أستجير بك من النار، وأنت الأكرم، وأنت الأرحم. إلهي! واسطتي إليك ووسيلتي حبيبك الأعظم، وخليلك المقرب المقدم الذي اصطفيته على جميع خلقك واخترته رحمة لعبادك، ورفعت ذكره، ونثرت فخره، وأقسمت بعمره عبدك ورسولك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (192 أ) فأتوسّل به إليك أن تجيرني من عذابك وغضبك وعقابك. وأردت أن أنظم استغاثة أول كل بيت [فيها] إلهي، فلم يتهيأ ذلك.

ويوم الثلاثاء، الثامن من الشهر المذكور، رحلنا من مخيمنا وكان في وادي المنحنى «3» ، بعيد الظهر، وسار الحجيج إلى عرفات، وبتنا فيها ليلة التاسع من الشهر، كما هو عادة الحجاج قديما وإن كان المشروع خلافه، ووقفنا بعيد ظهر عرفة على الصخرات التي وقف

ص: 321

عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وشرعت بالدعاء مستقبل القبلة، واجتمع خلفي خلق كثير وجمع غفير، يؤمنون ويبكون بشهيق وعويل، وأنا أدعو جهرا، فلما رأى السيد طالب الرفاعي كثرة الخلق وازدحامهم عليّ أشار إلى بأن أختم الدعاء، ولو بقيت على تلك الحالة لما بقي مع الخطيب أحد لأني رأيت الناس ينثالون من كل فج وواد نحوي، والحمد لله تعالى. ودخلنا من عرفة بعيد مغرب ذلك اليوم، وبتنا مزدلفة، ولم يدعني الناس تلك الليلة أن أستريح من كثرة ما يلتقطون حصى الجمار ويعرضونه علي، وذلك أنهم سمعوا مني أنه لا يجوز الرمي بالمدر، فكل من لقط حصى عرضه عليّ، فأنقي له منه ما يجوز فيه الرمى (192 ب) وما يسن، حتى إن السيد طالب قال: والله إني لأعجب من حلمك وصبرك على الناس!. ورحلنا من الفجر، وأصبحنا بمنى، وبقينا فيها إلى ثاني أيام التشريق، ونفر الحاج النفر الأول بعد ظهر ذلك اليوم والحمد لله على أن تم حجنا من وقوف وطواف وسعي ورمي وغير ذلك. واعتمرت من التنعيم يوم الاثنين الرابع عشر من الشهر المذكور «1» ، وصليت ركعتي الإحرام في مسجد عائشة رضي الله عنها واعتكفت مقدار ما صليت ودعوت لي ولأحبائي، واجتمعت بالحرم الشريف بسيدنا السيد الحسيب الشيخ عبد الله المزهر اليماني وسألته الدعاء، وهو رجل صالح معتقد أهل الحرمين. وزارنا مرارا صاحبنا العالم العامل المتفرد في الأقطار الحرمية السيد عمر ابن السيد السقاف باعلوي «2» حفيد شيخ مشايخنا عبد الله بن سالم البصري «3» .

وزارنا أيضا الشيخ سالم ابن الشيخ عبد الله المزبور، وهو رجل مقعد يحمل على أكتاف

ص: 322

الرجال. وكان منزلنا في الشبيكة «1» مع السيد يونس الأدهمي. وسمعت على السيد عمر المذكور أوائل الكتب الستة، وسألته الإجازة لي ولأولادي الصلبيين والقلبيين فأجازنا، وكتب لنا ما صورته: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول (193 أ) الله، وبعد، فقد سمع مني العالم العلامة، والفاضل الفهامة، ذو التحقيقات الدائمة والتدقيقات الفائقة، الأخ الأعز الأمجد، والأفضل الامثل الأوحد، الملا عبد الله السويدي- حفظه الله المعيد المبدي، سمع مني أوائل الكتب الستة التي هي دواوين الإسلام: صحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي المجتبى وابن ماجة، وقد أجزته بذلك وبجميع الكتب المذكورة وغيرها من كتب الحديث وغيره، كما هو مذكور في سند جدنا الآتي ذكره، وأن يجيز من شاء بذلك بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، سائلا منه أن لا ينساني من دعواته في خلواته. وقد رويت ذلك عن جملة من الشيوخ، من أجلّهم شيخنا وأستاذنا وجدنا من طرف الأم، المرحوم المبرور شيخ المحققين، ورئيس المحدثين ببلد الله الأمين، بل وسائر بلاد المسلمين، مولانا الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وهو يروي ذلك عن جملة من الشيوخ ذوي الأقدام الثابتة الرسوخ مذكورين في ثبته، وأجزته أيضا بالصلاة المشهورة التي هي مفتاح كل خير لمن واظب عليها، خصوصا بين المغرب والعشاء، (193 ب) الواصلة إلينا من طريق العلامة الشيخ عليّ الشبر املسي، وهي:

