الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف الحاء
* * *
123 - الحسن السلطان أبو على بن السلطان سيدى محمد بن السلطان مولاى عبد الرحمن بن السلطان
مولاى هشام بن السلطان سيدى محمد بن السلطان مولاى عبد الله بن فخر السلاطين وجد عظام الملوك مولانا إسماعيل بن الشريف الحسنى الينبوعى السجلماسى.
دفين مكناسة الزيتون.
حاله: نشأ نشأة حسنة في حجر جده السلطان أبى زيد عبد الرحمن بن هشام وكان له بتأديبه وتهذيبه وتدريبه اهتمام واعتناء زائد، وكان يحبه محبة شديدة، ويختار لتعليمه جلة الأساتذة وفضلاء الأعلام، ولما شب وظهرت منه لجده مخايل النجابة والفلاح وجهه للقراءة ببلاد أحمر الشهيرة بأحواز مراكش، إبعادا له عن الاشتغال بالمألوفات عن تحصيل العلوم حسبما يستفاد من ظهير أصدره المولى عبد الرحمن جد المترجم لولده سيدى محمد ودونك لفظه:
"الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه، عبد الرحمن بن هشام الله وليه، ولدنا الأبر الأرضى، سيدى محمد أصلحك الله ورضى عنك وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فإن الطالب محمد ابن عبد الواحد بن سودة طلب التوجه لصلة رحمه فأذنا له في ذلك فادفع له خمسين مثقالا من زكاة أهل فاس، وذكر أنه يقيم بداره هذه الأشهر الثلاثة حتى يصوم رمضان ويعيد بها، فإذا مضت أيام العيد فوجهه والسلام في 24 جمادى الأخيرة عام 1272.
ومنه فإن سيدى حسن أصلحه الله أراد القراءة ولم نجد له فقيها فقد عرضنا ذلك على كل من هنا من طلبة مراكش فلم يرد أحد الذهاب لأحمر، وكتبنا لك
بذلك فلعلك لم تجد من يقبل ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنه ظهرت فيه قريحة ومولع بقراءة الأمهات المختصر وغيره، فلا بد انظر وابحث عسى أن تجد من يصلح لذلك مادام الغصن رطبا فإن تعلم الصغر كالنقش في الحجر صح".
وذلك بعد مكثه مدة بدار خاله الوزير الصدر السيد العربى الجامعى ليكتسب اطلاعا على ما لم يطلع عليه غيره من أفراد العائلة الملوكية المقصورين على المكث بالدار العلية.
ومن اعتنائه به أن ضم إليه جماعة من كبراء السن من الخدام المطلعين على سير الملوك الذين أدركوا عصرهم وأمرهم بأن يكونوا يحدثونه بما شاهدوه وحفظوه من ذلك، فكانوا يجدون منه الرغبة الحارة في الاطلاع على ما عندهم من الأنباء زيادة على ما كانت تتوق إليه همته من تحصيل العلوم الدينية والأدبية والرياضية والاجتهاد في لقاء من له مهارة في العلوم وخصوصا أرباب العلوم الرياضية.
وجمع شتات المؤلفات من سائر الفنون حتى خصص جماعة وافرة من مهرة النساخين المتقنين، ولما جلس على أريكة الملك ازداد شغفه وولوعه بذلك، ولم يزل عمله مسترسلا على ذلك في عواصم المغرب مدة حياته فرفع بهذا العمل المفيد للعلم راية وأفاد المعارف خدمة جليلة.
ثم لما توفى جده المذكور وبويع لوالده ازدادت عنايته به ومثابرته على تعليمه ما يستحق به أن يكون أولى بنيه بولاية عهده، إلى أن ظهرت عليه ملامح النجابة والقيام بالمأمورية فاصطفى له من أعيان نبهاء الدولة وساستها ومهرة العلماء وقاداتها وعقد له على راية من صناديد الجيش الذين حنكتهم التجارب وتدربوا على الكر والفر ووجهه لقبائل الجبال من بربر نتيفة ومن جاروهم وكان على شاكلتهم من الانحراف عن الجادة، ولعرب السهل والسراغنة وبنى مسكين لما كان حصل في نظامهم من الثلم والخلل، وذلك عام ثمانية وسبعين ومائتين وألف.
فقام بمأموريته أتم قيام وبرهن على نجدته وحسن إرادته وصدق فراسة والده فيه وأصلح ما كان اختل من النظام وبث روح الطاعة والخضوع لسطوة المخزن في قلوب تلك القبائل الشاردة، ورجع منصور الراية وهو إذ ذاك يسحب ذيول مطارف الشباب في سن يقضى عادة باستحالة ولوج ذلك الباب.
ولما قرت عين والده بأوبته ظافرا مصحوبا بسوابغ الآلاء والنعم واتضح له صدق فراسته فيه أخذ يدبر في عقد راية أخرى له أوفر من الأولى تنشيطا له وإظهارًا لترقيه، واعترفا بكفاءته، فعقد له عام ثمانين ومائتين وألف على جيش بقصد تمهيد قبائل قطر سوس الأقصى، وسياسة من دنا من تلك القبائل ومن استقصى، واختار له من صالحى العمال ومخلصيهم من يصلح لرفقته ويليق بديوانه، ومن العلماء صادق اللهجة والمقال العلامة أبا الحسن على المسفيوى، والنحوى البارع لطيف المذاكرة والمنادمة والمسامرة السيد محمد بن عزوز الرباطى، واستوزر معه الفقيه الكاتب الهين اللين المهذب السيد محمد بن دانى، ووجهه للقطر المذكور فتوجه والعناية تقدمه، والسعادة تخدمه إلى أن بلغ أقصى سوس ودوخ قبائله التي مضى عليها زمن طويل وهى معطلة من حلى طاعة الأمراء والسلاطين وأظهر من السياسة والدَّهَاء واللياقة ما سد عنه أبواب العتاب، ووحد وجهة والده إلى إيثاره بولاية عهده رغما على كل وسيلة كان يتوسل بها غيره إلى نيل تلك الولاية.
وكان في حركته تلك بلغ وادى ماسة بل جاوزه ثم ثنى عنان عزمه لباقى بلاد سوس مثل هشتوكة وهوارة وراس الوادى فدوخها ومهدها، واستخلص واجب بيت المال المرتب في ذممهم.
ثم ولى وجهه إلى الحضرة المراكشية ومر في طريقه على عمه المولى عبد القادر الذى كان مخيما بوادى القيهرة لاستخلاص ما توفر بذمم مزوضة ودويران وسكساوة ونتيفة ومتوكة وأولاد أبى السباع.
ولما وصل أرجاء الحضرة المراكشية أمر والده الجيوش والأعيان للخروج لملاقاته، وكان يوم دخوله من الأيام المشهودة، وكانت مدة غيبته في هذه الحركة عشرة أشهر.
وبعد مقدمه بأيام قلائل نهض والده من مراكش ووجهته الديار الغربية لتفقد أحوال الرعية بها، فاستخلف المترجم بالعاصمة المراكشية فكان في ذلك إعطاء القوس باريها، وأبان صاحب الترجمة في ولايته عن كفاءته وحسن تدبيره وقيامه بالإدارة فيما أسند إليه النظر فيه من أمور النواحى الحورية، وربما كان يقابله بالشدة في موضع اللين والإعراض في محل الإقبال، إيقاظا له وإنهاضا لهمته وعروجا به عن الوقوف دون ما يراد به، وربما كان يعاتبه أشد عتاب ولسان حاله يقول:
أدعو عليك وقلبى
…
يقول يارب لا لا
وكان عامل حاجة ولد أبهى ظهر له من السلطان سيدى محمد قبول وإقبال حمله على التصريح بأنه المعتمد في تلك الجهات الحوزية، وأنه لا دخول له تحت ولاية وخلافة المترجم، فكان من قدر الله أن قامت عليه إيالته، ومدت يد النهب والتخريب إلى داره حتى اضطر إلى الاستنجاد بصاحب الترجمة فأنجده حتى أفلت، وقدم على السلطان سيدى محمد لفاس وجعل يلوح إلى أن ما حل به هو بتدبير المترجم، فلم يلق السلطان إليه بالا لتمكن مكانة ولده لديه، بل وجه العامل المذكور مستخدما في حنطة أصحاب الفراش المعينين لصاحب الترجمة.
وكان باشا مراكش القائد أحمد بن داود يستشعر من الأثرة والثقة لدى السلطان ما أداه إلى عدم المبالاة بالخليفة المترجم، فقضى الله عليه، أن خرج عنه أهل مراكش وهمّوا بقتله ونهب داره، ونصبوا أحد أولاد ابن عامر بمحله فقام المترجم بنصرته والذب عن نفسه وداره.
فكتب ابن داود إلى السلطان بما يفتضى إغراء صاحب الترجمة لأهل مراكش على ما فعلوه فقابل وشايته بالرد وفند زعمه وبرأ ساحة ولده المترجم من تلك الوصمة، ونهض من فاس إلى مراكش مصممًا على تأديب أهل مراكش وأخذ ثأر العامل منهم، ولما حل بمراكش عزم على تنفيذ ما هم به لهم فوقعت الشفاعة فيهم فقبلها على استثناء أفراد ممن قاموا بتلك الثورة.
وبعد مدة يسيرة أنهض ولده المترجم للحركة إلى البلاد السوسية ليستوفى ما وظف على أهلها من الأموال، واستوزر له الفقيه أبا عبد الله محمد المفضل غريط الذى صار صدرًا أعظم في الدولة العزيزية.
ثم في السادس والعشرين من ذى الحجة عام ثلاثة وثمانين ومائتين وألف عقد له راية متسعة الأكناف ووجهه لبلاد تادلة وجوارها من قبيلة الشاوية، ووالده إذ ذاك مقيم بالديار الغربية.
ولما دوخ المترجم تلك النواحى وساسها وأسس نظامها وحسن أحوالها، أوقع القبض على القائد أحمد الفكاك أحد قواد الشاوية وخليفته أخيه زويويل لسوء سيرته واضطراب أمره واختلاطه، وولى مكانه القائد محمد بن العربى المعروفى، ولم يزل مقيما بدار الفكاك المذكور حتى لحق به والده السلطان بها، ثم نهضا معا وكل بمحلته إلى أن وصلا للحضرة المراكشية وذلك بعد استقامة كل معوج من الرعية في تلك الطريق، وصلحت الأحوال واستخلص الواجب المعين كما يجب.
ولما جاوز الركاب السلطانى بلاد تادلا بدا له أن يولى عمالة مراكش خديمه الطالب أحمد بن داود فوجه له عقد ولايته قبل وصوله لتلك الحاضرة، وذلك بإشارة من حاجبه الناصح الضابط أبى عمران موسى بن أحمد، ورفيقه أبى محمد عبد السلام البقالى.
ولما حل السلطان بعاصمة مراكش وفرغ من مقابلة وفود التهنئة بسلامة القدوم، وانسلخ شهر رمضان، وانتهت حفلة إقامة سنة عيد الفطر، أمر جميع الواردين عَلَى عَلِى جنابه من العمال والقبائل وأعيان الرعية بالإقامة لحضور وليمة عرس فلذة كبده وقرة عينه وخليفته ولده المترجم، ثم أقام لذلك أفراحا وولائم أفيضت فيها أنواع الإكرام الضافية على سائر الطبقات، ووسع فيها على الأرامل والأيتام والضعفاء.
وكان ابتداء الشروع في تلك الأفراح في واحد وعشرين من شوال عام أربعة وثمانين ومائتين وألف، وتفيأ بظلالها الظليلة جمع غفير من الأشراف والموالى، واندمجت أعراسهم في سلك متسع أكنافها، وزينت لاتخاذ تلك الولائم حدائق أجدال، وزينت بساتينه وفرشت بالزرابى المبثوثة، والنمارق المصفوفة، وأبيحت للدخول، فأتى الناس إليها أفواجا، ورتبت المراتب في الجلوس، وانضاف كل جنس إلى جنسه وامتدت أفراح تلك الوليمة سبعة أيام بلياليها.
ثم في الخامس عشر من ربيع النبوى سنة تسع وثمانين ومائتين وألف عقد له والده على راية أخرى، وأمره بالتوجه لناحية قبائل تادلا والشاوية فنهض في اليوم المذكور وسار إلى أن خيم بالمحل المشهور بصخرة الدجاجة وأقام ثم نحوا من ستة أشهر.
وبعد استيفاء الغرض المقصود من تلك المأمورية وتوطيد الأمن وحسم مادة البغى والعدوان بتلك الجهات، أمره والده بالنهوض واللحوق به بالمحل المعروف بطالع كرماط، ولما لحقت جنوده بجنود والده وقص عليه جميع ما راج في رحلته المذكورة سُرّ واستبشر، ودعا له بمزيد التوفيق والتسديد، وأمره بالتوجه للحضره المراكشية فسمع وأطاع، ونهض والسعادة تقدمه.
واقتفى أثره والده فصار كلما رحل المترجم من محل نزل به والده إلى أن
نزل الجيشان على رأس الغابة بين قبائل زعير وأولاد محمد من الشاوية، ثم نهضا إلى المحل المعروف بالكيسان، ثم إلى محل تخييم المترجم أولا، وذلك ما قدمنا من تقدم المترجم في جنوده أمام والده.
وفى يوم الجمعة ثالث جمادى الثانية من العام ثارت فتنة بين أهل مراكش وعاملهم أبى العباس بن داود المذكور، بسبب مد أصحابه يد العداء في بعض الخرازين، فقام الدباغون في وجه الشرطيين وكثر الهرج والمرج، واتقدت نيران الفتن بينهما واجتمع الغوغاء ومن في قلبه مرض من طاعة المخزن وانضم إلى صعاليك الدباغين، واجتمع الأعيان والعلماء وأهل المروءة والفضل للمفاوضة في كيفية التوصل لتسكين الهيعة وتطمين البلاد، وتخيروا وجه الخلاص ثم توجهوا بأجمعهم لأبواب القصور السلطانية لاستشارة من بالمنشية من العمال والخلائف لغيبة السلطان وخليفته المترجم، فاتفق رأيهم بعد أخْذِ وَرَدّ على أن تلك الفتنة لا تنحسم مادتها إلا بإلزام العامل المكث بقعر بيته وعدم العود للمداخلة في شئ من الأشياء إلى أن يقدم السلطان.
ولما اتصل هذا الخبر بالأمير ساءه وأسره في نفسه وتمادى على ما هو بصدده من رتق ما انفتق من أمور الرعية وتأديب من يستحق التأديب ممن عتا وسعى في الأرض الفساد مثل بنى محمد وبنى زمور.
ولما مهد البلاد، وكسر شوكة أهل العناد، نهضت المحلتان لدار ولد الراضى ثم للوادى المعروف بالزم ثم لعين القصب بابى جعد وخيمتا هنالك نحوا من خمسة عشر يوما، ثم رحلتا لقصبة تادلة بآيت الربع ثم للزيدانية ثم لبنى موسى ثم لوادى داى ثم دار بوزكرى العميرى فدار القائد الغزوانى ببنى موسى ثم لوادى العبيد فالدشرة فتاستاوت فالقاطر قرب أولاد محمد الصغير بالسراغنة فتملالت فزواية ابن ساسى بشاطئى وادى تنسيفت، وذلك يوم السبت متم شعبان العام
وهنالك خرج أهل مراكش بأشرافهم وأهل رواياهم وطوائفهم وصبيانهم بألواحهم متشفعين، وفى العفو عما أجرموه راغبين وتفرق الباقون من أهل مراكش في الحدائق والجنات المكتنفة بنهج مرور السلطان للمطارحة على وجه الصعيد أمامه طلبا لعفوه ورضاه.
ثم إن بعض الأوباش ومن لا خلاق له تعرض للعامل المذكور وشهروا السلاح في وجهه ومنعوه من الخروج للقى السلطان، فاتصل بالسلطان ذلك الخبر فثار غضبه وتحفز للوثبة عليهم وأمر بالاستعداد لذلك، فلجأ القوم بأخبية العلامة مولاى العباس ليتدارك الأمر قبل إنتاجه، فانشال عن صهوة فرسه وقبل الأرض أمامه ولم يزل يستعطفه إلى أن سكن غضبه وعفا وصفح وسامح.
ثم في ثامن عشر ربيع النبوى عام تسعين ومائتين وألف عقد لصاحب الترجمة على جيش عرمرم أكبر من الجيوش والرايات التي قبله، ووجهه لقبائل حاحة لرتق ما فتقوا وجمع ما فرقوا لهجومهم على عاملهم وهمهم بالإيقاع به حتى خلص ناجيا بنفسه وعياله، وهو إذ ذاك القائد محمد ولد الحاج عبد الله أبهى، وبقيت القبيلة المذكورة فوضى لا رئيس لها، ولم يزل المترجم يعالج أمرهم طبق ما تقتضيه الظروف من شدة ولين إلى أن انقادوا كلهم ودخلوا في سلك الطاعة أفواجا، كذا في البستان الجامع لكل نوع حسن.
ثم إن السلطان عراه انحراف في مزاجه إلا أنه لم يمنعه من التحرك ومباشرة الأشغال، ثم إنه تناول أكل شئ من التين الرطب ولبن النوق فألم به بسبب ذلك ألم حاد، ألجأه إلى استعمال المسهل فلم ينجع، فكرره فأصابه خفقان مترادف وكان ذلك يوم الاثنين خامس عشر رجب عام تسعين، وبقى الألم بحاله ولكنه لم يمنعه عن الخروج ومباشرة الأشغال بنفسه، ولما كان زوال يوم الخميس دخل للغرفة المعدة للآلات التوقيتية فختمت بها أنفاسه.
ولما أنذر بذلك حاجبه موسى بن أحمد دخل عليه، ولما تيقن موته خرج كئيبا حزينا واستحضر أخاه العلاف الكبير السيد عبد الله بن أحمد، وخليفته السيد محمد الجامعى، والوزير الصدر إدريس بو عشرين، والسيد عبد السلام البقالى وأخبرهم بوفاة السلطان.
فوقع اتفاقهم على جمع الكبراء والأعيان من الشرفاء والقواد للمذاكرة في مبايعة من يقوم بأمر المسلمين.
ولما اجتمعت جموعهم بادر عامل الرحامنة المكين المكانة لدى السلطان المتوفى والمسمى عنده بشيخ العمال والمستشار لديه في مهمات الأمور، فصرح بمبايعة المترجم، وقال مسمعا لما استروح الخلاف: أنا أنصره على سكينى، ثم قام بعده عم المترجم وصهره العلامة مولانا العباس بن عبد الرحمن، وأبو عبد الله الجامعى المذكور مصرحين بما صرح به العامل المذكور، فلم يبق محل للنزاع وانعقدت البيعة لصاحب الترجمة وكان الذى تولى كتابتها أولا بخطه مولانا العباس المذكور ثم وضع من حضر من العلماء شهادتهم بذلك وشهد العدول على غيرهم وأدَّوا شهادتهم بذلك لدى القاضى.
ثم كتب للمترجم عمه مولانا العباس المذكور وكذا المذكورون معه بوفاة والده، وانعقاد البيعة له، كما كتب له بذلك بقية الرؤساء معزين ومهنئين ومستقدمين له، وقفت على جواب صاحب الترجمة لعمه المولى العباس عما ذكر ودونك لفظه:
"الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، عمنا الأعز الأجل الأفضل مولانا العباس حفظ الله مجادة عمنا وسلام عليه ورحمة الله.
وبعد: وافانا كتاب عمنا معزيا لنا في سيدنا الوالد رحمه الله، ومنبئا بما حل بعمنا من فراقه وفقده فوالله لقد عظم علينا المصاب وجرعنا الرزء أمرّ من العلقم
[صورة]
كتاب السلطان مولاى الحسن لعمه مولاى العباس
والصاب، حتى بكينا نارًا ودما، وتمنينا مكان وجودنا عدما وأظلمت علينا الدنيا، فصرنا حيارى لا نميز العدوة القصوى من الدنيا، وفى سبيل الله، وإنا لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونسأل الله العظيم، البر الكريم أن يحفظنا في عمنا ويجازيه عنا وعن المسلمين عن وقوفه وذبه وحمايته، وحسن قيامه ومدافعته، وعدم تقصيره قولا وفعلا ومداهنته ومصانعته فوق ما كنا نظن بعمنا بدرجات، ولقد والله كنا نعرف هذا قبل في عمنا ونتلمحه، لكن ليس كاليوم، وما راءٍ كمن سمع، فمن حق اليقين إلى عين اليقين.
ومن أعظم نعم الله علينا ومننه لدينا وجودك في ذلك المقام وهو والله من عجيب صنع الله، ومن أسباب السعادة بفضل الله، وهذا كله إنما ذكرناه لكى يعلم مولانا العم بلوغه إلينا، وإلا فلا منة، لأننا ذات واحدة، ونفس متحدة من ولاه الله منا يغطى الجميع بكنفه ولا يفوت سواه إلا بحمل الكلفة والكل، وسيدنا العم والحمد لله صنو لا يخفى على من تأمل.
والحاصل أن الفقيه السيد موسى وأخاه الحاج عبد الله قد شرحوا لنا ذلك وبينوه بيانا لا مزيد عليه، بحيث لو تصدينا لاستيعابه لما وسعه هذا الكتاب ولا مثله معه، وحيث تجتمع بحول الله نطالعك به وليدع عمنا معنا في كل لحظة ولا يقصر في كل شئ شئ مما يعرض أو يعن أو يقتضيه المقام، فأنت بصيرتنا، شد الله بك أزرنا، وشيد بك أمرنا، وأبقاك لنا وحفظنا فيك، فأى رجل مثلك لنا هيهات هيهات، ونسلم على أعمامنا كلهم مولاى عمر، ومولاى على حفظهم الله، ونُبْ عنا في تعزيتهم وتصبيرهم عوضا منا، ففيك حفظك الله تمام الكفاية وعلى الأخوة والسلام في 24 رجب عام 1290 حسن أمير المؤمنين".
وأدبا مع عمه المجاب وتنازلا لمقام عمومته لم يضع علامته باعلى الكتاب، وإنما وضعها أسفل، وزاد في مواضع من الكتاب بخطه لفظ مولاى ومولانا.
وقد جزع المترجم جزعا شديدا لما بلغه نعى والده، ولما اتصلت به المكاتب الحاملة لذلك النبإ المحزن أحضر وزيره إذ ذاك أبا عبد الله غريط، وأطلعه على تلك المكاتب، ثم أحضر قائد مشوره إدريس بن العلام، وأمره بجمع كبراء المحلة وقوادها، وأمر الوزير بقراءتها عليهم، ولما قرئت عليهم أسفوا لموت السلطان الفقيد، وابتهجوا بنصر المترجم وأعلنوا ببيعته وأطلقت بالمحلة الطلقات المدفعية.
ونهض المبايع له إلى مراكش، ولما شارفها وجد الوزراء والرؤساء والقواد والأعيان والجيوش المخزنية مستقبلين جنابه الشريف بالآلة الملوكية والخصائص السلطانية والشارة الحسنة، فدخل مراكش صبيحة يوم السبت سابع عشرى رجب واستقر على عرش ملكه، ووردت عليه الوفود والبيعات من كل ناحية.
وفى ثانى شعبان بويع المترجم بطنجة ونواحيها ووجهت المكاتب لتطوان معلمين لهم بوقوع البيعة والأمر بالدخول في زمرة إخوانهم المسلمين حسبما وقفت على التصريح بذلك في كتاب من الحاج محمد بركاش، لموسى بن أحمد الحاجب السلطانى.
وفى يوم الأحد ثامن عشرى رجب تحقق بفاس خبر وفاة السلطان سيدى محمد والبيعة لنجله وخليفته صاحب الترجمة، فاجتمع العلماء والأشراف والوجهاء والأعيان وعامل البلد السيد إدريس بن عبد القادر السراج، بين العشاءين بدار عديل الشهيرة بحومة الأمعادى، واعلنوا بنصر المترجم.
ونودى بذلك بالأسواق والطرقات والحومات وبالاجتماع ضحوة غده الذى هو يوم الاثنين بمسجد أبى الجنود لكتب البيعة به وفق العادة المقررة في ذلك، ولما
أصبح الصباح هرع الناس للمسجد المذكور فرادى وأزواجا، ولم يتخلف أحد من أهل الحل والعقد وأولى العصبة، وأتى الخليفة السلطانى صنو المترجم مولاى إسماعيل للمسجد المذكور وفى معيته أعيان الجند وذوو الوجاهة ممن بفاس الجديد على اختلاف الطبقات.
ثم فتحت مقصورة المسجد للخليفة والقاضى وأعيان العلماء والعدول وصاروا يدعون طوائف الناس لوضع خطوطهم بالموافقة على البيعة للمترجم طائفة بعد طائفة، الأشراف أولا، ثم العلماء، ثم الأعيان، ثم القواد والرؤساء، ووقع الإشهاد على الجميع بالبيعة للمترجم على المنشط والمكره والسمع والطاعة.
وكان أول من وقع الإشهاد عليه بذلك الخليفة المذكور، ثم الفقيه العلامة مولاى إدريس بن عبد الهادى، ثم عم المترجم مولانا عبد القادر.
وفى يوم الأربعاء مهل شعبان وردت جميع القبائل المجاورة لفاس التابعة له وأدوا بيعتهم كما يجب، ووقع الإشهاد عليهم وطير الإعلام لصاحب الترجمة، ووجهت له المكاتب بذلك.
وبويع له بمكناس ونواحيه ووجهت لحضرته السلطانية كتب البيعات وقصائد التهانى. فمن ذلك قصيدة تهنئة وتعزية للفقيه الأديب السيد العربى بن على المشرفى الفاسى وهى:
ضحكنا سرورا بعد ما عمنا الحزن
…
وخفنا وعن قرب تداركنا أمن
سرور وحزن دفعة قد تواردا
…
كصيحة رعد بعدها قد هما مزن
نرد هجوم الروع والقلب فارح
…
كمن يتدلى بالثمار له غصن
مزجنا بماء الأنس خمرة حزننا
…
وأتلفها الساقى فليس لها عين
لئن فل سيف الحق قد سل بعده
…
حسام رقاب الجاحدين له جفن
وإن غاب نجم لاح في الأفق بعده
…
ببرج سعيد نجم سعد به يمن
وإن حل تحت الترب عنتر حربنا
…
فذا شبله من دأبه الضرب والطعن
لقد كاد ليل الحزن ينشر جنحه
…
علينا ولكن ما استقام له كون
بكينا ولكن ما استتم بكاؤنا
…
إلى أن ضحكنا ليس بينهما بون
فما هو إلا أن عبسنا وجاءنا
…
بشير له بشر فقرت به العين
أنخشى وفينا من نؤم خليفة
…
هو الحسن المرضى والنجل والابن
إذا خر ركن الملك فهو يعيده
…
ويحميه حتى لا يطوف به وهن
تعز أمولانا الإمام كذا القضا
…
يسر ويبكى لا يدوم له شأن
وأنت بحمد الله مالك ملكنا
…
ومن ربنا لا شك يصحبك العون
ولا زلت في نصر وعز عناية
…
تصوغ مزايا ما وعت مثلها أذن
وخذ من نفيس الدر عقدا منضدا
…
على شعراء الوقت يبقى به دين
وقول العدل الرضى العلامة السيد الطاهر بوحدو المكناسى ودونك لفظها:
سعد الزمان وساعدت
…
أيامه فلك البشائر
والجيد منه قد تحـ
…
ـلى بالعقود من المفاخر
ظهرت بواهر من حسا
…
ن بالعقود من الجواهر
وتبسمت منه الثنا
…
يا فأذهبت كرب الخواطر
وأريض روض قام في
…
أغصانه ميمون طائر
فالعجب من ورق صغت
…
لخطيب ورق في المنابر
فتمايلت طربا لوعـ
…
ـد صح نقلا في الدفاتر
بطلوع شمس المجد في
…
أفق العود إلى النواظر
يهدى سناها في سما
…
ء سنائها من كان حائر
حسنينا (الحسن) الحلا
…
المحسن السير المآثر
فإلى مسماه الإشا
…
رة باسمه (الحسن) المظاهر
ملك تملك من سياسـ
…
ته الممالك والحرائر
وعنت له منها وجو
…
هـ بالبواطن والظواهر
لجلاله دانت رقا
…
ب الخلق وهى له صواغر
وعلى محبته انطوت
…
منها مضامر الضمائر
نجل الملوك المالكيـ
…
ـن أرمة المجد الأكابر
ما منهم ملك مضى
…
إلا أتى ملك يفاخر
بحر الندى والعلم ها
…
آثاره كحل البصائر
طود منيف سيد
…
ملك عزيز النفس طاهر
في وجهه نور الهدى
…
وبكفه نور الأزاهر
سامى الذرى حامى الورى
…
من كل سوء بل وضائر
تخشى لسطوته أسو
…
د الغاب بالبيض البواتر
للوائه نشر تضـ
…
ـمن في الوغى نصر العساكر
من كفه هامى الموا
…
هب وَاكِف مثل المواطر
وهاب طلاب الحبا
…
ما ليس يخطر بالخواطر
ما حاتم جودا على
…
إسداء نائله بقادر
من رام طاعة ربه
…
فركن طاعته يبادر
فهو للإله خليفة
…
في أرضه قطب الدوائر
والطرق منه أمنت
…
من طارق فيها وثائر
ومجدد للدين يبـ
…
ـدو في البوادى والحواضر
ابن الرسول المجتبى
…
خير الأوائل والأواخر
فبجاهه صلى عليـ
…
ـه الله والآل الطواهر
خلد له نصرا عزيـ
…
ـزا ظاهرا يا خير ناصر
وأدم علاه لآمل
…
فيئول بالمأمول ظافر
وقول أبي عبد الله محمد بن المعطى المزطارى المكناسى
خبرت بنصركم النجوم الطلع
…
وعنت لمجدكم الجهات الأربع
واستبشرت هذى الديار بنصركم
…
وجرت بعرف جمالكم تتضوع
وأمدكم رب العلا بفضيلة
…
ملأ البسيطة نورها المتشعشع
وعليكم فتح مبين ناشر
…
رايات عز ما حواها تبع
إن كنت في الهيجا فأنت غضنفر
…
أسد تذل له الملوك وتخضع
تروى رماحك من نحور عداكم
…
فترى القناة مع الأسنة تلمع
وترى الخيول كما اشتهاه في الوغى
…
هذا يجئ بذا وهذا يصرع
فالعز في نصب الخيام عليهم
…
والنصر يأتى وجهه لك يسطع
يا أيها البطل الذى لبس التقى
…
درعا يدوم لباسها لا يخلع
يا نبعة الشرف الذى بهر الورى
…
عدلا وذاك غريزة لا تصنع
يا ابن الأعزة يا خلاصة هاشم
…
يا درة الحسب الذى هو أرفع
يا ابن الملوك الطاهرين وحرزهم
…
وسلالة المجد الذى لا يدفع
يا ابن الرسول وموضع الكرم الذى
…
وسع الأنام فبذله لا يقطع
إن قيل من ساد الملوك برفعة
…
فإليك يا حسن تشير الإصبع
أخليفة الله المتوج بالرضا
…
يهنيك نصر بالسعادة يشفع
ألفت سجاياك المروءة والندى
…
وحلا لبانهما بثدى يرضع
نظمت جواهر عقد فخركم على
…
نحر الصدور وحقكم لا تنزع
يا مالكا متبسما لسؤاله
…
يقرى نوالا عاجلا لا يمنع
يغشاكم نور النبى فجبينكم
…
من حسن نور محمد يتضلع
لم لا وقد ظهرت مخايل فضلكم
…
ونشأت في أمر المهيمن تسرع
وأخذت في كل العلوم مجاهدا
…
بعزيمة ما مثلها يتوقع
حتى وصلت وكنت فيها مقدما
…
علم الحديث من جنابك يسمع
وحويت من غر اللغات أجلها
…
علم القريض زمامه لك أطوع
هيهات فضل الله عمكم فلا
…
أحد يساويكم بذا أو يطمع
لكم المزايا والمواهب جملة
…
وإليكم أمر الخليفة يرجع
خذها أمير المؤمنين خريدة
…
تختال في حلل الجمال وترتع
وإليكها يا خير من حاز العلا
…
كالروض يسقيه السحاب فيربع
أمسيت مسرورا وهأنا ناشر
…
خبرت بنصركم النجوم الطلع
إلى غير هذا مما لو تتبعناه لجاء في مجلد.
