الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[العلى]
وسار أمير الجردة إلى أن وافانا في العلي، وعادة أهل الشام يرسلون مع الجردة هدايا لأصدقائهم وأهاليهم، فأهدى لنا- ممن جاءت له هدية- الشيخ إسماعيل العجلوني علبتي حلوى سكرية، وأهدى لنا (199 أ) الشيخ سليمان شيخ المحيا ثلاث علب من الحلوى السكرية، وأهدى السيد إبراهيم علبتي حلوى، وأهدى لنا السيد علي مراد زاده علبتين، وأهدى لنا الشاب الجميل السيد عيسى علبة، وكلها في مرحلة تبوك إلا علبتي السيد إبراهيم فإنها كانت بعنزه.
[دمشق]
ودخلنا دمشق الشام ضحى يوم الثلاثاء الخامس من صفر الخير «1» ، واستأجرنا دارا في آخر سوق العطارين، ومعي في البيت عديلي في المحمل الحاج يوسف مولى نعسان الحلبي. وكان صاحبنا السيد يونس ذكر، من غير علمي، لحضرة الباشا أمير الحاج أن الشيخ عبد الله كثيرا ما يثني عليكم ولا سيما من جهة محافظتكم لركب الحج، وأنه نوى أن ينظم قصيدة يثني عليكم بها. فجاءني السيد يونس وقال: جرت بيني وبين الباشا مذاكرتكم، وذكرت عنك كيت وكيت، فينبغي أن تنظم قصيدة وتمدح بها الباشا لئلا أكون كاذبا عنده، فقلت: وما الذي حملك على ذلك ونحن على إثر طاعة الله تعالى ولا يحسن منا مدح الولاة لأن غالبه كذب أو مبالغة، فقال: هكذا الأمر! وقع. ولي في ذلك غرض فالتزمت بذلك، وذكرت ما وقع في طريق الحج. والقصيدة هذه وفيها تاريخ، وقد حذفت بعضا منها لأمر ما «2» .
تسامت بنو العظم العظام إلى العلى «3»
…
فأحكمت ما شادوا وما كان شيدوا
وقد ظن قوم أن عسر مسيرهم «4»
…
إلى الحج بعد الماجدين مؤبد
فذلك إسماعيل والدك الذي
…
بأعلي فراديس الجنان مخلد
وعمك ذو الحسنى سليمان عصره
…
نما فيه تدبير ورأي مسدد
وما علم الأقوام أنك فذهم
…
رفيع المعالي بالسعود مؤيد
فسيرت ركب الحج غير مروع
…
وأنت له الحصن الحصين المشيد
سلكت بنا أصل الطريقين جانحا
…
عن الفرع يحمينا الحسام المهند
وكنا كأنا والمشبه صادق
…
على فرش الأوطان في الأمن نرقد
«199 ب»
وأرغمت أنف البدو والكل صاغر «1»
…
إذا سمعوا ذكراك بالذعر ترعد
وقد جنحت للسلم حرب وأذعنت
…
ولانت بنو صخر وبان التجلد
وأرهبهم منك الوعيد وعيدهم
…
وبال عليهم وهو ذو النحس أنكد
وما كان منصورا على فرط ضعفه
…
بغيرك منصورا يرجى ويقصد
وقيدت بالأغلال منهم رهائنا
…
وما علمت حرب بقيد تقيد
وألبست جلباب الصغار عنيزة
…
فصارت كعنز وهي جرباء تبرد
وجردت سيف العزم تنصر جردة
…
على أجرد كالبرق لا يتبلد
وواصلت ما بين النهار وليله
…
وخالفت ما قال الجبان المفنّد
وسرت بنا حتى بلغت إلى العلى
…
أتاك بشير بالسلامة يشهد
«200 أ»
(وأطفأت في عام مضى نار فتية
…
بطيبة قد شبّت وزاد التوقد
فجئت «2» إليها وهي محصورة وقد
…
عتا في نواحيها البغاة وأفسدوا) «3»
بلاد رسول الله صنت حريمها
…
فطاب لها بعد المرارة مورد
وقامت بها الأفراح من كل جانب
…
ومن لذة الفتح اعتراها تأود
لك المفخر الأعلى على كل فاخر
…
وعند رسول الله صارت لكم يد
يباهى «1» بك القطر الحجازي إيليا «2»
…
فأين إذا شام ومصر وثهمد
فذي طاعة ترضي الإله لأجلها
…
ملائكة الرحمن للشكر تسجد
وترتاح في كل التواريخ مكّة
…
وحجك مبرور وإنك أسعد
سنة 1157 «3»
(201 أ) وبقي بعض الأبيات تركتها لأمر ما. وحرب وبنو صخر وعنزة أعراب في طريق الحاج، وعيد شيخ حرب السابق ومنصور شيخها الآن، وقد كان منذ سنين يذهب ركب الحج من طريق الفرع، وهو طريق وعر صعب، ماؤه قليل ومسافته بعيدة، ويحصل في سلوكه للحجاج مشقة عظيمة، وذلك لأن الأعراب الأشقياء قطعوا الطريق الأصلي المسمى بالطريق السلطاني، فيخشى أمير الحج إن ذهب منه ينتهب الحجاج لكثرة ما فيه من الأشقياء، فبالضرورة يذهب من طريق الفرع.
