الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيد عيسى.
وكان أمير الحاج الوزير أسعد باشا «1» ابن إسماعيل باشا «2» عظم زاده وهذا الوزير شافعي المذهب كأبيه وعمه سليمان باشا «3» لين العريكة، مبارك، لانفس ولا أنانية، ولا يثبت لنفسه شيئا وإنما يفوض الأمور إلى الله تعالى، إلا أن بطانته وأرباب دولته بطانة سوء وأرباب ظلم وغشم.
ولله الحمد، ذهب الحاج ورجع سالما آمنا، لا تعب ولا نصب ولا عطش ولا سغب «4» ، كأن ركب الحج في أيام أعراس وليالي أعياد، حتى إني سمعت من غير واحد ممن سافر في طريق الحج نحو خمسين عاما يقول ما اتفق لركب الحج رفاهية وراحة مثل هذه السنة، والحمد لله على ذلك.
[خان دله]
وتليها مرحلة دله بكسر الدال والإمالة، وحولها خان والمسافة اثنا عشر فرسخا.
[المزيريب]
وتليها مرحلة المزيريب «1» ، بفتح الميم، جمع مزراب، اسم مكان للزرب، وهو في لغة الشام السّيل يقولون: زرب الماء إذا سال، وفي القاموس زرب كسمع سال «2» سميت بذلك لأن قلعتها حول عين منخفض واديها تجري فيه السيول، وتلك العين اسمها بجّة، بفتح الباء وتشديد الجيم وبعضهم يميل الجيم. وماؤها عذب إلا أن فيه نوع ثخانة، (166 أ) وبعض الناس يقول مزيريب تصغير مزراب، ولعل جميع ذلك محرف ميزاب أو ميازيب.
وأقمنا فيها ستة أيام غير يومي الدخول والخروج، لأن عادة أمير الحاج [أن] يعطي الموظف لعنزة «3» في هذه المرحلة، ويسمونه بالصر «4» لما أنه يأتي مصرورا بصرة في الأصل، ولأن عادة الجمالة يباشرون أكثر حوائجهم منها من شراء جمال وعلف وغير ذلك. وفي هذه المرحلة أخذ السارق من على ظهري اللحاف وأنا نائم، فأحسست به فانهزم، وفيها ضاع مشطي، وفي هذه المرحلة تكثر السراق بزيادة على غيرها، إذ لا تخلو مرحلة منهم، قاتلهم الله تعالى.
ومن هذه المرحلة أخذت ترابا وضعته في خرقة لأجل التيمم في المواضع التي لا تراب فيها وإن كان معنا ماء، لأن الوضوء حرام إذا كان في القافلة من يظن، أو يتوهم، أنه محتاج إلى شرب الماء لعطش، ولو كان دابة أو كلبا محرما «1» حالا أو مالا إلى الوصول إلى عين أو غيرها، ومما من الله به عليّ أني كنت أتيمم مع وجود الماء عندي، لأن القافلة لا تخلو عن عطشان مع كثرة المشاة الذين لا زاد لهم ولا ماء. وممن تابعني على ذلك سيدي (166 ب) السيد طالب البصري فكان- حفظه الله- يتيمم ويأمر به، وأكثر الفقهاء الجهلة يتوضؤون بالماء مع الإسباغ، والتثليث مراعاة السنن ظنا منهم أن ذلك عبادة مع كثرة العطشى، وقد قال الإمام النووي في (الإيضاح) «2» : إن هذا الوضوء حرام، ثم قال: وينبغي إشاعة ذلك في ركب الحاج، وتبعه على ذلك الشيخ ابن حجر في مختصر الإيضاح، وشنع «3» أيضا الإمام النووي على من يفعل ذلك، ونسبه إلى الجهل، أعاذنا الله من ذلك. فلم أزل على هذه الحالة وآمر بها الشافعية فأنكر عليّ مفتي الموصل، وقال: كيف تتيمم ومعك ماء؟ فأجبته بأن الإمام النووي حرّم الوضوء في مثل هذه الحالة وأخرجت له الإيضاح، وهو مصر على إنكاره، فقلت له: يا شيخ أنت حنفي إنما تعرف مذهبك ونحن أعرف منك بمذهبنا، وهذا مجدد مذهب الشافعي الإمام النووي صرح بذلك وتبعه العلامة المحقق الشهاب ابن حجر، فلم يلتفت إلى ما قلت، فأغضبني، فقلت: يا شيخ! في ذكري أن الحصكفي «4» شارح (التنوير)«5» في فقه الحنفية [فإنه] صرح بعين ما ذكره النووي فالمسألة وفاقية، فأصرّ على
عناده لجهله، فالتمست في ركب الحج (167 أ) شرح التنوير وأخرجت المحل وأرسلته إليه.