ثم لما تم أمر البيعة واطمأنت النفوس بطلعته، تاقت همته الأبية إلى التجول في أقطار البلاد والنظر في أحوال الرعية وتوطيد الأمن وقطع جرثومة البغى والتمرد، نهض من مراكش يوم الاثنين رابع رمضان وكانت مدة مقامه بها شهراً واحدًا وستة أيام، ووالى الأسفار لهذا المقصد الحميد بنجدة وجدة وحزم وعزم، ولم يزل يوالى الحركات والتجول بتوالى السنين والأعوام منذ جلس على أريكة ملك أبيه وأجداده إلى أن قبضه الله إليه.
وكان إذا أراد الشروع في التأهب للنهوض للحركة يصدر أمره أولا للأمين بالشروع في صنع الخزائن والراويات والبراع ثم لأَمِينَىْ مستفاد آزمور الدار البيضاء بتوجيه العدد اللازم من قروش المجال وقدره ألف وخمسائة قرش، ومثل ذلك من الشواريات، ثم لعمال الديارة بتوجيه ألف تليس، وأخذ ما لجانب المخزن تحت يد القبائل من الخيل والبغال والإبل وبيان ما يقع عليه توقف من الأنواع الثلاثة للتفريق فيقسط على أولئك العمال، ويؤمر كل منهم بتوجيه ما قسط عليه في التاريخ الذى يعين لهم بعد تعويض الضائع، وإبدال الراك ثم للعمال كافة بالتأهب للحركة والكون على بال من النهوض مهما أمروا به.
ثم يخرج أفراك وتضرب به الأخبية السلطانية، ثم يؤمر عمال الحوز بالقدوم للحركة للربط بالمحل الذى يعين لهم، وبعد ذلك يؤمر عمال الحور بالقدوم للحركة للربط مع أفراك، حيث يقرب نهوض الجناب السلطانى ثم يؤمر كبراء الأحناطى بالإتيان بتقاييد ما يخصهم من ضروريات عملهم وشغلهم فتدفع تلك التقاييد لأمين الصائر، ويؤمر بقضاء جميع ما فيها، ودفع ما لكل حنطة لكبيرها، ثم تكتب المكاتب بتيسير المئونة للمحلة في الطريق التي يكون المرور عليها، ثم يؤمر أمناء مرسى العدوتين باشتراء عدد من التبن والشعير ووضعهما تحت يدهم بقصد دواب المحلة.
ويؤمر محتسب الرباط بالشروع في طحن عدد من القمح وادخاره تحت يده، فإن احتيج إليه وجد ميسرًا، وإن كان للجناب السلطانى غرض في قبيلة من القبائل التي يكون المرور عليها أو معهم كلام في واجب ونحوه، فتتقدم إليها سرية من الجند والعسكر وبعض القبائل صحبة أحد من أصناء المترجم في محلة للشروع في مباشرة الغرض المولوى معهم، وإن كان الكلام بموضعين فتتقدم إليهما محلتان وحيث يصل إليهم صاحب الترجمة بجنوده الجرارة فتكون تلك المحلة تتقدم أمامه بمرحلة أو مرحلتين كالطالعة للجنود المولوية المنصورة، وغالبا يرشح أبو عبد الله محمد الأمرانى للغرب، بقصد تفقد أحوال البرابر أولا، ثم تجتمع عليه قبائل الغرب بحركتهم وينهض معهم للتخييم بالرباط إلى أن يؤمروا بما يقتضيه النظر السلطانى السديد من تقدم لملاقاته، أو مكث بمحلهم حتى يصل إليهم ركابه الشريف.
هكذا كان نظام سائر حركاته ودونكها على الترتيب حسبما بكناشتى ميقاتييه الشهيرين المهندس الميقاتى الكبير أبي العباس أحمد بن الشادلى البخارى المكناسى، وأبى عبد الله محمد بن بو سلهام الخلطى الأصل المكناسى النشأة والدار والإقبار اللذين كانا يرافقانه في أسفاره كلها، ويتقدمان أمامه لضبط المراحل وتقدير مدة السير في كل مرحلة بغاية التحقيق والتدقيق بالسوائع والدقائق، ومن خطيهما نقلت جل ما أُثبته في هذا الموضوع، لأنهما أضبط من غيرهما وأتقن لمباشرتهما ذلك بأنفسهما ومشاهدتهما له بأعينهما، وما راءٍ كمن سمع، ولذلك ترانى ربما خالفت ما جاء في الاستقصا.
الحركة الأولى من مراكش إلى فاس عام 1290:
كان نهوضه من مراكش يوم الاثنين رابع رمضان عام 1290، ولما عزم على النهوض استخلف أخاه الأنجد المولى عثمان وعضده بباشا قصبة المنشية من الحضرة المراكشية أحمد بن مالك السوسى وباشا المدينة محمد بن داود المراكشى.
ولما أوقع الرحيل كتب لعامل فاس أبي العلاء إدريس السراج معلما له بمبارحة الأسمى الحضرة المراكشية، ومبينا مراحل الطريق التي رام المرور عليها، ودونك لفظه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكريم:
"خديمنا الأرضى الطالب إدريس السراج، أعانك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فإنا قد كنا قفلنا من حركتنا السعيدة بحاحا وحللنا هذه الحضرة المراكشية المحروسة بالله حلول يمن وظفر وسعادة، كان المراد إذ ذاك أن ننهض في محلتنا المنصورة وجيوشنا الموفورة لناحية الغرب من غير مهلة، ثم اقتضت المصلحة المكث في هذه الحضرة أياما لترتيب أمورها، وإصلاح شئونها، وتسكين قبائلها، واستقرار كل أمر في مركزه حتى يبقى جميع ذلك على أحسن ما يراد وينبغى بحول الله، وقد يسر الله جميع ما نويناه ورتبنا جميع ما ذكر بحمد الله، وعلى قواعد الجد والحزم بحمد الله بنيناه، ووجهنا حينئذ بعون الله الوجهة لناحية الغرب، ونهضنا بحول الله ومنته. وطوله وقوته. يوم تاريخه معتمدين على ما دعونا الله من تيسيره وتأييده. ونصره وتسديده. وخيمنا بمحلتنا السعيدة بزاوية ابن ساسى والأحوال بحمد الله صالحة. ونعم الله غادية ورائحة.
ونيتنا إن شاء الله المرور على الطريق التي ورد عليها سيدنا الوالد قدسه الله هذه المرة الأخيرة على طريق تادلا، ومنها لورديغة، ثم بنى زمور، ثم السماعلة، ومنها لزعير ومنها بحول الله لزمور، ومنها لمكناس إن شاء الله بحوله وقوته، وأعلمناكم لتشكروا نعمة المولى. وتشاركوا في حمده جل وعلا. على ما أسدى وأولى. وهو المسئول بنبيه صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم. أن ييسر جميع الأمور. في الورود والصدور. آمين والسلام في رابع رمضان المعظم عام تسعين ومائتين وألف".
ثم بدا له لما بارح مراكش المرور على غير الطريق التي عين في هذا المسطور الفخيم لأمور، منها: أن الزمان كان زمن برد وشتاء يصعب بسبب ذلك سلوك ذلك السبيل مع قلة التبن والشعير لعلف الدواب في ذلك الإبان (1) بتلك القبائل.
ومنها تطارح عمال الشاوية وأعيانهم على أعتابه الطاهرة، راغبين في مرور جنابه الشريف ببلادهم لأمور سياسية ومصالح عامة النفع.
ومنها: طلب القائد الغزوانى الموسوى عدم مرور الركاب العالى ببلادهم لكونه رجا إصلاح إخوانه الذين خرجوا عليه بحسن السياسة ومرور المحلة ببلادهم تروعهم وتشردهم وتنفرهم، فتبطل طريق السياسة التي سلك معهم ويحتاج الأمر إلى إرغامهم للرجوع للجادة وذلك يؤدى إلى ضياع أموال ونفوس، فرأى أن المصلحة في إسعاف رغبة الجميع وجبر خواطرهم، حسبما وقفت على ذلك كله في ظهير مولوى أصدره المترجم للسراج المذكور بتاريخ 14 رمضان المذكور، فسار من مراكش لقبيلة السراغنة، ثم البروج، ثم كيسر من بلاد تامسنا، وهنالك اتصل به خبر ثورة الغوغاء من أجلاف رعاع أهل فاس الدباغين على أمين المستفاد بها أبي عبد الله محمد بن المدنى بنيس ونهبهم لداره وأمتعته وهمهم بقتله لولا أن الله عصمه منهم بالاختفاء عنهم في الحمام.
وذلك أنه لما تقررت بيعة المترجم بعاصمة فاس أُزيلت المكوس التي كانت موظفة على الأبواب والأسواق، ومن جملتها ما كان يؤدى إلى بيع الجلد، وكان الأمين المفوض في ذلك هو أبو عبد الله بنيس المذكور، وكانت له عند السلطان والد المترجم يَدٌ ومكانة مكينة لما اتصف به من رجحان العقل والإصابة في الرأى وعدم التداخل فيما لا يعنيه.
(1) إيّان الشئ: أوانه.
ثم في يوم الجمعة ثالث شعبان اجتمع بنيس الأمين ببعض من كان مرشحا لقبض الوجيبة المتحصلة من فندق بيع الجلد، وكان من أهل النسبة الطاهرة، فأظهر له الضعف وشدة الفاقة، واقترح عليه ترجيع المكس على سوق الجلد ليستعين بما كان يستفيده من الأجرة على ذلك، وأكثر الإلحاح وشدة الاضطرار، فرق له بنيس وواعده بالرجوع لذلك المحل في العاجل القريب.
ثم بعد مفارقة الشريف له استشار بنيس بعض أصدقائه وهو الشريف المفضال سيدى الفاطمى الإدريسى، وكان ذا إصابة في الرأى فحذره وأنذره وأشار عليه بإرجاء الطالب الملح إلى مقدم صاحب الترجمة، ولا تحدث نفسك بالإقدام على شئ ولو قل، فإن عاقبته محققة الضرر.
فتحقق صدق مقال المستشار وصمم على أن لا يفعل هذا، والطالب لم يزل مُجدًّا في الطلب مكثرًا في الإلحاح والترداد إلى أن واعده وعدًا غير مخلف، ونبذ التحذير والإنذار وراءه ظهريا {
…
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا
…
(44)} [الأنفال].
ولما سمع بذلك الدباغون توجهوا لعامل البلد السيد إدريس السراج، وقصوا عليه القصص، فأشار عليهم بالتوجه للقاضى الشريف العلامة مولاى محمد - فتحا - بن عبد الرحمن العلوى، فتوجهوا إليه وطلبوا منه أن يعين لهم من يقيد لهم بيع الجلد بالفندق فأمرهم بأن يختاروا لأنفسهم من يصلح لهم وهو ينفذه لهم، فاختاروا ستة بعد أن فاوض بعضهم البعض فيمن يصلح لذلك.
ولما علم بذلك بنيس توجه إلى القاضى المذكور، وسأله عن السبب في تعيين الطلبة للسوق المعدة لبيع الجلد، فأجابه بما ذكر، فقال له بنيس: إنى أريد أن أجعل نصف موزونة للمثقال تكون تؤدى عن البيع، فحذره وأنذره وذلك يوم الجمعة عاشر شعبان، فانتصح الأمين، والتزم أن لا يعود للكلام في هذا الأمر.
ثم إن الطالب الملح توجه للفندق من عندية نفسه وجلس ليقبض المكس فثار الغوغاء وسفلة الأخلاط من الدباغين وتجمهروا، وذهبوا لدار الأمين المذكور لعرض ما ذكر عليه وذلك يوم الأحد ثانى عشر شعبان من السنة، ولما وصلوا لباب داره وجدوا أحد عبيده جالسا هنالك فسألوه عن سيده بلهجة قوية وحالة مرعدة فسبهم وشتمهم وسد الباب في وجوههم ودخل الدار وأخرج مكحلة وأطلق عمارتها في الهواء ظنا منه أنهم ينزجرون بذلك وتتفرق جموعهم الفاسدة، فوجد النهاب السبيل لما أرادوا وتلاحق اللاحق بالسابق وتسلح القوم، واجتمع الغوغاء من كل حدب وصوب، وصمموا على الهجوم على الدار.
ولما كثر الهرج والمرج أتى بعض الجوار بسلاليم ونصبها وراء الدرب، وطلب من نساء بنيس أن يخرجن لداره خوفا عليهن من الفضيحة، وأوعز إليهن أن يصبحن معهن ما لهن من الحلى والمجوهرات والذخائر النفيسة الخفيفة الحمل الغالية الثمن، فأَبَيْنَ ذلك وامتنعن من الخروج، فما شعرن إلا وباب الدرب انفتح، وأبواب الدار تكسرت والضجيج بالغ حده ونيران الفتن تتقد فطلع النساء إذ ذاك للسطوح وألقين بأنفسهن لدور الجوار، ودخل النهاب الدار واستولوا على ما بها من النفائس والذخائر والأموال، واستأسدت الذئاب وفقد القوم الشعور، حتى صار المضروب لا يبالى بمن ضربه، ولا يلتفت المجروح لمن جرجه، وهاجت الفتنة بالمدينة وماج الناس بعضهم في بعض وخصوصًا بالقطانين والعقبة الزرقاء.
ولما اتصل الخير بقاضى الحضرة الفاسية المذكور ركب بغلته وقصد دار بنيس ظنا منه أن أولئك الغوغاء الأخساء يقيمون له وزنا وينصتون لمقاله، ولما وصل الدار لم يلتفت إليه أحد، ولا وقع بصره على من يعرفه وهو بوسط الدار يطوف على جموع تلك الطوائف الضالة الفاقدة للحياء والسمع والبصر، حتى كادت نفسه أن تتلف وهو يعظ ويذكر ويحذر وينذر، فلم يجد ذا أُذن واعية، ولا من له قلب يعقل به حتى غشى عليه من شدة الازدحام، وكاد أن يسقط على الأرض وتدوسه
الأجلاف بأقدامها، فحمله بعض من عرفه وأخرجه من الباب الضيقة المقابلة للحوانيت خوفا عليه، وذهب به إليه، إلى أن أوصله لحومة جرنيز، ولم يزل معه إلى أن أفاق من إغمائه، وتيقن أن هذا الخرق لا سبيل لرتقه، هذا كله وبنيس المذكور مختف بحمام ابن عباد بحومة القطانين حيث صادفه الحال يغتسل هنالك.
ولما اتصل بالخليفة السلطانى بفاس مولانا إسماعيل وهو بفاس الجديد، خبر هذه الفتنة المدلهمة، أرسل الباشا الحاج سعيد لإطفاء تلك النيران الموقدة، ويأتيه بالخبر اليقين، والسبب الداعى لإيقاد نيران هذه الفتن ليطير الإعلام بحقيقة الواقع لصاحب الترجمة، وعززه بلفيف من الجند المخزنى، فتوجه ودخل الدار بمن معه من أهل النجدة فلم يعبأ به أحد، ولم يرفع إليه رأس، ولما رأى أنه لا طاقة له بكف أذاهم رجع من حيث أتى ناجيا بنفسه.
ولما وقع الإتيان على ما كان بالدار من الأثاث والأمتعة بل حتى أوانى الخليع والسمن والزيت والدقيق وما أشبه ذلك، أتى عامل البلد الباشا إدريس السراج المذكور راكبا على بغلته، ولما وصل الدار ورام كف أولئك المتمردين باللين في القول لم يبال أحد بمقاله، وأعرضوا عنه إعراضا كليا، وتمادوا على فعلهم الذميم، ورجع الباشا وأعلم الخليفة بما شاهد.
ثم إن أولئك الأوباش لم يكتفوا بنهب الدار التي بالقطانين، بل عمدوا حتى للعرصة التي له بالدوح ونهبوا جميع ما بها، بل أزالوا حتى الأبواب والسراجب وجوائز السقف وخربوها وتركوها بلاقع في أقرب الأوقات وأقصرها.
ولما تم نهب الدارين، وهدأت الأصوات وتفرق معظم تلك الجموع، اجتمع بين العشاءين الشرفاء الأدراسة وغيرهم من الأعيان، وأتوا بنيس وأخرجوه من الحمام وجعلوه وسطهم كأنه واحد منهم وتوجهوا به للحرم الإدريسى، ولما حل به أدخله الشريف أبو حامد العربى الإدريسى لعلو له بزنقة الوادى، ولما اطمأن صار
الناس يفدون عليه يهنئونه بسلامة النفس من العطب، ويسلونه عما ضاع من مال ونشب.
وسمع بعض الحاضرين يتحدثون بأن سبب هذا الحادث هو عزمه على رد المكس بفندق الجلد، فحلف يمينا جمع فيها كل الأيمان الراجعة للبتات وغيره، إنه ما أذن في ذلك ولا عزم عليه بمحضر جمع من الأعيان والعلماء، منهم أبو العباس أحمد بن الحاج السلمى صاحب الدر المنتخب المستحسن، الملخصة هذه الواقعة منه وبقى بنيس بالعلو المذكور أياما ثم انتقل لمنار ضريح أبي العلاء. مولانا إدريس الأزهر.
ولما رفع للمترجم خبر هذا الحادث الجلل، عقد للقائد إدريس بن العلام على عشرين من الخيل ووجههم بكتاب شريف لكافة أهل فاس، وذلك يوم الخميس ثالث عشرى شعبان العام ووصل لفاس يوم الأربعاء سابع رمضان ومن الغد الذى هو يوم الخميس قرئ الكتاب الكريم على منبر القرويين وفق المقرر المألوف في المكاتب السلطانية، ودونك نص ذلك الكتاب بعد الحمدلة والصلاة والطابع الشريف:
"خدامنا الأنجاد، كافة أهل فاس نخص منهم الشرفاء، والعلماء والأعيان والعرفاء، وابن عمنا الفقيه القاضى مولاى محمد بن عبد الرحمن، والعامل الطالب السيد إدريس السراج، وفقكم الله وأرشدكم وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فإنكم منا وإلينا، والمعروفون بالخير والصلاح لدينا، ولكم القدم الثابت في محبة جانبنا العالى بالله وخدمته والنصيحة له مما لم يكن مثله لجميع الناس، ولم يزل لكم الذكر الجميل في كل منزل، والأثر الجليل في كل معضل،
وقد جريتم على سننكم المعهود في جمع الكلمة، وأظهرتم من أثر المحبة والنصيحة والخدمة، ما استوجبتم به علينا غاية الاعتبار والحرمة، وجددتم قديم تلك العهود، وأكدتم صالح تلك العقود، كما ظهر منكم عند وفاة سيدنا الوالد المقدس بالله رحمه الله أصلحكم الله ورضى عنكم.
ثم بلغنا بعد ذلك أن بعض السفهاء ظهر منه طيش وبغى، واستهواهم الشيطان فاتبعوا سبيل الغى، فتمالئوا على خديمنا الأمين الحاج محمد بن المدنى بنيس ونهبوا داره ولم يراعوا ماله بسبب خدمتنا الشريفة من الحقوق، ولا خافوا سطوة الخالق، ولا استحيوا من المخلوق، وذلك لا يجمل الإغضاء عنه ولا السكوت عليه، ونحن على بصيرة فيكم، ونعلم أن أهل الخير والصلاح منكم لا يحبون ذلك ولا يرتضونه ولا يوافقون عليه في سر ولا علانية لكونه صدر بغتة، ولكن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور.
وعليه فبوصول كتابنا هذا إليكم تداركوا هذا الواقع، وقوموا على قدم الجد في رفء هذا الخرق قبل أن يتسع على الراقع، واعملوا ما تحبون أن نسمعه عنكم ويجلب لكم رضا الله ورضانا. واسعوا في مداواة هذا القرح إسرارا وإعلانا. واعلموا أنكم قدوة لغيركم وإنما ينتظر الناس ما يسمعونه عنكم وفى الحديث الشريف:"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وها نحن في الأثر قادمون عليكم بحول الله وقوته، فنحب أن نصل إليكم وصدورنا كما كانت سالمة عليكم ولم يبق من جهتكم سوء ولا مكروه، ونطلب الله لجميعكم الهداية والتوفيق. إلى أقوم طريق في 22 شعبان عام 1290.
ولما تلى هذا الكتاب على مسامع الخاصة والعامة فهم السفهاء منهم غير المقصود، وتوهموا أنه إيعاد لهم وتهديد، وأمر جازم برد ما نهب من دار بنيس، فتجمهروا واجتمعوا وسط مسجد القرويين وخافت الناس الفتنة ثانيا، ومد اليد في الأسواق ودكاكين التجار، وكثر اللغط وارتفعت الأصوات، واكتظ المسجد المذكور وما اتصل به من الطرقات بالأخلاط والأوباش، واتخذ المثرون العسس على أبواب دورهم ودكاكينهم، ووقع الناس في حيص بيص، ودخل المولى محمد القاضى والعامل السراج وبعض الأعيان من العلماء لمقصورة القرويين للمفاوضة في كيفية مقاومة تيار الغوغاء الذين لا يتدبّرون العواقب، وبعد المفاوضة وإمعان النظر في وجه الخلاص، اتفق رأيهم على أن يوجهوا لبنيس للحرم الإدريسى من يطلب مسامحته فيما نهب من داريه، ويخرج من الحرم آمنا، وعينوا للذهاب إليه الشريف أبا عبد الله محمد بن أحمد الصقلى، وأبا العباس أحمد بن محمد بن الحاج السلمى المذكور آنفا، وبيتا على التوجه إليه صبيحة الغد الذى هو يوم الجمعة، فتوجهوا إليه في عاشرة النهار ووجدوا معه جماعة من الأعيان وطلبوا منه الخلوة معهم ليفضوا إليه بكلام حملاه إليه، فأمرهم بالإفضاء إليه أمام جلسائه بما شاءوا، فسلوه ووعظوه وبالغوا في استعطافه في المسامحة، فأبى كل الإباية وصرح لهم بأنه ضاع له أضعاف ما ببيت المال.
ولما لم يسعف بنيس رغبة الراغبين، توجه القاضى مولاى محمد صبيحة يوم السبت للخليفة السلطانى مولاى إسماعيل وأخبره بما راج، واقترح عليه أن يوجه للشرفاء وأعيان البلد وعاملها ويعرفهم بأن مراد السلطان في كتابه لهم إنما هو الإغراء على الانكفاف والزجر عن العود خوفا من أن يقع للغير ما وقع لبنيس، وليس المقصود من الكتاب السلطانى رد ما نهب الناهبون.
فأرسل الخليفة المذكور بالأمر بالحضور لمن ذكر فحضر القاضى والشرفاء والأعيان، ولم يحضر العامل لتوهمه أن ذلك الاستدعاء شبكة نصبت للقبض عليهم وجعلهم في الأغلال والسلاسل والتوجيه بهم للحضرة السلطانية على أقبح الحالات.
فتحزب وجمع عليه ما يزيد على ثلاثمائة من الرماة وطلع لقصبة أبي الجلود يريد الدار العالية وهو راكب بغلته والرماة محدقة به وباقى الأخلاط الزائدة عن العد منتشرة بالأرقة والطرقات الموصلة للقصور السلطانية حيث الخليفة السلطانى، ولما سمع الخليفة المولى إسماعيل بذلك وجه للسراج وأمنه وشرح القصد من جمعهم، فلم يثق هو ولا من معه بأمان الخليفة ولا مقاله، فراجعه الخليفة وأقسم له بالأيمان اللازمة وأعطاه عهودا ومواثيق على أنه لا يرى ولا يسمع ما يكدر باله، وإنما مراده بهذا الجمع الإصلاح وتسكين الروعة وتفهيم من لم يفهم، فلم ينفع في السراج وأحزابه من ذلك شئ، وتمادوا على الامتناع والإباية، وازداد اللغط والهرج والمرج والضجيج ووقع التشاجر والتخالف حتى كاد أن يقع الضرب بالبارود، ورعب السراج وخاف لحوق الأذى عاجلا والمسئولية آجلا ورجع لداره بعد عناء شديد.
ثم وجه للخليفة مولاى إسماعيل وقال له: إن كنت في قصدك صادقا فانزل لمسجد أبي الجنود وبه يكون اجتماعنا والمفاوضة فيما تريد، فحذر القاضى والعلماء مولاى إسماعيل من التوجه للمسجد المذكور لاختلاط الحابل بالنابل واشتداد شوكة السفهاء سخفة العقول الذين اعتقدوا أن الحل والربط صار بأيديهم، ورأوا أن يكتب الخليفة للسراج كتابا يشرح له فيه مراد السلطان من الكتاب الذى قرئ على منبر القرويين وفهمه العامة على غير وجهه، فاستحسن الخليفة رأيهم وكتب الكتاب بما ذكر، ووجه به للسراج مع العلماء والأعيان الذين كانوا بأبواب القصور
السلطانية ظنا منهم أن الملأ لا زالوا بأبى الجنود، ولما توجهوا بالكتاب وجدوا الجموع تفرقت بعضها ذهب مع السراج لحراسته بداره، والبعض الآخر للحرم الإدريسى بقصد قتل بنيس، فرجعوا بكتابهم إلى الخليفة وقصوا عليه القصص، فأشار القاضى بتوجيه الكتاب المذكور للسراج بداره وأن يؤمر بقراءته على منبر القرويين، فاستحسن رأيه.
ووجه بالكتاب للسراج لداره فقام مظهرا بالامتثال لتنفيذ ما أمر به، فبلغه في أثناء الطريق أن البارود وقع بمولانا إدريس، فرجع لداره قائلا: لا أذهب لئلا يشتد الأمر ويقول الناس أنا المتسبب في ذلك والمغرى عليه.
وأما الأوباش الذين توجهوا لقتل بنيس بمولانا إدريس فإن عاصف ريح التخالف نفخ فيهم أثناء الطريق، وفرقهم أى تفريق، ولم يصل منهم للحرم الإدريسي إلا النزر القليل، ولما رأى ذلك الشرفاء الأدراسة وأنصارهم، سدوا جميع أبواب الحرم وتقلدوا أسلحتهم وارتقوا لسطح الحرم والسطوح المجاورة له، وأخرج الشرفاء المذكورون بنيس من المحل الذى كان به وأنزلوه بشماسة وطاقة من شماسات قبة الضريح، وجعلوا عليه حراسة كافية وأطلقوا البارود من السطوح، فأصاب بعض الضعفاء.
وضج من لا خلاق له من السفهاء وطلعوا للسطوح العالية المشرفة على سطح الحرم الإدريسى لقتل جميع من راج به، ففر جميع من كان بها، وتعذر على الناس المرور في الأزقة حتى إن رجلا درقاويا كان من الرماة يبيع شاربات، قال: اتركونى أصعد لبرج القرويين وأقابل سطح مولانا إدريس وكل من ظهر به أرميه بالرصاص وأقتله، فأجابه العقلاء بأن حرم مولانا إدريس هو حرم للمغرب بأسره. لا لخصوص الأدارسة القائمين بأمره، فوالله لا نترك أحدا يؤذى به من المحتمين بحماه.
ثم وقف القاضى ومعه جماعة عشية ذلك اليوم وقوف الأبطال، وكفوا السفهاء عما أرادوا، وتوجهوا للحرم الإدريسى من جهة الحمام، ونهى القاضى الأدارسة عن العود لإخراج البارود وسكنت الروعة في ذلك الحين، وبقى الحرم الإدريسى مغلق الأبواب والعسة على بنيس قائمة على ساق، وهذا كله في يوم السبت.
ولما أصبح يوم الأحد رام الأخلاط ومن لا خلاق له مدّ يَدِ النهب في الأسواق والدكاكين، وحمل جل التجار سلعهم لدورهم، وجعلوا على أبوابهم وسطوحهم العسس الكافية، وازداد الأمر شدة والطين بلة، والقاضى والعلماء وجلة الناس ووجهاؤهم يُدَبِّرون في كيفية إطفاء هذه النار الموقدة المتطايرة الشرر.
فجاءوا الأدراسة بحرم جدهم مولانا إدريس وأمروهم بفتح الحرم فأذعنوا لذلك، ورجع القاضى ومن معه للقرويين واجتمعوا بعامة الناس وخاصتهم، وتصدر القاضى لشرح الحقيقة والواقع في كتاب السلطان ومراد خليفته ووعظ وذكر. وحذر وأنذر. وخَوَّفَ بَأْسَ السلطان وسطوته، وضمن لهم أن لا يروا من السلطان إن هم أذعنوا وأطاعوا ما يكرهون، ولا يعنف أحدًا منهم، فرضوا بذلك والتزموه.
وحينئذ رجع القاضى بمن في معيته للحرم الإدريسى، وأخبروا الأدراسة بالواقع، ففتحوا الأبواب وانكشف كثيف ما كان من سحاب الأهوال، ووضعت الفتن أوزارها، وبزغت شموس الأمن بأرجاء القلوب. انتهى. ملخصا من الدر المنتخب وجله بالمعنى.
وفى صبيحة يوم الخميس تاسع عشرى رمضان حل برباط الفتح وأقام به سنة عيد الفطر وغمر الجند والأيتام والأرامل والأشراف والعلماء وذوى الحيثيات
والأعيان وسائر الموظفين الدينيين وغيرهم، وختم صحيح الإِمام البخارى، وكان شيخ مجلسه الحديثى السيد المهدى بن الطالب بن سودة المرى قاضى الحضرة المكناسية، وحضر ذلك الختم جم غفير من القضاة والعلماء والأعيان ووفود القبائل المغربية كالواردين بالبيعة الكريمة من فاس، وقيل في ختمه ذلك من الأماديح نيف وخمسون قصيدة، أجار عليها أصحابها كل بما يستحق.