وأما الركب في هذا العام قد ذهب من الطريق السلطاني وهو طريق سهل فيه قرى كثيرة كبدر والصفراء والحمراء وغيرها، وماؤه كثير، وفيه القلاع المهيأة لذخيرة الحاج وحراسة الماء.
وكان مراد الأمير أن يذهب من طريق الفرع فأشار إليه شيوخ حرب بالسلوك من
[الطريق]«1» السلطاني، فقال: لا آمنكم على الركب، فاتفقوا أن تجعلوا منه أناسا رهائن في المدينة المنصورة، فإن ذهب الحاج سالما أطلقهم، وإلا قتلهم، فذهب (201 ب) الركب آمنا سالما والحمد لله على ذلك.
ولما دخلنا الشام أحب أسعد باشا أن يسمع القصيدة من لفظي، فقرأتها عليه، وألبسني خلعة وأمدني بدراهم هي بالنسبة إليه قليلة، وكتب القصيدة أهل دمشق وغيرهم. ودعانا ليلة دخولنا «2» صاحبنا الحاج مصطفى بكداش، ودعانا صاحبنا الحاج أفندي اليوسفي، ودعانا الشيخ المحقق عبد الرحمن الصناديقي، ودعانا صاحبنا عالم الأقطار الشامية الشيخ الكبير إسماعيل «3» شارح البخاري، وأمر ولدي أخويه الشيخ موسى بن عبد الهادي والشيخ أحمد بن يحيى أن يستجيزا مني فأجزتهما. وأضافنا العالم الفاضل السيد سعيد بن السيد محمد في المدرسة الأشرفية المسماة بدار الحديث «4» التي كان النووي يدرس بها ثم درس ابن السبكي، وأول ما جلس أنشد:
لمدرسة الحديث لطيف معنى
…
أطوف في جوانبها وآوي
لعلّي إن أنال بحر وجهي
…
مكانا مسّه قدم النواوي
وبعضهم نقله إلى غار حراء فقال:
لغار حراء لطف ومعنى
…
تحنّ إلى هوائه عظامي
(202 أ)
لعلّي أن أنال بحر وجهي
…
مكانا مسّه قدم التهامي
والآن هذه المدرسة مسكن يسكنها الناس، لا علم فيها ولا قراءة، وكم مثلها مدارس صارت مساكن، واللواتي بقيت على حالها لا تدريس ولا قراءة ولا مذاكرة بل مجرّد الاسم.
وقد أضافنا السيدان الجليلان الشيخ سليمان وأخوه الشيخ عبد الوهاب ولدا السيد شيخ الأحياء في المحيّا، وبتنا تلك الليلة عندهما- جزاهما الله عني خيرا- واستجازا مني الحديث وغيره فأجزتهما، وطلب كتابة الإجازة في ورقات فلم يتهيأ لما بي من الملل، وعسى أن يكون خيرا، وطلب مني الإجازة السيد أحمد بن نقطة فأجزته، وكتبت له صورة الإجازة في ورقات، وتركت كتابتها هنا للملل. واستجاز مني الشاب الصالح، والزند القادح، ذو الحسن الباهر والمحيا الزاهر، المنلا علي كرجي الأصل، فكتبت له ما صورته:
الحمد لله الذي خص أهل الحديث بنضارة الوجوه وطول الأعمار، وجعل السند من خصائص هذه الأمة فزادت فضلا على المقدار، والصلاة والسلام على المشهور فضله، المتواتر المرفوع قدره، المسند فخره سيدنا محمد المرسل من أشرف الجراثيم، وعلى آله وصحبه ومحدثي سائر الإقليم، طلب الشاب الصالح الناسك الناجح المجد في طلب العلوم، من منثور ومظلوم، المنلا علي أن أجيزه بما لي من الرواية، وما عندي من الدراية، علما منه انه لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وأن السند، كما اشتهر عند الأفاضل، كالسيف القاتل، وأن شيوخ الإنسان آباؤه في الدين، وأن السند وصلة بينه وبين سيد المرسلين، فأجزت المنوه بذكره بما يجوز لي وعني روايته مما سمعته أو قرأته. واستجزته عن مشايخي العظام، وأساتذتي الفخام، وكتبت له البخاري ومسلم والفقه الحنفي، وللمثال مثال نعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكني تركت كتابة ذلك لما تقدم. وأجزت الشيخ عبد القادر الدمشقي دلائل الخيرات.
