الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشيخته: ينتسب لسيدى عبد القادر الجيلانى، وأبى يعزى صاحب تاغيا، يقال إنه رآهما في المنام فأمداه، وكان عقد مع الله أن كل نافلة يعملها فثوابها لهما، فرآهما بعد ذلك وهو عند قبر أبى يعزى فأعطياه.
الآخذون عنه: منهم العارف العالم العامل السيد أحمد بن عيسى البرنوصى الفاسى المعروف بزروق المتوفى ليلة الأحد ثامن عشرى صفر عام تسعة وتسعين بتقديم التاء فيهما وثمانمائة وناهيك به.
وفاته: توفى سنة ستين وثمانمائة.
104 - إسماعيل: أبو النصر بن الشريف بن على الينبوعى السجلماسى الحسنى السلطان
.
الذائع الصيت في المشارق والمغارب، فخر ملوك المغرب الأقصى.
حاله: رجل السيف والثبات، له في اجتثاث ما يسخط الله تعالى وَثَبَاتٌ، وطنى غيور، حر الضمير، صلب في دينه، متمسك بحبله المتين، يعاقب العقوبة الصارمة، كل من ظهرت منه مخالفة في الشعائر الإسلامية، أو مروق من الدين.
قال مؤرخ فرنسا (سان الون) سفير لويز الرابع عشر ملك فرنسا للمترجم في رسالة وجهها لملكه المذكور يصف له أخلاق صاحب الترجمة:
"أما أخص أوصافه فهو الاعتقاد الراسخ في الدين، لا تأخذه في الدين لومة لائم، مستحضر لآى القرآن في كثير من أحواله، ومضحيا نفسه في سبيل نشر الدين وعلو كلمته، وبالجملة فإنه لم يظهر ملك ذو قوة وثبات على أصول الدين مثل مولاى إسماعيل منذ قرون، مطلع على العلوم الدينية، متفقه مستحضر لمسائلها الأصلية، يتمذهب بمذهب مالك، يصوم زيادة على رمضان شهرين في
104 - من مصادر ترجمته: نشر المثانى في موسوعة أعلام المغرب 5/ 1996.
.
[صورة]
فخر الملوك وأعظم السلاطين
مولانا إسماعيل بن الشريف بن على الحَسَنى
دفين مكناسة الزيتون -رحمه الله
العام، وما شرب قط مسكرًا في عمره، ويعتمد على الله في سائر أحواله، وإذا دخل في صلاة توجه بكليته إلى ربه، ويتجرد من نخوة الملك وحلته، ويطلب من الصلحاء والحجاج والعلماء الإكثار من الدعاء له بظهر الغيب.
وقد أقام سنة صلاة الاستسقاء في سنة الجدب التي كانت سنة 1680 فخرج بنفسه في اليوم السابع عشر من مارس حاسر الرأس حافى القدمين في بذلة خلقة مصحوبا بسائر حاشية ملكه، والجم الغفير من رعيته.
وبعد إقامة الصلاة بذلك الجمع زار سائر مساجد المدينة واستغرق ذلك يوما كاملا، ولما رجع إلى قصره أصدر أمره لسائر المسيحيين الذين بإيالته بتنكيس سائر الأصنام التي بكنائسهم ومحال عبادتهم، ويعظم أرباب الزوايا وأهل الصلاح المشهورين بالاستقامة، ويدعو المسيحيين للدخول في دين الإسلام.
صدرت منه مكاتب بذلك لجل دول أوروبا، أشهرها كتابه للويز 14 يذكره بكتاب النبى إلى هرقل عظيم الروم، ويدعوه إلى الإسلام، ويدعو الرهبان الموجودين بإيالته لحضرته، ويناظرهم في الدين ويأمرهم بإحضار ما لديهم من الكتب والحجج والدلائل على معتقداتهم، ويتناول ذلك بالنقد والبحث، معتمدا على التآليف الإسلامية التي كان يحضرها في المجلس.
وله اهتمام كبير ببناء مكناس -عاصمة ملكه- وتعميرها وزخرفتها وتزيينها، كأنه يريد أن يحدث لأمته آية من آيات ملكه تكون عجبا لقومه، وآية لمن يأتى من بعده".
قال: "وكان من مزيد اهتمامه تجاوز حد المهندسين الفنانين في أعماله، يهتم في هذا الأمر بجليله وحقيره، فيصدر الأوامر للبنائين بنفسه، ويراقب أعمال العملة بشخصه، ولا يترفع عن تناول المسحاة -الفاس- أو أى آلة من آلات البناء
بيده، ويختبر الجير والتراب وغيره خشية أن يكون فيه غش، كما يختبر أيضا استقامة الجدرات حتى لا يكون فيها ميل أو عيب من العيوب، ويهتم أيضا بنقل الأشجار وغيرها من الأمور اللطيفة حتى لا يقع فيها كسر، وبالجملة فإنه لا يفوته شئ ولو كان لا أهمية له.
وقال: "إن سائر ما في مكناس من العظمة والضخامة راجع فضله للمولى إسماعيل، وكان يحبها حبه لأحدى بناته، وكان يفاضل بينها وبين فاس، ويفضلها عليها، والظروف السياسية والاقتصادية تطابق فكره في انتخابه لها عاصمة". انتهى.
الغرض من الرسالة.
وقال في حقه صاحبا الكلتاب الموسوم بأهم مراحل تاريخ المغرب المطبوع بباريز سنة 1921 صحيفة 67:
"إن مولاى إسماعيل قام بأمر عظيم يمكن أن يشبه بأعاظم ملوك تاريخ فرنسا".