من تلك القصائد قصيدة الفقيه الكاتب الأديب البليغ الأبرع أبي العلاء إدريس بن محمد بن إدريس العمراوى ونصها:
أرج القبول من المهيمن نام
…
وندا التعوف بالمواهب هام
وشذا الرضا هبت لنا نفحاته
…
من مجلس قد جل في الإعظام
حفت به أعلامهم فتراهم
…
من طيبهم كالزهر في الأكمام
بمقام مولانا الإمام تلألأت
…
أعظم به من مجلس ومقام
فبه البخارى الجليل جنابه
…
وفت مواعده بحسن ختام
فامْدُدْ أَكُفّك سائلا متوسلا
…
برواته وقداته الأعلام
واضرع بباب الله عند ختامه
…
تنل المؤمل من حبا العلام
واعلم بأنك في مواطن رفعة
…
وإجابة ومنال كل مرام
باب الإجابة منه يقرع فلتكن
…
في السابقين إليه باستسلام
ما أمه ذو حاجة في معضل
…
إلا وعاد بنائل متسام
أو خائف نال الأمان بسرده
…
ذهبت مخافته مع الآثام
فالهج به ورواته عدد تجد
…
هم في سما العليا بدور تمام
فهم الأئمة والسراة ونورهم
…
يمحو عن الأوهام كل ظلام
وهم ذوو القرب الذين بذكرهم
…
أمن الورى من سائر الأنقام
أهل الحديث الفائزون بحفظه
…
تتلى محاسنهم على الأيام
ودعا الرسول منضر لوجوههم
…
إذ أوضحوا معناه للأفهام
وأميرهم في المعلومات إمامنا الـ
…
ـحبر ابن إسماعيل خير إمام
جمع الصحيح الجامع الحق الذى
…
حاز التقدم في ذرى الإسلام
ومحا عن الدين الحنيفى القذى
…
وحمى من الأضلال والأوهام
وبنى معاهده المنيعة ديمة
…
صوب الحيا من هاطل أو هام
وجزى الإله أميرنا العدل الرضا الـ
…
ـحسن الخصال بأحسن الإنعام
نهج السبيل المستقيم بسرده
…
وأقر عين العلم في ذا العام
أحيا مآثر صالحى آبائه
…
مذ قام بالتيسير خير قيام
حاط الشريعة بالسياسة فائزا
…
من خلفها ويمينها وأمام
وأباد جاحدها بعزم نافذ
…
وسطا به كالماجد الضرغام
مولى به الإسلام أصبح ظاهرا
…
والكفر في ذل وفى إرغام
مولى به ابتهج الزمان وأهله
…
وبه الأمان بذى المغارب نام
مولى بطيب حديثه افتخر العلا
…
فالهند يتلو فخره بالشام
من عصبة نبوية علوية
…
سنية مهدية أعلام
نور النبوة واضح من بشرهم
…
غر الوجوه مطهرو الأجسام
لألاء غرته الكريمة ساطع
…
يزدان في الجدران والآطام
ويمينه السخاء ضامنة الغنى
…
لم يلوه للمنع قول ملام
ليث العدا غيث الندى رحب المَدَى
…
علم الهدى ومواصل الأرحام
من لى بحصر مديحه في مهيع
…
كلا ولو كان الفضا أقلام
أم كيف أسبح في خليج صفاته
…
حاشا ولو عد النجوم نظام
لكننى آتى بمقدور على
…
وسعى وأرهف في الثناء حسام
فلتهن مولانا الإمام مآثر
…
قد حازها من وافر الأقسام
وليهنه ما نال من أجر ومن
…
ذخر ومن فضل ومن إكرام
وليهنه شهر الصيام وما بدا
…
فيه له من قربة وقيام
وليهنه العيد السعيد فإنه
…
عيد يعود بكل خير نام
أبقاه مولانا لجبر عبيده
…
وأناله نصرا مدى الأعوام
وأطال في سعد ويمن عمره
…
سامى اللواء مثبت الأقدام
وبجاه مولانا الرسول سألته
…
وحديثه العالى وخير عصام
وبنيه والأصهار والأزواج والـ
…
أتباع والأنصار والأعمام
أن يجعل الفتح المبين ملازما
…
لركابه في مظعن ومقام
وعليه من ربى السلام تحية
…
فاقت شذا مسك وريح خزام
والآل والأصحاب أهل وداده
…
ما جال في الأسماع صفو كلام
واحتفل بهذا الختم احتفالا لم ير الراءون مثله حتى كان الطيب كالسحاب المتكاثف وعدد أصناف الأطعمة الفاخرة.
وفى يوم السبت الثانى والعشرين من شوال خرج من الرباط قاصدا مكناسة الزيتون، حيث اتصل به خبر قيام المولى سليمان المدعو الكبير بن عبد الرحمن بن
السلطان أبي الربيع مولانا سليمان، الذى جاء من سجلماسة يطلب الملك اقتداء بأبيه من قبله الذى كان ثار أوائل دولة والد المترجم فلم تنجح مساعيه. وبقى يجوب البلاد البربرية وأطماعه الأشعبية تعده وتمنيه. إلى أن كانت عاقبة أمره سجنا طويلا، إذ لما حل المترجم بالصفافعة من قبيلة بنى حسن بلغه خبر القبض على القائم المذكور بقبيلة بنى سادن أو آيت يوسى والتوجيه به سجينا للخليفة السلطانى بفاس، وهو إذ ذاك أخو المترجم المولى إسماعيل وكتب بشرح ذلك لسائر إيالته ودونك لفظ ما كتب به بعد الحمدلة والصلاة والافتتاح:
"وبعد: فإن عبد الكبير بن عبد الرحمن الذى سولت له نفسه ما سولت من الرأى المنكوس. والحظ المعكوس. كان تحزب بشياطين وأوباش من برابرة بنى مجيلد، وأتوا به لآيت عياش قرب فاس، فلما سمع بذلك خدامنا أهل فاس وأخوالنا شراكة وغيرهم من الجيش السوسى وقبائل الصلاح، قاموا على ساق في طرده وإبعاده. ونفيه من ساحتهم وتشتيت رماده. وقابلوه بالنكاية والوبال. ورأى منهم ما لم يخطر له ببال. ورجع بِخُفَّىْ حُنَين (1)، ثم بعد الطرد والإبعاد لم يبال. بما هو عليه من سوء الحال، ولا أقلع عما طمع فيه من المحال، ولا انتبه من نومته، ولا أفاق من سكرته، وبقى على دورانه عند البربر إلى أن ختم مطافه بالوصول لآيت يوسى فحكم الله فيه هنالك وأُتى به مقبوضا عليه وذهب ريحه وسقط في أيدى (2) من كان آواه من البربر وحصلوا كلهم على الخسران. والخزى والخذلان.
وها الفتان مثقف تحت يد أخينا مولاى إسماعيل حفظه الله فالحمد لله حق
(1) تحرف في المطبوع إلى: "رجع بخف حنين" وهو مثل يضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة.
(2)
في المطبوع: "في أيد من كان".
.
حمده. ولا نعمة إلا من عنده. وهو المسئول بنبينا صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم. أن يؤدى عنا وعن المسلمين شكر نعمته. وأن يجرينا على ما عودنا من جزيل فضله ومنته.
هذا وقد كتبنا لكم هذا بعد ما خيمنا بحول الله ببلاد الصفافعة من بنى حسن ومحلتنا المظفرة بالله محفوفة بالنصر والعز بحمد الله، وأعلامنا المنصورة بالله رياح السعادة واليمن تسوقها، والأرباح تكفل بها سوقها، وقد أعلمناكم لتأخذوا حظكم من الفرح بما خول مولانا جل وعلا من عظيم نعمه، فلله الحمد وله المنة والسلام في 23 من شوال عام 1290".
قلت: ثم بعد مكث الثائر في السجن يرفل في قيود الهوان والصغار أمدًا بعيدًا عفا عنه المترجم وسرحه وأكرم مثواه، وأجرى عليه جراية تليق بأمثاله من أفراد العائلة.
وقد عقد صاحب الفتوحات الوهبية في سيرة مولانا الحسن السنية وهو العلامة الحسن بن عبد الرحمن السملالى فصلا خاصا بثورة مولاى الكبير، وخلاصة ما ذكره أن اسمه سليمان، وأنه لقب بالكبير لأنه أكبر إخوته، وأنه اقتدى في ثورته على مولاى الحسن بأبيه مولاى عبد الرحمن بن سليمان حين ثار على سيدى محمد بن عبد الرحمن والد مولاى عبد الرحمن لاستصغاره إياه سنا وعقلا، فإنه خرج من تافيلالت ولما وصل "القصابى" بعث بريدًا لإعلام أهل فاس بأمره فأجابوه بالموافقة واستحثوه في السير قبل مجئ السلطان من مراكش، وواعدوه باللقاء في صفرو، متى نزل بها، فلما نزلها أخلفوا وعدهم معه وأبوا أن يخرجوا إليه حتى يصل إليهم، ولكنه لما وصل ظهر المهراز مع أتباعه البرابر وجد أمامه الباشا فرجى قد خرج للقائهم لما تواترت (1) أخبارهم، وكان ذا رأى وحرب وتدبير، فمزق جيشه أصحاب مولاى عبد الرحمن، واستلبوا خيلهم وبغالهم وأسلحتهم، وكاد المولى عبد الرحمن يقبض.
(1) تحرف في المطبوع إلى: "تواثرت" بالثاء المثلثة.
فلما تبدد أتباع المولى عبد الرحمن ذهب ولده مولاى الكبير هذا في اثنى عشر فارسا لاستصراخ بعض الفرنسيس النازلين وقتئذ على بنى يزناسن لأمر بينهم، فوافقوه على الانتصار له، أى بعد أن تظلم إليهم ووعدهم المغانم، وأكرموا نزوله عند المسمى عبد القادر بن داود، وأوصوا هذا بمرافقته لوهران، ثم ارتحلوا عن بنى يزناسن إلى وجدة متهمين أهلها بممالأة بنى بزناسن، ووظفوا عليهم ذعيرة يدفعونها في أجل ثلاثة أيام فدفعوها.
وارتحل الفرنسيون عنهم لتلمسان، فكان أول عمل لهم بها أن ضربوا السلك لملكهم يخبرونه بأمرهم مع مولاى الكبير، وأنهم قبلوا ما عرضه عليهم من النجدة والانتصار، فأجابهم بإنكار عملهم هذا وعاتبهم عليه فندموا على ما فعلوا إلا واحدًا منهم يقال له "القبطان عك" حاكم عرب وهران، كان هو المشير بقبول الانتصار، فإنه أكد على عبد القادر بن داود في إكرام ضيفه، فبقى مولاى الكبير عندهم أربعة أشهر إلى أن كانت نتيجة مساعى عك وغيره أن أعين بأربعة آلاف ريال له وألف لأصحابه يدفعها لهم بعض الأغوات إن مروا به ويرجعوا لوطنهم.
فخرج مولاى الكبير من وهران، وأخذ ما ذكر ورجع لوطنه فبقى به ونفسه متعلقة بالملك، إلى أن سمع بموت السلطان سيدى محمد فأراد انتهاز الفرصة فسافر من أهله بعد أن سمع ببيعة مولاى الحسن، واجتمعت عليه البرابر وغيرهم، وسار إلى أن نزل بآيت عياش فتهافت عليه البربر والعرب -وكان مولاى الحسن يومئذ برباط الفتح- وبقى بها مدة ووفود البربر تذهب وتجئ وتبشر من وراءها بخبره، فاجتمع عنده خلق كثير من بنى مكيلد، وبنى مطير، والغرابة، زيادة على من كان عنده، فاستكثر الغرابة عدد أتباعه وراودوه هو وإياهم على أن يعينوهم على قائدهم "محمد اسعيد ابربر"، فاعتذروا ووعدهم بالانتصار لهم بعد تمام الأمر، ولكنهم لم ييأسوا بل ألحوا عليه وعلى البربر وهم يجيبونهم بأن زمامهم بيد الشريف.
وسمع المولى إسماعيل بنزول المولى الكبير بذلك الموضع بتنبيه كان عنده على ذلك، فأرسل إليه الشريف سيدى محمد بن محمد الأمرانى آتى الترجمة لمعرفته بلغة البربر واطلاعه في جل الأمور على مقاصدهم ليعظه ويذكره بفشل قضية أبيه، وأنه كان منتهى أمره أن خرج من أرض السلف إلى (صفطل) وهو محل بنى مكيلد، ففعل ذلك ووعده بصلة يأتيه بها من مولاى إسماعيل، فاتعظ وتذكر ورجع الأمرانى بعد أن شرط عليه أن يمكث بمحله حتى يعود إليه، فلما بعد عن ذلك المحل وجد رجالا من الغرابة فأخبروه بامتناع مولاى الكبير من نصرتهم وطلبوا منه التوسط بينهم وبين مولاى إسماعيل ليطلب من مولاى الحسن إنقاذهم مما هم فيه مع (محمد اسعيد ابربر) لأنه أطلق عليهم إخوانه آيت حلى فنهبوا أموالهم ومزقوا أعراضهم، وتكفلوا للسلطان بأمر مولاى الكبير حتى يسلموه إياه حيا أو ميتا.
فسار بهم الأمرانى معه لفاس، فلما التقى بالخليفة أخبره بما كان منه مع مولاى الكبير وما كان من الغرابة فاستصوب عمله مع هؤلاء وقبل طلبهم والتزم الوفاء به كما التزم الغرابة الوفاء بقولهم، ولكنهم لما رجعوا وجدوا قومهم قد عرقبوا على مولاى الكبير وأصحابه ساعة غيبتهم، فسار معهم وانتقل من الدار التي كان بها إلى دار قريبة من آيت حلى، أما الأمرانى فإنه رجع بغير صلة لما كان من أمره مع الغرابة فوجد مولاى الكبير قد خالف شرط عدم الارتحال، فاتخذه عذرًا لعدم الإتيان بما وعد، فلما التقيا لامه على الارتحال فأجابه مولاى الكبير بما يخالف ما كان بينهما: إن هذا ملك أبي وجدى فلا أسلم فيه، فسكت الأمرانى فرحا بظهور النكث من جانب الآخر معتمدا على ما أبرمه مع الغرابة، ورجع وتركه وكان محمد اسعيد، قد استعد مع إخوانه آيت حلى لمقابلة الضاربين على حللهم، وتواصوا على مكيدة دبروها.
فلما دنت الغرابة ومن معها من حلل آيت حلى حملوا عليها فانهزم محمد اسعيد واشتغل الغرابة بالنهب وتشتتوا في الحلل، فلما رأى منهم ذلك كر عليهم بقومه ثم هزموهم وغنموا منهم وحزوا.
وكان مولاى الكبير قد بقى في الدار لم يركب هو وشرذمة من آيت مرغاد، وآيت حديدو، وأهل الخنك ينتظر أنباء سريته ودخولها صفر، وجلب المساجين.
فلما رأى ما رأى خاف وأمر بقلع الخزينة وركب هو ومن تبعه وقصدوا دار الشريف سيدى أحمد بن عبد الجليل الوزانى فنجاه الله من الغرابة؛ لأنهم لما انهزموا ساروا إليه يريدون أن ينفذوا فيه ما اتفقوا عليه مع الأمرانى في شأنه ليتمكنوا بعد ذلك من محمد اسعيد، فاقتفوا أثره جهة سبو فوجدوه قد عبره ونزل هو عند الشريف إلى انتصاف الليل، فطرقهم أعراب الحياينة وبنو سدن وبنو وراين وآيت شغروشن وأحدقوا بالدار، فلما خرج لهم ربها قالوا إنا قد جئنا لنبايع سلطاننا الذى دخل دارك فاطلب منه أن يخرج حتى نبايعه ثم يعود إليها، فلما خرج إليهم أخذوا بيده وعاهدوه وأمروا رب الدار أن لا يخرج حتى يراهم، فلما ذهبوا ورجع لمحله ندم على ما صدر منه وتيقن القبض لا محالة، فكتب للأمرانى يستحضره هو ومولاى عبد السلام العدوى لإتمام ما تحدثوا به في آيت عياش، فلما وصل الكتاب أخرجهما مولاى إسماعيل حالا مع فضول الرامى مقدم مولاى إدريس إليه، فلما وصلوا امتنع من الذهاب معهم لفاس إلا إذا حضرت لوحة مولاى إدريس أو الدليل أو السبحة، فأرسلوا في ذلك فوجه لهم به وباتوا ليلتهم تلك، فلما أصبحوا توجهوا لفاس.
وكتب الشريف رب الدار وعمه السيد إدريس بن زين العابدين للسلطان وهو حينئذ بالرباط يطلبون أن لا تخفر لهم ذمة بمولاى الكبير، فأجابهما السلطان لذلك، فلما وصل لفاس البيضاء أمر الخليفة بمنزاله بدار بودلاحة أمارة على
سجنه؛ لأنه أول قفص من أقفاص الامتحان، ثم قال السملالى ما نصه: وكان سفهاء الأحلام حين سمعوا بتوجهه تشوفوا إليه وتلقوه خارج المدينة، وقصدوا مشافهته بما توسوست به نفوسهم من الأمانى الكاذبة، فأتوا إليه في محله أفواجا ظنا منهم أن النزول نزول إكرام واستراحة ولم يعلموا أنه نزول نكال وعقوبة، فمنعهم الرقيب من الدخول فردهم خاسئين، والرقيب هو الباشا الحاج سعيد بن فرجى.
فسمع هو بذلك فتيقن أنه مسجون، وأن رأيه خاب وخسر، ثم بقى بدار بودلاحة إلى أن قامت قضية ابن المدنى بنيس فنقل لسجن الدكاكين ونزل بها بنيس.
قلت: ثم نهض من الصفافعة إلى دار ابن العامرى وأوقع بأولاد يحيى فريق من بنى حسن وقعة شنيعة كادت أن تحص منهم كل شئ، وألزمهم غرامة طائلة عقوبة لهم على ما أجرموه من الافتيات على عاملهم عبد القادر بن أحمد وهد داره ونهب أمتعته، وسعيهم في الأرض الفساد، ثم ظعن ووجهته مكناسة ومر في طريقه على الزاوية الإدريسية الزرهونية.
وكان حلوله بدار الملك عاصمة سلفه الأكرمين مكناسة الزيتون سابع ذى القعدة، وأقام بها سنة عيد الأضحى ووصل أشرافها وأعلامها وسائر ذوى الحيثيات بها بصلات وعوائد، وبالغ في الإحسان للضعفاء والأيتام.
ثم وجه جيشه لقمع متمردة بنى مطير ومن انضم إليهم وانخرط في سلكهم من العصاة كمجاط، وبنى مجيلد، وآيت يوسى، فنالت منهم بعد أن كانت الحرب سجالا.
ولما لم يكتف بذلك في تأديبهم خرج إليهم بنفسه في جيوش جرارة لاستئصال شأفة بغيهم وعيثهم وعبثهم وإيذائهم بالمارة، فسقاهم كأسا دهاقا من
القهر والغلبة، وأحاط بهم جيوشه إحاطة السوار بالمعصم، واقتحم عليهم معاقلهم ومحال منعتهم، إلى أن دخل فم الخنيق أول بلاد بنى مجيلد وقبض منهم على عدد وافر من المساجين، بعد أن ترك قتلاهم صرعى للذئاب والنسور مرعى، ولما بارت منهم الحيل وعجزوا عن المقاومة والدفاع وحاق بهم سوء ما عملوا، ورأوا أنه لا منجى ولا ملجأ لهم، قدموا طاعتهم صاغرين وأتوا بصبيتهم ونسائهم متشفعين، وعما اقترفوه بالتوبة النصوح معلنين، فقبل توبتهم وعفا عفو قادر عنهم، وذلك منتصف محرم فاتح عام واحد وتسعين ومائتين وألف.
ثم رجع للعاصمة المكناسية وأقام بها، وفى يوم الاثنين ثالث ربيع النبوى منها ظعن لفاس، ولما خيم بضفة وادى النجا خرج لاستقباله لفيف من الأشراف والموظفين والأعيان والكبراء، فأكرم وفادتهم ومثواهم وهش وبش فسروا واستبشروا، وفى صبيحة يوم الخميس سادس ربيع المذكور حل بها وكان ذلك اليوم يوما مشهودًا وفدت عليه فيه للتحية وتقديم مراسم التهنئة المؤذنة بإخلاص الطاعة الأشراف والعلماء والأعيان ومن بها من الجنود على اختلاف الطبقات، وأقام بها حفلة عيد المولد النبوى ووفدت عليه فيها وفود أعيان القبائل مع قوادها بالهدايا ذات البال وفق العادة المألوفة والعرف الجارى.
وفى يوم الخميس -على ما في بستان السباعى والذى في الاستقصا يوم الثلاثاء- رابع ربيع الثانى من السنة أمر المترجم أمينه أبا العباس أحمد بن شقرون المراكشى بترتيب الوظيف المرتب على أبواب فاس وأسواقها وفق ما كان في حياة والده، وذلك أواخر شوال العام، فثقل ذلك على الدباغين ومرضوا فيه وأعلنوا بالتمرد والعصيان، وخلع ربقة الطاعة من أعناقهم، إذ أعجبتهم كثرتهم، وامتنعوا من أداء الوجيبة الواجبة عن بيع الجلد، وآل الأمر إلى إشهار السلاح والمبارزة والكفاح والصعود إلى المنارات المطلة على المدينة البيضاء فاس الجديد، ورمى المارة بالسبل الموصلة إليه، وصار الرصاص يتساقط ببطحاء أبي الجلود.
فعند ذلك أمر السلطان بمقابلتهم على قدر جريمتهم، فطافت بهم العساكر ورموهم بالكور من كل ناحية، ثم اقتحمت طائفة من العسكر سور فاس من جهة الطالعة وأخذوا في النهب والقتل وعظم الخطب واشتد الكرب، وفى أثناء ذلك بعث السلطان وزيره أبا عبد الله الصفار يعظهم ويعرض عليهم الأمان بشرط التوبة والرجوع إلى الطاعة، فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نار الفتنة الملعون موقدها.
هذا ولم تكد نيران الفتن تسكن برحاب فاس حتى استفحل داء الثائر الفتان بوعزى بن عبد القادر العامرى الشركاوى المدعو الهبرى نسبة إلم بلدته هبرى -بالقصر بين أم العساكر ومستغانم- وكان ظهور هذا الفتان في أيام سيدى محمد سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف في آنكاد ثم شتت جموعه.
فلما بويع مولاى الحسن ظهر ثانية في غياثة واجتمعت عليه التسول والبرانس والحياينة وبنو وراين وكزناية وأولاد بريمة وآيت شغروشن وبنو سدن فنهض المترجم ثانيا في عام واحد وتسعين ومائتين وألف لقطع جرثومة الفساد خوف الانتشار والاستفحال والضرب على أيدى الساعين في إيقاد نيران الفتن، فاستأصل شأْفة متمردى بنى سادن وآيت شغروشن.
وبعد أن طهر البقاع من سماسرة الفتن توجه لبلاد الحياينة ثم مدينة تارا فدخلها وكان عاملها إذ ذاك الباشا عبد الرحمن بن الشليح الشرادى الزرارى، وبعد استراحة الجنود المظفرة هجمت على المارق الهبرى المذكور وألقت القبض عليه، وأتى به للمترجم حقيرًا ذليلا فشهر وطيف به على جمل، ثم وجه به سجينا لفاس وبقى فيه إلى أن نقل لمراكش فمات في الطريق.
ونهض صاحب الترجمة من تازا ووجهته القبائل الريفية وجعل طريقه على عين زورة، ولما وصل لقصبة سلوان أدركه عيد الفطر فأقام بها سنة عيد الفطر، ووجه على عامل وجدة القائد قدور حيطوط الجامعى وأمره بتأمين الحاج محمد
ولد البشير ومسعود اليزناسنى وأصحابه معه فوردوا عليه بالقصبة المذكورة، ولما مثلا بين يديه عزل حيطوط المذكور عن عمالة وجدة، وولى مكانه ولد البشير امسعود حيث رأى أن إطفاء نيران تلك النواحى لا يتم إلا بذلك، فانقلب المترجم لفاس على طريقه بعد أن وجه لوجدة عاملها الجديد، وأمر العامل المنزوع بمصاحبة ركابه الشريف ونهض بجنوده الجرارة قاصدًا فاسا، ولما وصل عقبة موكة المحل الشهير بمكناسة تراكمت الأمطار وتكاثف الوحل وحصل لتلك المحال بسبب ذلك مشاق عظيمة، وأصيبت بخسائر جسيمة.
ولما حل المترجم بفاس وفدت عليه وفود التهانى لقصوره العامرة، ولما استقر به النوى أوقع القبض على الحاج محمد أومنو السوسى قائد الطابور السوسى ووجه به سجينا لتطوان، وولى مكانه على العسكر المذكور الحاج على السوسى الباعمرانى، ثم رشح لعمالة طنجة القائد الجيلانى بن حم، ولعمالة فاس السيد عبد الله بن أحمد.
وبأثر ذلك عقد لأخيه المولى عَلِىّ عَلَى محلة لا يستهان بها، ووجه لاستخلاص المترتب على القبائل الريفية والقبائل القاطنة بنواحى تازا، ووجدة، وأسند قيادة تلك المحلة لباشا تازا القائد عبد الرحمن الزرارى، فاستاء جل القبائل وبالأخص المجاورة لوجدة وأنف عاملها ابن البشير من الرضوخ لأوامره، فكانت المحلة كلما أشرفت على قبيلة اشترط أهلها عدم دخول الرئيس المذكور لترابهم والتزامهم بالقيام بواجب المحلة ومقابلة أخى السلطان المولى على المذكور بما يليق به من الحفاوة والإجلال والخضوع والطاعة لأوامره.
وقد كان ابن البشير تجمهر مع عدة قبائل وصمم على العصيان وشق عصا الطاعة أنفة من رياسة عامل تازا المذكور على المحلة دونه، إذ قد كانت بينهما
المنافسة والعداوة والبغضاء بالغة منتهاها، يطمع كل واحد منهما في ضم حكومة الآخر لحكومته، ويرى كل أنه الأحق والأولى بالتفرد بالرياسة.
ولما سارت المحلة على طريق آنكاد قاصدة وجدة، قام في وجهها ابن البشير المذكور في جموعه ذات العدة والعدد، وناوشها القتال فرعبت ورأت أنها لا طاقة لها بمقاومة تلك الأحزاب، وأنه لا أنجح لها من الرجوع إلى فاس فرجعت أواخر شعبان، والسلطان المترجم في نزهة شعبانة بدار دبيبغ، وقص عليه القصص إخوة المولى على، فأسرها في نفسه، وكانت مدة مقامه بفاس ثمانية أشهر.
ثم بعد مدة من رجوع المحلة نهض صاحب الترجمة من فاس لتفقد أحوال رعيته، وذلك منتصف رمضان من السنة فحل بالعاصمة المكناسية، وعزل محتسبها الحاج الطيب غريط المدعو كسكاس وولى مكانه الطالب المختار بادو.
ثم بارحها إلى رباط الفتح، ولما خيم بضواحيه بالمحل المعروف بقرميم بلغه أن هلال عيد الفطر قد ثبت فارتحل ليلا ونزل خارج البلد وأقام سنة العيد قبل دخوله لقصره الفاخر العامر، وبعد ذلك دخل في موكبه عشية اليوم ترقب الهلال بنفسه وأمر العدول والأعيان من حاشيته برصده وكان الجو صافيا صقيلا فلم يظهر الهلال، فأمر باستئناف الصيام وسجن الشهود الذين زعموا رؤيته، وكان القاضى إذ ذاك أبا عبد الله محمد بن إبراهيم.
ثم نهض المترجم إلى راوية ابن ساسى وخيم بها ستة عشر يوما، ووظف على الرحامنة أمولا طائلة، وفرض عليهم الخيل وألزمهم إعطاء العسكر تأديبا لهم على جرم أجرموه، ولم يبارح الزاوية المذكورة حتى أدوا جميع ما وظف عليهم وألزموا به.
وبعد ذلك نهض للحضرة المراكشية، فدخلها آخر ذى القعدة الحرام، وكان يوم دخوله لها من أزهر الأعياد وأبهر المواسم.
وفى ربيع ذى الحجة أوقع القبض على مائتين وثمانين نفرا من رؤساء أولاد أبي السباع الذين كانوا خرجوا على عاملهم عبد الله بن بلعيد، وعاثوا على القائد العربى الرحمانى في شرذمة من الخيل، فنزل بها عليهم وألزمهم أداء ستين ألف ريال ذعيرة لهم على التمرد وإيقاد نيران الفتن، فلم يسعهم إلا بيع ماشيتهم بأبخس الأثمان وأداء الموظف عليهم عَنْ يد وهم صاغرون، ورد عليهم عاملهم ابن بلعيد المذكور وهم له كارهون، فلم يكن لهم بد من الخضوع والرضوخ للطاعة، ولم يزل المترجم مجدا في الاستعداد لكسر شوكة كل من بغى وتمرد وجمع العساكر من القبائل إلى أواخر صفر من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف.
وفى هذا التاريخ وفد عليه أبو عبد الله محمد الكندافى (1) في صاحب جبل تنملل، أحد أشياخ تلك القبيلة الذى كان وشى به للمترجم عامله أحمد بن مالك، وأشاع عنه أنه خلع ربقة طاعة السلطان من عنقه، وأنه يحاول الدعاء لنفسه، وطلب ملك سلفه من قبله.
ولم يزل يوسوس للسلطان المترجم حتى أوغر عليه صدره وأمره بالقبض عليه، فاعتقد ابن مالك أنه حصل على ضالته المنشودة، ووجه له فئة من الجند فأوقع بها الكندافى، شَرّ وقعة، إلا ما كان من الجيش السلطانى فإنه لم يمسه بسوء.
فوجد ابن مالك متسعا لترويح أرجافه، وكتب للمترجم بما يزيد حنقا على الكنتافى، وبعد الواقعة وجه الكندافى ولده للحضرة السلطانية بفاس وشرح له حقيقة الواقع وعرفه بأنه من المطيعين المخلصين، وبما يكنه له ابن مالك من العداوة والبغضاء، وينصبه له من شبك المهالك، فشفعه المترجم فيه وولاه على إخوانه، ولم يزل صاحب الترجمة مقيما بالحضرة السلطانية إلى أن أقام بها حفلة العيد النبوى الكريم، وغمر وأفاض العطاء في الشرفاء والعلماء والجيوش.
(1) في المطبوع: "الكنتافى" والمثبت من موسوعة أعلام المغرب 8/ 2762.
وفى مهل ربيع الثانى نهض من مراكش يؤم الديار الغربية، فمرَّ على ثغر الجديدة وتفقد أبراجها وسقائلها، وأقام بها أياما كانت كلها أعيادًا ومواسم، ثم نهض لآزمور ووقف على أسوارها وأبراجها وصقائلها وأمر بإصلاح ما يفتقر لإصلاح من ذلك وصيانته، وبالأخص البرج المقابل للمرسى هنالك.
ثم نهض من آزمور ودخل ثغر الدار البيضاء في الثالث والعشرين من ربيع الثانى، وأعفى عاملها محمد بن إدريس الجرارى في اليوم نفسه من ولايته عليها، وولاه عمالة ثغر الجديدة، وولى مكانه بالدار البيضاء الحاج عبد الله بن قاسم حصار السلاوى، وأقام بها يومين ووقف على أبراجها وسقائلها، وواعد بإصلاح ما هو مفتقر للإصلاح وخصوصا مَرْفَأ المرسى.
ثم نهض من الدار البيضاء وأوقع بعرب الزيايدة لانحرافهم عن الجادة، ثم صار إلى أن دخل رباط الفتح، وذلك غرة جمادى الأولى من السنة، وأقام بها تسعة أيام، ثم نهض وسار على طريق زمور الشلح إلى أن دخل عاصمة سلفه مكناسة الزيتون ثامن عشر الشهر، فأقام بها خمسة أيام.
ثم نهض لفاس، وتهيأ للسفر لحسم مادة الفساد من القبائل المتمردة قبل سريان دائها، واستعجال عدوانها، والقبض على رؤساء الفساد، وتقويض أركانه، فخرج في جيوش عظيمة جرارة تنتظم من أبطال من انتظم في سلك إخلاص الطاعة، وقبائل الغرب الأيمن والأيسر سهله والجبل، وذلك منتصف جمادى الثانية.
