الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويبدو أن شعورا غامرا من الرضا عمّ نفس السويدي- بعد فراغه من مهمته الخطيرة- ممتزجا بالحمد والامتنان لله الذي وفقه فيما فعل، فعزم على حج بيت الله الحرام. وما إن رفع الحصار عن بغداد في أواخر سنة 1156 هـ/ 1743 م حتى كتب- وفق التقليد السائد- طلبا إلى والي بغداد يستأذن فيه للسفر «لأن العادة في بغداد إذا كان لأحد جهة تدريس أو خطابة أو إمامه لا بد له أن يستأذن من والي بغداد» وقد افتتح طلبه بقصيدة دالية وصف فيها شوقه إلى بيت الله الحرام وإلى «تلك الأماكن الشريفة، والبقاع السامية المنيفة» . «1»
وبعد صدور الموافقة المرجوة، أوكل الشيخ عبد الله في تدريس مدرسة الشيخ عبد القادر الكيلاني ابنه الشاب النابه عبد الرحمن. وغادر بغداد في رحلة طويلة- بحسب مراحل طرق ذلك العصر- إلى مكة المكرمة زار خلالها العديد من المدن والقرى، والتقى في أثناء ذلك بالكثير من العلماء والأدباء والمشايخ، وهي التي جمع أخبارها في كتابه الذي عنونه (النفحة المسكية في الرحلة المكية) وهو الذي بين يدي القارئ الكريم.
عاد السويدي إلى مدينته بغداد، ليقضي فيها ما تبقى له من العمر، دون أن يغادرها إلى أي بلد فيما نعلم. ولسنا نعلم طبيعة المناصب العلمية التي تولاها بعد استقراره نهائيا في بغداد، وأغلب الظن أنه انصرف، خلال هذه السنين، إلى التدريس وكتابة بعض الرسائل وربما نظم الشعر أيضا.
شهرته العلمية:
طارت شهرة السويدي وانتشر صيته بما حققه من مجد علمي، وما صنفه من مؤلفات تلقفتها أيدي الطلبة، وما رنّت بصوته المنابر وحلقات الدرس، فضلا عما حصل عليه من إجازات العلماء خارج العراق، واقترن باسمه من توفيق في المهمة التي كلفه بها والي بغداد سنة 1156 هـ/ 1743 م، فقصده الطلاب من كل حدب وصوب، آخذين عنه العلم،
مستجيزين منه الإجازة، على وفق تقاليد ذلك العصر وأعرافه، ولم يكن مجلسه يخلو من أمثال أولئك الطالبين في كل حين. وفي هذا يقول واصفا منزلته الاجتماعية «وصرت- والحمد لله- بحيث يشار إلىّ بالبنان، ويوقّرني العامة والأعيان، وترفع محلي الولاة، وتتمنى رؤيتي القضاة، مسموع الكلمة، نافذ الأمر
…
وكل هذا، أيها الواقف على هذه الرحلة- من بركات العلم» . «1»
نال السويدي تقدير معاصريه، فوصفه الأديب عصام الدين عثمان بن علي العمري الموصلي (ت 1184 هـ/ 1770 م) بأنه «ممن يجلّه الدهر، ويعظّمه العصر، ويقدمه الفخر.. صاحب الأمثال السائرة، والبديهة الغريبة النادرة، وهو النبيه النبيل، الذي ما للوصول إلى كماله سبيل. رجل العراق، وواحد الأدب على الإطلاق، شمس سماء ذلك البلد، الذي لا يدانيه في فضله أحد
…
فهو من حسنات الزمان، وثمار الأمن والأمان..