وقال في حقه مؤرخ فرنسا الشهير الكنت دوكاسترى في الصحائف 23 و 24 و 25 و 26 من كتابه المعنون بـ"مولاى إسماعيل وجاك الثانى": بعد أن سرد ما وصفه به بعض مؤرخى أوروبا وبالأخص رؤساء الدين منهم من الشدة والقساوة ما ترجمته:
"إننا نجد أشياء خالية عن كل حجة تتناقلها الأفكار بأوروبا مما كان يقاسيه الأسارى من النصارى عند مولاى إسماعيل من الشدة، مع أنه لم يكن يعاملهم بأكثر مما يعامل به غيرهم من الجناة، وإننا لم نجد ما يعتمد فيما نسبوه إليه إلا ما نقله الأوروبيون في تواريخهم وخصوصا رجال الدين منهم، وذلك بعيد جدا عن الصحة، فإنهم كتبوا ذلك بدون تروٍّ، إنما قصدهم إغراء القراء وإيغار صدورهم
وتهييج الأفكار لمقاومة هذا الملك لأن مؤرخى العرب لم يتعرض واحد منهم لشرح هذه القساوة".
ثم قال: "فممن وصف مولاى إسماعيل بالإفراط في القساوة (بوسنو) و (الأب فرانسيسكو) فتلقى منهم ذلك المسيو (بلانطى) و (كاستيلانوس) بدون تروٍّ.
وممن رفض ذلك واعتبره من باب الخرافات المسيو (الامارتنينلان) وأقربهم إلى الحقيقة المسيو (بودجيت ميكين) حيث قال: إن قساوة مولاى إسماعيل هى نتيجة أحوال زمانه الذى يعيش فيه، ولئن فاق الملوك قساوة فلقد فاقهم قوة، وبسبب جهل المؤلفين للزمان والمكان فإنهم أغفلوا التحفظ عند تتبعهم الأعمال الدموية التي قام بها مولاى إسماعيل، ومن أجل ذلك حكموا عليه بصرامة خالية عن كل إنصاف.
ثم بعد أن وصف مولاى إسماعيل بالقوة الكاملة في الباءة التي أوجبت له تعدد الأزواج المباح له في شريعته السمحة وما علقه الأوروبيون على ذلك، قال: فإننا نرى مولاى -إسماعيل يطوف في مماليكه وتمر عليه الأربعة والعشرون سنة وهو على رأس جيوشه يحارب ويقطع الرءوس ويأخذ الجبايات ويستقبل سفراء دول النصارى ويناظر (الآباء دولا مرسى) مناظرة علامة موحد، ويخطب في المساجد، ويدير أمور مملكته، ويقابل بنفسه بناء قصوره العظيمة، وينظم حرسه الأسود الشهيرة، ويكتب لجاك الثانى، ويحاجج في دين المسيح.
وحياة مملوءة بأعمال كهذه لا تترك وقتا للشهوات، وذلك قاض بالاعتراف بأنه لم يكن منهمكا فيها".
ومن أكبر البراهين وأوضح الأدلة على ما كان بينه ويين عظماء ملوك أوروبا
من العلائق السياسية ما وقفت عليه في عدة مكاتب ومخابرات صدرت بينه وبينهم، ألم بكثير منها مؤرخ فرنسا الماهر الشهير الرحالة الفيلسوف الخبير الكنت دو كاسترى في عدة من كتبه، وإليك نصوص بعضها وصورها الفوتوغرافية، وقد خاطب فيها لويس الرابع عشر ملك فرنسا وجامس ملك الإنجليز ودرنكرلوس ملك إصبانيا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، من عبد الله تعلى الإمام المظفر بالله أمير المؤمنين المجاهد في سبيل رب العالمين الشريف الحسنى، أيده الله ونصره، ثم الطابع بداخله إسماعيل بن الشريف الحسنى، والله وليه وبدائرته العز والإقبال.
"إلى عظيم الروم بفرانصيص لوشى الرابع عشر من هذا الاسم، السلام على من اتبع الهدى، وباعد طريق الغى والردى.
أما بعد: فاعلم أن الذى ظهر لنا أنك ليس عندك قول صحيح، ولا كلام رجيح، ولا أظنك إلا غلب عليك أهل ديوانك، وصاروا يلعبون بك كيف شاءوا ولا بقى لك معهم ضرب ولا لقب، ودليل ذلك أننا ما زلنا ما قبضنا منك صحة قول ولا أبرمت معنا شيئا، ففلا منك الذين ليس لهم رئيس وما عندهم إلا الديوان تكلموا معنا كلمة وقبضناها عليهم، وثبتوا فيها ووفوا بها، والإنجليز تكلموا معنا كلمة وقبضناها عليهم ووفوا بها، فحين ذهب خديمنا لبلادهم لما أن طلبوا منا ذلك فرحوا به وأكرموه وبروا به، وأتى من عندهم بعشر مائة مكحلة، وستة عشر مائة قنطارا من البارود ومائة وسبعة من المسلمين، أطلقوهم من الأسر لوجوهنا، وعملوا من الخير ما عملوا مراعاة لنا، وثبتوا في قولهم ووفوا بكلامهم، وأنت لا زال لم يصح منك قول ولا وفاء وأولئك الذين كانوا قدموا إليك من هذه البلاد، ليس هم من خدامنا ولا من أصحابنا ولا ممن له معرفة
[صورة]
ظهير مولاى إسماعيل للويز الرابع عشر ملك فرنسا
معنا، فالحاج على معنين حيث أسر له ولده لاذ بالبعض من خدامنا واستحرم به، وقدم إليكم على شأن أولئك المسلمين، وجار على دار السباع ودار النعام، وأتى إليكم بما أتى ولا شعرنا به ولا عرفناه كم أخذ، وقلنا: إنه إن وصلكم ولا بد تعملون له غرضه في أولئك المسلمين، وتسرحونهم، فإذا به هو تحيل على ولده إلى أن جاء به وأنتم ما عملتم صوابا في غيره، ولا صدر منكم ما تراعون لأجله.