وكان في نظره أن يجعل طريقه على الوادى الأخضر ثم مكناسة تازا لبعد طريق غياثة، فلاذ بعض كبراء المحلة ورؤسائها بأبى محمد عبد السلام البقالى وقد كان محبوبا لصاحب الترجمة مسموع الكلمة عنده، بأن يشير عليه بالمرور على مدينة تازا ويحسنه إليه لقضاء مآربهم بها والاستعداد بالتموين منها، ففعل
وصادفت إشارته من المترجم قبولا حسنا ليقضى الله أمرًا كان مفعولا، وجعل طريقه وفق ما أرادوا، فقامت غياثة بواجبات تموين المحال وفق المعتاد والمألوف أتم قيام وأكمله، وذلك في المرحلة الأولى والثانية، ولما كانت المرحلة الثالثة من إيالة باشا تازا وهو إذ ذاك محمد بن الطاهر الدليمى المتولى بعد عاملها المعزول عبد الرحمن الزرارى، تأخر الإتيان بالتموين ولوازمه عن وقته المعتاد لظنهم أن المترجم لا يمر بهم، وحملوا أعلام العامل الصادر لهم قبل بذلك على الكذب، وأنه إنما أراد جلب ذلك لنفسه. وضمه لكيسه.
فتهاونوا حتى رأوا الجنود المولوية تضرب أخبيتها وتحط أثقالها بالمحل المعروف بذراع اللوز، فعند ذلك قاموا على ساق في أداء اللازم فلم يتيسر لهم الإتيان بذلك في إبَّانِهِ.
وكان بينهم وبين العامل انحراف باطنى، فاغتنم فيهم هذه الفرصة وبلغ للمترجم عنهم ما أوغر صدره عليهم وأوجب همه بزجرهم، وتسنى للعامل المذكور إلقاء القبض على كل من يأتى منهم بمئونته، فكثر الضجيج فيهم، وصار من انفلت منهم يخبر الجائى بتأسد العامل عليهم، ويهول لهم بحالة المقبوضين، فيرجع بما أتى به، ولم يجئ أحد بعد، فثار غضب المترجم وأيد العامل بدعواه، واعتقد أنه بلغ فيهم مقصوده، فوجه لهم لفيفا من الجيش باغتهم به وذلك يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر المذكور.
فاقتحم ذلك اللفيف عليهم حصونهم المنيعة، وسقوهم كأس المنون، وهدموا ما لهم من الدور، وأطلقوا النيران في الزرع والخيام وقطعوا الرءوس، وتركوهم يختالون في أردية الهوان والبؤس، ورجع الجيش ظافرا غانما.
ولما رأى الشريف المعتقد أبو العلاء إدريس الوزانى المعروف بزين العابدين زيادة، اشتداد غيظ السلطان عليهم حاول إرضاءه عنهم بإظهار الحقيقة له، وكان
نافذ الكلمة مطاع الأمر عند غياثة، فلم ينجح في مسعاه، وصمم المترجم على إعادة شن الغارة عليهم واجتثات عصيانهم من أصله.
فنهض لقتالهم بنفسه صبيحة الغد وهو يوم الجمعة السادس والعشرين من الشهر في شقة بين جبال وعرة المسالك، لا يأمن من لم يكن من أهلها من المعاطب والمهالك، وقدم أمام جيوشه الجرارة المدافع والمهاريس واقتحم الشقة وكانت القبيلة قد تأهبت للقتال، واحتاطت الاحتياط اللازم للأهل والأولاد والأموال، وتناوش الفريقان القتال ودامت المناوشة بينهما إلى أن توسطت المحلة الجبال قاصدة قصبة القلعة لظنها أن جموعهم بها مجموعة، والحال أنهم وضعوا الكمائن ورصدوا الرواصد وشحنوا الكهوف والأنقاب بالرماة، ولم يتركوا غير منفذ واحد يفضى إلى مهواة متلفة، فلم تشعر الجنود المخزنية، إلا ونيران أفواه المكاحل تلتهب، والرصاص كهاطل الأمطار من سائر الجهات وبالأخص من خلفها.
فاشتد الخطب وامتلأت القلوب رعبا، وكثر القتل وعظم المصاب، وألجأ العدو المحلة إلى شعبة بوقربة وهى المعروفة بالشقة فتعذر الرجوع، وعلا الغبار وتكاثف، حتى أظلم الجو وصار الإنسان ربما لا يميز من بإزائه، وأصاب الناس هول عظيم، وتساقط القوم رجالا وركبانا في تلك الشقة، وكلما سقط واحد ظن الذى وراءه أنه قد وجد مسلكا فيتبعه وهكذا إلى أن امتلأت الشعبة بجثث الأموات من الآدمى والدواب.
وظل الناس يومهم يمرون عليهم بالخيل والأرجل وهم لا يعلمون، ولما كان العشى سكنت الفتنة وقام من بقى يبحث عن السلطان، فألفى في الشعبة مع حاجبه أبي عمران موسى بن أحمد من غير أن يعرف واحد منهما صاحبه، فأخرجوهما بعد عناء، وكان ممن تولى إخراجهما قواد مسخرى الجيش البخارى
ابن الحفيان قائد المائة والطالب الجيلانى الجبورى المدعو البحر، ولما أطلعوهما من تلك الشقة أركب المترجم القائد إبراهيم الشركى خليفة قائد المسخرين وهو إذ ذاك القائد محمد بن قاسم ونادى القوم بسلامة السلطان وأمر الطبالون وأصحاب الموسيقى بالصدح إعلاما للأباعد بسلامة روح العالم، كى يلتئم صدع من بقى من الجيش وتطمئن النفوس، فصاروا يتلاحقون بالأمير. فرادى وأزواجا إلى أن التفت عليه تلك البقية الباقية وهان المصاب بسلامة المترجم.
ومن الغد أمر صاحب الترجمة آغا العسكر البخارى القائد العربى بن حم، والطالب الميقاتى السيد الجيلانى بن أبي الخير بدفن جثت قتلى هذه المعركة التعساء، ولكثرتهم تعذر عليهم دفن كل على حدته فواراهم في التراب جموعا ووحدانا.
ثم وجه المترجم جيشا ثانيا بقصد أخذ الثأر من هؤلاء الظلمة العتاة فخذل، وكان كلما وجه لهم جيشا رجع عودًا على بدء والسلطان يزداد غيظا ووجدانًا إلى أن قام أنصح القواد القائد الشافعى المسكينى وطلب من الجلالة السلطانية أن يذهب لأخذ الثأر منهم أى المتمردة في خصوص أبطال إخوانه، فساعده وتوجه إليهم وأوقع بهم وقعة شنعاء ورجع سالما منصورا حاملا لرءوس من مات منهم، فشكر السلطان صنيعه وأثنى على شهامته وصرامته.
ثم بعد ذلك ورد الطغاة على شريف أعتابه نائبين وبنسائهم وصبيانهم متشفعين، ولجأو لمدافع المحلة واحترموا بهم وفق العرف الجارى في أمثال ذلك، فقبل توبتهم وقابلهم بالعفو والإغضاء، وعزل عنهم العامل ابن الطاهر الذى كان السبب الوحيد في إيقاد نيران هذه الفتنة، وولى عليهم القائد منصور حيطوط، وكان إذ ذاك بحنطة أصحاب السكين.
ثم نهض المترجم قاصدًا الظفر بابن البشير أصل البلاء كله، ومر في طريقه على عين زورة من قبيلة المطالسة، ولما خيم بقصبة سلوان ودع صدر الوزراء أبا العلاء إدريس بن الطيب بو عشرين، وتصدر في محله أبو عمران موسى بن أحمد، ثم واصل السير إلى أن بلغ وادى ملوية فأقام هناك للاستراحة والاستطلاع على أحوال وأخبار تلك الأنحاء.
ومن هنالك وجه بعض الساسة نسخة من دلائل الخيرات وسبحته للشريف السيد عبد الجليل الوزانى موهما له أنهما للسلطان، وأنه هو الذى أمر بتوجيههما إليه ليوجه بهما لابن البشير تأمينا له، ويأمره بالقدوم عليه والتوجه في معيته للحضرة السلطانية، فوجه الشريف المذكور بهما لابن البشير، وأكد عليه في القدوم لديه والتوجه في خفارته لصاحب الترجمة، فورد عليه وفى معيته جملة صالحة من الأشراف العلماء وسراة القوم من بينهم صهره ولد رمضان الذى كان اتخذه أمينا كبيرا بوجدة في جيش لا يحصى كثرة.
ولما وصلوا إلى المحلة السلطانية بوادى ملوية رحب بهم السلطان وأظهر لهم مزيد الاعتناء والاعتبار وبالغ في إكرامهم وأنزل ابن البشير وصهره عند رئيس مشوره القائد محمد بن يعيش، وبعد أن اطمأنوا ألقى القبض عليهما وصفدهما بالأغلال، ووجههما لسجن فاس صحبة القائد الشافعى المسكينى وإخوانه وصاحب مكحلته القائد الجيلانى بن بوعزة البخارى، والقائد إبراهيم الشركسى وأكد عليهم بالأخذ بالأحوط في سفرهم بهما، ولمزيد الحزم أمر القائد الشافعى أن ينظم كلا من القائد المحجوب، والقائد إبراهيم مع المقبوضين في السلسلة كل لية إلى أن يحلوا بفاس، وأوصاهم إذا طرأ عليهم مشوش يبادر كل واحد منهما بقتل صاحبه الذى يليه من المصفدين.
ولم يزالوا يواصلون سير ليلهم بالنهار إلى أن بلغوا للحضرة الفاسية وقضوا مأمورياتهم طبق ما أمروا، ولما اتصل بالمترجم وصول السجينين بمحروسة فاس نهض من مسون ووجهته وجدة لتسكين بقية الروعة، وذلك بعد أن عين لكل قبيلة من القبائل التي جاءت مع ولد البشير المذكور عاملا.
ولما بلغ وجدة ولى عليها القائد بوشتى بن البغدادى الجامعى والد عامل فاس الحالى وتاقت نفسه إلى رؤية المعدن الذى بجبل روبان، فوجه إلى الفرنسى المباشر لخدمته يعرفه بمراده فأظهر عدم الانشراح لطلبه، وأرجأه إلى أن يأتيه جواب رئيسه.
ولما بلغ الخبر الرئيس تسارع للقدوم على المترجم في لفيف من العسكر والموسيقى فرحا بطلبه، ثم ذهب يستعد لزيارة جلالة السلطان للمعدن، وبعد ذلك توجه المترجم في موكب حفيل منتظم مِنْ فَارِهِ فرسان القبائل وولاتها وحاشيته الكريمة، وبعد الاستطلاع على المعدن واستيعاب أقسامه والإحاطة علما بجميع تعلقاته انقلب راجعا.
ولما وصل إلى عيون سيدى ملوك بآنكاد، أمر ببناء قصبة بها وأقام هنالك حتى اختط بها مسجدًا لإقامة الجمعة ودور السكنى وفرنًا ودكاكين للبيع والابتياع وسوقًا ومحالا لسكنى لفيف من العسكر، وأنزل بها آغا بعسكره، ثم بعد ذلك نهض بجنوده الوافرة ووجهته تازا، وقد كان أصدر أوامره لعاملها حيطوط المذكور بإلقاء القبض على كل من يدخل سوقها من غياثة واستقبال جلالته بهم يوم حلوله بضواحى تازا وعين لهم يوم إناخة ركابه العالى بها، فبادر العامل لامتثال ما أُمر به.
ولما بلغت الجنود المولوية لذراع اللوز خرج العامل للقعدة الحمراء وصحبته المساجين الصادر له الأمر بالقبض عليهم، وبات بها، ولما كان الغد وصلت المحال إليها واطمأنت وجه شرذمة من الخيل تحت رياسة القائد مبارك الشرادى الدليمى
المدعو ولد الشاوية، للإتيان ببعض الحظايا من تازا، كان تركهن بها، فلما توسطوا بهن الطريق قام في وجههم إخوان المقبوضين بسوق تازا أخذا بثأر إخوانهم ووقع بين الفريقين قتال شديد.
ولما اتصل الخبر بالمترجم أمر جميع ما بالمحال من الخيول بشن الغارة على فساد غياثة، ولما لحقت بالشرذمة المتقدمة الذكر وأتى العتاة ما لا قبل لهم به، فروا منهزمين، ولحق الحريم ومن يخفره بالمترجم منتصرين، ومن الغد نهض قاصدًا العاصمة الفاسية، ومنها توجه لعاصمة آبائه وأجداده مكناسة الزيتون وأقام بها مدة وفيها انتهت الخامسة بسلام.
ومما قيل في قضية غياثة وإخوانها قول الفقيه الأديب الكاتب السيد محمد غريط وأجاد:
سيف اعتصامك بالإله مجرد
…
ومهند وممهد ومؤيد
سيف الحقيقة بالشريعة يزدهى
…
ونجاده بضمان نصرك يعقد
قلدته للفتح إرثا خالصا
…
مع ما سواه من السيوف معدد
متخلف الفور المبين وحسبكم
…
المصطفى المختار جدك أحمد
جاه له دون الوجود بأسره
…
جاه عظيم بالشفاعة مفرد
ما إن يبارى بأسها متورط
…
في بغيه أو ظالم متبلد
أو يستقيم الدين إلا بالظبى
…
أو رسمه بسوى الظبى يتجدد
وافتك إسعافا ومن أسمائها
…
عضب بحكمك جازم ومحدد
يفرى الظبى بجماجم فله الظبى
…
وله الجماجم خاضعات سجد
شقى الشقى بحده وأبيد من
…
فتكات شدة ضربه المتمرد
حتف بسطوتك القوية قاصف
…
مأثور أنباء الفخار مبدد
أدهى السيوف كذى الفقار فمن يزغ
…
عن أمرك العالى به يتقدد
وكذاك مخدم في الشوى مستخدم
…
ورسوب يرسب في الوريد ويغمد
ومشوق الأملاك ساط حاسم
…
حامى الذمار مفصل ومجسد
وهو القضيب ودونه القلعى الذى
…
منه الفرائس في المواقف ترعد
بتار أعمار الطغاة براحة
…
إسماحها أهل السماحة أعبد
فكأنها بحر خضم مزبد
…
فالخير مطرد الندى لا ينفد
يمنى الإِمام أبي على من به
…
صدر الجحافل ثابت لا يفأد
[حسن] ملاذ المسلمين وغوثهم
…
سلطان مغربنا الشريف الأيد
إن سار في المحل استحال نضارة
…
واخضرت الغبرا وأينع جلمد
فاليمن والبركات في حركاته
…
بهما المخوف عن المغارب يطرد
أسد الكتائب سابق ومقدم
…
إن ضن بالسبق الكمى الأبلد
حيث المعاقل بالدواهى عقلت
…
حيث البواتر والأسنة تشهد
وهو المقدم كل ليث بيهس
…
بشهامة عزت فليست توجد
لله موقفه بكل ثنية
…
وتنوفة فيها المنايا تورد
وجبينه فيها بأنوار الهدى
…
متلألئ بادى السنا متوقد
كالحاجب السامى الذرى ونظيره
…
كأبى قراب ذا الكئود الأقود
أطواد طاولت السما لم ينفسح
…
فيها مجال ينتحيه السلقد (1)
(1) في هامش المطبوع: "الفرس المضمر كزبرج".
سلها فعند جهينة من حزمه
…
خبر اليقين مقرر ومقيد
حيث استغاث غياثة واستنجدوا
…
أوصاف رأفته ونعم المنجد
وتطارحوا وتملقوا واستسلموا
…
وأناب صالحهم له والمفسد
فاستوثقوا بذمامه عن طاعة
…
يتلو نتائجها البقاء السرمد
فعفا وأصلح والوفا من شأنه
…
والحلم من أخلاقه والسودد
أكرم بمولانا إذا ما أمه
…
بالتوبة الجانى المسئ الألود
بشرى كما تتلى البشائر عنده
…
في كل آن والبشائر أسعد
إن البشير إذا أتى أبوابه
…
لا يستراب حديثه أو يبعد
خبر بمعلوم ولكن متنه
…
يرويه من طريق الصحيح مسدد
بشرى بصنع الله والظفر الذى
…
أنباؤه فوق المنابر تسرد
دوخت مولانا البلاد جبالها
…
وسهولها بسياسة تتأكد
ونصرت حزب المرملين فما ونى
…
عن شكر برك بالدعاء موحد
وكسرت شوكة كل عاث ناكث
…
الغدر فيه سجية لا تنقد
حتى وصلت إلى صحاريها التي
…
لخلالها بدأ التنقل يحمد
فشددت أزر الدين في أقطارها
…
وبرا العدا من ذاك غم مجهد
هذا وحقكم الصلاح وأجره
…
جم الثواب من الإله معود
وقول الفقيه الأديب السيد العربى المشرفى:
أتت بشائر بالتهانى كالعيد
…
والسعد لباك زال كل تنكيد
واستحكمت من سماء الملك ثابتة
…
طوالع السعد في أبراج تسديد
فأصبح الغرب فردا لا يعادله
…
شرق بما جار من تقديم تقليد
يغار منه عراق وهو ذو مدد
…
والشام يغبطه من حسن تمهيد
لذاك أرخى ذيول الفخر يسحبها
…
عزا بملك أبي الموالى والسود
هو الإِمام الذى من حسن طلعته
…
وحسن صورته مستنبع الجود
إمامنا (الحسن) المسدى فواضله
…
وبالفضائل ساد كل موجود
بالبيض والسمر دان كل منحرف
…
ورائغ عن سبيل الرشد مصفود
لما بدت لعصاة الشم رايته
…
بواد غياث جال الجيش في البيد
أتت قبائل ذاك الجو مكرهة
…
لما أحيط بهم كالغل في الجيد
وأذعنوا رغم أنفهم وأعينهم
…
وشاهدوا الفتح لم يكن بمشهود
بفتح مغلق أبواب لثبقتهم
…
دعوا ثبورا فسحقا للمناكيد
حصون قلعتهم كانت لمتعتهم
…
قد عاينوا فتحها من دون تفنيد
مآل سبيهم وكل ما اكتسبوا
…
لمن ولاه إلهنا بتمجيد
شدوا رحالهم من خوفه رهبا
…
لم تنجهم غابة من شر تشريد
هيهات ظنوا تكن لهم أخى وزرا
…
فخيب الله ظنهم بتفريد
من أهل طاهر لم تطهر شريعتنا
…
من رجس بغيهم وظلم تعنيد
وكل جان لهم وجان نسبته
…
والخبث في نسلهم من جد مجدود
بنو بوأحمد لم تحمد عواقبهم
…
وأرضهم للجوار دون تحديد
بنوا قلاعا في أعلى الشم يمنعهم
…
من سطوة الله عزها في محمود
غش الفساد وكر البغى حل به
…
من النكال وبال غير محدود
سحقا لهم طالما منتهم كذبا
…
نفوسهم بأضاليل وتمريد
أعظم بداهية دهماء قد نزلت
…
بساحة القرب منهم والأباعيد
ظنوا شواهقهم للكل منجية
…
فأين من أسد منجاء للسيد
أمست ديارهم مأوى لبومهم
…
وشتت الله شملهم بتشريد
وكل صاعقة صماء محرقة
…
لم ينجهم هرب في كل تصعيد
عساكر الحرب للأعداء طالبة
…
لم تغن عنهم جبالهم بتعديد
يتلوها جيش من الأبطال عارفة
…
ركض الجياد عليها كل صنديد
قد ذاقوا طعم وبال الزيغ عن سفه
…
فاستمطروا العفو إظهارًا لترشيد
قد غرهم عفو جده ووالده
…
والشأن أخذ مولد ومولود
ناداهم الضيغم السلطان إنكم
…
لستم بأهل لعفونا وترديد
مذ عدتم عدنا وكان الله منتقما
…
منكم وربنا للأعدا بترصيد
تبارك الله هذا الفتح جل على
…
عن أن يزان بمنشاد الأناشيد
بشراك فأت عنان الحزم محتسبا
…
لله فعليك واصحبه بتحميد
ودر على كل باغ سل مديته
…
واذبحه بالعضب قهرا دون تهديد
وادخل قصورا طيور السعد تنشدكم
…
أهلا وسهلا بألحان وتغريد
قد طال ما غبت عنها وهى شيقة
…
لطلعة من سناك دون تفنيد
لك الهناء يقلك كل معضلة
…
وفتح مغلقها بإذن مودود
ما قال منشده في رسم دالية
…
أتت بشائر بالتهانى كالعيد
وقول الأديب الكاتب السيد محمد الصنهاجى من قصيدة:
بنو وراين حكمت سيوفه في
…
رقابهم فانثنت بالسعد والهمل
أغاث غياثة بالحلم شنشنة
…
بعد التمكن من أرض ومن قذل
زناتة بسيوف العدل قد قصموا
…
إذ شن غارته جيش الوغى الثمل
سعادة قنصت فتانهم فزعا
…
من سطوة بهرت أبطال ذى السحل
حتى غدا كل فتان على وجل
…
من ذى السيوف سيوف الله في الأزل
يا رب مكن له في الأرض واقطع به
…
حماية الكفر في الأوطان والنزل
ولما كانت سنة أربع وتسعين ومائتين وألف نهض المترجم من مكناس ووجهته مراكش فخيم بسبع عيون، ومنها إلى عين عرمة، ومنها إلى أمحصى، ومن ثم إلى اربعاء بهت، ومنها إلى الخميسات، ومن ثم إلى ضاية رومى، ومنها لعبابو، ومنه على الطويجن ثم لتيداس من بنى حكم.
وأقام هنالك وألقى القبض على عدد من المتمردين، ومن هناك نهض للمعازيز ومن ثم لأغبال، ومنه لظهر الشمس، ومنه للكراريط ومن ثم لأعويد الماء، ومنه إلى الدار البيضاء، ومنها إلى عين السبت، ومنها إلى طالع عك، ومنه إلى تاورتيست، ومنها إلى البيوت، ومنها إلى صبارة فطالع كرماط فأم زردة فمازى فونجين فالكريع فالكمكام فقيشر فبين السواقى فدار بوزكرى العميرى.
وهنالك ألقى القبض على طائفة من بنى عمير كانوا حاولوا الاستيلاء على الادالة التي كان وجهها السلطان سيدى محمد والد المترجم عسة بقصبة آيت الربع، وهناك تعاهدوا وتظافروا على الإيقاع بها وتمزيقها كل ممزق لما بلغهم نعى السلطان المذكور، ولولا قيام أهل أبي الجعد آل الشيخ أبي عبد الله محمد -فتحا- الشرقى في وجوههم ومبالغتهم في التحذير والإنذار لفعلوا.
ثم نهض إلى السراغنة وألقى القبض على من تعدى حده وخرج عن طوره من آل الشيخ رحال، ثم لم يزل يواصل سيره ساعيا في حسم مادة ذوى الزيغ والطيش والشطط حيثما حل وارتحل إلى أن حل بحانوت البقال ثم مراكش.
وقد نظم الشعراء المرافقين لهذه الحركة مراحلها ووصف وقائعها ومشاهدها فقال:
مراحلنا للحوز أندية زهر
…
ورائدها في الفتح يصحبه النصر
هو الطالع الميمون لاحت سعوده
…
بأفلاك عز دونها الشمس والبدر
منازل من سبع العيون تعدها
…
حماة لدين الله والبيض والسمر
وجيش لهام حيث زمور أذعنوا
…
إلى سيدى من أمره الجبر والكسر
وأعطوا يد الطاعات في عين عرمة
…
وما لهم في ذاك نقض ولا غدر
وأقدمنا عون الإله وحوله
…
لأمحص من جرعاؤه المورد الغمر
أقمنا به يوما مقام كرامة
…
فعاج بنا للأربعا الزمن النضر
منازل مولانا اللواتى تشوقت
…
إليه كما يشتاقه النيل والقصر
هو القصر منصور بطلعة سيدى
…
فما إن له عنها يقر به صبر
يباكره فوح العبير ونشره
…
ويهدى له أنفاس آراجه الزهر
منازل مولانا بفسطاطه الذى
…
سرادقه أمن وأطنابه خير
معرج بهت من تسلسل ماؤه
…
رضابا كأن قد شابه الذهب التبر
فأزمع منها السير مالك رقنا
…
وعسكره الساطى وجحفله المجر
يصك به الأعداء صكا وبأسه
…
مهنده زرق مطاعنها حمر
فخيم في الخميسات فأصبحت
…
وما لمجال المجرمين بها ذكر
وما لج في تلك التنائف صائل
…
ولا ذعر إلا وحاق به المكر
أباد وعفى بغيهم وعنادهم
…
وأرهقهم من بطشه الخوف والذعر
فأنهضه التأييد حتى استوى على
…
أعز بلاد عندهم وهم كثر
لضاية رومى والسلامة ردؤه
…
وحاجاته حمت وقد قضى الأمر
فطورا بترغيب يسوس وتارة
…
بترهيب فتاك يدين له الدهر
وحاول في أعباب تتميم رشدهم
…
فتم بتداس له ونما الأجر
ولما أجزنا بالطويخى هيأوا
…
هداياهم فيها المحجلة الغر
فنفذ حكما عادلا في فريقهم
…
بنى حكم من حلمه عنهم ستر
ثمال اليتامى عصمة لأرامل
…
براحته طى المحارب والنشر
فجاءوا حفاة صاغرين أذلة
…
ولم يأوهم طود ولم يحمهم وعر
وأدوا حقوق المسلمين فما ونى
…
غشومهم عنها ولا الصالح البر
مراحل للأملاك أسلافه الألى
…
لهم بأبى السبطين قد ثبت الفخر
هم نسخوا عز المعازيز بالظبا
…
وما آدهم نجد بعيد ولا غور
فأحيا أمير المؤمنين سبيلهم
…
كما كان بل قد فاقهم ذلك الصقر
إمام على الدين الحنيفى قابض
…
فإرضاؤه ربح وإسخاطه خسر
إمام له في كل شئ فراسة
…
هى الحق والعلم اللدنى والسر
إمام فحدث عن شمائله التي
…
بها انفسحت في الغرب دولته البكر
هو الحسن المنصور لذ بركابه
…
وإن غال من أعدائك الهتر والمتر
هو ابن رسول الله أكرم راحم
…
إذا ازورت عنك المعايب والوزر
مواكبه أخنت على كل خائن
…
بأغبال في الآثام أوثقه الجور
وعاجله صرف الردى وأجاحه
…
فليس له مأوى وليس له وكر
فهل للسهول المارقين إنابة
…
وهل في دنى يثبت العرف والبر
أقمنا بظهر الشمس نخرج زرعهم
…
من الغاب إذا أخفاه عن علمنا الطمر
فعادوا ولاذوا بالمدافع رهبة
…
وهم ورغ غدر وفعلهم نكر
ومنهم لدى مولاى قدم نسوة
…
عجائز والصيبان والأشيب القحر (1)
وساقوا لأعتاب المؤيد إبلهم
…
نجائب أدماها التطارح والنحر
فأبقى عليهم والبقاء سجية
…
به عرفت أخلاقه البدو والحضر
وعاقب منهم من تولى ضلالة
…
ولم يغن فيه الحلم والصفح والوصر (2)
فهذا هو الفتح المبين فحدثن
…
به لأعداك الفتح والنائل الغمر
بمنتصف الشهر المعظم أقبلت
…
فواتحه يتلو أواخرها اليسر
مراحل لا أنفك أصبو لذكرها
…
وهيهات لا تجدى الصبابة والذكر
دخلنا على دار الكراريط عنوة
…
ودلنا عويد الماء فانشرح الصدر
وسرنا إلى الدار التي في بياضها
…
أقيمت صلاة العيد واتصل الفطر
وأقبل مولانا الإمام فأشرقت
…
مصلاه والدين المؤيد والعصر
تمنى مصلى كل أرض صلاته
…
وتسبيحه فيها ومكة والحجر
(1) في هامش المطبوع: "القحر: الشيخ الهرم" ..
(2)
في هامش المطبوع: "الوصر - بالكسر - العهد والصك الذى يكتب فيه السجلات".
كما تأمل الأفلاك لو بسطت له
…
بذا اليوم في محرابه الأنجم الزهر
لتدرك من أقدامه لثم أخمص
…
مواقفه أقدامها الفتك والدسر (1)
ودون من بحر البلاغة مصقع
…
له خطبة قد زانها الوعظ والنتر (2)
فبورك من عيد سعيد مقره
…
بأرض زعير ما استفيد به دمر
وعنه انفصلنا واتصلنا بكل ما
…
يسنى لنا البشرى وإن قصر السير
لدار أبي عياد ذات مزارع
…
وعين سبيت من تسلى بها الفكر
وشمنا على قرب الديار زبيدة
…
أماطت خمار البين إذا حسن الفسر (3)
تحن إليها النفس وهى بعيدة
…
فكيف وقد أدنى مقلدها اليسر
وطالع عنها شوقنا كل تلعة
…
وطالع عك والشوق لاعجه جمر
بلاد بمولانا أذيل أسودها
…
وكسر ناب البغى واقتطع الظفر
فقاموا بحق الله والملك رهبة
…
وسرهم بالنصر أعلن والجهر
ورحنا لتا ورتيست حول زبيدة
…
وشائننا أودى به الدحر (4) والتبر
وراض بنا يمن البيوت سوابقا
…
إليها ولكن ماء جيرانها نزر
بدعوة مولانا تفجر سيبه
…
وفى صبرا عنه انفاى الترب والصخر
فآن بأسرار الأناة نزولنا
…
بطالع كرماط وأسادنا جزر
(1) في هامش المطبوع: "الدسر: الطعن والدفع".
(2)
في هامش المطبوع: "النتر - بالمثناة - تغليظ الكلام وتشديده".
(3)
في هامش المطبوع: "الفسر: الإبانة وكشف المغطى".
(4)
في هامش المطبوع: "الدحر: الطرد والإبعاد والدفع". والتبر -بالفتح- الكسر والإهلاك.
ولوحظ في تلقاء زرض مخيم
…
بأرض بنى خيران من شرهم قفر
هنالك ولجين به كل شيظهم
…
من العسكر الجرار أوحشه الزأْر (1)
وقلب آجاما ودكدك ذروة
…
وكسر هامات تخامرها الكبر
على الفور أدوا واجب الملك في مزا
…
هو الطارف الوجود والدخر والوفر
وحيث أنخنا بالكريع جددوا
…
قراهم كثيرا لم يلم به حصر
ونافسهم فيه سماعلة فما
…
تأخر منهم عن أدا واجب شفر (2)
مراتع غزلان بقمقام نفز
…
وفى قيشر قد زانها النفز والنفر (3)
بتادلة أبقى الإله رجالها
…
ملاذا لعان مسه الكرب والعسر
وموئل تدبير الصلاح لصالح
…
وتدمير حبان فيه لم ينفع الزجر
من بين السواقى حذرته طلائع
…
لسيدنا من شأنها الرفق والصبر
وفى دار بوزكرى أقامت براهنا
…
على أنه أعمى وفى أذنه وقر
فصحبه سيف الإمام فلم يقم
…
له في ابن عمير حديث ولا خبر
مغيض فساد خيب الله سعيهم
…
مشالم فيهم يعرف الظلم والختر
وفى حلق الاغلال أدرج منهم
…
عديد وأصمته العقوبة والأسر
منازله في أثنائها كل عارف
…
كبير علينا فاض من عطفه بحر
كمولاى من يكنى أبا الهادى من له
…
مناقب شتى ليس يجمعهما سفر
(1) في هامش المطبوع: "الشيظم -كحيدر- الطويل الجسم الفتى من الإبل والخيل والجمع شياظمة، والزأر: كالزئير - صوت الأسد".
(2)
في هامش المطبوع: "يقال ما بالدار شفرة وشفر وشفر أى أحد".
(3)
في هامش المطبوع: "نفز الظبى ونفر: شرد".