وممن دعانا إلى بيته الشيخ الصالح الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم ابن شيخ شيخنا عبد الله العمري العجلوني. وممن دعانا إلى بيته السيد الحسيب النسيب السيد إبراهيم، دعانا مرتين وأهدى لنا بطريق الحج علبتين (203 أ) هذا والمنلا علي المذكور آنفا صارت له
معي علاقة تامة وخدمني كثيرا، وبت عنده ليالي، ولما أحس بسفري أخذته الدهشة والحيرة والبكاء، جعله الله سعيدا ووفقه لما يحبه ويرضاه آمين، فهو أوفى من الشيخ أبي الحسن العجلوني المذكور سابقا.
وأضافنا في بيته الشيخ العالم النحرير الحبر البحر الغزير، الشيخ الجنيني، وهو أفقه الحنفية في دمشق، وبتنا في بيته، وأعزنا كثيرا، وانبسطنا وانشرحنا- جزاه الله خيرا- وأجزت ولديه النجيبين الشيخ عبد العزيز والشيخ سليمان ووعدتهما بكتابة صورة لإجازة، هذا وقد حصل لي إكرام كثير وتوقير عظيم في دمشق حتى ليشار إليّ بالبنان، وأسمع بعضهم يحدث الآخر، يقول: هذا أعلم علماء الدنيا! فتأنست بهم وطاب لي المقام، ومن عادتهم حسن الظن، ومهما تكلم الإنسان أو أدعى «1» فضلا أو كرامة صدقوه ولا يعرفون الإنكار ولا يخطر في بالهم، فغالب من يؤلمه رأسه أو عضو من أعضائه يقول: يا شيخ كبسني، أي ضع يدك على المحل المؤلم.
وقد انفردت دمشق الشام بأشياء، منها الجامع الأموي، ومنه (203 ب) كثرة المياه، ومنها كثرة البساتين، ومنها كثرة الملاح [ف] ألوانهم صافية، ووجوههم حسنة، وطباعهم لينة، وقلوبهم صافية، يمدحون علماءهم ويوقرونهم، وقد تمنى كثير من طلبة العلم بقائي، وأكثروا التأسف علي لما رأوا من تقريري وحلي لما أشكل عليهم، يقولون: يا ليت تبقى هنا ولو شهرا حتى نستفيد. وهذه هي الطبقة الوسطى التي ذكرتها أولا، كثر الله في المسلمين أمثالهم.
وقد صار لهذا الفقير شهرة في دمشق الشام عند الصغير والكبير، والعالم والجاهل، أكثر من شهرتي في بلادي، يعتقدون أني أعلم علمائهم وأصلح صلحائهم، وهذا من حسن ظنهم، وإلا فلست بذاك «2» .
ولما خرجت من دمشق صعب علي مفارقتها، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لاتخذتها دار سكناي:
ولست براجع ما فات مني
…
بليت ولا لعلّ ولا لو انّي
حسبي الله ونعم الوكيل، كان ذلك في الكتاب مسطورا، وغالب ما يقع عندهم من المسائل من علم النحو، فممّا وقع السؤال عنه قول الشاعر:
(204 أ)
قد سالم الحيّات منه القدما
…
(فالأفعوان والشجاع)«1» الشجعا انسجما
وصورة السؤال: أنه روي بنصب
الحيات فأين فاعل سالم، وروي برفعها، فأفعوان كيف يصح أن يبدل من الحيات المرفوع المنصوب، وجوابه: أما على رواية النصب فالفاعل القدما إذ أصله القدمان حذفت نونه للضرورة، وأما على لغة من ينصب الفاعل المفعول، ذكر ذلك ابن هشام في مغنيه وغيره، وأما على رواية الرفع فالأفعوان يدل على الحيات باعتبار أنه مفعول لأنه «2» فاعل يقتضي اسمين، أحدهما فاعل صريح معقول ضمنا، وثانيهما مفعول صريح فاعل ضمنا، فالحيات وإن كان فاعلا صريحا فهو مفعول ضمنا، فالأفعوان بدل منه على هذا الاعتبار الضمني.
ومما وقع منه قول الشاعر:
أكلت ديكا وديكا
…
وليس لي غير ديك
والجواب: إن وديكا الثاني صفة ديكا «3» الأول، بمعنى سمينا. قالوا: أصلية من الكلمة لا عاطفة.