ثم بعد ذلك قدم لعلى مقامنا صاحبكم انبشدور واتانا بشئ من الخرق مع فالصوا الحرير وهل نحن ممن يعجبه ذلك ويسره؟ فنحن معشر العرب لا نعرف إلا الصحيح، ولا يسرنا إلا ما فيه مصلحة المسلمين كلهم، ومع ذلك أعطينا لصاحبك عشرين نصرانيا سيفطناه بها، وظننا أنك ولا بد تراعى الخير وتبعث لنا ولو عشرين مسلما تجبر بها خواطرنا، وتكون هى الطريق للكلام الذى تريده منا، فإذا بك ما عملت شيئا من هذا، ولا جازيت بإحسان.
وثانيا قبضنا لك سفينة قبل أن يقع الكلام بيننا وبينك بثلاثة أيام أو أربعة على التحقق، وهى موسوقة بالسكر وتبغة وثقفناها نحوًا من ثلاث سنين بقصدك، ولا تركنا أحدًا يمد يده فيها، وقلنا إنك تراعى خيرنا، وتعمل لأولئك المسلمين طريقا وتسرحهم، وإن كانوا ليس فيهم من هو خديمنا ولا من هو محسوب من جيشنا، ولا من هو معرفتنا، فما هم إلا من لا خلاق لهم، ولا يركب البحر عندنا إلا أهل التمرين، ولو أطلقتهم وإن كانوا ليسوا بشئ فتكون عملت الخير بذلك، وتقول إنك عملت مسألة تراعى عليها، وأعظم من ذلك كله هو أن رئيسا من بلادنا اسمه التاج كان أعطاه صاحبك الذى أتانا خط يده على أنه يشترى سفينة من الجزائر يسافر بها قرصان وما عليه فيمن لقيه من فرانصيص، فلما أن اشتراها وسافر بها وغنم قطارمة موسوقة بالرخام والريال مع ما فيها من الحرير وغيره وبعثها مع أصحابه ستة وعشرين مسلما، وتعرضوا لها سفنكم وأخذوها وثقفتها أنت أيامًا، ثم بعد ذلك مزقتها والمسلمون الذين كانوا معها خدمتهم في الغراب، فلماذا لم تردها وثقفتها ثلاث سنين كما ثقفنا نحن.
سفينتكم؟ وهل هذه هى صحة القول؟ فهذا مما يدل على عدم صحة كلامك ومما يثبت الإخلال بقولك، وقلة وفائك.
فحتى الآن، فالذى ظهر لنا أنه ما يليق بنا معك إلا الشر، وإذا أردت تثبيت المهادنة وإبرام الكلام فيها وإمضاء حجتها، فابعث لنا من عندك قونصو بالتفويض على الأمر، ويجلس هنا في إحدى مراسينا ويكون الأمناء معه في هذا كله، ونبرم معه هذا الأمر ويكون من أهل الحل والربط عندكم، وإلا فإن ظهر لكم خلاف ذلك فأعلمنا، وعرفنا بما عليه عملك، وما أضمرته طويتك والسلام على من اتبع الهدى وفى التاسع من شعبان المبارك سنة خمس وتسعين وألف.
وذكر المؤرخ الكنت المذكور في كتاب له طبع بباريز سنة 1903: أن المترجم كتب لسلطان الإنجليز بما نصه: الحمد لله وحده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، لا رب غيره، ولا معبود سواه، ثم الطابع السلطانى بداخله إسماعيل بن الشريف الحسنى، وبدائرته إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، أيده الله بعزيز نصره وأمده بمعونته وشره وخلد في الصالحات شريف مناقبه، وجميل ذكره، آمين يارب العالمين:
"إلى طاغية الإنجليز القاطن ببلاد الفرانصيص يعقوب المسمى بلسانهم جامس، سلام على من اتبع الهدى، وتجنب سبيل الغى والردى، وآمن بالله ورسوله ثم اهتدى.
أما بعد: فإنا كتبناه إليك وأوردناه عليك وأوصلناك بهذا الكتاب. واعتنينا لك بهذا الخطاب لمسألتين اثنتين إحداهما دينية والأخرى سياسية دنيوية، وموجب إيرادهما عليك التنبيه لك والإيقاظ والنصح والإرشاد، وذلك أن أخاك الذى كان مملكا على الإنجليز من قبلك كان عرف لنا من الحق ما عرف، وتقرر عنده من لدنا ما لهذا الدين الشريف على غيره من الشفوف والشرف، فكان من أجل ذلك يطلب منها المهادنة على طنجة، فبعث لمقامنا العلى بالله من أصحابه وخدامه المرة
[صورة]
ظهير مولاى إسماعيل لجيمس الخاس ملك الإنجليز
الأولى والثانية من بعث إنافة بمحلنا وتنويها بشريف مكاننا وكانت المواصلة بين الملوك والمراسلة مستنة ومشروعة وان اختلف اللسان وتباينت الأديان.
فجاريناه على فعله. وكافيناه على شغله. ووجهنا له من خدامنا أنباشا دورا وصل إليه. وقدم عليه. كما شاهدته ورأيته ففرح بسفيرنا وأكرمه إكراما كثيرًا، وسر به وبمقدمه سرورًا كبيرًا. ورجع من عنده مغبوطا مسرورا.