تلالا بالأنوار وجه ضريحه
…
له الجاه عند الله أكبر والقدر
ومولاى قطب الواصلين وسيدى
…
سليمان من يدعوه مثر ومعتر
إغاثته عند الشطيبى كأنها
…
رماح إلى الغوغاء سددها الجبر
مفاتيح مولانا الإمام حماته
…
ببرهانهم قد شد للملك الأزر
تبارك من أولاه منهم عناية
…
بها لعصم خضعان أكنهم وجر (1)
رأينا بنى موسى حيارى أذلة
…
بدار ابن زيدوح يقودهم القسر
نواكس للأذقان تسأل حلمه
…
سؤال منيب قد أحاط به البور
فلله ما أعلى وأغلى سماحه
…
وأقربه من مجرم إثمه عذر
منازل أحيا الله أمن سبيلها
…
فبالحفظ فيها ينهض الشفع والوتر
أبو عقبة منها قراه مهيأ
…
به يحمد الترحال والظعن السفر
وفى الدثرة الحسنا بشير حلولنا
…
بتاستاوت يلقاك من بشره نشر
يخبر أن الفور يوم مبيتنا
…
حذاء أبي يعزى وذا السيد الغر
كريم كريم منه كان انتقالنا
…
لتاملت والقلب جذلان والفكر
فقال إلى المنصور حال اعتباره
…
زيادة أرباب التقى للعلى جسر
وذا السيد الإبدال رحال سره
…
يشير لمولانا وأعلامه الخضر
فزار عماد الدين في الحين قبره
…
وآب بغيث الله إذ أحجم القطر
وبتنا برأس العين والدجن مطبق
…
ومعه رذاذ عنه تندفع البغر (2)
(1) في هامش المطبوع: "الأعصم من الظباء والوعول ما في ذراعيه بياض وسائره أسود وأحمر. والوجر: كالكهف في الجبل".
(2)
في هامش المطبوع: "الرذاذ: المطر الضعيف، والبغر -ويحرك- الدفعة الشديدة من المطر".
ورحنا لكرمان رواح مسرة
…
بذا الغيث من ينمو به الضرع والبذر
تخال فويق الأرض كل سحابة
…
يسح علينا من جوانبها نهر
إمام إذا ما الليل أرخى جفونه
…
جفا نومه قرآنه الملك الحبر
إلى الله يدعو والإجابة بابها
…
له صار مفتوحا ومفتاحه الذكر
على ملكه أهل العناية أطبقوا
…
وعن ملكه قد عنون الكشف والجفر
فبانت لنا مراكش وربوعها
…
ولاح عليها من سنا نوره فجر
وبتنا على جناتها بقرارة
…
ومما سواه راح آمالنا صفر
ولما بدا وجه الصباح بدت لنا
…
رجال بهم نال المفاخر ذا القطر
بدور سماء الأصفياء بجاههم
…
تبين من أعدائنا الصقر والبقر
فسحقا لهم سحقا أتى المَلِكُ الذى
…
به تأمن الدنيا به سعد الدهر
وحل محل العز في دار ملكه
…
فبشرى لنا والحمد لله والشكر
ونظم تلك المراحل ناظم آخر نذكر نظمه لما فيه من الفائدة التاريخية قال:
حمدا لمن هيأنا للحركة
…
بقوة وصولة وشوكة
نشكره شكر ضعيف عاجز
…
ثنى عنانه عن العجائز
فسنحت له مراحل السفر
…
يعدها في ذا السجل المختصر
فقال والله يسدد المقال
…
وهو حسبى في مقام وانتقال
مراحل السلطان مولانا الحسن
…
أكرم أبناء حسين وحسن
وسائل إلى صلاح المسلمين
…
بسيفه المشهور بالفتح المبين
أرخت بدأها بشكر بين
…
على مواهب الإمام الحسنى
من دار مكناسة الغراء
…
لبهجة الحواضر الحمراء
أولها المبيت في سبع العيون
…
وعين عرم وهى للحفظ عيون
وامحصى وأربعاء بهت
…
منازل السعد بهذا الوقت
ثم الخميسات وضاية رومى
…
وأعباب والكل لليمن نمى
كلذا الطويجن وتداس ورد
…
إلى المعازيز وأغبال تستفد
ثم لظهر الشمس والكراريط
…
ولعويد الما بحزم ضابط
إلى الدار البيضا أبي عياد
…
لعين سبت منهل الصواد
لطلعك لتورتشت لبيوت
…
لصبرا بالرفق لا بالجبروت
لطالع الكرماط فالله معين
…
وأُم زرض ومزا وونجين
إلى الكريع وللقمقام
…
لقيشر ظفرت بالمرام
ثم إلى بين السواقى دمت في
…
كلاءة الله ولطفه الخفى
لدار بوزكرى لسيدى أبي الـ
…
ـهادى الولى الصالح المقرب
إلى الولى سيدى سليمان
…
إلى الشطيبى يا وزير السلطان
يا ملجأ الأعيان والإخوان
…
يا عمدة الملك أبا عمران
بشراك بشراك بتحصيل الفتوح
…
فهذه أعلام دار ابن زيدوح
ومنها ننهض إلى بوعقبة
…
صحبة مولانا لدار الدشرة
لوادى تاستاوت لسيدى أبي
…
الهادى مفيدى باعز مطلبى
إلى تامللت بقيت عاليا
…
وبمديح البلغاء حاليا
لرأس العين ثم للنخلية
…
لحانوت البقال خير نزلة
ومنها سل عطف الرجال السبعة
…
ذوي الِكمال والسنار والرفعة
فمن هنا ببرهم نرتحل
…
وتحت راية الإمام ندخل
بحفظ ربنا لمراكشة
…
في ذمة الأمان والسلامة
فنسال الله دوام النصر
…
لملك الأمر إمام العصر
ثم الإياب معه لفاس
…
بكرم الشيخ أبى العباس
وبمراكش أقام حفلة عيد المولد وفق المعتاد من سلفه ذوى المفاخر العلية والمواهب السنية واقتداء بمن سن ذلك من أئمة الإسلام وحملة الشريعة في المشارق والمغارب.
وذلك وان لم يكن في القرون الثلاثة، وإنما حدث بعد، فلا ريب أنه من أحسن ما ابتاع وأجمله، إذ كان مصونا مما حذر الشارع منه.
قال الحافظ أبو الخير السخاوى في فتاويه: عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الماضية، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يحتفلون في شهر مولده عليه الصلاة السلام بعمل الولائم النفيسة ويتصدقون في لياليه بانواع الصدقات ويظهرون السرور ويعتنون بإقامة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. انتهى.
وقال الشامى: وأول من أحدث ذلك من الملوك صاحب إربل من أرض العراق الملك المظفر أبو سعيد كو كبورى، كان يحتفل به احتفالا هائلا ويصرف عليه كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وقد عد العلماء له من المآثر العظيمة ذلك وغيره، وأثنى عليه جماعة من العلماء منهم الحافظ أبو شامة شيخ النووى.
قال السيوطى في حسن المقصد في عمل المولد: وقد ألف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية تأليفا مجلدا لهذا السلطان في المولد النبوى سماه التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه بألف دينار وقد طالت مدته في المملكة إلى أن مات وهو محاصر للإفرنج سنة ثلاثين وستمائة.
وقال سبط ابن الجورى في مرآة الزمان: حكى بعض من حضر سماط المظفر يعنى صاحب إربل المذكور في مولد النبى صلى الله عليه وسلم أنه عد في ذلك خمسة آلاف رأس من الغنم شواء وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة زبدية وثلاثين ألف صحن حلواء، وكان يحضر عنده في المجلس أعيان العلماء والصوفية هـ.
وقد ترجم للمظفر ابن خلكان فانظره.
وقد قدمت لحضرة المترجم في هذا الاحتفال عدة قصائد مولوية من سائر الأقطار المغربية، ومما أنشد منها بين يديه قصيدة العلامة الأديب أبى العلاء إدريس ابن محمد بن إدريس بن الحاج العمراوى ودونك لفظها:
علامة إضمار المحبة لا تخفى
…
ونار هوى المحبوب في القلب لا تطفى
وجيش الصبابات المروع للحشى
…
يكر على صبرى فيهزمه زحفا
وكيف أوارى الحب أم أكتم الجوى
…
ودمع مآقى العين قد ساجل الوطفا
عريب النقا ماذ القينا من الضنا
…
فهل نرتجى مما عرى بكم كشفا
إذا باكرت من بطن نعمان نسمة
…
تجدد للصب المصاب بكم لهفا
وإن لمع البرق اليمانى موهنا
…
أثار بأحشائى لذكراكم لهفا
بحق هواكم بالفؤاد ترفقوا
…
ورقو التهيامى فقد جاوز الوصفا
إذا لم يكن وصل فوعد بزورة
…
وإن أنتم لم تسمحوا فابعثوا الطيفا
على أنكم مذ غبتم هجر الكرى
…
فما نام طرفى بعدكم لا ولا أغفا
أحبة قلبى هل تعود عهودنا
…
وهل تنظرن عينى المحصب والخيفا
وهل أردن ماء العذيب وبارقا
…
وتمنحنى بالمنحنى أسرتى عطفا
وهل بحمى الجرعاء والجزع أحتمى
…
وأنشق بالبطحاء من عالج عرفا
معاهد أحبابى وملء محاجرى
…
سقاها الحيا الوسمى بالديمة الوطفا
أردد ذكراها وأهتف باسمها
…
لعلى بذكراها من الوجد أن أشفا
وهيهات لا يشفى المحب من الأسى
…
سوى أن يرى عند الحمى ذلك الإلفا
علامَ أصد النفس معتسفا بها
…
ومالى أُرجيها بعلى أو سوفا
فهلا امتطيت العزم مطرحا سوى
…
مراقى تدنينى إلى المورد الأصفى
وان شفائى لو وجدت مساعدا
…
سماع حداة العيس ترمى بها عسفا
إلى طيبة تطوى المفاوز لا تنى
…
تبادر لا تخشى شتاء ولا صيفا
إلى روضة المختار أحمد من به
…
تمهد دين الحق واتخذ الأكفا
نبى الهدى المبعوث للناس رحمة
…
ومن جعل المجد الصميم له وقفا
ومن لعباد الله أصبح هاديا
…
فنالوا به الزلفى وقد أمنوا الخوفا
وبلغ للخلق الرسالة ناصحا
…
فلله ما أبدا ولله ما أخفى
وأعلى منار المسلمين بهديه
…
وأعمل فيمن ضل عن سبله السيفا
وأوضح دين الحق فاتصلت به
…
موارد من يسلك بها يأمن الحتفا
وخص من المولى بكل كرامة
…
تجاورت الأعداد والشبه والكيفا
به ختم الله النبيين منة
…
وفضله من بينهم وله استصفا
وقدم في الإسراء فهو إمامهم
…
وقد جعلوا من خلفه كلهم صفا
وفى الحشر يأتى الرسل تحت لوائه
…
وقد عمهم من فضله الكنف الأوفى
به أظهر الله الجمال جميعه
…
وأعطى لفرد الحسن يوسف النصفا
وأخدمه جبريل في حضرة بها
…
سقاه شرابا من مبرته صرفا
غداة ترقى قاب قوسين أو أدنى
…
وفى الموقف الأعلى له المجد قد زفا
فنال مناه باجتباء ورفعة
…
وعاد قرير العين بالقرب والزلفى
وفى المولد الأسمى بدت معجزاته
…
خوارق عادات شفتنا بها الشفا
كإيوان كسرى إذ تداعى بناؤه
…
وما كان يخشى من وثاقته صرفا
وتنكيس أصنام ورجم مخاتل
…
يروم استراق السمع من جهله خطفا
وغارت عيون الفرس عند خمود ما
…
لهم من وقود لم يكن أبدا يطفا
ومن قبل مبداه أتتنا بشائر
…
من الجن في الآذان تقذفها قذفا
إلى أن بدا النور الذى ملأ الفضا
…
فلا شرق يخفى ما استنار ولا جوفا
كما انجاب عن شمس الهداية ليلها
…
فلما تزل تبدو ولما يزل يخفى
وكم من علامات وكم من كرامة
…
له مع تزداد العصور به تلفى
فقل للذى يرتاد حصر صفاته
…
أردت محالا يا عديم الحجا كفا
لو اجتمع الأملاك والجن دفعة
…
كذا الإنس ما استوفوا من أوصافه حرفا
إذا الله حلاه ونوه باسمه
…
فكيف يجيل الخلق في وصفه طرفا
نبى الهدى المبرور دعوة خائف
…
يمد على بعد لمعروفك الكفا
غريب بأرض الغرب أعيت أموره
…
وضاقت مساعيه فناداك واستكفى
يناديك والأوجال تضعف صوته
…
وحمل اكتساب الوزر قد أثقل الردفا
يروم نهوضا ثم يعجزه الونا
…
ويغلب لا يسطيع عن نفسه صرفا
فلب رسول الله صوت مؤمل
…
وأسدل على عوراته كرما سجفا
وأول ابنك المنصور بالله عطفة
…
يحل بها فوق السماء ولا خوفا
ووال له سعدا وفتحا مؤبدا
…
يسوق به للمعتدى الهلك والحتفا
فقد يا رسول الله أعمل جهده
…
وما حاد عن نهج الرشاد بلى عفا
وقام بنصر الدين محتسبا به
…
يجدد ما استبلى ويوضح ما استعفا
وأسهر في نيل المكارم طرفه
…
وأعطى على الإصلاح مهجته وقفا
فساس وواسى ثم آسى بعدله
…
ولان لمن والى وقد جانب العسفا
وشاد بناء ثابت الأسّ بالتقى
…
وساد وبالمعروف قد بسط الكفا
وجرد للأعداء ماضى عزمه
…
وأسرج مرتادا لنيل العلا طرفا
هو الحسن السامى لأعلى مثابة
…
له الحسن والإحسان حازهما وصفا
أنله رضى يكسوه حلة مفخر
…
وعزا منيفا شامخا يغلب الكيفا
إلى أن يراه العالمون مجددا
…
لسنتك الغراء ماح بها الظلفا
حنانيك للبر العطوف الذى به
…
تبدى جبين العدل من بعد ما استخفا
حنانيك للفرع الكريم الذى زكى
…
وطابت مزاياه وبالعهد قد وفا
حنانيك للحبر الهمام فلم يزل
…
لخرق عداة الحق من جده يرفا
أعنه أعنه يا سلالة هاشم
…
ويا خير من والى ومن أكرم الضيفا
وكن ناصرا حزب الإله بسيفه
…
وأنزل على أعدائه الخزى والخسفا
ومثلك من حامى وواسى وإننا
…
على ثقة أن يحرز الحب والعطفا
سلام على ذلك المقام مضمخ
…
بأطيب طيب عرفه يملأ السدفا
وأركى صلاة من حمى القدس يزدهى
…
لها العرش والأملاك تستوعب الصحفا
وللآل والأصحاب أوفى تحية
…
ننال بها من رينا العطف واللطفا
ولما دخلت سنة خمس وتسعين بقى مقيما بمراكش شفقة على رعيته لما دهمها في تلك السنة من حبس المطر وارتفعت بسببه الأسعار، وبلغ ثمن المد من القمح بمكناس أربعة عشر مثقالا، فضج الناس وافتتنوا وكاد أن يأكل بعضهم بعضا، وصار المرء يفر من أخيه وأمه أبيه، ويبيع الوالد ولده، ولا زال إلى الحين الحالى يضرب المثل بتلك السنة لا أعاد الله مثلها على الأنام، ولم تزل الأسعار في ارتفاع والوباء بالأقطار المغربية في انتشار والناس في شدة واضطرار مدة، ثم تجلى الله سبحانه لعباده بالعفو والأفضال، فاهتزت الأرض وربت وأخذت زخرفها وازيتت.
وفى هذه السنة كانت وفاة باشا طنجة القائد الجلانى بن حم وولى مكانه القائد عبد الصادق الريفى.
وفيه وقع الإذن لصنو المترجم وخليفته بتافيلالت مولاى رشيد وعميه المولى سليمان والمولى الحسين بالإتيان من مقرهم تافيلالت للديار الغربية بقصد صلة الرحم مع المترجم وبقية ذوى رحمهم بطلب منهم، ولما وصلوا الدمنات صادف الحال إصابة المترجم بانحراف في مزاجه، فاصدر أوامره المطاعة لعامل دمنات بإكرام وفادتهم ونزلهم، والقيام بشئونهم كما يجب إلى أن تصدر لهم الأوامر بالإتيان للحضرة المولوية، ولما تحسنت حالة صاحب الترجمة الصحية أمرهم بالقدوم لحضرته بمراكش، ولما مثلوا بين يديه أظهر لهم من السرور بمقدمهم والارتياح لرؤيتهم ما أوجب غبطة غيرهم لهم.
ولما شفى صاحب الترجمة مما ألم به تبارى الشعراء في التهنئة والقول، فكان من ذلك قول الفقيه الكاتب الأوحد السيد لحاج إدريس بن إدريس العمراوى:
نهار كما شاء السرور سعيد
…
ويمن على مر الدهور جديد
وبشرى به الإسلام أثبت طوده
…
وقد كادت الأرجاء منه تميد
وفتح به ازدان الزمان وأهله
…
وموسم عز قد تبدى وعيد
وفخر وإسعاد وفضل ونعمة
…
تباشر أحرار بها وعبد
به رقصت مراكش وتبخترت
…
روى البشر فيها خالد ويزيد
بل الشرق والغرب ازدهى لسرورها
…
وهشت لها شاماتها وهنود
فقم وانشرح واطرب وطب فحبورنا
…
بإبلال مولانا الإمام يزيد
توارى ولا باس فطاشت عقولنا
…
وكادت نفوس العالمين تبيد
ولارمنا داء السهاد تأسفا
…
وحارت مهى في خدرها وأسود
فلما رأينا غرة المجد أشرقت
…
وروى أحاديث الشفاء حميد
تراجع أرواح الورى لمقرها
…
تبارك مبدى العالمين معيد
وجالت بنا الجرد الجياد وولولت
…
كأن تفاصيل الصهيل نشيد
وقهقه أصوات المدافع فانبرت
…
بروق تهنى بالمنى ورعود
وأرسلت الخيل العتاق فساجلت
…
مواهب بر ذكرهن عديد
ولائم سعد عظم المجد قدرها
…
براحة مولانا الهمام تعود
أحاديث من حل الهنا بشفائه
…
بها فار منسوب وخاب حسود
لدى الحسن المولى المؤيد والذى
…
له الفخر ينمى طارف وتليد
إلى ابن هشام ينتمى كل سودد
…
كريم على كل الكرام يسود
إمام إذ ما المدلهمة أعضلت
…
يفرجها رأى لديه سديد
وإن شحت السحب الغزار بوبلها
…
يسيح بيمناه الندى ويجود
وإن ثلمة في الملك أعوز خرقها
…
تداركها عزم له وسعود
وإن ركب القوم السفاه فسيفه
…
لقصم رقاب المارقين عتيد
وإن ذكر الأملاك في السبق للعلا
…
أقر له مأمونهم ورشيد
ثبات إذا ما الشامخات تضعضعت
…
وباع إذا ضات النطاق مديد
به رفأ الله الخروق بغربنا
…
ولولاه دامت فتنة وحقود
وأسهر طرفا صالحا في مصالح
…
رعاياه منها في الأمان رقود
أمولاى تهنينا سلامتك التي
…
بها الدين والدنيا لهن ركود
نها بها والمشرفية والقنا
…
وجرد مداك ضمر وجنود
كذاك سرير الملك والتاج هنئا
…
بها رسمت فوق القصور بنود
فدم واغتنم واسلم لأمة أحمد
…
فأنت لها كاف كفيل رشيد
وأول أبا عمران موسى بن أحمد
…
وزيرك برا لا يزال يفيد
فقد بذل المقدور في النصح واستوى
…
لديه قريب في الرضا وبعيد
وأعمل في مرضاتك الجهد قاصدا
…
رضا الله فانثالت لديه جدود
فمن رأيك الميمون بالله رأيه
…
وليس له في الصالحات نديد
وقابل عبيداً بالقبول فقد أتى
…
بأسلاك در ضمنته قصيد
ودونك مولانا الأمير نفيسة
…
عقيلة فكر عيطموس خريد
ترى مهرها عين الرضا وزفافها
…
إلى حضرة العلياء منك تريد
ولا زلت يا كهف الأنام مهنئا
…
بعافية طول الزمان تزيد
وألبسك الرحمن حلة صحة
…
مطارف لا تبلى لهن برود
وقول الفقيه الأديب الكاتب سيدى محمد غريط مهنئا الوزير أبا عمران موسى بن أحمد بشفاء صاحب الترجمة:
بشرى بشرح سلامة المنصور
…
وسروره بالملك في المنصور
قرت عيون المسلمين بها كما
…
قرت بطول حديثه المشهور
ترداده بلسان كل مفوه
…
أشهى إلى أسماع كل شكور
وبيانه بخطاب أهل وداده
…
أنكى لكل معاند وغيور
أهلا به أهلا فما أحلاه من
…
نبإ يمزق قلب كل غرور
لم يدر ألطاف الإله بعبده
…
في مظهر المحتوم والمقدور
أو يستكين إلى الصواب ويرعوى
…
عن فهمه المذموم والمحظور
نبأبه التوحيد أصبح يزدهى
…
في العز يرفل في برود حبور
والكفر أبلس والغواة عذابهم
…
لمآتم ومنائح وثبور
نبأ جميل الذكر متصل الهنا
…
بإمامنا بحر الهدى والنور
عن أحفظ الحجاب يروى متنه
…
بنفائس المنظوم والمنثور
ذاكم أبو عمران أكرم شافع
…
وأجل ساع في ادخار أجور
ركن السياسة والرياسة والحيا
…
طود الأناة وجابر المكسور
ثبت الفؤاد إذا تعاظم حادث
…
عن حمله قد كل كل صبور
موسى بن أحمد لا عدمنا وجهه
…
كالبدر في شرف السنا المنظور
علامة الوزراء ومأوى المعتفى
…
ومحل أمن الخائف المذعور
بشرى له بشرى له بشرى له
…
يحظى بظل ردائها المنشور
بحصول عافية الإمام المجتبى
…
حسن الشريف الطاهر المبرور
سيف الأله يبيد كل ممخرق
…
عاث ويكسر هام كل جسور
فخر السلاطين الذين فخارهم
…
في الغرب فوق فخار كل فخور
لا زال في مرقى السعود مهنئا
…
بكمال برء في قباب قصور
يتلو الزمان بقاءه وشفاءه
…
في بابه العالى على الجمهور
وقول الفقيه الأديب الحسيب مولاى أحمد الرباطى مهنئا باشا الحضرة الإدريسية عبد الله بن أحمد من قصيدة:
فجر اليقين بأفق العقل قد طلعا
…
لولاه غيم سحاب الشك ما انقشعا
والبدر حل حلول السعد في شرف
…
ببرج طالعة الجوزاء إذ سطعا
منه الدرارى استنارت فهى في فلك الـ
…
إجلال تسبح والضياء قد نصعا
وشق جيب الدجى عن الصباح كما
…
غنى الهزار بصوت للصبوح دعا
والشمس من غيهب بالحمد قد طلعت
…
وأشرقت في سماء المجد فالتمعا
فالملك عوفى والهناء يومئذ
…
وصارم العز هام الطيش قذ قطعا
بشرى بعافية الوجود من خطر
…
إذ داؤه بالشفا عزما قد ارتفعا
لولا الأمير لعمر الله ما بزغت
…
شمس التهانى ويوم السعد ما تلعا
لولا الأمير وراء الخلق ما خمدت
…
نيران خيف ولولا الذعر ما ارتدعا
لولا الأمير لما عاش الضعيف ولا
…
في الأمن شخص على بساطه اضطجعا
للمال حفظ وللأعراض مع سبل
…
ظل الرعية من حر الوغى منعا
تعطى الحقوق به قد حال صارمه
…
بين الورى حده برا من امتنعا
مستوجب صالح الدعاء حق له
…
من الأنام أليس الخطب قد دفعا
فالله يحفظه من كل مؤلمة
…
طول الزمان بمن في خلقه شفعا
فر الفساد من الصلاح منهزما
…
لولا القنا بيمين الملك ما انقمعا
فأهل شقشقة اللسان دونهم
…
عضب يمانى وكم من مهجة لسعا
قل للذين بإرجاف الورى اشتغلوا
…
موتوا بغيظكم فالصبح قد طلعا
عار على المسلمين الخوض في كذب
…
يدرى العواقب من في المؤمنين وعا
فالطود أرسخ شئ في تمكنه
…
ما اهتز قط للغوكم ولا استمعا
والليث أظفاره تغنيه في ظفر
…
يدهى الذئاب سماعه وإن شسعا
ما صرصر الباز حول الطير في وطن
…
إلا انزوت والتوت في وكرها فزعا
إن الخلافة تنظيم العباد فلا
…
تحصى لها حكم سبحان من بدعا
حق الهناء فبشرى الغرب من فرح
…
جاء البشير وإن الحق قد صدعا
سر الزمان وكاد القطر من فرح
…
يختال زهوا ونال الأمن واتسعا
…
إلخ
وقول الفقيه الكاتب السيد محمد الصنهاجى من قصيدة:
حى الرفاق وسائق الأظعان
…
وأنخ بمربع راحة وتهان
واجنح إلى سلمى ويمم حيها
…
تجد المسرة في رياض غوان
واليمن يشدو والسرور متوج
…
والسعد يرقص في بساط أمان
والمجد يرفل في برود بشائر
…
يمنية مكلوءة بمثان
والكون يطرب والهناء معانق
…
والعز ينصع في سماء معان
حول الحمى تجد الأنام مطيلة
…
أعناقها لتفوز بالعيان
فأزال مولانا هواجس فكرة
…
بتواتر مأثور عن أبان
عن بارع ببراعة سكنت بها
…
لب العوالم عن أبى عمران
يا مصغيا أُذن السماع إلى الهدى
…
أبشر بعافية العلى الشان
أضحى الشفاء معانقا لأميرنا
…
والبسط والأفراخ في الإيوان
وقول الفقيه الأديب مولاى أحمد بن الفقيه العلامة مولاى العربى البلغيثى يهنئ الباشا عبد الله المذكور ويذكر ولده محمداً خليفته:
طاب الصبوح بأطيب اللذات
…
اشرب زلالا فالحبيب موات
وأصخ لما يبدى السماع مجاوبا
…
بترنم الألحان والنغمات
باكر وصل وعد الغوانى مصافيا
…
ودع المزاح مواتيا لسقاة
دارت كئوس الشرب بين أفاضل
…
من راحة الهيفاء بالحضرات
أنسية حضرية فتانة
…
بعذوبة الألفاظ والنفثات
فكأنها ظبى الفلاة تجفلت
…
والروع يشرفها من الهضبات
جارت دلالا والدلال يزينها
…
لسعت بمثل أساود الحيات
نفرت فأرخت للبعاد عنانها
…
وكوت فؤاد الصب بالجمرات
سمحت بنظرة وردة في سوسن
…
بتوسط الطاسات والكاسات
والخال حارسها بلون حالك
…
متيقظ الأجفان والنظرات
قرب الوصال وأشرقت شمس العلا
…
جاءت جنود البشر بالرايات
ملأت مسرتها القلوب وأرسلت
…
نبأ السرور يطوف بالجمعات
هذى عوائد سيدى من لطفه
…
عادت به الأشياء للغايات
يا قاصدا نلت التهانى والمنى
…
ومرابع الآمال والحاجات
يمم وهنئ بيت مجد شامخ
…
ومعالم الإحسان والحسنات
وعرين غابات الأسود من أحمد
…
فهم الكرام وعترة السادات
واخصص ذرى الشمس المنيرة في العلا
…
عبد الإله ومظهر الآيات
فئ البنود مقيله ووطاؤه
…
ظهر الخيول تصول في الغارات
أسد عزائمه النصال وكيف لا
…
وهو الكمى الثبت في الوثبات
إنسان عين العلم إن ذكاءه
…
يبدى العلوم بسرعة وثبات
أقنى لباب العقل حكمة قاصد
…
مع فكرة أصفى من المرآت
من خصه المولى ونور سره
…
حفت به الأقمار كالهالات
فلتهن يا سيدا ربى في سودد
…
بسلامة المولى من الآفات
سلم الوجود ببرئه وشفائه
…
سعد البرى وغيره في شتات
ملك لمبغضه الجحيم وراثة
…
والناصحون في أفضل الجنات
ملك حوى فضل الملوك جميعها
…
ساد الملوك فيما مضى أو ياتى
أوصاف مدح في الثناء كثيرة
…
قصرت عليه بواضح البينات
إن رمت حصر صفاته مستقصيا
…
رمت نفاد البحر بالآلات
يا نجد كهف الوقت حبر رياسة
…
اهنأ بعز يا سليل ثقات
أنت العريق مجادة ومكانة
…
نلت السمو لأرفع الدرجات
حسنت سجاياك سمى محمد
…
ورضعت ثدى العلم في الحالات
دمتم في حفظ الله ناصر مالك
…
قد خصكم بمواهب الخيرات
حق الأمير على الرعايا دعاؤها
…
في سائر الركعات والسجدات
تبغى له نصرا وعزا مؤزرا
…
في كل آونة من الأوقات
إن الدعاء له علينا لواجب
…
في غاية الإخلاص والنيات
فأدم صلاتك للنبى محمد
…
مصحوبة بنوامى التحيات
والآل والصحب الكرام جميعهم
…
محفوفة باليمن والبركات
وبعد مقدم الأشراف المذكورين من تافيلالت بأيام قلائل توفى أبو عمران موسى بن أحمد وجيه رجال الدولة وحاجبها وممثل رجال صدارتها، فأسف السلطان لفراقه وحضر جنارته بنفسه، وذهب راجلا في وسط المشيعين من داره إلى محل مدفنه، بضريح جد الأشراف مولانا على الشريف بباب آيلان، ولما كان المترجم قائما على شفير قبر الفقيد طلب منه عمه المولى سليمان المذكور ترشيح ولد المتوفى أحمد المار الترجمة لوظيف والده رعيا لمكانته المكينة، وألح عليه في ذلك، فقوبل اقتراحه بالتلبية، وفى عشية اليوم نفسه أمر بعمارة المشور ولما أخذ كل مكانه أمر قائد مشوره بإجلاس أبى عبد الله محمد بن العربى الجامعى بمجلس الصدارة وأخيه أبى عبد الله محمد الصغير بمحل وزارة الحربية وأبى العباس أحمد ابن موسى المتوفى بمحل الحجابة الذى هو محل والده الحقيقى.
فلما بلغ ذلك المولى سليمان المذكور تأثر غاية وأعاد الاقتراح على المترجم فأجابه بأنه عينه في محل والده طبق ما اقترح عليه، وأجابه إليه، وأنه ما رشح قط
الهالك المذكور للصدارة، وإنما كان تصرفه فيها على وجه الافتيات منه ورعيا لسابقية خدمته مع والده استحيا منه ولم يؤنبه وإلا فرتبة الوالد هى التي رشح لها الولد فزال لمولاى سليمان الأشكال وتحقق صدق المقال.
كما قلد المترجم أيضا أمانة الأمناء المالية للأمين الأكبر أبى عبد الله السيد محمد بن الحاج محمد التازى الرباطى الشهير.
قال صاحب الاستقصا: وفى هذه الأيام استدعى السلطان أيده الله خديمه الأرضى، السيد محمد ابن الحاج محمد التازى الرباطى إلى حضرته العالية بالله بمراكش، فقدم عليه الأمين المذكور وأجل السلطان مقدمه وأسند إليه أمر خراج المغرب ومراسيه ومستفاداتها وما يتبع ذلك من صوائرها، وفوض إليه في ذلك تفويضا تاما لعلمه بنصحه وأمانته وضبطه، قال: وهذا الرجل من أمثل أهل المغرب وأصدقهم وأنصحهم للسلطان، وأشدهم غيرة على الدين والوطن، حتى لو كان في الدولة عشرة رجال على شاكلته ومذهبه لكان يظن أن يكون لها بذلك النجاح التام، نسأل الله تعالى أن يصلح أمرها، ويشيد بمنه عزها وفخرها. انتهى.