اللهم صلّ (على سيدنا محمد وآله كما لا نهاية لكمالك ويقرأ الأربعة السور)«2» المذكورة، وهي اقْرَأْ

«3» وإِنَّا أَنْزَلْناهُ

«4» وإِذا زُلْزِلَتِ

«5» ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ

«6»

ص: 323

بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الصبح، وقد أجزت «1» بجميع ذلك كلا من عبد الرحمن ومحمد وإبراهيم وأحمد ورقية وسارة وصفية أبناء الملا عبد الله السويدي جعل الله تعالى (الجميع)«2» قرة عين، ورزقه الله تعالى خيرهم وبرهم. وقد أجزت أيضا بجميع ذلك الشاب النجيب اللوذعي، الولد الأعز قرة العين، حسين الأكرم بن كتخدا محمد باشا «3» ، ووالدته الخيرة «4» الطاهرة والدرة الفاخرة، من لها في العلم أوفر نصيب، المصونة خديجة، بلغها الله تعالى وابنها حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الحبيب عليه الصلاة والسلام. قاله بفمه، فقير ربّه وأسير ذنبه، عمر بن أحمد بن عقيل السقاف باعلوي المدرس بالحرم الشريف، والمسجد المعظم المنيف، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وخرج الحاج الشامي ظهر يوم (194 أ) الأحد العشرين من ذي الحجة «5» ، وخيّم قرب الشيخ محمود ونيته [أن]«6» يرحل [في] نصف الليلة الآتية، فأرسل يطلبني الشريف مسعود ابن الشريف سعيد «7» والي مكة، فامتنعت من الذهاب إليه وقلت لرسوله: إن الحاج ذهب.

فقال: إن الشريف يريد الاجتماع بك هذه الليلة بعد العشاء وإلا فضحى ثاني يوم قلت: لا أستطيع ذلك والحاج يبعد عني، فقال: يرسلك الشريف مع ركب إلى عسفان فيما «8» بعد،

ص: 324

فامتنعت واعتذرت بأني لا أستطيع التخلف، وكان السيد يونس الأدهمي حاضرا فقال:

امتثل أمر الشريف وأنا أبقى معك ولو إلى عشرة أيام، فأجبت. ولم يتهيأ الاجتماع معه تلك الليلة فبتنا في مكة إلى ضحى يوم الاثنين، فأرسل خلفي واجتمعت به وأكرمني غاية الإكرام، فرأيته رجلا عاقلا صالحا لا دعوى ولا أنانية، وهو حنفي المذهب متعصب على الشيعة. ثم إنه أمر خدامه ومن كان حاضرا بالانصراف وإخلاء المكان، فبقيت أنا وهو لا غير، فقال: ألك علم بقضية الخبيث السيد نصر الله الكربلائي؟ «1» فقلت: لا. قال: جاءنا هذا الرجل ومعه كتب من نادر شاه، واحد لي، وواحد لقاضي مكة، وواحد لمفتيها، وواحد لعلماء مكة، وواحد لشيخ (194 ب) الحرم المدني، مضمونها [أن] السيد نصر الله يصلي بالشيعة إماما في مقام إبراهيم. (ومذ دخل هذا السيد [وهو] يرغب ويرهب، فناديته وقلت له: ما)«2» الذي جرأك على أن تأتي ديارنا وتدعو الناس إلى مبايعة شاه العجم؟

كأنك ظننت أن الشرفاء روافض وأنك إذا أرغبتهم مالوا إلى مقابلتك، والله الذي لا إله إلا هو لو جاء سلطان آل عثمان الذي أنا تحت طاعته وبيعته وقاتلني من الشبيكة فلا أطيعه في ذلك ولا أجيبه، وأقاتله إلى أن أقتل أو أفر إلى أحد أقطار ثلاثة [هي] قطر اليمن أو قطر

ص: 325

الهند أو قطر الحبشة، وما دمت هنا فلا أمكن أحدا من ذلك، كيف وهذا أمر من لدن سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما صدر ولا جرى، أيجري في زماني؟ كلا والله لا يكون ذلك أبدا، فأما أن أقاتل حتى أقتل، وان لم اجد لي ناصرا أهاجر إلى أحد «1» الأقطار المذكورة، وللبيت رب يحميه، أو ظننت أن الشرفاء ملقون يحبون الدنيا فأردت أن ترغبهم بالأموال؟