فلم نزل نراعى لهم ذلك، ووفينا له في جميع ما كنا عملنا معه في طنجة ولم نرد البال إلى شئ مما كان يعمله بها حين أراد الرحيل عنها، وكان ينقل خزائنها ومدافعها وسكانها، وأهل جوارها من المسلمين يرون ذلك وينهونه إلينا ويقصون ما يشاهدونه علينا وما ألقينا إليه في ذلك البال. ولا التفتنا إليه بحال من الأحوال. وما ذلك إلا مكافأة له على صنيعه مع سفيرنا، ووفاء بالقول الذى كان طلبه منا، ووددنا أن لو كان أخوك بقى حيا إلى أن يشاهد صنع الله الذى صنعه لنا في فتح العرايش من يد لصبنيول، ويرى محاصرة سبتة اليوم وما كان أهلها يصرفونه عليها من الأموال، وما كان يلزمهم في مؤنتها من ملايين الريال، لتحقق وفاؤنا له، وغضضنا الطرف عنه وعلم أن القول والعهد الذى أعطيناه لم ننقص شيئا منه، فالصواب الذى كان من أخيك والحق الذى كان يعرفه لنا هو سبب الكتب إليك مكافأة على صنيعه، وهو الذى أوجب مكاتبتك بهذه المراسلة لنعرض عليك فيها الأمرين المذكورين أول الكتاب، فأما الدينية منهما ففيها خير الدنيا والآخرة لما فيها من رشادك ونصحك إن وفقك الله تعالى.
وذلك أن تعلم أن الله سبحانه جل جلاله، وتقدمت صفاته وأسماؤه، إنما خلق هذا الخلق ليعبدوه ويوحدوه ولا يشركوا به شيئا، قال الله سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [سورة الذاريات].
وهذه العبادة التي أوجب الله على خلقه لا بد لها من وسائط يبلغون عن الله لخلقه ما أمرهم به، ومن رحمته بخلقه ورأفته بهم أن جعل لهم وسائط بينهم وبينه من جنسهم، أرسلهم إليهم من أنفسهم واختارهم من أنفسهم، فبعث لهم رسلا يبلغونهم عن الله ما جاءوا به من عنده، فآمن بهم من أراد الله سعادته، وكفر بهم من كتب شقاوته.
وختمهم بخاتم أنبيائه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله خاتم النبيئين وسيد المرسلين، وجعل دينه خير الأديان، وشريعته أفضل الشرائع، وملته خير الملل.
ولقد بشر به وبمبعثه عيسى، كما بشر بعيسى موسى بن عمران على نبينا وعليهما وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام، ونبينا عليه السلام وإن كان آخر الأنبياء بعثا فهو أولهم خلقا.
ومما يجب اعتقاده أن الأنبياء كلهم يجب الإيمان بهم فلا نفرق بين أحد منهم، وأن المسيح بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام هو أحد الرسل الذين جاءوا عن الله من غير ادعاء مما تدعون، ولا إطراء مما تطرون، قال الله تعالى في حق أمه الصديقة:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12} [سورة التحريم]: وقال تعالى في حقه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59} [سورة آل عمران]: وقال تعالى: {
…
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)} [سورة النساء].
ومن المعتقد أن المسيح رفعه الله إليه، وأن اليهود لعنهم الله ما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم، وأنه ينزل بين يدى الساعة فيجد المهدى من هذه الأمة من ولد فاطمة ابنة النبى صلى الله عليه وسلم يقاتل الدجال، ويجده قد أقيمت عليه الصلاة فيقول له تقدم يا نبى الله أو يا روح الله، فيقول له عليه السلام عليك أقيمت فيصلى خلف رجل من أمة نبينا صلى الله عليه وسلم ويحكم بشريعته، ويقتل الدجال فينكره النصارى، ويقتلهم ويقتل اليهود حتى يكلمه الحجر، ويقول يا بنى الله هذا يهودى ورائى فاقتله.
وقد أخبرنا بهذا كله نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله والذى نفس محمد بيده ليوشكن أن ينزل فيكم المسيح بن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ولا يقبل إلا الإسلام.
وهو معدود في أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقد عرف هذا جماعة من أعلام النصارى وملوكهم الذين هداهم الله ومن عليهم باتباعه كالنجاشى ملك الحبشة حتى عد من الصحابة وصلى عليه نبينا صلى الله عليه وسلم يوم مات وهو بأرض الحبشة، وهو أحد من خاطبه النبى صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام، كما خاطب قيصر ملك الروم جد هذا الملك الذى لجأت إليه وأنت مقيم لديه، ولقد كتب إليه يدعوه إلى الإسلام، فلما قرأ كتابه ووعاه وكان عنده من العلم المكنون ما عنده، سأل من حضره من العرب عن صفاته وأحواله وسيرته وما يدعو إليه وما يأمر به وما ينهى عنه فقال إنه النبى المنتظر الذى بشر به عيسى، وسيملك موضع قدمى هاتين وشاور أرباب دولته وأهل ملته في اتباعه فضجوا وحاصوا حيصة الحمر الوحشية فساعفهم وساعدهم بخلا بملكه وحين بلغ خبره نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ضن اللئيم بملكه فلقد رسخت في قلبه معرفة هذا الدين وفضله على سائر الأديان لكنه لم يسمح بملكه.
وبكل حال من الأحوال فهذا الدين الحنيفى هو الذى اختاره الله دينا، وارتضى له نبيا أمينا، وجعله أفضل الأديان، قال الله سبحانه في محكم القرآن: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ
…
(19)}. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
{يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [سورة آل عمران]. فمن أمعن النظر واستعمل الفكر ووزن الأديان بميزان الحق والعقل عرف أن دين الإسلام هو الدين، وأن غيره كله لعب وعبث من لدن بعث الله نبينا الذى ختم به الأنبياء، وتقرر لديه أنها كلها باطلة وأهلها للنار.
وقد وقع اختبار الأديان وأيهم أفضل لبعض عقلاء النصارى، وقد نظر فيما عليه المسلمون وفيما عليه النصارى وفيما عليه اليهود فأراد أن يختبرهم من جهة المعقول، فأتى نصرانيا وقال له أى الأديان أفضل؟ دين النصارى أو دين اليهود أو دين المسلمين؟ فقال له النصرانى دين النصارى أفضل، فقال له وأى الدينين أفضل دين اليهود أو دين المسلمين؟ فقال له النصرانى: دين المسلمين.
فأتى اليهودى وقال له أى الأديان أفضل دين المسلمين أو دين النصارى أو دين اليهود؟ فقال له: دين اليهود، فقال له: وأيهما أحسن أدين النصارى أم دين المسلمين؟ فقال له: دين المسلمين.