وبقى قائما بأعباء وظيفه بغاية الاجتهاد والسداد مصاحبا للركاب السلطانى حلا وارتحالاً إلى أن اخترمته المنية بفاس في رمضان عام 1307 ودفن بضريح مولاى أحمد الصقلى منها بقرب قبر الأمين السيد محمد بن المدنى بنيس الذى كان قبله، فقلد المترجم بدله أخاه الأصغر الناصح الغيور النزيه الطيب الذكر السيد الحاج عبد السلام بن محمد التازى الرباطى المتقدم الذكر في ترجمة الوزير الأكبر السيد أحمد بن موسى فسار على سيرة أخيه، مع اقتفاء نهج الجد وتوخيه، والقصد والسداد، والجد والاجتهاد، وشدة الاهتمام بمصالح الإسلام، وفيه يقول الأديب الكبير العلامة الشهير أبو العباس السيد أحمد بن قاسم جسوس:
إن عدت الأمثال كان أجلها
…
بل نورها وسواه كان الشيحا
ذاك العقول إذا كبت آراؤهم
…
أضحى العويص برأيه مفتوحا
أس الوفار ومنبع المجد الذى
…
تلقى مكان الحمد فيه فسيحا
وهى قصيدة من غرر قصائده، ودرر خرائده، هنأ بها خليله الأديب الحيسوبى الميقاتى الؤرخ الشريف مولاى الغازى بن الحسنى الرباطى دفين الإسكندرية مقفله من الحج 16 صفر عام 1307، وهو والد صديقنا الحميم سيدى المدنى بن الحسنى، وصدرها بقوله بعد الحمدلة والصلاة.
"وبعد: فيقول أحمد بن قاسم جسوس مهنئا الشريف الغطريف الأديب الأريب الفقيه الأوحدى الدراكة اللوذعى أبا القاسم مولانا محمد الغارى بن سيدنا الحسنى الإدريسى اليملحى أعزه الله وأعلى كعبه بزفافه ببنت رأس الأكابر الأفاضل، وجامع أشتات المناقب والفواضل، الأمين الأفخم السيد عبد السلام التازى أبقاه الله وكلاه وذلك بتاريخ رجب الفرد الحرام عام 1303:
أبدين من تحت البراقع يوحا
…
فملكن شوقا عقلنا والروحا
ورمين عن قوس الحواجب أسهما
…
غادرن كل غضنفر مطروحا
وخطون في جنح الظلام تسترا
…
فوشى بهن المسك يفضح ريحا
يبسمن عن حب الغمام يشمن عن
…
عين الغزال وقد طوين كشوحا
ويملن تيها عن قدود ميد
…
غصن الرياض غدا بها مفضوحا
متلفعات بالشباب يدرن من
…
خمر التصابى كأسها المصبوحا
لهفى على ذاك الجمال فإنه
…
مذ لاح خلى في الحشا تبريجا
ويحى على شرخ الشباب أضعته
…
إن لم أفز يوما به ممنوحا
فلكم قطعت لأجله أجم الليو
…
ث وكم ذرعت من الفجاج الفيجا
ومعى أغر محجل ضمرته
…
فتخاله عند السباسب ريحا
متأبطا عضبا على صفحاته
…
تبدى المنون دماءها المسفوحا
لا نلتقى إلا قتيل محبة
…
أو مدنف الأحشاء أو مجروحا
لولا اصطباحى كأس حب محمد
…
غازى لخلفنى الغرام طريحا
ابن الألى قد أحرزوا النور الذى
…
أضحى به صدر الهدى مشروحا
الراشدين المرشدين الكاملين الـ
…
طيبين الطاهرين السوحا
ما انفك باب الفضل حيث ديارهم
…
للقاصدين فتوحهم مفتوحا
سكنوا من الشرف الرفيع حصونه
…
وتبوءوا العز المنيع صروحا
يا خير ممدوح وخير محبب
…
حليت شعرا صار فيك مديحا
أقسمت بالمجد الذى أوتيته
…
وغدا لهيكله سناؤك روحا
ما جال فكرى في شمائلك العلا
…
إلا شممت الورد ينفح ريحا
يا سيدا فاق الكواكب رفعة
…
والبدر نورا والبحار سموحا
ورث السيادة كابرا عن كابر
…
عن كابر عن كابر تصريحا
مذ كان طفلا والمعارف دأبه
…
هل في سواها شمت منه جنوحا
حتى حواها واستقل بعبئها
…
فغدا بها وبحبها مريحا
مولاى تبقى في السرور منعما
…
ويدوم طيرك بالهناء صدوحا
هاك القريض يمانيا أحكمته
…
بردا موشى من حلال وجيحا
وزففته بكرا عروبا قدها
…
يهتز غصنا في الرياض مروحا
طرقتك في حلى البديع كأنها
…
تلك التي وافتك تبهر يوحا
إلى أن قال:
واهنأ بصهر قد سمت آراؤه
…
وحكى البدور مكانة ووضوحا
إن عدت الأمثال إلخ الأبيات الثلاثة السابقة:
يا ابن الرسول بقيت مخدوم الدنا
…
مغبوق كأس بالمنى مصبوحا
وتدوم سباقا لغايات العلا
…
لا كان طرفك في السباق جموحا
وقد عارض بها قصيدة حائية أخرى في موضوعها لصديقهما الأديب الشهير قاضى الدار البيضاء أبى العباس السيد أحمد الزعيمى الرباطى وهى مذكورة بتمامها في الاغتباط بأعلام الرباط في حرف الغين منه، فلا حاجة للإطالة.
وبمراكش أقام المترجم حفلة العيد النبوى الأزهر ووردت على سدته الكريمة عدة قصائد من سائر أدباء دولته، وألقى على مسامعه الكريمة منها بمحضر من ساعده السعد من العلماء والوزراء والكتاب والأعيان بحضور الليلة الغراء التي يحتفل لها الجناب المولوى كل سنة أى احتفال، من تلك القصائد موشح العلامة الأديب إدريس بن محمد بن إدريس ودونك لفظه:
يا حاديا يقطع السباسب
…
ينشد طبعا من النسيب
استدم السير في الغياهب
…
لا تخش من حادث مهيب
سق المطايا تلو المزايا
…
واطو فيافى البعاد طى
حتى ترى النوق كالحنايا
…
وارم بها نحو أرض طى
نعم وحاذر وقع المنايا
…
إن جزت حول الحمى بحى
وارع هناك الغر الغرائب
…
الصائدات القرم الأريب
بوتر الغنج والحواجب
…
تستعبد الأروع النجيب
عرب بتلك البطاح حلوا
…
دم المعنى لهم حلال
عن الخنا والخلاف جلوا
…
للسعد في ربعهم مجال
وهجر مضناهم استحلوا
…
ولم يخن عهدهم بحال
حازوا منى الصب والرغائب
…
مذ جاوروا منزل الحبيب
وانتشر حلا الوجد والغرائب
…
وأنشد فؤاد الحب الغريب
وحى عنى ربى المصلى
…
والشعب والوادى الظليل
ونور سلع إذا تجلى
…
والبرق في ضوئه كليل
هناك بين الربى تملا
…
تستنشق الشامى البليل
معاهد ذكرهن واجب
…
على المعنى الفتى اللبيب
إن بان طرف لها وحاجب
…
يعتاد قلبى بها وجيب
وان رأيت المقام الأسعد
…
حزت الرضا من منى وسول
مقام خير الورى محمد
…
المصطفى الهاشمى الرسول
من بمزايا العلا تفرد
…
وغيره ما له وصول
لما تجلى بدت عجائب
…
في حضرة السامع المجيب
نال بها منتهى الرغائب
…
وشاهد الحق من قريب
فكان ثم الفرد المنادى
…
وجبرئيل له خديم
خلف جبريل ثم زادا
…
لمقعد المجتبى الكريم
واستكمل القصد والمرادا
…
بفخره الطارف القديم
وهو في الحشر خير عاقب
…
إذا ادلهم اليوم العصيب
تلوذ فيه به عصائب
…
عند اشتداد الحر المذيب
إذ يبلغ القلب للحناجير
…
إلى علاه يلجا ويصمد
أول ذا الخلق والأواخر
…
كل ينادى الغياث أحمد
تنصب للأنبيا منابر
…
ثم يقوم المقام الأحمد
وكم تبدت لنا مناقب
…
يعجز عن عدها الخطيب
حين تدلت له الكواكب
…
بمولد ما لها مغيب
أتت بميلاده البشائر
…
بألسن الجن والبشر
قس سطيح سعدى تماضر
…
كل له عنده خبر
ينقله البدو للحواضر
…
حيث حوت فخره مضر
نشأ في أشرف المناسب
…
من كل فحل نام حسيب
يجاذب المجد كل جانب
…
فكل فخر له جنيب
مطلعه أبرك المطالع
…
نجم الهدى فيه قد طلع
وقبره أشرف المواضع
…
لتربه العرش قد خضع
شنف بأمداحه المسامع
…
واتل المزايا التي جمع
ودم على ذكره وواظب
…
إن تكن الحاذق الأديب
بلفظه طيب المآدب
…
يغنى شذاه عن كل طيب
أنقذنا من هوى المهالك
…
من بعد جيل بها هلك
وأوضح السبل والمسالك
…
طوبى لعبد بها سلك
لولاه ما انجابت الحوالك
…
كلا ولا استجمع الفلك
وله نلجا من النوائب
…
إذا التحت عودنا الصليب
فالجأ لمغناه غير هائب
…
وقل بلفظ الجانى الكثيب
يا سيد الأنبياء طه
…
يا ذا المقام السامى النزيه
فخرك في الخلق لا يضاهى
…
وما له في العلا شبيه
يا من سما مفخرا وجاها
…
أنت الشفيع الرضا الوجيه
يا من به ضاءت المراكب
…
وانخذلت دولة الصليب
يا خير ماش وخير راكب
…
يا صاحب التاج والقضيب
عبدك بالغرب مد كفا
…
لنيلك الزاخر المديد
ودمعه يستهل وكفا
…
يرجو الذى يأمل العبيد
لو ساعد البخت جاء زحفا
…
يبث شكواه بالوصيد
فكن لعبد حشاه ذائب
…
ما بين ليث عدا وذيب
وذنبه أوهن المناكب
…
والعفو من فضلكم قريب
واعطف على نجلك المفدى
…
بالأهل والمال والبنين
بدر الصلاح الذى تبدى
…
في المنهج الواضح المبين
سار وللقصد ما تعدى
…
بهديه المشرق الجبين
وقام في الدين خير نائب
…
ولعلا أمركم منيب
وحار في الفضل سهم صائب
…
ورأيه في العدا مصيب
بسيفه شيد المعالى
…
وبالهدى والتقى ارتفع
صنو الندى صادق المقال
…
فمجده في السما لمع
جيد رعاياه منه حال
…
باليمني وإلا من قد صدع
أحلف بالله غير كاذب
…
ولا مقالى بذا غريب
ما في ملوك الزمان كاسب
…
لفخره أو له نصيب
الحسن الهاشمى شهم
…
ينميه للمصطفى هشام
يم ندا كفه خضم
…
قد فاز حام به وسام
وإن بدا للشقاق نجم
…
محاه من بأسه الحسام
كم من مسئ أتاه تائب
…
فوجد الصافح المثيب
وبائس ناوش المصائب
…
بمده اكتال والجريب
فالقرب بالعدل منه رائق
…
والسعد في أفقه رقا
أدواح خيراته بواسق
…
سقاها منه الذى سقا
والعلم من راحتيه نافق
…
يدعو له الدهر بالبقا
مذهبه أحسن المذاهب
…
ودهره الناعم الخصيب
به لدينا انهلت مواهب
…
عند ذراه السهل الرحيب
أوقاته كلها سعود
…
يحوطها اليمن والسعادة
ولمقاماته صعود
…
تتلى بها الفاتحات عادة
بروق نصر لها رعود
…
على العدا ترة معادة
يقود عند الوغى كتائب
…
ينهدمن وقعها الكثيب
من كل قرم حام مضارب
…
يستعذب الحتف كالضريب
ليوث حرب تحت المغافر
…
عودها في العدا الظفر
من صادق الطعن وهو سافر
…
تشبهه الأسد إن سفر
وساحب السيف فوق نافر
…
يقول للقرن لا مفر
مشارق الأرض والمغارب
…
عادت لصولاته تنيب
والمارق الخارج المحارب
…
بدم عتنونه خضيب
أعمل في الصالحات جهده
…
وكبت الزائغ المريد
ألهم في المكرمات رشده
…
وسار سير الرضى الرشيد
فأظهر الله ثم جنده
…
ومنك يستوهب المزيد
فكن له الحافظ المراقب
…
وقلدنه العضب الخشب
مهد له أرفع المراتب
…
واحفظه في القرب والمغيب
عطف عليه القلوب جمعا
…
وكن له الناصر الحميم
وحام عنه دفعا ونفعا
…
وافتح له فتحك العميم
واكس المعادى ذلا ووضعا
…
وأوردنه الردى المليم
واحرس علاه بكل جانب
…
وأره صنعك العجيب
أم نداكم راج وراغب
…
حاشا لعلياك أن يخيب
مولاى يهنيك ما تسنى
…
لسعدك الفائز المتين
وأبشر بنيل الذى تمنى
…
من فضل مولاك كل حين
واسعد بعيد بكم يهنى
…
وانعم بذا الجوهر الثمين
روق من وصفكم مشارب
…
فازدان منشوره الذهيب
عارض في النظم وهو راهب
…
ما لابن سهل وابن الخطيب
يا أهل بيت النبى أنتم
…
لمدحتى البدء والختام
أفلح كعبى إن قبلتم
…
وما على من غلا ملام
طاب شذا مدحكم رطبتم
…
عليكم منكم السلام
سلام ربى عليه دائب
…
ما اشتاق مضنى إلى الحبيب
وماله من آل وصاحب
…
ما صاح في الروض عندليب
وفى غرة جمادى الأولى من عام ستة وتسعين نهض المترجم من مراكش ومر في طريقه على قبيلتى الرحامنة والسراغنة، ولما كان بآيت عتاب أوقع بهم وأكل زروعهم وقطع منهم واحداً وعشرين رأسا جزاء لهم على ما اجترموه من الزيغ والعيث، ثم نهض وسار إلى تادلا فزعير فرباط الفتح وأقام به أياما، ثم ظعن منه مصمما على الزحف لبنى مطير إذ كانوا سعوا في الأرض الفساد وعاثوا في الطرقات بسلب ونهب المارة وأوقعوا بعرب دخيسة وأولاد نصير الذين كان أنزلهم المترجم بسايس بدلا من مجاط شر وقعة، ولما شردوهم عن سايس رجعوا إليه مجاط الذين رحلهم السلطان منه، فسار من الرباط على بنى حسن وزمور الشلح وجروان، ثم نزل ببحبوحة بنى مطير آكراى والحاجب وأمر بنى مكيلد أن يزحفوا إليهم من ناحية آكراى، فزحفوا وربطوا عليهم آيت يوسى، وآيت شغروشن، وآيت عياش، وآيت ولان من جهة الشمال.
كما ربط بإزاء المذكورين القائد العربى بن محمد الشركى -والد الباشا عبد الكريم عامل شراكة وأولاد جامع سابقا القاطن حينه بفاس- وبقية من جاء مع المحال السلطانية من القبائل الغربية والحوزية، وأحدق الجميع بعصاة بنى مطير فضاق بهم الفضاء المتسع، ولم يجدوا خلاصا ولات حين مناص.
ولما أيقنوا بالثبور والبوار، وأكلت زرعهم الرطب واليابس، وهلكت ضروعهم وجاست الجنود المخزنية التي لا قبل لهم بها ولا طاقة لهم عليها ربوعهم وبارت منهم الحيل لجأوا إلى المترجم، وتطارحوا على أبواب رحابه، وأعلنوا بالإبانة وإخلاص الطاعة والتوبة النصوح، وتشفعوا واستجاروا بالصالحين، وتمسكوا بأذيال الحلم والحنان، والعفو المولوى، فرق لهم المترجم لما وصلوا لهذه
الحالة وعفا عنهم عفو قادر، ووظف عليهم غرامة مالية قدرها مائة وخمسون ألف ريال وخمسمائة مرهون من أعيانهم، وأدوا جميع ذلك والتزموا برد الحقوق والمظالم وإخراج قبيلة مجاط من بين أظهرهم وجعل النزائل لحراسة المارة بين فاس ومكناس، وفى هذه الوقائع يقول الفقيه الأديب مولاى أحمد الرباطى من قصيدة:
صلحت بعزك في الخروج قبائل
…
فالحب عادت بينهن طوائل
لما حللت بأرضهم حلت بها الـ
…
بشرى وفكت للحقود حبائل
كانت منازلهم قبيل خروجكم
…
قفرا وبعده هن منه أواهل
حقنت دماءالفرقتين بعيدما
…
كانت رماحا بينهن وسائل
لعقت دماءهم السيوف ودحرجت
…
هاما وكرت في النزال قبائل
شابت بمعترك الوغى شبانهم
…
لولا الحروب لما صرخن ثواكل
دوخت أرضهم بقصد هنائهم
…
فتهنأوا حتى المحل الهائل
بعد الشتات جمعت شمل فراقهم
…
أطفالهم أمنت كذاك أرامل
فالحيف مهزوم حسمت ذراعه
…
بنصال عدل إذ سطوت تناضل
ما خاب ساع في المصالح إنه
…
مشكور سعى بالسعادة آئل
تنبى البداية عن جميل نهاية
…
وعلى الأواخر قد تدل أوائل
فبسائس نيل المراد بسايس
…
والحق بان به وغاب الباطل
حصل الأمان على الطريق لفائت
…
نزلت من النزال فيه نزائل
يا معشر القفال بشرى بالهنا
…
قد عمرت بالراحلين مراحل
ابن السبيل أهم شئ عنده
…
في ظل سيفه قد تنام قوافل
قيل الملوك إمامنا بيت العلا الـ
…
بطل الحلاحل والهزبر الباسل
كنه العلاء أبو على حبذا
…
من مثله ذاك الإمام العادل
ساد الملوك بسودد من أصله
…
أصل السيادة هو الرباب الهاطل
بدر السعادة حل في الجوزاء قد
…
سعدت ببرجه في السماء منازل
إلخ إلخ.
وعقب ذلك أصاب المحلة وباء عظيم أوجب تعجيل نهوض المترجم عنهم، ودخل عاصمة سلفه مكناسة الزيتون أواخر رجب من السنة سالما معافا، وبعد أن أقام بها شهراً عزل باشاها القائد إدريس بن المدعو خنيشش، وولى مكانه الباشا حم بن الجيلانى، ثم بعد ذلك نهض لفاس وبها بلغه موت رئيس مشوره القائد محمد بن بعيش ودفنه بضريح أبى حفص عمرو الحصينى طبق ما طلب من جلالته عند وداع جنابه بمكناس، وولى مكانه رياسة المشور خليفة المتوفى إدريس بن العلام وعين له خليفة ولد المتوفى القائد إدريس بن يعيش، الذى كان عاملا قبل بمدينة وجدة، ثم ثغر تطوان، ثم ولى رياسة المشور أيام السلطان السابق مولانا عبد العزيز.
وفى عام سبعة وتسعين ومائتين وألف وجه عمه مولاى الأمين بن عبد الرحمن بن هشام في كتيبة عظيمة من الجند لاستخلاص المرتب وتسكين الفتن المتقدة بقبيلة قلعية، ورأس على تلك المحلة القائد حم بن القائد محمد بن الحسين البخارى، وعين الطالب المنجم السيد محمد بن أبى سلهام الخلطى ميقاتيا بها، ووجه حركة أخرى لقبيلة مستارة لتسكين الروعة التي قامت بها والضرب على أيدى الناهبين وقطاع الطريق على المارة لوزان ونواحيه والمضيقين بأهلها وانتشرت بعوثه وسراياه في الجبال البربرية لأخذ الجباية المخزنية والأعشار المترتبة في الذمم،
إلى أن بلغت إلى آيت يزدك من برابرة الصحراء، فسمع الكل وأطاع وأدى ما لزمه إلا ما كان من آيت حلى فريق من آيت يوسى، فإنهم رفضوا طاعة عاملهم وامتنعوا من أداء الموظف عليهم، فأوقعت بهم الجيوش المخزنية وقعة شنعاء وقطعوا منهم رءوسًا عديدة علقت على أسواق فاس، إرهابا للعصاة أمثالهم، وزجرا لهم عن العود لخلع رداء الطاعة.
وقبضوا على عديد من المساجين وأتوا بهم للجلالة السلطانية بفاس، وأودعوا ببطون سجونها ولم يسعهم غير الإذعان والرضوخ للطاعة، فقبل المترجم توبتهم وأمن روعتهم، وألزمهم ولاية عاملهم الذى سلخوا ربقة طاعته من أعناقهم، وذلك أواخر صفر من السنة.
وفى هذا التاريخ أوقع القبض على عامل الغرب أبى عبد الله محمد بن عودة وولى مكانه ابن عمه القائد بوسلهام بن المصطفى المدعو الرموش، وأقام حفلة عيد المولد النبوى بفاس.
وفى أوائل محرم فاتح سنة ثمان وتسعين ومائتين وألف بارح المترجم فاسا وأقام بمكناسة الزيتون ستة أشهر كملا، عزل في خلالها محتسبها السيد المختار بادو، وولى مكانه الحاج محمد أجانا، واحتفل لعيد المولد النبوى وليلته احتفالات عظيمة، ومد منوعات موائد الإنعام الشاملة للخاص والعام، وقدمت لجلالته عدة قصائد مولوية من سائر أدباء رعيته الشريفة، وسرد منها أمامه بمحفل غاص بالعلماء والأشراف والأعيان ووجهاء الوفود الغربية والحوزية.
فمما شنفت به الأسماع قصيدة الفقيه الأديب الكاتب أبى محمد عبد الواحد بن المواز ودونك لفظها.
شدت سحرا ورقاء شدو تغرد
…
فأحيت شجا وجدى وأفنت تجلدى
فبالله يا ورقاء مالك رعتنى
…
وأكمدتنى من شجوك المتردد
بكيت بلا دمع فأبكيت دامعا
…
ونحت على ورد فجرعت مورد
لئن كان ما بى في الهوى بك مثله
…
فعودى فلم ينكر شجاك وغرد
وإن نحت شوقا للمغافى فإننى
…
أنوح اشتياقا للحبيب محمد
سلكت الهوى براً وخضته لجة
…
وجبته مكارم الحشا جوب متئد
فألفيت أن المحرز النجح من قفا
…
سبيل هوى الفرد النبى الممجد
إليك رسول الله ثارت صبابتى
…
فهل عطفة تشفى بها قلب مكمد
فما كنت أدرى ما الغرام وما الهوى
…
إلى أن ثوى قلبى غرام محمد
ففك حبيب الله أسر عبيدكم
…
عشيق بأغلال الغرام مقيد
يحن إليكم كى يفوز بمطلب
…
ويصبو إليكم صبوة المتفقد
شجيا غدا مضنى الفؤاد بحبكم
…
يبيت بجفن من هواك مسهد
إليك صفى الله سقت وسائلى
…
فجدلى بفضل من نداك مؤبد
لقد صار لى طبعا هواك وشيعة
…
وحسبى به رادا وخير تزود
وإنى وقد أرقاك ربك رتبة
…
تعالت فلن تعطى لرسل وهجد
فأنت رسول الله أكرم من مشى
…
على الأرض في بيد وغور وأنجد
نبى هدى للعالمين ورحمة
…
فلولاه لن يهدى من الغى مهتد
بهيبته إيوان كسرى تصدعت
…
ودر له ثدى فلم يتخدد
وأشرقت الأقطار ليل ولاده
…
وفاح شذا فيها شجا كل أمجد
وسرت بها فيها الملائكة العلا
…
وهز له العرش ازدهاء بمولد
ولاحت له فيها براهن فضله
…
وبات بها باب السما غير موصد
بها فخرت كل الليالى وقد غدا
…
بها شهرها بين الشهور كعسجد
على طه خير الأنبياء محمد
…
صلاة بها ننجو من الهول في غد
بدا فمحا رسم الضلالة بالهدى
…
كمحو الدياجى بالسنا المتوقد
هو الأصل في خلق العوالم كلها
…
فلولاه لم تذرأ جميعا وتوجد
فمن نوره قد كان كل مكون
…
ومنه تجلى كل نور ممدد
تخصص بالمجد الأثيل وبالعلا
…
على شرف محض طريف ومتلد
وكيف من المولى ارتضاه حبيبه
…
تناهى حلاه عن فصيح ومنشد
له حجج ما نالها قبل مرسل
…
على معجزات أعجزت كل ملحد
حباه إله العرش حوضا وكوثرا
…
وشق له البدر المنير بمشهد
وأيده من محض فضله بالصبا
…
فكان الصبا يصبو على وفق أحمد
وأسرى به فوق البراق أمينه
…
وأدناه والمحبوب غير مبعد
فنال مقاما لا يطاول شأوه
…
جلالا وتقديسا على رغم حسد
وأعطاه نصرا باهرا وشجاعة
…
فكان يرى فحل العداة كخفدد (1)
بعضب معد للكفاح مصمم
…
فويل العدا يا ويلهم أن يجرد
وأتحفه دون الورى بشمائل
…
كروض بهيجات أزاهره ند
وآتاه خلقا يخجل الشمس نوره
…
متى ظفرت عين برؤياه تجمد
(1) في هامش المطبوع: "على وزن هدهد الخفاش كخفدود على وزن بهلول".
وأعطاه في يوم المعاد شفاعة
…
تعم ذوى الإسلام جمعا لمفرد
وأنزل قرآنا عليه مفصلا
…
أصار جميع الملحدين كجلمد
وأعجز منه الإنس والجن آية
…
فيا حسرة العاصى وبشرى لمرشد
وحن إليه الجذع واستأنست به
…
ضباب الموامى (1) والوحوش بفدفد
ووافت له الأشجار تسعى كما جرى
…
بكفه ماء قد روى اللجب الصد
وقد هز عزما حيث لاقى عكاشة
…
فعاد لديه كالصقيل المهند
وقد منح البئر الأجاج عذوبة
…
بتفلته حتى حلا كالمقند (2)
وقد ظللته من ذكاء غمامة
…
وفك بعيرًا منه رام ليفتدى
ورد بفضل الله عين قتادة
…
وعافى عليا من قذى به مرمد
ويا عجبا فى كفه سبح الحصا
…
كذاك طعام منه سبح في اليد
وأمته قد أخرجت خير أمة
…
ويلزم فضل المقتدى فضل مقتد
وأخبره عن سمه عند أكله
…
ذراع فلم تستقص آى محمد
عليه صلاة الله ما هام مغرم
…
بحبه من غير اصطبار موطد
ومنه الرضا عن آله الغر من سمت
…
لهم قدم في كل فضل منضد
ومن زهرت في المكرمات مناقب
…
لهم مثل روض بالأزاهر أملد
ومن حبهم فرض على كل مؤمن
…
وبغضهم يفضى لجمر موقد
(1) في هامش المطبوع: "الموماة: المفارة الواسعة والجمع موام".
(2)
في هامش المطبوع: "القند والقندة -بالفتح فيهما- والقنديد: بالكسر، عسل قصب
السكر إذا جمد جمودا، معرب. ويقال: سويق مقند كمعظم ومقنود ومقندى، إذا كان
معمولا بالقنديد، هـ. تاج بخ، ومن تواريخ المشرق: كتاب القند في علماء سمرقند".
هم نسل زهراء ليوم قيامة
…
مآثرهم إن رمتها لم تعدد
بهم تنجلى العاهات عن متوسل
…
بهم وبهم يدنو المنى إن يبعد
بجاههم تجرى الأمانى لأمل
…
بهم ينفرى حبل العويص المصفد
ولا يتهم في الأرض أمن لأهلها
…
وهم في الورى جبر لكل مخصد
مفاخر آل البيت بحر تزاخرت
…
به لجج أن تغترف منه يزدد
ولكنها زينت بفخر إمامنا
…
فنال كمالا في كمال مسرمد
حبانا إياه الله فضلا ونعمة
…
فتهنا به في ظل أمن ممدد
سما حيث لم يدرك فلولا سعوده
…
حسبته كيوانا إذا يترصد
بدا نيرا في الأرض كالنوء شأنه
…
هدى وندى فاستمطرن منه واهتدى
به شرفت مرقى المعالى كأنه
…
لجسم المعالى مهجة لم تبدد
لئن كان من قبل الملوك تقدمت
…
فلم يقس العضب السليل بمغمد
فاقرر به جفينك طلعة كامل
…
بأردية البأواء والفخر مرتد
لسيدنا حلم لوانه للصبا
…
لماهر أوراقا لاقنان غرقد
ومجد وملك أحرز عن وراثة
…
على نسب صرد (1) ورأى مسدد
وجود كما صوب الحيا وأناءة
…
وهيبة ضرغام وتنجيز موعد
وبأس فلم تظفر به شهب السما
…
وعلم بهبحر بالمعارف مزبد
وخلق كلما نشر الكبا وشجاعة
…
بحومة حرب لم تكن عند فرهد
(1) في هامش المطبوع: "الصرد: الخالص من كل شئ، يقال: أحبك حبا صردا، أى
خالصا. وشراب صرد، وسقاه الخمر صردا، أى: صرفا".