والله لو جرى من نحو العجم نهر من الذهب لأمرت العرب أن تسده بالأحجار وقتل «2» من يصل إلى الحجاز أيها (195 أ) الرجل، إنما كان طاعتنا لآل عثمان لكونهم غزاة مجاهدين، يمدون الحرمين ومذهبهم مذهبنا فلأجل هذه الأمور دخلنا تحت طاعتهم، فكيف أطيع العجم ولا سبق لأحد من أسلافي الإطاعة والانقياد لهم، فقل لي ما الذي جرأك وحملك على هذا وبأي وسيلة توسلت بها وأي مستند استندت إليه حتى تجرأت على ما ذكرت؟ فذكر لي أعذارا باردة واهية مفتراة محض كذب، فكذبته وأقمت الدليل على كذبه، ثم إني عرضت جميع أحواله على الدولة العثمانية، فجاء المرسوم الشريف بالقبض عليه وعلى المنلا حمزة الأفغاني وعلى ميرزا «3» أبي الفضل، أما الملا حمزة فقد حج العام الأول وذهب ولم ينطق بشيء، وأما ميرزا أبو الفضل فقد تمرض في بعض قرى نجد وهو في هذه المدة محبوس عندي وحملته لأمير الحاج أسعد باشا، لأن في المرسوم أنه يحبس في قلعة دمشق.

ثم إن الشريف خلع علي خلعة فاخرة من الأصواف الأنقروية، وأنا أيضا كذبت نصر الله فيما اعتذر به، وقلت: يا ابن رسول الله! ورب هذا البيت إن هذا لكاذب فيما قال «4»

وإنما مراده ذلك ليخلص نفسه. ثم إن الشريف اثنى على الوزير (195 ب) أحمد باشا ودعا له كثيرا، وكتب له كتابا أثنى به عليه، وقال: والله إني أحبه لما أسمع من مكارم أخلاقه

ص: 326

وجعله الله منصورا على أعدائه، ثم إنا وادعنا الشريف وطفنا طواف الوداع ولحقنا بالحاج في وادي فاطمة. وهذا السيد نصر الله أتى به إلى دمشق وحبس بالقلعة، ثم طلب من الدولة، فأرسله أسعد باشا ولم أدر ما يفعل به، عامله الله بما يليق به.

وقد طلب مني الشيخ سليمان ابن أخي الشيخ إسماعيل العجلوني كتابة صورة الإجازة له ولعمه، فكتبت لهما ذلك الليلة الثامنة عشرة من ذي الحجة في مكة المكرمة، وتكاسلت عن نقلها هنا لأني مللت من طول الأسفار وبعد الشقة.

وقد جاءني يوم عرفة بعرفة كتاب من الأكرم والأمجد كتخدا باشا محمد أرسله من مدينة السلام بغداد، وصورته: سلام لا تحصيه الأرقام، ولا تحويه ألسنة الأنام، سلام لا تضاهيه الحميا إذا أدار أكوابها جميل المحيا، سلام محفوف الأشواق الباهرة مزفوف بالوجوه المتكاثرة، وتحيات صافيات وتسليمات ضافيات تبلغ بلوغ الهدي الواجب (196 أ) إلى أهله، وترد ورود المفارق إلى أهله، إلى العالم الفاضل، والجهبذ الفاصل بين الحق والباطل، أحد العلماء الأعلام، وسند النحارير العظام

علامة العلماء، واللج الذي لا ينتهي، ولكل لج ساحل

وبعد، فلك السؤدد والافتخار بوفودك على هاتيك الديار، فتهنّ بزيارة قبر «1» ، ومجاورة سيد ساد الأنبياء بالتشريف القدسي:

فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم «2»

ولك البشارة أيضا بزيارتك بيتا عتقت عنده الرقاب من النار، ورؤيتك مقاما غلقت لدى بابه أموال الأخيار، والحمد لله على وصولكم بالسلامة بلا نصب ولا سآمة، وقد أتتنا منكم كتب عديدة وأسانيد مفيدة، فاسترينا غاية السرور، وحصل عندنا جملة الحبور، كيف وقد تضمنت من سلامتك ما يدهش الخاطر، ويؤنس الحاضر، والحمد لله نحن في

ص: 327

عافية غير عافية «1» ونعمة من الله صافية، نسألك الدعاء في تلك الأماكن، وتبليغ السلام إلى سيد القاطن، وأشرف الظاعن، مولانا الشفيع، (196 ب) ومحرزنا المنيع- عليه الصلاة والسلام، وعلى آله وصبحه الأعلام- إلى آخر كتابه.