فأتى المسلم وقال له: أى الأديان أفضل؟ فقال له دين المسلمين فقال له: وأى الدينين أفضل دين اليهود أو دين النصارى؟ فقال له: لا خير فيهما معا.
فالدين القويم هو دين المسلمين، فعرف هذا النصرانى المذكور بعقله أن الدين هو دين الإسلام وأن ما سواه محض ضلال، وأن اليهود والنصارى ليسوا على شئ وقد وقع معنى هذا في كتابنا قال الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
…
(113)}. [سورة البقرة].
وها نحن قد أملينا عليك نبذة من الآى القرآنية والأحاديث النبوية والدلائل المعقولية المطبقة على أفضلية هذا الدين القويم، وغيره كله إنما هو في سواء
الجحيم، وأنت إن خممت مع رأسك وفكرت في نفسك واخترت الدار الآخرة على الدنيا ودخول الجنة على النار، فأنت عرفت سبيلهما، فاتبع هذا الدين الحنيفى وانطق بالشهادتين فإن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة ولو قالها مرة في عمره، ويدخلها بشفاعة النبى صلى الله عليه وسلم فإن له في أهل الكبائر والجرائم والذين نفذ الوعيد فيهم شفاعة عظمى خصه بها ربه في الموقف العظيم، والله إن أنت اعتقدت هذا الاعتقاد ووفقك الله إليه وعلمت ما عمله قيصر من اعتقاده بقلبه وتيقنه به في نفسه حتى تحمد ذلك حالا ومآلا إن شاء الله.
فهذه المسألة الدينية التي نصحناك بها والمسألة الدنيوية هى إذا أنت أحببت الإبقاء على دين الكفر فدين قومك الإنجليز أخف وأيسر عليك من عبادة الصليب، ومتابعة الذين يجعلون لله الولد وينزهون عنه رهبانهم، وأى شئ رأيت في تغريبك عن وطنك وبعدك عن بلدك وخروجك عن ملة أبيك وجدك وتدينك بدين غير دين قومك، وإن كان الجميع على ضلال فدينكم أنتم معشر الريكس أيسر من أولئكم المتوغلين في الكفر، وحتى امرأتك الفرنسيسة التي كانت تحوزك على التعبد بدينها، هأنت الآن افترقت معها، فعلى ماذا أنت باق في جوار الفرنسيس تارك ملتك وادع ملك أبيك وأخيك لغيرك بالفلامك يتملك على جنسك وأنت بالحياة، فوالله ما أحببنا لداركم ولا لمملكتكم يتولى رياستها الفلامك أو غيره، فالغ عنك ما تقدم بينك وبين قومك فإن الصواب معهم في الإنكار عليك بسبب الدين الذى اختلفت معهم فيه، واعتذر لهم وعاودهم وراجعهم، والله لولا أنا أناس عرب لا معرفة لنا بالبحر، أو كان عندنا من يحسن معرفته، أو نستوثق به في الجيش ونطلقه في يده حتى نكاتب الإنجليز ونبعث لك من الجيش ما تدخل به عليهم وتتولى به ملكك.
ولكن مسألة واحدة نعرفك إياها فحاول حتى تنتصل من بلاد الفرنسيس،
واقصد لجوبة بلاد البرتقال وها زوجة أخيك البرتقالية اليوم هنالك، ولقد كان لها عند أهل ديوانكم وجه وكلام ومن هنالك تقرب المسافة بينك وبين قومك، وتسهل عليك مناولة الكلام معهم، لكن بحيث لا يكون للافرنسيس بك شعور، وأما إذا عرفوا منك فلا يتركونك ولا يطلقونك لمسألتين: إحداهما لا يريدونك تترك دينهم وترجع إلى دين قومك، والثانية يخافون أنك إذا راجعت قومك ربما تعاديهم وتحاربهم لا سيما حيث عرفتهم وعرفت عزة بلادهم، والملوك دائما تحذر من مثل هذا، وقد نصحناك وأريناك ما يليق بك في دينك ودنياك ووالله ما نكره لك الهداية والرشاد.
وقد بلغنا أنك تروم الوصول إلى رومة، فإياك وأن تحدث نفسك بشئ من ذلك، فإنك إذا دخلتها تحتل بها ولا تطمع في الخروج منها ولا في ملك بعدها أبدا، فعلى كل حال إن أنت راجعت قومك ودينك نجدد معك ما كان بيننا وبين أخيك، ووالله ما زال خديمنا الذى كان عنده يذكر لنا من صوابه وخيره ما أوجب مكاتبتنا لك بنصحنا، وقد أحببنا أن تكون المودة والمراسلة بيننا وبينك فتنتفع بها على كل حال إن شاء الله، والسلام على من اتبع الهدى.
وكتب في النصف من شعبان المبارك عام تسعة ومائة وألف".