ومما وقع السؤال عنه قولهم: أكل زيد ضرب عمرو، والضرب هو (204 ب) العسل
الأبيض الغليظ، والمعنى أكل زيد عسل عمرو.
ومما وقع السؤال عنه: زيد كريم بالجر، وجوابه: إن الكاف للتشبيه [وهي] ليست من أصل الكلمة، والريم هو الغزال الذي فيه بياض.
ومما وقع السؤال عنه: إن ابن مالك قال: واسم وفعل ثم حرف الكلم فيقتضي أن الكلم عبارة عن هذه الثلاثة، وهو مناف لقول شراح الألفية: عبارة عن تركب من ثلاث كلمات سواء كان من نوع واحد أو نوعين أو ثلاثة، فكيف التوفيق؟
وجوابه: إن الكلم له إطلاقان «1» أحدهما بمعنى الكلمات التي يتركب منها الكلام، وهو مراد ابن مالك، وثانيهما ما ذكره الشراح فلا ينافي.
ومما وقع السؤال عنه غلام زيد، فليس بكلمة لكونه كلمتين، ولا كلام لعدم الفائدة، ولا كلم لعدم الثلاث، فيقتضي أن يكون واسطة، وابن مالك لا يقول بها فما الجواب على مذهبه؟ الجواب: أنه كلم لأن المضاف إليه عنده مجرور بالحرف المقدر، فأصله غلام لزيد.
ومما وقع السؤال عنه أن ابن هشام حد الكلمة بالقول المفرد، فالكلمة لغة ما هي؟
والجواب: هي اللفظ المفرد، واللفظ يشمل المهمل والمستعمل بخلاف القول (205 أ) فانه مختص بالثاني، فالمعنى اللغوي أعم مطلقا من الاصطلاحي.
(ومما وقع السؤال عنه عباره ابن هشام في متن القطر، عند كلامه على علامات الاسم، حيث قال: ويعرف بالحديث عنه، وصورة السؤال أن الضمير منه راجع إلى الاسم)«2» ، فيؤول الكلام إلى أن الاسم يعرف بالحديث عن الاسم، وفيه دور ظاهر، وجوابه: أن الضمير المجرور عائد على الاسم بمعنى الكلمة أو اللفظ فلا إشكال.
ومما وقع السؤال عنه قول الشاعر
إن عليّ والله أن نبايعا
…
(تؤخذ كرها أو تجيىء طائعا)«1»
وصورة السؤال: أن نصب الاسم الكريم على ماذا، وما محل أن تبايعا، والجواب: نصب الاسم الكريم بنزع الخافض وهو حرف القسم وإن تبايعا في مصدر منصوب على أنه اسم أنّ وخبرها الجار والمجرور المتقدم، والتقدير إن علي والله مبايعتك.
ومما وقع السؤال عنه ما تشابه من بعض الحكايات، وهي أن بعض العلماء وكان من عادته أن أحدا إذا طلب منه الإجازة يقول: إن عرفت ما وزن الإجازة وما إعلالها أجزتك والا فلا، والسؤال: فما وزن إجازة؟ والجواب إنما له «2» إذا أصل إجازة (205 ب) إجوازا من باب الأفعال، نقلت حركة الواو إلى جيم قبلها قلبت ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها فالتقى ساكنان، فحذفت عين الفعل لأنها بعض كلمة ولا تدل على معنى بخلاف ألف الأفعال فإنها كلمة تدل معنى، وحذف البعض غير الدال أولى من حذف الكل الدال، ثم أتى بالتاء عوضا عن العين، وقد تقرر في كتب الصرف أنه إذا حذف في الموزون شيىء حذف من الميزان ما يقابله في الميزان.
ومما وقع السؤال عنه إنهم قالوا: إذا كانت التاء والفاء في جمع المؤنث السالم زائدتين جر بالكسرة نيابة عن الفتحة، وإذا كانت التاء أصلية جر بالفتحة على الأصل، ومثلوا ذلك بأبيات، ولما ورد عليهم بنات، إذ هو جمع بنت، فالتاء موجودة في المفرد مع أنهم نصبوا جمعه بالكسرة، أجابوا بأن التاء التي في المفرد حذفت وهذه التي في الجمع الذي هو بنات أتي بها للدلالة على الجمعية، فلم لم يقولوا في بيت وأبيات مثل ما قالوه في بنت وبنات، والجواب أن تاء بيت أصلية من نفس الكلام فلا يحسن (206 أ) حذفها بخلاف تاء بنت زائدة للتأنيث، وللعوض عن فاء الكلمة.