وجاءني من بغداد، من ولدي القلبي حسين بك ابن كتخدا محمد باشا، وصورته:

والشوق أعظم أن يحيط بوصفه

قلم وأن يطوى عليه كتاب

والله ما أنا منصف إن كان لي

عيش يطيب وجيرتي غياب

كتابي هذا أطال الله بقاء سيدي الكبير، والفاضل النحرير، محرر أصول الدين، ومبين الفروع للمسلمين، الجامع بين المعقول والمنقول، والمؤلف بين الفروع والأصول، من اكتسب منه ابن مالك تلك الملكة العربية، وأقر له ابن عصفور على أن ليست له حوصلة على جمع أبرز الفنون الأدبية، الداعي ابن الأثير دونه في الأثر، والممارس الخبير فمسلم مسلّم له صحة الخبر، المعترف له ابن كثير «2» بقلة الجمع، والفخر حينئذ قال لمعقوله:

ما أنت وأدلة الجمع؟ فصح لو رآه المتنبي لترك سفاسف قرآنه، وعدل عن مدعاه واعتد بشأنه، ولو رآه سحبان «3» لسحب أذيال الخجل ومال عن دعواه الفصاحة وعدل. (197 أ) أما بعد، فالأشواق إليكم تتزايد، والزفرات مد الأوقات تتصاعد، على أن الشيء يذكر بمثله، والفضل لا يخشى عند ذكر فضله، وكلما رأيت المتسمين بالعلم وإن لم يكونوا قطرة في بحرك، ولو يأتوا بسبجة «4» فضلا عن درة من درك هاجت أشجاني، وزادت أحزاني، نسأل الله أن يطوي شقة البين، ويكحل بأثمد الاجتماع منا العين، إنه بذلك قمين، وعليه

ص: 328

معين. وقد وردت علينا مكاتيبكم السديدة ورقاعكم المفيدة، فحصل لنا السرور، وزال عنا ما نلقاه إذ في المثل المشهور: الكتب ثلثا الملاقاة، فضممتها إلى صدري، وجعلتها أمانا من خطوب دهري، فكلما تشوقت نظرت منظومها ومنثورها، وإذا زاد بي الوجد تصفحت سطورها «1» إلى آخر كتابه، حفظه الله تعالى.

وجاءني من ولدي الصّلبي أبو الخير الشيخ عبد الرحمن كتاب صورته: أطال الله بقاء والدي الذي سطعت به أماكن الشام، وأمدنا بحياة سيدي الذي به عرف الحلال والحرام، ركن الأعلام، بل علم الأعلام، كل مجيد إليه استناده، (197 ب) ذي الذهن الوقاد، والفكر النقاد، صاحب الرأي الصائب، النجم الثاقب قطب تدور عليه رحى العلم، وقمر يستضيء به أولو الفهم، صاحب الفصاحة العربية وشمس الشريعة المضيئة، زين الدين، صاحب الخيرات، إمام المسلمين، سيدي أبي البركات، لا زال في نعمة تغبطه عليها الأقارب، رفعة يدرك بها الشهب الثواقب، أدامه الله لنا ظلا مد الزمان، وحفظه من بوائق الحدثان آمين. وبعد، فالمملوك يقبل أرضا ترافعت على السماك، وتقاعست دونها الأفلاك، أرضا تؤمها الأفاضل، ويحل بسوحها كل ماجد وفاضل، أرضا تساق إليها يعملات الرجاء، وتناخ بها مطي من قصد وجاء، نسأل الله بحرمة مولانا أن يرزقنا رؤيتها عيانا آمين. ثم المملوك يبث شوقا شق الأحشاء، وتمزقت لبرحائه الأمعاء شوقا أنشدنا: قفا نبك من ذكرى حبيب. وبه جرى دمعنا الغزير الصبيب شوقا لم نزل نتلظى بنيرانه، حيث لم نعدم تراكم أشجانه شوقا عم الأهل والولد، فأعدم من الكل القوى والجلد، وأضنى من الجميع الجسد، ولا سيما الفقير العاني، (198 أ) الذي أضحى لهذه الخطوب يعاني، والله شاهد على ما في القلوب وما هو مسطور مكتوب.. إلى آخر كتابه فإنه طويل اختصرته لما فيه من الملل.

وكتبت من مكة كتابا للأكرام الأمجد كتخدا باشا محمد، وكتابا لأهلي، تركت كتابتهما هنا من الملل الذي اعتراني من الغربة والكربة.

ص: 329