ومن ذلك ما وقفت عليه خطابا لملك الإصبان وإليك لفظه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، من عبد الله إسماعيل المتوكل على الله المفوض أموره إلى الله، أمير المؤمنين المجاهد في سبيل رب العالمين الشريف الحسنى أيده الله آمين، ثم الطابع الملوكى بداخله إسماعيل بن الشريف الحسنى أيده الله ونصره وبدائرته: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا:
[صورة]
ظهير مولاى إسماعيل لملك الإسبان في افتكاك بعض الأسارى
وانتقاء بعض الكتب
"إلى عظيم الروم وملك أقاليم إصبانية وبلاد الهند والمتولى أمورها والمتصرف في أقطارها (دون كراوس) السلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فقد بلغنا كتابكم صحبة خديمكم (دون منويل بيردلون) وخديمكم (دون ابيل مسيح) وهو الكتاب الذى وجهتم لنا جوابا عن كتابنا الذى أصدرناه إليكم ووصلكم صحبة الفرايلى قبل هذا وبعد أن قرأناه وفهمنا لفظه ومعناه وألقى إلينا خديمكم (دون ابيل مسيح) ما في خاطركم وما طلبتموه منا من فك هذه المائة من النصارى الذين وقع الكلام قبل هذا، رددنا إليكم جواب كتابكم، ووجهناه مع خدم دارنا العلية بالله كاتبنا ومتولى الخط الأقرب من بساطنا السيد محمد بن عبد الوهاب الوزير، ولولا مزيتكم عندنا ومعرفتنا بمنصبكم ما سمحنا بفراق كاتبنا عن بساطنا لمهمات أمورنا، وأذنا لخديمنا الأكبر الأعز الأشهر أبى الحسن القائد على بن عبد الله أن يبعث معه رجلا من أصحابه، فوجه خديمنا عبد السلام بن أحمد جسوس معاشرا له ومرافقا، وعند الكاتب المذكور قضية دخول جند الإسلام المظفر بالله على نصارى العرايش وفى علمه وعلى باله كان ما كان في ذلك من الكلام والأسباب، وكيفية الخبر في ذلك.
فثقوا به وتعرفوا منه فإنه حفظه ووعاه من أوله إلى آخره لملازمته لبساطنا العلى بالله في سائر أوقاته، ونحن بلا شك كنا أعطينا القول لهذه المائة من النصارى بالسراح، ولكن وقع من النصارى ما اختل به منهم من الأنساب ما يوجب عدم الوفاء لهم بذلك، فمنهم من كان ينادى بلفظ مينا على رءوسهم، ومنهم من لم يرض بخروجهم على ذلك لذلك القول وكاد يفتك بمن دخل إليهم من خدامنا الذين أوفدناهم عليهم، وبعضهم ركب لجج البحر فارا بنفسه حتى أدرك وقتل على الموج، وحاجنا مع هذا كله كبار ملتنا وعلماء شريعتنا وأئمة ديننا بأن قالوا لنا: إن المسلمين كانوا أشرفوا على الغنيمة ساعتئذ ووقع الغلب والظفر،
ولم يبق للنصارى إلا الموت بالسيف أو بالغرق فلا وجه لسراحهم في الشريعة رأسا.
وكنا في أثناء هذه المدة كلها نتراد الكلام مع هؤلاء العلماء حفظهم الله، وقالوا لنا: هؤلاء المائة يكونون أسارى ويسترقون من كل وجه، كيف وقد أخذوا العرايش من أول وهلة بلا موجب، بل أضغطوا الشيخ ابن السلطان الذهبى وقبضوا عليه حتى أنفقوا عليه أموالا عديدة ومسكوا أولاده بسببها حتى أعطاهم العرايش على ضغط منه وعلى غير تأويل حقيقى في ذلك.
وذكرونا في مسألة غدر أسلافكم بأهل غرناطة وغيرهم بما يزيد على الأربعين ألفا بعد تعدد الشروط على ستين شرطا، ولم يوفوا لهم بواحد منها إلى غير ذلك من الغدر والمكر بأهل غرناطة وغيرهم من أهل الأندلس في كل بلد وقرية بعد بلد وقرية، فألفيناهم ما تكلموا إلا بالحق، وبقينا في حيرة من أجل هذه المسألة من وجهين: الأول لا نقدر نخالف شريعتنا التي هى أساس ديننا، والوجه الثانى ذلك القول الذى سمعه في تلك المائة أحببنا الوفاء به، وأنفت نفوسنا أن يسمع عنا الناس قلنا كلمة ولا نوفى بها، ولولا معاوضة العلماء لنا بهذا الاحتجاج القوى لكنا شرحنا هذه المائة مع الفرائلى وأصحابه الذين أتوكم قبل هذا مسرحين، فلأجل هذا أبصرنا كلام علمائنا في هذه النازلة لابد منه ولا محيد عنه، وأحببنا أن تسمع الناس أنا وفينا في قولنا ولم يلزم فيه حرج ولا معارضة ولا كثرة اعتراض ولم يلزم فيه من حجة الشرع إثم، فأردنا كم تعملون لنا وجه خلاص هذه المائة بالوجه الذى عملناه لكم وأعطيناكم فسحة فيه، وإلا فالمائة المذكورة أرقاء أسارى من جملة إخوانهم.
وذلك أن تعطونا في الخمسين نصرانيا من هذه المائة خمسة آلاف كتاب مائة كتاب عن كل نصرانى من كتب الإسلام الصحيحة المختارة المثقفة في خزائنهم
بإشبيلية وقرطبة وغرناطة وما والاها من المدن والقرى حسبما يختارها خديمنا المذكور من المصاحف وغيرها وتعطون خمسمائة أسير من المسلمين في الخمسين الأخرى عشرة أسارى لكل نصرانى، وإن لم توجد الكتب التي هى مرادنا فاجعلوا عوضها من أسارى المسلميين وأعطوهم لنا من الأسارى الذين في الأغرية وغيرهم، وقبلنا منكم في العدد المذكور الرجل والمرأة والصبى والصغير أو الكبير والشيخ المسن من إيالتنا وغيرها، إذ ما لنا قصد إلا في الأجر والثواب في فكاك أسرى المسلمين كيفما كانوا، ومن أى بلاد كانوا.
وإلا فالاعتناء الكلى إنما يكون بأهل الدواوين من الجند أو العلماء حملة الشريعة وعامة المسلمين إنما نقصد بفكاكهم وجه الله تعالى، فإن أنتم سارعتم لهذه المسألة فما عملكم إلا الخير في أرواحكم وفى إخوانكم، وإن ثقل عليكم هذا الأمر ولم تقدروا عليه فأرجعوا خديمنا الكاتب الذى وجهناه إليكم في أمان الله كما أتاكم والمائة من النصارى نصيرهم من جملة الأسارى إخوانهم يخدمون مثلهم.