وخلق لو ان البدر قابل نوره
…
كساه شجون من شجى وتحقد
هو القطب لولا أنه كان مفردا
…
بلا شبه ما خلته غير فرقد
فالمم بمولانا الرضى الحسن الحلا
…
تنل خير مأمول وتحظ وتسعد
لكم زان قدر الليل ميلاد جده
…
بإظهار تعظيم له متعود
بإنشاد أمداح ووفر ولائم
…
وبذل عطيات وحسن تهجد
وإسراج أنوار وتطييب محفل
…
وجمع حماظ فضلهم لم يندد
فلا زال مزدانا به فضل مولد
…
وزال محفوفا بنصر مؤيد
أسيدنا مالى بمدحك مغرم
…
فصار أنيسى إذ أروح وأغتدى
متى رأش ذهنى مطردا لمدائح
…
أرى هدفا ذلك الجناب لمطرد
وفيكم ترى الأمداح فخرا لمادح
…
وفى غيركم كالغنج في عين أرمد
أسيدنا هذى عقود نظمتها
…
ونضدتها كالدر في سلك عسجد
ولو لم تفق في ذاتها فلقد زهت
…
بمضمونها زهو النديم بصرخد
وفى نظم آيات الرسول تواصل
…
لخير وتنفيس وسلوى لأنكد
به نسأل الله النجاة ونرتجى
…
بجاهه فتحا للوصيد المشدد
وحفظا وتيسيرا وتفريج كربة
…
وسترا عميما لم يزل يتجدد
وتأييد نصر الله والفتح والعلا
…
لسيدنا الشهم الإمام المصمد
وبالمصطفى كم ساكنات من المنا
…
تحركن لولا جاهه لم تنود
فيا خير خلق الله عطفا لناظم
…
فرائد آيات لكم متودد
ومدحى لم أحسبه غير زبرجد
…
معاد ومردود لبحر
كما لم أخل نظمى مديحا لأحمد
…
ولكنما الممدوح نظمى بأحمد
عليه صلاة الله ما ساق سائق
…
إليه ركابا في فلاة وأوهد
صلاة بلا حصر نؤمل فضلها
…
لدى يوم هول رائع وتهدد
صلاة تعم الصحب ما قال منشد
…
شدت سحراً ورقاء شذ وتغرد
وقصيدة العلامة الأديب الشريف سيدى الفاطمى بن الحسين الصقلى ولفظها:
ضحك الربيع بمبسم النوار
…
إذ هنأته بوارق الأنوار
وأتى النسيم مجررا أذياله
…
تيها يدوس عمائم الأشجار
ويجيبه مسك النوافج عله
…
قد ضاع بين كمائم الأزهار
والنهر يجرى كالمدام بمفصل الـ
…
أغصان فهى تميس من إسكار
والورق تشدو والهزار بعوده
…
يشجى بما يلهيك عن أوتار
والعندليب مجود ألحانه
…
غَنذَّى فأغنانا عن المزمار
والدوح ترقص في كلائل أطلس
…
طربا بلحن مصوت الأطيار
والغور قد بثت زرابى نبته
…
والنجد أسدل سندس الأستار
وأتت ندامى كالنجوم وجوههم
…
تبدى السبيل إذا خفى عن سار
من غض ورد كالخدود ملاحة
…
والمسك في تفتيقه المعطار
وشقيقه من في صفيحة خده
…
حسنات حسن قد بدت للقارى
وقريبة النسرين ذى العرف الذى
…
تسرى به النسمات في الأغوار
أو نرجس كضعيف جفن فاتر
…
يرنو بمقلة فاتن سحار
وطرى ريحان يريك حواجبا
…
مثل القسى في رقة الأوتار
وبنفسج ياقوتى يحكى عذا
…
را باقلا عن مخجل الأقمار
أو أقحوان مثل ثغر باسم
…
عن لمع برق خاطف الأبصار
وقضيب بان مثل قد أهيف
…
متمايد بتدلل ووقار
أو ياسمين قد تدلت من سما
…
ء زبرجد كالشهب للأنظار
يحكى تدليها تدلى أنجم
…
زهر بمولد أحمد المختار
خير الوجود وعلة الإيجاد من
…
لولاه كان الكون في إضمار
أصل الخليقة أسها ولبابها
…
سر الحقيقة معدن الأسرار
قوت القلوب وريها ونعيمها الـ
…
ـنامى أبو الأرواح والأنوار
لله ما قد حاز يوم ولاده
…
فخرا على الأيام والأعصار
يزرى بليلة قدرها وعروبة
…
والفطر والأضحى بلا إنكار
صبح به قد أصبحت شمس الهدى
…
في سعدها والصبح في الأسفار
أعظم بتلك صبيحة الاثنين قد
…
جاءت بقطب دوائر الأدوار
يوم تتابعت البشارة فيه من
…
جن وجلمود ومن أحبار
يوم بليلته يخفف ربنا
…
عن ساكن النيران حر النار
يوم به نيران فارس أطفئت
…
وعيونهم تشكى لهيب أوار
يوم به الإيوان منصدع كصد
…
ع ضلالة الجهال والكفار
يوم بدا نور أضاء له قصو
…
ر الشام قبل تبلج الأسحار
يوم به روض الجنان مزخرف
…
متدفق الأنوار كالأنهار
يوم به ابتهجت سرورا وازدهت
…
من بالجنان من الدمى الأبكار
وتمايدت وتمايلت وتزينت
…
من كل حسن جل عن مقدار
يوم به طرب العوالم زائد
…
كالحزن من أهل العمى الفجار
يوم به الإسلام أسس بالتقى
…
والكفر عاد على شفا منهار
يوم به نور الرسالة مشرق
…
يسرى فيكسو جملة الأقطار
يوم وما أدراك ما يوم غدا
…
بدرا بحالك أزمن الأغيار
كشف الزمان غياهبا من حجبه
…
عن وجه أحمد صفوة الأبرار
خير الورى عالى الدرى من سرى
…
تحت الدياجى للمليك البارى
ذو المعجزات الباهرات لحافظ
…
ولسامع ولناظر نظار
ما إن يحيط بعدها نظم ولا
…
نثر وكيف العد للأمطار
ما من خوارق عادة للأنبيا
…
إلا وقد عدت لرب الغار
لكنها ذهبت سريعا غير ما
…
لمحمد في الذكر والآثار
أما القديم فحفظه من ربه
…
وكذا الحديث بناقدى الأخبار
فهما على مر الزمان ومده
…
غضان ما سئما على التكرار
وهما أمان للعباد وللبلا
…
د كأهله الشرفا ذوى الأقدار
من هم نجوم يهتدى بسناهم
…
من ضل في محلولك الأغمار
هم مطلب وذخائر وتعزز
…
للمبتغى والمجتدى والجار
لا سيما بيت الملوك ذوى العلا
…
من هم ذكا الإعصار والأمصار
السادة الأسد البهاليل الذيـ
…
ـن علوا من العليا على الأكوار
وخصوصا المخصوص بالتبجيل من
…
بين الملوك سلالة الأطهار
فخر الملوك وتاجهم وسراجهم
…
شمس القصور فريدة التقصار
ذو الجاه والقدر العَلِىَّ أبو على
…
حامى حمى الإسلام من غدار
حسن كأخلاق تناهت وازدهت
…
بمحاسن الإيراد والإصدار
ملك به تاج الخلافة مشرق
…
في المشرقين ككوكب سيار
ملك له كل الملوك رعية
…
كسرى وقيصر من عبيد الدار
ملك تلفع بالمجادة واحتبى
…
في برد عز معلم بفخار
ملك له همم سمت فصغيرها
…
يستنزل النسرين باستصغار
ملك تهاب يمينه أسد الشرا
…
وشماره يسر من الإعسار
ملك له فضل وإفضال على
…
ذى الملك والدنيا وذى الإقتار
ملك له حلم وعدل واسع
…
وسياسة تغنى عن الأنصار
ملك له علم وفهم ثاقب
…
في المدلهم غدا كزند وارى
ملك لرفع الدين منتصب كما
…
خفض الضلال بجارح بتار
أحيا رسوما للحنيفة بعد ما
…
أقوت فعادت بجد في إكبار
وأقام منها قاصدا سبل الرَّضَا
…
ما أنقضت بغيا يد الأشرار
في كل حين للشعائر مظهر
…
كالمولد النبوى ذى الأخطار
فله بأزمنه احتفال واحتفا
…
من سرد سيرة سيد الأطهار
وقراءة لحديث مولد أحمد
…
وسماع ما فيه من الأشعار
وحباء مادح جده ولقارئى
…
ولمن يحل بذلك المضمار
بل للرعية كفه مبسوطة
…
بغمام تبر وابل مدرار
هذا ولا عجب فإن بنى النبى
…
أولى بهذا القرب والإيثار
يا سيدا يهنيك مولد جدكم
…
خير البرايا سيد الأخيار
دم صاعدا بسعيد برجك آمنا
…
ومساعدا من سابق الأقدار
واسلم ولج بحصين حصن حماية
…
ترعى بعين عناية الستار
ولتبق في عز ويمن فاتحا
…
بالنصر باب النجح والأيسار
ولترق في أوج السعادة بالقبو
…
ل ممكنا من مغنم الأعمار
ولتمش في طول البلاد وعرضها
…
بسلامة في السهل والأوعار
وافتح بعزمك كل حصن شاسع
…
متمنع بالهند والأنبار
واجلب برجلك والجياد فما ترى
…
إلا افتتاحا نعم عقبى الدار
فالله حافظكم وناصر عدكم
…
وعديدكم في الجهر والأسرار
بأبيكم من صار يوم ولاده
…
عيدا يعود بكل خير طار
صلى عليه الله ما جاء الربيـ
…
ـع محركا لسواكن التذكار
وعلى الكرم ذوى العلا أهل العبا
…
والصحب أرباب الندى الأحرار
ما جاء قمرى الرياض مهنئا
…
لربيعه بالهامع الثرثار
أو ما استفاضت في الأنام بشارة
…
بولادة الفلك العلى الدوار
أو ما أتت هيفاء في حلل المبها
…
تهنى السيادة في يدى بشار
أو ما أتى نشر المدائح كاملا
…
في كامل في كامل الأطوار
أو ما غدا المولود مولد جده
…
متكامل الأفراح والأوطار
ثم نهض منها ووجهته مراكش، فمر في طريقه على قبيلة زمور الشلح، فرباط الفتح، فزعير، وأدركه عيد الفطر بالمحل المعروف بصخرة الدجاجة من بلاد تادلا، وهنالك أقام سنة عيد الفطر طبق العوائد الملكية، ومن ثم سار لبلاد السراغنة، ثم الرحامنة، ثم مراكش.
وفى هذه الحركة وهى السابعة لبى داعى مولاه الفقيه أبو عبد الله محمد الصفار التطوانى وزير الشكاية، وولى مكانه العلامة أبو الحسن على المسفيوى، وبعد أن استراح المترجم بالحضرة المراكشية وجه من ألقى القبض على القائد انفلوس الحيحى وانفلوس لقبه -ومعناه بالسوسية الرئيس - وهو القائد أحمد النكنافى الحيحى الشهير الذكر، وبمراكش أقام سنة عيد الأضحى.
وفى رمضان عام تسعة وتسعين ومائتين وألف نهض من مراكش ووجهته قطر سوس الأقصى، حيث إن الإصبان تشوف لتملك بعض المراسى السوسية منذ انعقاد الهدنة الواقعة عقب حادثة تطوان الآتى شرحها بحول الله، وزعموا أن تلك الناحية لا تنفذ فيها الأوامر المخزنية ولا تعترف بأنها من الإيالة (1) السلطانية، وأشاع ذلك وأذاعه، ثم بعد ذلك طلب من المترجم الإذن له في البناء ببعض تلك الشواطئ نظراً لما ذكرنا من إشاعاته، ولما لم يجب لذلك هَمّ بالخروج لتلك الناحية، فعند ذلك عزم المترجم على التوجه لذلك القطر وحسم مادة أطماع الطامعين بفتح مرسى بوادى نول بالمحل المسمى آساكا، بأرض قبيلتى تكنة وآيت. باعمران.
ولا سيما عندما بلغه أن ذلك الجنس فتح مع أولئك البسطاء أبواب البيع والابتياع، وصارت مراكبه الحربية والتجارية تكثر التردد لتلك النواحى وتستهوى أصحابها بالتجارة والأرباح الزائدة وتستفزهم ذلك.
ولما طرق سمع القواد ورؤساء الأجناد والقبائل ما همَّ به المترجم من الحركة للقطر السوسى، طلبوا لقيه والمثول بين يديه، فلبى طلبهم ولما مثلوا بين يديه قرروا له ما يعانيه أهل ذلك القطر من الشدة والاضطرار والفاقة وتفاحش الغلاء والقحط
(1) الإيالة: الوادى. وقطعة من أرض الدولة يحكمها وال من قبل السلطان.
الواقع بتلك النواحى، وشرحوا له الأضرار التي تلحق الجيوش، والأخطار التي ترتكبه في هذا السفر، والتزموا بأداء ما يستفيده بيت المال في هذه الحركة من أموالهم الخاصة بهم والخالصة لهم.
ولما استوعب كلامهم شرح لهم الباعث المهم الداعى لهذه الحركة، فعلموا أن لات حين مناص، وأجابوه لما أراد، وقاموا على ساق في الأخذ بالأحوط والاستعداد، وأصدر المترجم أوامره لقبائل دكالة وتامسنا بحمل القمح والشعير والتبن إلى مرسى الجديدة، ومرسى الدار البيضاء، ليحمل منهما في المراكب إلى ساحل السوس الأقصى بقصد إرفاق الجيش وإعانته.
وبعد ذلك نهض من مراكش في جيوش جرارة تتلاطم أمواج أبطالها، وخلف وراءه صدر الوزارة أبا عبد الله بن العربى الجامعى لما ألم به من المرض الشديد، وعين في محله العلامة السيد محمد الصنهاجى إلى أن أبل، ولحق به لوادى نون.
وكانت مبارحة المترجم للحضرة المراكشية في يوم الاثنين الحادى عشر من رجب من السنة موافق سابع عشر ماى وخيم بعدوة وادى نفيس بمشرع العناية، وكان زمن السير أربع ساعات، ثم نهض من علوة وادى نفيس وخيم بنزالة المزوضى - نسبة إلى مزوضة قبيلة بينها وبين مراكش مرحلتان - وكان زمن السير خمس سوائع ونصف، ومن نزالة المزوضى إلى وادى شيشاوة ومدة السير ثلاث ساعات، وأقام هنالك يوم الخميس ونهض يوم الجمعة من شيشاوة، وخيم بسيدى المختار، وكانت مدة السير أربع سوائع وخمس عشرة دقيقة، ثم منه لعين اماست، ومدة السير ثلاث سوائع، ومدة السير ثلاث سوائع ونصف، ومنها إلى وادى بوريقى بقبائل حاحة حيث بويع السلطان المترجم يوم وفاة والده، ومدة السير أربع سوائع وأقام هنالك يوما.
ومن الغد وهو يوم الأربعاء عشرى رجب نهض من بوريقى وخيم بدار انفلس بظهر اذاوخلف، ومدة السير ثلاث سوائع ونصف ومنها إلى اذاوكلون
باركن -وهى قبيلة عظيمة بحاحة- ومدة السير ست ساعات وخمس عشرة دقيقة.
وخيم هنالك ثلاثة أيام، وفى يوم الاثنين خامس عشرى رجب المذكور، نهض من اذاوكلون إلى وادى بنى تامر ومدة السير تسع ساعات، ومنه إلى تمرغت، ومدة السير سبع ساعات، وأقام هنالك ثلاثة أيام، ومن تمرغت إلى آجدير ببير ارمى، ومدة السير ساعتان ونصف، ومن مرسى آكديرالى أربعا مسكينة، ومدة السير ساعتان ونصف، ومنها إلى اثنين أولاد تيمة بهوارة، ومدة السير أربع ساعات، وهوارة عرب مجاورون لمدينة تارودانت، ولهم اثنا عشر قبيلة، ومنه إلى البعرير فالمفش ومدة السير ثلاث ساعات، ومنه إلى الأحدب بالاقلالشة، ومدة السير ثلاث سوائع، ومنه إلى مدينة رودانة بمحل صلاة العيد، ومدة السير ساعة ونصف وأقام هنالك ثمانية أيام، ومنها إلى البراكيك وآيت عبد الله ومدة السير ساعتان وخمس عشرة دقيقة، ومن ثم إلى أم الجريد وبها منازل اذاومنو.
ثم التجأ بجناب المترجم إخوان الحاج منو السجين وقدموا الذبائح وفق عوائدهم الجارية عندهم في الاستشفاع إذا عن لهم أمر مهم، وطلبوا المن على أخيهم بالفكاك من العقال فواعدهم بتسريحه بمجرد إيابه ووفى بوعده، وكانت مدة السير ثلاث سوائع ونصف، واذاومنو قبيلة بهوارة إلى تمام هوارة مجاورة لقبائل هشتوكة، وبها مدرسة للقراءات السبع، ومنها إلى بيكرن باذاو محمد ومدة السير أربع ساعات وخمس عشرة دقيقة وأبى كرا هذا -وهو بالسوسية جماعة الضفادع وواحدها اكرو- موضع قبيلة ذوى محمد بهشتوكة، وبإزائه مدرسة للعلم، وهى بمنزلة فاس عند أهل سوس في المنقول والمعقول، وبها بئر عذب ماؤها بخلاف آبار القبائل الهشتوكية فإن ماءها ملح أجاج.
ومن المعلوم عندهم أن كل من شرب من مائها أى هذه البئر تنور قلبه وحذق ذهنه وصار حافظا للعلوم، وبهذه المدرسة كان يدرس علامة زمانه المشهور الشيخ محمد بن عبو الهشتوكى المتوفى عام 1332، ومن ابى اكرا ارتحل المترجم إلى وادى ماسة، ومدة السير ست ساعات وأقام ثم ثلاثة أيام.
وماسة هذه على شاطئ البحر بها رباط وبه جامع مدفون في الرمال، قيل: إنه من بناء عقبة بن نافع الفهرى، وأكثر العلماء يزعمون أن الإمام المهدى يظهر من ماسة بهذا الرباط، وتكلم فيه في مشارق الأنوار.
وبماسة عيون جارية، وقرى متصلة أنيقة، وأعظم قراها تسلا واغبلو وتكون بين أهلهما عداوة وفتن وحروب، وموضع الرياسة الآن تسلا.
ومن وادى ماسة لدوار سيدى علي ومدة السير ساعتان، ومنه إلى تيزنيت ومدة السير أربع ساعات، ومنها إلى اكل بساحل البحر ومدة السير ساعتان ونصف، وأقام هنالك يوما، ومنه ظعن إلى امزور بزاوية سيدى عبد الرحمن ومدة السير ساعة ونصف، وأقام هنالك سبعة أيام وهذا نهاية سفره، فجميع أيام السفر في هذه الحركة ذهابا خمسة وعشرون يوما، وجميع سوائع السيرست وتسعون ساعة وثلاثمائة دقيقة وستون دقيقة، وجميع أيام المقام سبع وعشرون يوما.
وهنالك وفدت عليه أشراف آيت باعمران وفقهاؤهم ومرابطوهم وأعيانهم وأشياخهم المالكون لقيادهم، وأظهروا كامل الطاعة وغاية الإذعان، ووليت عليهم عدة من العمال، ووقع الكلام معهم في شأن المرسى التي أريد فتحها بالمحل المذكور آنفا، فأجابوا بالامتثال والسمع والطاعة، ووجه معهم المهندسين والفقهاء ولفيفا من أعيان الجيش لتخطيط تلك المرسى ورسمها على الوجه اللائق والنهج الهندسى الرائق.
وقبائل آيت باعمران هذه كثيرة تفوت الحصر يتكلمون بالعربية وأعشارهم يأكلها طلبة العلم، ولآيت باعمران كرم زائد وشجاعة، وهم أباة الضيم أهل شمم ونخوة يحبون الغريب النازل بهم ويكرمون الضيف لا سيما رؤساؤهم فإنهم يحبون العلماء ويجلونهم غاية، ولا يتكلمون في مجالسهم حفظا لحرمتهم وتأدبا معهم، وكذلك تلك القبائل بحيث يذهل الداخل لبلادهم ما يرى من أنواع الأدب.
ولما استقر به الثوى أوفد وفدًا لوادى نول عمه مولاى الأمين ووزيره على سماع المظالم العلامة السيد على المسفيوى والقائد مبارك بن الشليح الشرادى الدليمى والقائد حمان بودلاحة الودى والقائد عبد الحميد الرحمانى في لفيف من الأتباع، حيث بلغه أى المترجم، أن مركبا إنجليزيا ورد لتلك الناحية القاحلة حاملا للأرز وغيره من المقتاتات بقصد الاتجار مع تلك القبائل المصابة بالقحط وأليم الجوع، وخاف سوء العقبى ليحققوا له الأمر ويطلعوا على الأحوال بتلك الجهة التي أكثر المرجفون القيل والقال فيها وامتدت أعناق الأجانب إليها وكثرت أطماعهم فيها ليتدارك الخرق بالرتق قبل اتساعه.
ثم أمر بإصلاح دار المخزن بتيزنيت ونصب قائداً من قواد جيشه المظفر، وأقامه بقصبة تيزنيت بقصد أن يكون إعانة لسائر عمال ذلك القطر السوسى من وأدى ولغاس -وهو واد عظيم بين هشتوكة وتيزنيت لم ير أعظم منه بسوس وأودية تلك الجبال تنصب منه وهو ينصب في البحر- إلى منتهى وادى نول وكليمم يتفاوضون معه فيما عسى أن يعرض لهم من المهمات ولا سيما إذا كان المخزن بعيداً وصرح لهم بأنه أقامه مشرفا للتفاوض معه وبصيرة على ما قصده من فتح تلك المرسى ففرحوا بذلك واطمأنوا ووقع الإشهاد عليهم بذلك، ودونك نص عقد الإشهاد الواقع عليهم بما ذكر:
"الحمد لله الذى ابتدأ عباده بالإفضال والإحسان. وجعل نظام أمورهم بقسطاس وميزان. وجعل السلطان ظلا ظليلا يأوى إليه كل مظلوم. ومن اعتصم به فهو لاشك بحول الله وقوته معصوم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث هاديا للأنام. والموضح للشرائع والأحكام وعلى آله وصحابته الكرام.
وبعد: فلما حل مولانا المنصور بالله بحبوحة القطر السوسى حلول يمن وأمان. وجاس خلاله في المهامه والعمران. وصارت قبائله تتوارد من كل فج الكبراء والأعيان. ورود طاعة وإنقياد وإذعان. واصل الله سمو مولانا وعزه وارتقاءه. وصرف للإقامة المصالح اهتمامه واعتناءه. وولى على قبيلة عمالاً يضبطون أمرها بكلمته. ويدافعون عنها بسطوته. اقتضى نظره السديد. ورأيه الموفق الرشيد أن يعين كبيرا من جيشه السعيد يكون بركة وسط عمال قبائل جزولة وواسطة لهم فيما عسى أن يعرض لهم، وإعانة لسائرهم وتقوية لأزرهم وشادا لعضدهم ومرشدا لهم ومبصرا ليستشيروا معه فيما يكون من الأقوال والأفعال. في الحال والمآل. مما تدعو الضرورة إليه. وتتوقف الأوامر المخزنية عليه. ويبعد عليهم تناوله مع جانب مولانا المؤيد حين يكون نائبا عن البلد لدراية المعين وخبرته. ونجدته وفطنته.
ومقره يكون بتيزنيت محل قرار المخزن في القديم. ليجرى على النهج القويم.
وأما ما يرجع للعمال مما لابد لهم فيه من أمورهم أو مصالح قبائلهم فلا واسطة بينهم وبين مولانا أيده الله في ذلك، لكونهم مستقلين بأمور تكليفهم ومتحملين بدرك إيالتهم كتحملهم بشد عضد بعضهم بعضا على خدمة مولانا الشريفة. وتنفيذ أوامره المنيفة. وبالتعاون على البر والتقوى، فحينئذ حضر لدى شهيديه أمنهما الله بمنه بمجلس الفقيه العالم العلامة الدراكة الفهامة، الحجة
الأكمل. البليغ الأجمل. النحرير المحقق المدقق إمام حرم مولانا إدريس نفعنا الله به شيخ الجماعة القدوة المحدث الخطيب البليغ بالحضرتين، قاضى الجماعة بمكنامر، ونواحيها وبالمحلة المنصورة بالله تعالى، وهو أحمد بن الطالب بن سودة أعزه الله تعالى وحرسها عامل كل قبيلة ومن معه إخوانه، وبعدما عرض عليهم ذلك وعرفوا المقصود منهم أشهدوا أنهم ارتبطوا ذلك والتزموه. وصمموا عليه وأبرموه. وعقدوا على ذلك عقدا صحيحا إلى غير غاية. ولا أمد ولا نهاية. اشتمل على الغائب والشاهد. وانتسج حكمه على الصادر والوارد. بحيث لا تعقب فيه لأحد بوجه من الوجوه. ومن رام نقض ما ذكر من أهل الزيغ والفساد. وسعى في الفتنة والشنآن بين العباد. أو تعرض لأحد في سبيل من السبل، أو تعدى في موطن من مواطن البلاد. فيعاقب العقوبة الشديدة لزيغه عن طريق السداد والرشاد. ويجعل عليهم النصاب الثقيل زيادة على الردع والتنكيل. ويغرم ما أتلف وأفسد. سواء تعدد الفاعل أو اتحد. فإن اعدم من فعل فأولياؤه وقبيلته يؤاخذون بجريرته.
ثم وضع العمال خواتم عمالتهم إثر تاريخه على ترتيبهم لفا ونشرا عنهم وعمن حضر معهم من إخوانهم المرسومين بالطرة يمنته بعد عقد الإشهاد تأسيا للقصد، وإبراما للمراد عرفوا قدره شهد به عليهم بأكمله، وعرف أعيانهم وعرف بأسمائهم وعلى من ذكر دامت سعادته وكرامته بما فيه عنه وهو بحيث يجب له ذلك في الثامن والعشرين من شعبان عام تسعة وتسعين ومائتين وألف، فلان بشكله وفلان بشكله وبعده بخط من يجب الحمد لله أديا فقبلا واعلم به أحمد بن الطالب بن سودة المرى الله وليه ومولاه وبخطه استقل. انتهت قابلها بأصلها فماثلته.
وأشهده الفقيه الأجل العالم العلامة الأفضل المحرر النحرير الدراكة الفهامة المشارك الحجة المحدث الخطيب البليغ قاضى الجماعة بمكناس ونواحيها إمام حرم
مولانا إدريس نفعنا الله به وهو أحمد بن الطالب بن سودة المرى الله وليه ومولاه أعزه الله تعالى بعز طاعته، وحرس ولايته، بحيث يجب له ذلك من حيث ذكر.
وفى تاسع رمضان المعظم عام تسعة وتسعين ومائتين وألف الحق وبالتعاون على البر والتقوى صح به. فلان بشكله وفلان بشكله ودعائه".
كما عين في التاريخ نفسه وصيف جنابه العالى الطالب بوعزة السريفى كبيرا بآيت بوعمران، وألزم العمال جوار المراسى الأربع، وهى: مرسى سيدى محمد ابن عبد الله ومرسى سيدى ورزيك، ومرسى اسك بآيت باعمران، ومرسى أكلو بجوار تيزنيت بحفظها والعسة عليها ليلا ونهارا بحيث لا يدخل منها شئ ولا يخرج إلا بأمر مولوى. فالتزموا ذلك، ووقع الإشهاد عليهم به، وذلك في تاسع عشرى شعبان العام وأمضى على ذلك العمال بخواتيمهم.
وكتب بذلك لباشا مكناس القائد حم بن الجيلانى كتابا نصه بعد الحمد لله والصلاة والطابع الكبير الذى بداخله "الحسن بن محمد بن عبد الرحمن الله وليه 1291" وبدائرته بيتا البردة ومن تكن
…
إلخ من يعتصم
…
إلخ:
"وصيفنا الأرضى الباشا حم بن الجيلانى وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد فقد قضى والحمد لله الغرض الذى ارتمى إليه الأمل المراد. ويممنا لأجله قطرى سوس الأدنى والأقصى من صحارى البلاد. بنية خالصة تنيل الكل منهم ما أفاد. وتحيى رسمهم وأنسهم وقد باد، وترشد المتهور منهم الذى الإساءة إليه أجدى من الإحسان والبهيمة عليه أكرم من الإنسان، عضدتها مواكب شديدة الالتحام. وجنود تقول لمن رآها تنكب ليلا يقطرك الزحام. وصدور عمها الانشراح، ومسرات أردفتها أفراح وآلات استعدادية جهادية تبهر وتروق. وخوارق ليست عادية تكاد عند سكونها تومض منها بروق، وفوارس ذات نفوس عصامية، لا محل فيها للاستقصاء والاستفسار. ولا يأتى عليها ضابط إطناب أو فذلكة
إكثار. إلى غير ذلك مما تقتضى النعمة به التحديث. ويجذب من صميم فؤاد المحب المؤمن الحمدين القديم منهما والحديث. معترفين بأن الله سددنا في ذلك كله إلى غرض التوفيق. وأعلقنا من تحرى الصواب فيه بالسبب الوثيق، وأجرانا سبحانه على ما ألفناه من صنعه الجميل وتعودناه ولولا فضله علينا بمحض فضله ما تم لنا منه ما أردناه. وذلك والحمد لله أن كافة قبائل القطرين المذكورين تلقونا بأجمعهم بأنواع الأفراح وأصناف المسرات. وقدموا من الهدايا ما رأوه من أولى المهمات وأعلنوا بواجب السمع والطاعة وحفيات التحيات. ووسطهم شرفاؤهم ومرابطوهم وفقهاؤهم وأعيانهم وكبراؤهم وذلك لما خيمنا بقصوى عدوة وادى ولغاس الموالية لبلادهم وجبال استفرارهم، بعد أن كانوا كتبوا لشريف حضرتنا ونحن بمراكش الحمراء معلمين بأنهم على سنن الاهتداء. مقيمين على إجابة الدعاء.
فلما التقى الجمعان وجدنا ظواهر خبرهم وبواطن سرهم سواء. ولينا عليهم العمال والقضاة. وكذا على القبائل غيرهم ممن هو من مبادئ هذه الأقطار أو من الغايات، وحططنا بخير بقاعهم لأجل استصلاحهم الرحال. حتى استحال ركض همالجهم لحسن الحال. وأقبل أقاصيهم علينا إقبال الغادة. يهديها اليمن وتزفها السعادة.
ثم بعد كمال استقامتهم وترتيب مراتبهم طلبوا منا التجديد على ما بأيديهم بإقرارهم على عوائدهم، وحملهم على أعرافهم التي عندهم عليها ظهائر أسلافنا الكرام. قدس الله أرواحهم في دار السلام ومن غبر من أمراء المسلمين. رضوان الله عليهم أجمعين. فأقررناهم وجددنا لهم علينا في الحين. واتبعنا في ذلك الإجماع وسبيل المؤمنين، ولو نيل من هؤلاء القبائل التي هى آساد وحشية. وبأفنان الغضا موشية عشر هذا لكان كافيا في القصد من هذا الشأن. لأنهم هذه مدة تزيد على الستين سنة لم يتخلل بلادهم المخزن.
هذا وأيضًا فمن جملة الأهم المقصود لدينا بوجهتنا السعيدة لهذه الناحية البعيدة. فتح مرسى بوادى نون في حدود بلاد تكنة وآيت بوعمران بمحل يسمى أصك ليسهل بقربها على تلك القبيلتين البيع والشراء فيما يستقبل من الأزمان. لأنهم لبعد مراسى إيالتنا السعيدة عنهم، يتضررون في تجشم السفر لها بقصد ذلك بالطريق وتشرق القوافل منهم ولو مع وجود الماء بالريق. ويكاد نفسهم أن يقطع منهم حروف الحلق. فتيممناها زيادة في الإحسان إليهم والله يزيد في الخلق إلى أن بقى بينها وبين المحلة مرحلتان فيهما ثلاث عشرة ساعة سفر الرفق إذ ورد علينا أعيان القبيلتين المذكورين آيت بوعمران وتكنه وأهدوا كغيرهم، فولينا عليهم وأجرينا مجرى كيرهم ووقع الكلام معهم في شأنها، فأجابوا لذلك لما لهم من الرغبة فيها، حتى إن بعضهم كانت سولت له نفسه فتحها على يد بعض تجار الدول. تقريبا كلما ذكرنا وحرصا على بلوغ الأمل واتفقت الآراء منهم على توجيه من يقف على انتخاب المحل الذى تبنى فيه مما يقبل البحر تخطيطه وتأمن فيه جواريه.
فساعدناهم ووجهنا صحبتهم سرية من القبائل والجيش السعيد. ومعهم طلبة الهندسة لتقريب البعيد بقصد معاينة محلها وتخطيطه. والإتيان لحضرتنا المحروسة بطبق تصويره واستغنينا عن التقدم بهم، بحيث إن قضوا الغرض فذاك وإلا فننهض لقضائه على الله متوكلين. وبجيوشنا المتوافرة مصحوبين. لقربنا منهم إذ نحن الآن بأمن ومن بلاد أهل أكلوا مخيمون وهو الطرف الأول لآيت بوعمران، الذى يسمى بالساحل، بينه وبين المرسى المقدار الذى تقدم آنفا حسبما قدره الميقاتيون، كلما أن الأهمية أيضا اقتضت نصب قائد من قواد جيشنا السعيد مختارا من أماثلهم ذار أى مصيب. وتسديد يكون بتزنيت محل المخزن في القديم. إعانة وردءاً لسائر عمال القطرين بالمشار من قطع وادى والغاس إلى منتهى وادى نون واكلميم.