الخ» «2» وتساءل الأديب محمد بن مصطفى الغلامي (ت 1186 هـ/ 1772 م) : «ماذا أقول في حقه وقد طارت أجنحة الأخبار بفضله في البلاد كما ملأت الدروب؟» «3» ووصفه المؤرخ محمد خليل المرادي الدمشقي (ت 1206 هـ/ 1791 م) بأنه «الشيخ الإمام العالم العلامة، الحبر المدقق الأديب الشاعر المفنن» . «4»
ومنهم من قصد بغداد خصيصا للأخذ عنه، والاستفادة من علمه، ذكر الشيخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري المدني (ت 1195 هـ/ 1781 م) في مقامة أدبية أنشأها على غرار مقامة الأمثال السائرة للسويدي، «5» أنه طرق سمعه- وهو في بلده- من يشدو
«قصائد رائقة، ومدائح فائقة، دلائل الإعجاز تلوح من تراكيبها، ومخايل الإيجاز تضوع من أساليبها، أسرار البلاغة في تلخيص مبانيها، ومفتاح الفصاحة في إيضاح معانيها
…
» فاعتقد أن صاحبها «من الفضلاء المتقدمين» . ولما حدثه بعض الثقات «ممن جاب البلاد» أن بغداد «مشحونة بالجهابذة النحارير، والفضلاء المشاهير» استنكر هذا القول، لأنه سبق أن أقام بها، وكان العلم فيها «اسما بلا مسمى» فقيل له إنّه «نبغ فيها جناب العالم النحرير، عديم المثيل والنظير، إن ذكر العلماء فله القدح المعلّى، أو عد الفضلاء كان التاج المحلّى، عضد الملة المحمدية، وناصر الشريعة الأحمدية، آراؤه صائبة، وأفكاره ثاقبة» يعني بذلك عبد الله السويدي، وقال إنه فرح حين تحقق صحة رواية من أخبره، وانطلق «قاصدا بذلك كعبة الآمال، يقطع الروابي والوهاد، والأغوار والأنجاد» حتى وصل مدينة السلام، ليأخذ على عالمها وليدرس على يديه، فإذا به «فوق ما يصفه الواصفون بكثير» .
وبعد عمر ناهز السبعين سنة قمرية، توفي الشيخ الجليل عبد الله السويدي في ضحوة يوم السبت الحادي عشر من شوال سنة 1174 هـ (17 مايس- مايو 1760 م) ، فدفن بإجلال يليق بحياته الثرة، وعطائه الجم، ومنزلته الرفيعة، في جوار مسجد الشيخ الزاهد، العارف بالله، معروف الكرخي، في مقبرته الكائنة بالجانب الغربي من بغداد. وقد ترك وراءه أربعة من كرام البنين، أحسن تربيتهم وتعليمهم، فضلا عما أورثهم من ذكاء فطري ونباهة، فبرز جميعهم في مجالات العلم والمعرفة، ولم تكن شهرة بعضهم بأقل من شهرة أبيهم، فعبد الرحمن، أبو الخير (المتوفّى سنة 1200 هـ/ 1786 م) كان مؤرخا فذا وفقيها وأديبا وشاعرا بارزا، بلغت مؤلفاته نحو اثنين وعشرين كتابا ورسالة، «1» ومحمد سعيد، أبو السعود (المتوفّى سنة 1223 هـ/ 1808 م) كان فقيها شاعرا أديبا، له مؤلفات ومحاورات شعرية، ونال إحدى إجازاته من العالم اللغوي البارع، الشيخ محمد مرتضى بن محمد
الحسيني الواسطي الزبيدي مؤلف معجم (تاج العروس في شرح جواهر القاموس) ، «1» وإبراهيم، أبو الفتوح (المتوفّى في الهند، ولم يعرف تاريخ وفاته) . وكان محدثا أديبا له تصانيف، وأحمد أبو المحامد (المتوفّى سنة 1210 هـ/ 1795 م) وهو الشاعر المؤلف في الأدب والتصوف وغير هما، «2» فكلهم كان مشهودا له بالفضل والأدب، معروفا بسعة العلم، وإليهم انتهت إجازات العديد من علماء العراق التالين، وعلى أيديهم تتلمذ كثير من الطلبة والدارسين، ووصفت أسرته بأنها «واحدة من تلك الأسر العربية الفاضلة التي حفظت لنا تقاليد العلوم الإسلامية القديمة في هذه العصور المظلمة بالنسبة للأدب العربي ومهّدت الطريق لنهضة ذلك الأدب في القرن التاسع عشر» . «3»