والذي ذكره أنه يجوز التيمم لعطش ولو من كلبة، إلى أن قال: أو رفيق القافلة، وذكر أيضا أنه يجوز للعطشان مقاتلة صاحب الماء إذا امتنع، فإن قتل ربّ الماء فدمه هدر، أو العطشان فيقتص من رب الماء. ولم يزل هذا الرجل يغتابني إلى أن دخلنا حلب فذكر لي بعض الناس أنه ينقم عليّ من خصوص التيمم، وكنا في مجلس عقد نكاح، وفيه غالب أجلة علماء حلب حنفية وشافعية، فناديت بأعلى صوتي: أنشدكم معاشر الفقهاء كيف حكم التيمم مع وجود عطش رفيق القافلة؟ فقال الحنفيون: يجوز، وقال الشافعيون: يجب.
ومما وقع السؤال عنه في الطريق حكم المنطقة من فضة، فأجبت بالجواز والحل، وخالفني بعض الفقهاء، واحتجنا إلى مراجعة كتب الفقه فظهر الحكم كما ذكرت، فسلموا إلا الشيخ الجبريني بقي على إصراره كما هو عادته.
ومما وقع السؤال عنه قوله- صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: اللهم إن كنت تعلم. وصورة السؤال أن إن للشك، والله تعالى عالم جزما، فكيف صح التعبير بإن؟
وجوابه (167 ب)[إن الشك]«1» راجع إلى المستخير لأنه لا يقين عنده في أن علمه تعالى هل تعلق بكذا أو كذا، والمشكوك فيه إنما هو تعلق علم الله لا علمه، فالله تعالى عالم بلا ريب ولا شك، وإنما الشك في التعلق وهو مغيب عنا، والله اعلم.
ومما وقع السؤال عنه في الطريق أيضا قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
«2» الآية.
وصورة السؤال كيف يعقل اشتراء الله الأنفس وهو مالكها؟ وجوابه: إن ذلك من باب المجاز المرسل من أطلاق المقيد على المطلق، والمعنى إن الله طلب من المؤمنين بأن يبذلوا أنفسهم في قتال أعدائه فأطلق الاشتراء على مطلق الطلب مجازا لا أنه اشتراء حقيقي أو إن
ذلك استعارة تبعية بأن شبه الطلب بالاشتراء لعلاقة أن كلا منهما بعوض وبدل، ثم اشتق من الاشتراء اشترى، والله اعلم.
ومما وقع السؤال عنه في الطريق، قوله تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً
«1» وصورة السؤال أن من لا تطلق إلا على العقلاء، وهي هنا شاملة لجميع الحيوانات عاقلة وغيرها. وجوابه: أن ذلك إما خاص بالعقلاء، وغيرهم مقيس عليهم، أو أنه غلب العاقل على غيره، أو نزل غير العاقل «2» منزلة العاقل (168 أ)، كما في قول الشاعر:
أسراب القطا هل من يعير جناحه
…
لعلي إلى من قد هويت أطير
ثم استطرد في الكلام إلى أن وقع السؤال عن ما وإنها لغير العاقل، فكيف أطلقت على النساء في قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
»
الآية؟ فما الجواب عن من يقول بأن ما مختصة بغير العاقل؟ وجوابه: إن النساء لما كنّ تحت طاعة الأزواج أشبهن الملك فأطلق عليهن ما تنزيلهن منزلة ما لا يعقل.
ومما وقع السؤال عنه في الطريق، كيف التوفيق بين قول ملك الرحم الموكل به: يا رب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد؟ فما الرزق وما الأجل، وبين قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
«4» الآية، فظاهر حديث الملك إنه يعلم كونه ذكرا أو أنثى، والآية تدل على أن هذه الخمس لا يعلمهن إلا الله كما صرح في الحديث، فإن قلتم: إنّ الملك يعلم ذلك بتعليم الله تعالى، قلنا:
إذا لا فرق بين هذه الخمس وبين غيرها. والجواب: نعم لا فرق بين هذه الخمس وبين غيرها من المغيبات [في] أنها تعلم بتعليم الله تعالى، لكن إنما خصت ردا على الملوك السالفة فإنهم كانوا يكثرون من السؤال عن هذه الخمس (168 ب) زاعمين أن أحبارهم يعلمون ذلك فردّ الله عليهم، بأن هذه الخمس لا يعلمها إلا الله، ومن علمها فإنما هو بتعليمه.