وإذا نحن أبصرنا منكم المسارعة لأغراضنا والجد في ابتغاء مرضاتنا وأنجزتم بأرواحكم في هذه المسألة فلا ترون منا إلا ما يعجبكم وحتى باقى نصاراكم الذين هم عندنا من أصحاب العرايش وغيرها من غير هذه المائة نعمل لكم الكلام في سراحهم بما يرضينا فيهم عندكم إن عملتم الواجب الذى لنا عليكم، وتعرفهم الصواب الذى تعين عليكم كما ذكرتم في كتابكم، وبرجوع خديمنا حامله بما ذكرناه في هذه المسألة نتلقاه هذه المائة نصرانى لسبتة ويكون ملتقى الجميع فيها ولا عندنا معكم في هذا إلا الجد الصحيح والعمل الصريح بحول الله تعالى.
وكتب لسادس عشر ذى الحجة الحرام خاتم عام واحد ومائة وألف".
وهداياهم للمترجم من الشائع الذائع الذى لا نحتاج معه لإقامة دليل ولا
برهان لوروده في غير ما تاريخ من التواريخ الأروبية المهمة كتواريخ الكنت المذكور وكتب مويت الأسير وغير ذلك.
ومن الآثار الباقية من تلك الهدايا الملكية لحد الآن المشاهدة بالعيان البقية الباقية من آثار العربة التي وجه بها للمترجم الأمير العظيم الطائر الصيت لويز الرابع عشر.
ومن ذلك هدية ملك الإسبان التي بعثها لمولاى إسماعيل وهى تشتمل على مائة وخمسين ألف (أبياسطر) عينا وفتاة تركية معها عدد من الفتيات الجميلات، ودبين، وأربعة كلاب من أرفع جنس، وأربعة من الغزلان الجبلية كما نقلت ذلك مجلة (سبريس) عن تاريخ دوكاسترى.
ومما ذكرته المجلة المذكورة سنة 1928: أن الجزء الثالث في تاريخ العلويين من عيون التاريخ للمستعرب الكونت دوكاسترى الفرنسى الذى هو الجزء 15 من المجموعة كلها يحتوى على السنين الست التي ابتداؤها من ثانى شتنبر 1686 وآخرها 12 إبريل 1693.
وأن هناك مخابرة كانت بين المغرب وفرنسا وقد تسببت هذه المخابرة بين دولة المغرب ودولة فرنسا على نقض الصلح المنعقد بينهما سنة 1682.
وسبب نقض هذا الصلح هو استفحال أمر القرصنة بسلا -أو لا فقد كان عدد الأسرى من الفرنسيين وحدهم في ذلك الحين بالمغرب ما ينيف على 400 - وثانيا ما حدث من سوء التفاهم في المخابرة بين على بن عبد الله باشا طنجة وبين الدولة الفرنسية، لأن قنصل فرنسا وبعض قناصل الدول الأخرى لم يستطيعوا أن يخابروا المولى إسماعيل رأسا سنة 1686 لأنه كان غازيا بالسوس الأقصى إلى أن نشأ عن سوء التفاهم المذكور توجيه أسطول صغير لشواطئ المغرب تحت رياسة
[صورة]
العربة التي أهداها لويز الرابع عشر لمولاى إسماعيل
(مونت مار) ينتظم الأسطول من قطع 7 فهبت عليه عاصفة فرقت شمله ولم ينجح، وأخفق سعيه في الكرة ثانيا لمصادفة الحال اشتغال ملك فرنسا في حروب داخلية مع فئة (أو كسبور).
ثم أصدر لويز 14 أمره سنة 87 بقطع الوصلة التجارية بينه وبين المغرب لأنه كان لا يمكنه أن يحمل التجار الفرنسيين المتعاطين للتجارة بالمغرب على مبارحته وإخلائه لقضاء مصالحهم عليهم بالبقاء به، ورغما عن ذلك فإن التجارة بقيت مستمرة مع ضعف، ونجح تجار الإسبان والإنجليز في ذلك الوقت، وفى عام 88 ألزمهم مولاى إسماعيل بأداء غرامات باهضة اضطر بسببها لويز 14 للإرجاع في منع التجارة التي كان حجز بينه وبين الدولة المغربية، وذلك إثر رجوع مولاى إسماعيل من حركة السوس وعادت المواصلة لما كانت عليه، وأصدر مولاى إسماعيل أمره بجمع الأسرى الذين بالمغرب وتوجيههم لمكناس وجعلهم تحت نظره، وهذا أول حجارة وضعت في بناء أساس المودة بين لويز 14 وبين السلطان.
ولما حل الأسارى بمكناس بالغ السلطان في إكرامهم وأجزل لهم العطاء وغمرهم في البر، وأسقط عنهم كل كلفة كان يتحملها أسارى غيرهم من الأجناس.
ومع ذلك تأخر عقد المعاهدة في تلك السنة لاشتغال مولاى إسماعيل بمحاصرة العرايش وحرب باى الجزائر.
ثم لم يلبث مولاى إسماعيل أن تكدر جو السياسة بينه وبين فرنسا بسبب حادثة غريبة، وهى أن أحد أشراف المسلمين كان قد أسر ولبث زمنا طويلا بفرنسا إلى أن افتداه مولاى إسماعيل مع جمع من الأسرى، فلما ورد مكناس وردها مجذوم الأنف أصلم الأذنين، فاستاء مولاى إسماعيل مما عومل به ذلك الشريف
ولم يسكن غضبه حتى قرر له سفير فرنسا أن الأسير المذكور استوجب ذلك عقابا لاغتياله بعض الناس بفرنسا.
ثم اشتغل مولاى إسماعيل بقضية العرايش وافتداء أسراها مع الإصبان وأذعن الإصبان لأن يفتدى كل أسير من أسراها بعشرة من المسلمين، مع أن المفادات مع فرنسا كانت رأسا برأس، وأشار في هذا الجزء لقضية فتح العرايش بأمتع بيان، فليرجع إليه من أراد الاستقصاء.
وبعد افتتاح العرايش تفرغ مولاى إسماعيل لإبرام المعاهدة مع سفير فرنسا فتمت في 12 إبريل عام 1693.
وتجد أيضا في الجزء نفسه من الحوادث الداخلية التي وقعت في المغرب في السنين المذكورة كأخذة لترودانت من يد مولاى الحسن وغزوه للسوس واستيلائه ومحاصرته للعرايش إلى أن وقعت في يده ومحاربة باى الجزائر.
قال: ولا ننس فضل دوكاسترى على تاريخ المغرب في تحقيقه لهذه المسائل ومن أراد مزيد البيان بمراجعة وصف هذه الحروب فليراجع ما كتبه الأتراك في التأليف المسمى دفتر التشريفات الذى نشره (ديفل) سنة 1652 وقد أعاد الكنت دوكاسترى طبعه باللسان التركى الذى كتب به مع الترجمة الفرنسية بقلم ديفل المذكور الناشر الأول، وترجمة أخرى بقلم دوكاستر الناشر الثانى مصححة معلقا عليها.
هذا وقد وصف مولاى إسماعيل غير واحد ممن درس حياته بأنه آية في الدهاء والسياسة والنباهة وصدق اللهجة، نشأ في حرر وصون وعفاف، وكان ذا جد واجتهاد وحزم وعزم ونجدة وشهامة وشجاعة ومروءة وقناعة ومتانة دين.
قال في تاريخ انقلاب دول الغرب (لابريط ويت) الانجليزى صحيفة 5:
[صورة]
مولاى إسماعيل خارجا وسط جيشه من مكناس
"إن مولاى إسماعيل كان غير أكول قنوعا من كل شئ غير النساء محافظا على أمور ديانته محافظة تامة".
وقد كان عارفا بفلسفة التاريخ وأيام العرب وأنسابها وأحوال الأمم ووقائعها، إماما مرجوعا إليه في السيرة النبوية وضبطها.
استخلفه أخوه المولى الرشيد بفاس ومكناس فحسنت سيرته، ثم بويع له بالخلافة العامة بعد وفاة أخيه المذكور سنة اثنتين وثمانين وألف وهو إذ ذاك بمكناسة الزيتون كما في الترجمان المعرب، فوفد عليه علماء فاس وأعيانها وأهل القوة والبأس منها ببيعتهم، ثم تتابعت وفود القبائل المغربية على أعتابه ببيعتهم.
فنهض بأعباء الخلافة وأقام للعدل قسطاسا، ورتب أمور المملكة ودوخ البلاد سهلها والجبل، واستنزل العصاة من صياصيهم وقام في وجه الثوار الأقارب من إخوانه وبنى عمه وأولاده وغيرهم من الأباعد، وكان النصر حليفه.
وفتح من الثغور: المهدية والعرايش وأصيلة وطنجة، وضبط الأمور وبنى الدور والقصور والمساجد والرباطات والقلع في الغور والنجد من وجدة إلى وادى نون، وعمرها بالجنود السود لحراسة السبل وتأمينها ونزع السلاح والخيل من القبائل، ولم يترك شيئا من ذلك إلا لأهل الريف وآيت يمور من البربر والودايا وعرب المعقل وجيش العبيد، ومن نتج له فرس يكون للحكومة، وأمرهم بالاشتغال بالفلاحة والقيام على الماشية والاشتغال بما يعنيهم من صناعة وتجارة، فعظمت ثروة البلاد وكثر الروجان الذى لم يتقدم له نظير، وجمع أهل الذعائر من كل قبيلة وأودعهم سجونه فكانوا يخدمون في البناء مع أسارى الكفار ويبيتون في الدهاليس، فساد الأمن في دولته حتى كانت المرأة والذمى يسافران، المدة لطويلة في البلاد القفرة فلا يتعرض لهما أحد بسوء، بل ولا يسألهما من أين ولا إلى أين إلا ما كان من الحرس المكلف بتأمين السبل وحياطة المارة.
ونفقت في أيامه الزاهرة سلع العلم والأدب، وتوالى الخصب وعم الرخاء، وإلى ذلك أشار أبو القاسم الزيانى في ألفية السلوك بقوله:
في عام جفش تم بدره وصال
…
ومهد المغرب سهلا وجبال (1)
وقال للسلاح والخيل اغربى
…
من كل حى عجمى أو عربى
وجمع الذعار في الدهالس
…
وغيرهم من أرباب المناحس
وجمع العبيد من كل بلد
…
جند كل السود لم يترك أحد
وصارت الغنم والذياب
…
ترعى بسرح ما لها أنياب
أيامه غزيرة الأمطار
…
كثيرة الخيرات والثمار
الزرع والإدام والمواشى
…
رخيصة وكل شئ فاش
وطهر الثغور من أهل الصليب
…
وعمر الحصون وفق ما يجب
حتى أتاه القدر المحتوم
…
في شقطل فحلت الهموم
ولا يخفى ما في هذا النظم من الكسر والركاكة (2) وإنما سقناه لفائدته التاريخية وشهرة صاحبه.
وكان المترجم يرشح مهرة الطلبة العارفين بنسخ الكتب وضبطها وإتقانها أصحاب الخط البارع من فاس ومكناس وغيرهما من العواصم المغربية لنسخ كتب الأحاجى والروايات كألف ليلة وليلة، والعنترية سيرة عنترة بن شداد وغير ذلك، ويعدد النسخ منه ويفرقها في جيشه وكبراء عسكره ويلزمهم مطالعتها ومزاولتها
(1) في هامش المطبوع: "لم يراع الكسر وإلا فبيعته كانت في متم عام 1082 دون نزاع. انتهى. مؤلف".
(2)
أبقيناه كما هو لرغبة المؤلف.