يتفاوضون معه فيما عسى أن يعرض لهم من المهمات ولا سيما إذا كان المخزن بعيدا عن هذه الشرفات.
واشترطنا على السادة منهم والأعلام. والأعيان والحكام. المعينين عندهم لربط الأمور ربط إتقان وإحكام. أن يضربوا على أيدى أهل الجرائم وأن ينتصفوا للمظلوم من الظالم. وأن لا يخرجوا في ذلك على ما تقرر لديهم من الأعراف والحد المحدود لهم عند الانتصاف.
وعليه أن يكون يعلم بالشاذة والفاذة لا يترامى لعين لائمه ولاحيه. ولا يتوارى عن الحق في مغابن نواحيه. لنكون على بصيرة فيما قصدناه من فتح تلك المرسى ومؤاخاة لإثارة النعمة، ودفاعا للبوسى فنصبناه.
وبما هو من شأنه كلفناه وحضر العمال المشار إليهم معه وبعدما عرفوا بذلك كله وعرفوه أشهدوا بأجمعهم أنهم التزموه. وأنهم عند السمع والطاعة يقومون به جهد الاستطاعة بل لأجل تمكن المعنى منهم أتم مكان. على وجه الإذعان والاستحسان ختم العمال منهم بخواتم عمالاتهم على عقد الإشهاد. تأكيدا للقصد وتأسيسا للمراد كما أشهد أهل السواحل منهم بالتزام جعل العسات في مراسى سواحلهم كفا للضرائر وحسما لمادة النزاع والجرائر وإرشاداً للضليل، وفرارا من كثرة القال والقيل.
وبالجملة فقد أطلقنا لكم بالخبر اللسان ليصير هذا الغيب عندكم كالعيان. شارحين لكم الوجه الذى صرفنا إليه الآمال واستعملنا في أسنته وفى أعنته الشمال. وحثًّا على تمكينكم من حظكم من الفرح بما سن الله لنا من العز والإجلال. واجتلاء وجوه التهانى ووفود الآمال. ونحن على نية الأوبة بحول الله المتعال، فنسأله سبحانه أن يتمم ذلك برد الجميع سالمين غانمين. وييسر لنا ما فيه رضاه ولكافة المسلمين. آمين والسلام فاتح رمضان المعظم عام 1299".
ولما دوخ البلاد السوسية ومهدها وبث روح التآزر والتعاضد ورتب بها القضاة والعمال، وكف عنها اليد العادية انقلب إلى العاصمة المراكشية، فنهض يوم الخميس رابع رمضان العام موافق ثامن يوليه من امزور إلى الكرمة بين المعدر وتزنيت، وكانت مدة السير ساعتين وربع، ومنها إلى بكرة وادى ولغاس ومدة السير ثلاث ساعات وربع، ومنه إلى الدحوش وهم أولاد بوطالب والمسير ثلاث ساعات وربع، ومنهم إلى طكط بلاد هشتوكة ومدة السير أربع ساعات، ومنها إلى بدار بلاد مسكينة ومدة السير ثلاث ساعات ونصف، وأقام المترجم ثم ثلاثة أيام ومنها، إلى ابن سر كاو قرب مرسى أكادير ومدة السير ساعتان وربع، ومنه إلى تمرغت ومدة السير ثلاث ساعات، ومنها إلى وادى اذاوتامر والسير سبع سوائع، ثم تبصيرت والسير أربع ساعات ثم زاوية امكدار والسير ست ساعات وربع، وأقام المترجم هنالك يوما واحدا، ومنها إلى وادى بوريقى والسير ثمان ساعات وأقام ثم يوما واحدا أيضا، ومنه إلى جمعة الكريمات والمسير أربع ساعات، ومنها لعين اماست والسير ثلاث ساعات ونصف، ثم إلى وادى ششاوه والسير سبع ساعات وربع، ثم نزالة المزوضى والسير ثلاث ساعات، ومنها إلى عدوة وادى نفيس والسير ست ساعات، ثم بوعكاز والسير ساعتان وربه، ومنه إلى الحضرة المراكشية والسير ساعة وربع.
فجميع أيام السفر ذهابا وإيابا خمسة وسبعون يوما، أولها الاثنين وآخرها الجمعة، وجميع السوائع في الذهاب والإياب مائة وسبعون ساعة، وبمراكش أقام حفلة سُنَّة عيد الفطر.
ولم يزل مقيما بها إلى أن دخلت سنة ثلاثمائة وألف وفيه نهض قاصداً عاصمة سلفه المكناسية، وهذه الحركة العاشرة، وكان مروره على قبيلة الرحامنة، فزمران، ثم قبائل تادلا، وأوقع بالسماعلة منها، ثم نهض لقبيلة زعير وبها أقام
سُنَّة عيد الفطر، ومنها لقبيلة زمور الشلح ولم يدخل للرباط، ومنها توجه للحاجب ومنه للعاصمة المكناسية، وكان دخوله لها في حجة الحرام، وأقام بها سُنَّة عيد الأضحى، ومكث بها سنة كاملة.
وبها بلغه نعى نجله البار الأنجب مولاى عبد الله الذي كان ببلاد أحمر بقصد قراءة القرآن تيمنا بذلك البلد الطَّيِّب، وأنه حمل للدفن بعاصمة الجنوب مراكش الحمراء، فصبر واحتسب.
وفى هذه السنة التي هي رأس المائة، وجه صاحب الترجمة رسالة جامعة مشتملة على كثير من المواعظ والأوامر والنواهى والنصائح لجميع بلاد المغرب، وأشار إلى المجدد في صدرها ونصها بعد البسملة والصلاة:
هذه وصية مؤسسة على قواعد شرعية. ونصيحة دينية. للولاة والرعية. صدرت من عبد الله. الموفق بفضل الله. المتوكل عليه في سره ونجواه. أمير المؤمنين. ابن أمير المؤمنين ثم الطابع الشريف بداخله الحسن بن محمد بن عبد الرحمن الله وليه 1291:
أبد الله ملكه. وأجرى في بحار اليمن والسعادة فلكه، وجعل فيما يرضيه أوامره، ونصره وجنده وعساكره، إلى معاشر أهل الإسلام وأمة النَّبي عليه الصلاة والسلام، وفقكم الله وهداكم، وبركوب سفينة الشريعة أنجاكم. وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد: فلتعلموا أيها المسلمون أن الله جل جلاله بمقتضى حكمته بعث النبيئين مبشرين ومنذرين. وناط بهم أحكام الشرائع إبلاغاً وتبليغاً، وجعلهم نوباً عن سيد المرسلين. سيدنا ومولانا محمد لبنة التمام. عليه وعليهم الصَّلاة والسلام.
قال مولانا في محكم كتابه المبين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ
…
(81)} [سورة آل عمران: الآية 81]، ولما بعثه الله تبارك وتعالى قام بما حمله من أعباء الرسالة. وبلغ ما أمر بتبليغه، وأنقذ الأمة من الضلالة. إلى أن صار الدين مشيد الذرى. محكم العرى. وتبوأت خير أمة من قصوره حصناً حصيناً. وأثره نزل قوله تعالى: {
…
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
…
(3)} [سورة المائدة: الآية 3]، ثم أقام الله سبحانه من بعده الخلفاء. والأئمة المرضيين الحنفاء، فمهدوه تمهيداً، وجددوه في كل عصر تجديداً، واقتفى أثرهم أمراء الإسلام السالكون نهجهم الأقوم في كل مقصد ومرام، فنصحوا لله ولرسوله والمؤمنين، وبذلوا مجهودهم في مرضاة رب العالمين، فأقاموا شريعته حتَّى لمعت بوارقها، وشبت بإحياء مراسمها بعدما شابت مفارقها، إلى أن صار الدين غضاً طرياً، وقطوفه دانية بكرة وعشياً، رحمهم الله.
وهكذا على رأس كل مائة يبعث الله لهذه الأمة الأحمدية من يجدد معالم الدين. ويصقل مرآته من صدى التعمق في بيداء المضلين. وحيث كانت هذه السنة هي آخر المائة. وتوفرت دواعى التضحية بمفتتح رأس المائة القابلة لهذه الفئة تعين لذلك تنبيه الغافل، وإرشاد الضال، عملاً بما كان عليه السلف، لنكون بعدهم لهم خير خلف، وأداء لحق الواجب وأخذاً بطرق الامتثال. فقد قال صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المؤمنين وعامتهم".
وعليه فاعلموا أيها النَّاس أن أول ما يجب على المكلف المتمكن من النظر في الأدلة معرفة ما يجب في حق الله وفى حق الرسل بالبراهين النقلية والعقلية ليخرج من ربقة التقليد، ويشرق باطنه بأنوار التوحيد، فتقوى لديه بواعث العبادة، التي بها أمر الله عباده، فإن الله سبحانه إنَّما خلقنا لمعرفته وأمرنا بتوحيده، وبعث الرسل عليهم السلام لبيان وعده ووعيده، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
{لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
…
(19)} [سورة محمد: 19]، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
…
(36)} [النساء: 36] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45] وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} [الفتح: 8، 9]. والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث كما في صحيح البُخاريّ جواباً منه صلى الله عليه وسلم لجبريل، والتوحيد المعبر عنه بالمعرفة المذكورة هو الذي حض عليه الله ورسوله كما مر، فتعلموه وعلموه وحرروا القصد والنيات في العبادات.
قال عليه السلام: "إنَّما الأعمال بالنيات "إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" والعلم بأحكام العبادة. به تحمل الإفادة. ففي الحديث عنه عليه السلام: "ما عبد الله بأفضل من فقه في دين" وأركان الدين. ما ورد عن سيد المرسلين. "بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلَّا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصَّلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا" فأساس الدين. التوحيد، وملاكه معرفة الله والرسول كما يجب، إذ هي شرط والباقى بدونها لا يفيد.
الركن الثَّاني: إقامة الصَّلاة بالطهور وأداؤها في وقتها كما أمر الله إذ هي عماد الدين. وعصام اليقين. وسيدة القربات. وغرة الطاعات. قال تعالى: {
…
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103] وقال عليه السلام:
"أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصَّلاة، فإن قبلت قبل سائر عمله، وإن ردت رد سائر عمله" وقال عليه السلام: "الصَّلاة من الدين بمنزلة الرأس من الجسد" وقال عليه السلام: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن لم يضيع شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة".
وكتب سيدنا عمر إلى بعض مسألة: إن أهم أموركم عندى الصَّلاة، فمن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. وقال: بين الإيمان والكفر ترك الصَّلاة، وقال عليه السلام:"الصَّلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين".
فينبغى للمؤمن الاهتمام بأمرها، والاعتناء بشأنها، والمحافظة على شروطها وسننها ومستحباتها وقوعاً وأداء.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
…
(43)} [البقرة: 43]، وقال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور، وقال: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتَّى تخرج من تحت أظفاره" وقال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجة".
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
…
(18)} [التوبة: 18] وقال صلى الله عليه وسلم: "من غداً إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا"وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم النَّاس أجراً في الصَّلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم".
وحكم التارك لها عمداً القتل، والجاحد الكفر في القول الفصل.
قال سيدى خليل: ومن ترك فرضاً آخر لبقاء ركعة بسجدتيها من الضرورى
وقتل بالسيف حدًّا، ولو قال: أنا أفعل وصلى عليه غير فاضل، ويكفى في ذم تاركها أو مؤخرها عن وقتها ما ورد من الوعيد في شأنه قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
…
(59)} [مريم: 59]، وفى الحديث:"من ترك الصَّلاة لقى الله وهو عليه غضبان" وعنه عليه السلام: من ترك الصَّلاة فقد أتى الكفر جهاراً" وعنه: من ترك العصر فقد حبط عمله، وعنه: "من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر" وعنه: "من ترك ثلاث جمع متهاوناً طبع الله على قلبه"، وعنه عليه السلام: "أتانى جبريل من عند الله تبارك وتعالى فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يقول إنى فرضت على أمتك خمس صلوات من أوفى بهن على وضوئهن ومواقيتهن وركوعهن وسجودهن كان له عندى عهد أن أدخله الجنة ومن لقينى قد انتقص من ذلك شيئًا فليس له عندى عهد إن شئت عذبته وإن شئت رحمته".
الركن الثالث من مبادئ الإسلام: الزكاة، وقد قرنها الله بالصلاة في آيات كثيرة: والرسول في أحاديث شهيرة. فكما أن الصَّلاة طهرة الأبدان فكذلك الزكاة طهرة الأموال قال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
…
(41)} [الحج: 41]، وقال: {
…
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55]، وقال:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103].
وقال صلى الله عليه وسلم: "الزكاة قنطرة الإسلام" وقال: "حصنوا أموالكم بالزكاة فإنَّه ما ضاع مال في بر أو بحر إلَّا بترك الزكاة فيه" وقال عليه السلام: "ما من صاحب مال لا يؤدى حق الله فيه إلَّا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزمته يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
…
(180)} [آل عمران: 180].
وعن أبي ذر موقوفاً قال: بشر الكانزين برضف يَحْمى عليهم في نار جهنم
ثم يوضع على حلمة ثدى أحدهم حتَّى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتَّى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل. كما في صحيح البُخاريّ. وعنه عليه السلام "مانع الزكاة يوم القيامة في النَّار".
وهي تجب في خمسة أشياء: مختلفات النعم، والنقدين، والركاز، والمعادن، والمعشرات.
ويلحق بهذا الركن في الجملة زكاة الفطر فإنها واجبة الإخراج على كل مسلم فضلت عن قوت يومه. عن نفسه وعن كل مسلم يمونه بقرابة أو رقّ أو زوجية ووجوبها بالسنة على المشهور، ففي الموطأ عن ابن عمر رضى الله عنهما قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان، وفى التِّرمذيُّ بعث صلى الله عليه وسلم منادياً ينادى في فجاج مكّة ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم.
الركن الرابع الصيام: الواجب على الأنام، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
…
(183)} [البقرة: 183]، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ
…
(185)} [البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وقال صلى الله عليه وسلم: "شهر رمضان كتب الله عليكم صيامه. وسننت لكم قيامه. فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال عليه السلام: "هذا شهر رمضان جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النَّار وتسلسل فيه الشياطين وجزاء ثوابه لا يحصى في خطاب" ففي الحديث: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" قال الله عز وجل إلَّا الصوم فإنَّه لي وأنا أجزى به يدع شهوته وطعامه من أجلى.
الركن الخامس: حج بيت الله الحرام، قال تعالى فيما نزل على نبيه تنزيلاً. {
…
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
…
(97)} [آل عمران]، وعن
عمر رضى الله عنه لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين. قال ابن حجر ومثل هذا الحديث لا يقال من قبل الرأى فيكون في حكم المرفوع، ومن ثم أفتيت بأنه حديث صحيح، وفى الحديث:"من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال تعالى: {
…
فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
…
(197)} [البقرة: 197]، وقال صلى الله عليه وسلم:"الحج المبرور ليس له ثواب إلَّا الجنة"، وقال عليه السلام:"الحج تضعف فيه النفقة بسبعمائة ضعف"، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى يقول أن عبداً أصححت له في جسمه وسعت عليه في معيشته تمضى عليه خمسة أعوام لا يفد إلى لَمْحرُوم" وقال: "الحجاج والعمار وفد الله يعطيهم ما سألوا ويستجيب لهم ما دعوا ويخلف لهم ما أنفقوا الدرهم ألف درهم". ولا ينبغي الحج لمن يضيع ما سواه من أركان الإسلام. صلاة أو غيرها ممَّا يلحقه عليه في الشرع تبعة الملام. كما تفعل العامة اليوم في عدم تحريها في نفقة الحلال، ولا تقوم بما أوجب الله عليها من الأقوال والأفعال.
إذا حججت بمال أصله سحت
…
فما حججت ولكن حجت العير
وقد نص العلماء رضوان الله عليهم فيما حرروه وذهبوا إليه أن الحاج إذا تحقق أنَّه يخرج صلاة عن وقتها لعذر كميد لم يجب عليه وقد كادت أن تترك هذه الدعائم، ولا يوجد سائل عنها ولا حاتم، ونبذت الشرائع عياناً، وارتكبت البدع إعلاناً، وصار أمرنا يتزايد في كل حين، والحقُّ لا ناصر عليه يعين، قال تعالى: {
…
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]، وقد ظهر في النَّاس من المخالفة لأمر الله وإتيان ما حرم الله والتفريط في جنب الله والإعراض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخشى معه من
حلول عقاب الله ونقمته، لولا حلمه وعفوه وسابق رحمته. قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ
…
(61)} [النحل: 61].
نطلب من الله أن يلهمنا والمسلمين لما يوجب رضوانه، ويرشدنا لما يجلب أمانه وكفرانه، فإن هذه الدار قنطرة إلى الآخرة، وسبيل لمن وفقه الله إلى الوصول للمنازل الفاخرة، والسعيد كل السعيد من استعمله الله في أعمال صالحة، وألهمه إلى أتباع سنة رسوله التي هي المتاجرة الرابحة، فخاف مقام ربه ونهى النَّفس عن الهوى، وتزود من تقوى الله وخير الزاد التقوى، وقدم ما ينفعه من هذه الدار للأخرى، وذكر فنفعته الذكرى.
فينبغى تكرير الوعظ والتذكير، والتنبيه والتحذير، لئلا تقسى القلوب، بتوالى الذنوب. {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]، وفى الحديث عن بعض الصّحابة رضوان الله عليهم: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة أحياناً مخافة السآمة علينا.
ويجب الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار، وتجديد نيَّة الإخلاص ونفى الإصرار، فالعمل بالسنة هو السبيل الموصل إلى رضوان الله فالزموها، واجتنبوا البدع والمنهيات واحذروها، ففي الحديث:"عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة".
فيتأكد على كل من ولاه الله تعالى أمراً أن ينظر لرعيته. ويعمل على إخلاص عمله وتصحيح نيته، ويرشدهم إلى ما ينفعهم دنيا وأخرى، ويحملهم على ما يقربهم إلى الله زلفى، قال الله سبحانه:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]، وذلك بعد أن يعمل العامل بطاعة ربه، ويجعل سعيه فيما يوجب الفوز بقربه. فإنَّه لا ينفع الوعظ في أبناء جنسه.
إلَّا بعد تطهر نفسه. فليبدأ العامل بنفسه فيصرفها عن هواها. ويأمرها بما يأمر به سواها. ولا يكن ممن يدعو إلى طريق البر وهو قَدْ حَادَ عنه وخرج. وانتصب لمعالجة غيره وهو إلى من يعالجه أحوج. إذ بصلاح الولاة تصلح الرعية. وتستقيم أحوالها في السر والعلانية، ومن صلاحهم أن يكونوا مع من هو إلى نظرهم إخوانا. وعلى ما يقوى على الطباعة أعواناً. فالمسلم أخو المسلم وإن كان والياً عليه. وأولى النَّاس باستعمال الرفق من ظهر فضل الله لديه. وأن لا يداهنوا أهل المعاصى. بل يتقصوا أحوال الدانى منهم والقاصى. ففي الحديث الكريم:"يحشر يوم القيامة أناس من أمتى من قبورهم إلى الله تعالى على صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصى وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون".
ويستعين على ذلك بتقريب أهل الفضل والدين، ويجتنب أهل الضلالة والمعتدين، فإن الطباع تسرق الطباع. والمرء لمن غلب عليه تباع. قال في الحكم: لا تصحب من لا ينهضك حاله. ولا يدلك على الله مقاله، وفى الحديث: ما من أمير إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا. ومن وقى بطانة السوء فقد وقى وإذا زكى الإنسان نفسه واتقى ربه أصلح الله رعيته. وبلغه من كل خير أمنيته. فإن رأس المال تقوى الله وسبيل النجاة اتباع سنة رسول الله قال الله سبحانه وتعالى: {
…
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
…
(131)} [النساء: 131]، وقال: {
…
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
…
(3)} [الطلاق: 2، 3]، وقال: {
…
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].
وقال سيدنا على كرم الله وجهه: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الله عاش قوياً وسار في بلاد الله آمناً. وحقيقة التقوى أتباع الأوامر واجتناب النواهى، وأن لا يقدم على أمر حتَّى يعلم حكم الله فيه. وفى الصَّحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع
وكلكم مسئول عن رعيته" والسعيد من سعدت به رعيته، ولا سعادة أكبر من العدل في الرعية وحسن السيرة فيها والعمل بما ينجى من عذاب الله قال سبحانه:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 37 - 41]، وقال سبحانه:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8] وقال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
…
(30)} [آل عمران: 30]، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281]، وقال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90].
وأفضل أعمال الولاة العدل ونصر المظلوم وقمع الظالم، فإنَّما السلطان ظل الله في أرضه يأوى إليه القوى والضعيف، وينتصر به المظلوم قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
…
(49)} [المائدة: 49]، {
…
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ
…
(58)} [النساء: 58]، وقال: {
…
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)} [المائدة: 42]، وقال عليه السلام:"إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" وفى الحديث: "الإمام العادل المتواضع ظل الله في الأرض يرفع له عمل سبعين صديقاً".
وقال سبحانه: {
…
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
…
(7)} [الحشر: 7]، وقد أمر الله بالعدل ورغب فيه وأخبر بكرامة صاحبه إذ به تحصل العمارة والأمان، في جميع الأوطان والأزمان، وكما رغب في العدل ورتب الأجر عليه لأنهى عن الجور والظلم وحذر منه وأخبر بهلاك مرتكبه، قال
سبحانه: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} [الإنسان: 31]، {
…
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} [الفرقان: 19]، وقال: {
…
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15].
وقال عليه السلام: الظلم ظلمات يوم القيامة. وقال: الظلم يذر الديار بلاقع. وقال عليه السلام فيما يرويه عن ربه: يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته فيما بينكم محرماً فلا تظالموا. وقال: ومن أظلم ممن لم يجد ناصراً غيرى. وقال: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. وقال: في حجة الوداع: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وفى الحديث: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره الشريف.
ويدخل الظلم ظلم أهل الذمة، وما سموا أهل الذمة إلا لأنهم في ذمة الإسلام، يجب حفظهم والدفاع عنهم، وتحرم دماؤهم وأموالهم، وقد أوصى عليه السلام بالوفاء لهم، وحذر من ظلمهم ففي الحديث: من ظلم ذمياً كنت له خصيماً يوم القيامة ومن كنت خصيمه فلجت عليه بالحجة. وفيه: من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة. وفيه: إذا ظهرت الفاحشة كانت الرجفة، وإذا جار الحاكم قل المطر، وإذا تركوا الجهاد رهبة ألبسهم الله سِيمَى الخسف ووسمهم بالصغار. ففي الحديث: ما ترك قوم الجهاد رهبة إلَّا ذلوا. وفى الحديث: من جرد ظهر مسلم بغير حق لقى الله وهو عليه غضبان. وفيه: من روع مؤمناً لم يؤمن الله روعته يوم القيامة ومن سعى بمؤمن أقامه الله مقام خزى وهوان يوم القيامة. وعنه عليه السلام: من أعان في قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله. وفى الحديث: اللَّهم من ولى من أمر أمتى
شيئاً فرفق بهم فارفق به ومن ولى من أمر أمتى شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه. وعنه عليه السلام: أيما أحد استرعى رعيته فلم يحطها بالأمانة والنصيحة ضاقت عليه رحمة الله التي وسعت كل شيء. وعنه عليه الصلاة والسلام: من أخون الخونة تجارة الوالى في رعيته. وفى الحديث: لكل شيء آفات وآفات هذا الدين ولاة السوء. وعنه صلى الله عليه وسلم: ما عدل وال اتجر في رعيته. وعنه عليه السلام: من ولى شيئاً من أمور المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتَّى ينظر في حوائجهم. وعنه عليه الصلاة والسلام: ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوى الحاجات والخلة والمسكنة إلَّا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته. وفيه: ما من أمير يؤمر على عشرة إلَّا سئل عنهم يوم القيامة. وفيه: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلَّا حرم الله عليه الجنة.
واعلموا أن ما ينزل بنا من الشدائد والمصائب، إنَّما هو من عدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وارتكاب الذنوب، والإصرار على العيوب، وقد حذر الشارع عز وجل وأنذر، ووعظ وذكر، ورتب على كل ذنب عقوبة فقال جل ثناؤه:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
…
(71)} [التوبة: 71]، وقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
…
(110)} [آل عمران: 110]، ومن المنكر السكوت عن المنكر لمن يقدر على تغييره لقوله تعالى:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 79]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم".
ومن المنكر الذي لا يسع التغافل عنه والتساهل في أمره هذا الخطب النازل الوقتى الذي هو المجاهرة باستعباد الأحرار واسترقاقهم بدون وجه شرعيّ، فإن
المستعبد لحر هو أحد الثلاثة الذين لا يقبل الله منهم صلاة، فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة، من تقدم قوماً وهم له كارهون ورجل أتى الصَّلاة دباراً والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ورجل استعبد حراً. وهو أيضاً أحد الثلاثة الذين قال الله تعالى فيهم إنه سبحانه خصمهم. فعن أبي هريرة رضى الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بى عهداً ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى ولم يوفه". وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يظهر فيهم الرِّبا إلَّا أخذوا بالسنين وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلَّا أخذوا بالرعب". وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصى هم أعز وأكثر ممن يعمله ثم لم يغيروه إلَّا عمهم الله بعقاب". وقال صلى الله عليه وسلم: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر من قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم". وقال صلى الله عليه وسلم: "خمس ليس لها كفارة: الشرك بالله وقتل النَّفس بغير حق وبهت المؤمن والفرار من الزحف ويمين فاجرة يقطع بها مال بغير حق". وفى الحديث: "خمس بخمس ما نقض قوم العهد إلَّا سلط الله عليهم عدوهم ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلَّا فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلَّا فشا فيهم الموت ولا طففوا المكيال إلَّا منعوا القطر وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلَّا حبس الله عليهم المطر". وفى الحديث: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن. وفيه: الزنى بريد الفقر. وفيه: "من شرب مسكرًا أسقاه الله من طينة الخبال. قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: "عصارة أهل النَّار وصديدهم". وقال: "من شرب مسكراً لم يقبل الله منه صلاة أربعين يوماً"، وقال: من غصب قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين". وقال صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النَّار". وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا فعلت أمتى خمس عشرة خصلة حل بها البلاء: إذا كان المغنم دولا والأمانة
مغنماً والزكاة مغرماً وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمر ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء أو خسفاً أو مسخاً". وعنه صلى الله عليه وسلم: "اتقوا السبع الموبقات -أى المهلكات-: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلَّا بالحق وأكل الرِّبا وكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
وقد أحل الله البيع وحرم الرِّبا وأمر بالكسب وجعله لنيل الفضل سبباً قال تعالى: {
…
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
…
(275)} [البقرة: 275]، وقال: {
…
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)} [الأعراف: 10]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
…
(198)} [البقرة: 198].
وقال صلى الله عليه وسلم: "التاجر الصدوق يحشر مع الصديقين والشهداء". وقال صلى الله عليه وسلم: "من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلَّا الهم في طلب المعيشة". وقال صلى الله عليه وسلم: "طلب الحلال فريضة على كل مسلم". وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278]. وفى الحديث: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية في الإسلام ومن نبت لحمه من ربا فالنار أولى به". وفيه: "لعن الله أكل الرِّبا وموكله وشاهده وكاتبه هم فيه سواء". وفيه: "أتيت ليلة أُسرى بى على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الرِّبا". وفى الحديث: "إيَّاكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا وإن الرجل قد يزنى فيتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتَّى يغفر له صاحبه". وفيه: "أتدرون ما الغيبة؟ ذكرك أخاك بما يكره. إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته".
وقال الله سبحانه: {
…
وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ
…
(12)} [الحجرات: 12]. وفى الحديث: "إن الله لا يحب الفاحش المتفحش ولا الصياح في الأسواق"، وفيه:"خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله". وفيه: "إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"، وفيه:"إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"، وفيه:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
فاعملوا بما يتلى عليكم من آيات الله تهتدوا. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم تسعدوا. وسابقوا إلى سلوك نهج الخلاص وتداركوا أعمالكم بالتوبة والإخلاص. "واركبوا من طاعة الله ورسوله سفن النجاة. ولا تقنعوا مكان الأعمال الصالحات بالبضاعة المُزْجَاة (1). وأقيموا شعائر الإسلام بينكم وأظهروها. وزكوا أنفسكم بطاعة الله وطهروها، {
…
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31]. {
…
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. وبادروا لها مبادرة الغريق لطلب النجاة، وانتهزوا فرصتها قبل هجوم هادم اللذات، هي إن صادفت محلها تَجُبّ ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفى الحديث:"توبوا إلى الله فإنى أتوب إلى الله كل يوم مائة مرَّة" وفيه "إن للتوبة بابًا عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب لا يغلق حتَّى تطلع الشَّمس من مغربها" وفيه "من تاب قبل أن يغرغر قبل الله منه".
(1) تحرف في المطبوع إلى: "المجزاه" والمُزجَى: الشيء القليل. وهي مُزْجَاة. وفى التنزيل العزيز: {
…
وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ
…
(88)} [يوسف: 88].
ونعهد إلى عمالنا ولاة أمرنا أن يلزموا أنفسهم وأهليهم طاعة الله، ويدلوا رعيتهم عليها ويعملوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضوهم عليها قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
…
(6)} [التحريم: 6]، وأن يلزموا كل قرية ومدشر ودوار مشارطة طالب علم يعلم أولادهم ويفقههم في دينهم، ويقيم لهم الصلوات الخمس في أوقاتها، ويحضهم على الأذان الدال على إيمان الدار، وهو للمؤمنين شعار، وأن ينبهوا على رد البال للطريق ليلاً ونهاراً، وتعاهد أماكن الخوف منها رواحاً وابتكاراً، وينصبوا لأهل العيث الأرصاد، ويمكنوا لهم بكلِّ واد، حتَّى تفسير الدماء بذلك محقونة، والفتن محسومة، والأموال مصونة.
فإن قَطع الطَّريق وإخافة المسافرين من أقبح السيئات. كما أن إماطة الأذى عن الطَّريق من أحسن الصالحات، ففي الحديث الكريم:"عرضت على أعمال أمتى حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطَّريق".
وأن يتفقدوا أحوال الفقراء الذين قتِّرَت عليهم موارد الأرزاق (1). وألبسهم التعفف ثوب الغني وهم في ضيق من الإملاق. بصدقة التطوع التي هي للحسنات كلام المولود، فهى التي تتيقظ لحراسة صاحبها والنّاس رقود، وبها تستنزل الأرزاق وتسبغ الآلاء. وتطفئ الغضب ولا يتخطاها البلاء، اختص الله بها بعض عباده لمزية أفضالها. وجعلها سبباً للتعويض بعشر أمثالها. ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:"من تصدق بصدقة منْ كَسْبٍ طيب ولا يقبل الله إلَّا الطَّيِّب فكأنه إنَّما يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتَّى تكون مثل الجبل" وفيه: "ما من رجل يتصدق في يوم أو ليلة إلَّا حفظ من أن يموت من لدغة أو هدمة أو موت بغتة" وفيه "إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النَّار" وفيه: "اتقوا النَّار ولو بشق تمرة" وفيه: "أعطوا السائل ولو جاء على فرس" أى لا تردوه ولو جاء على حالة تدل على غناه.
(1) في المطبوع: "الذين قدرت عليهم مواد الأرزاق".
وورد: "استنزلوا الرزق بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة".
وليعاقبوا الفرقة التي تراخت في الدين. وخلفت سنة سيد المرسلين ولم يتعلموا ما يقيمون به قواعد إسلامهم، ولا سلكوا سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سبيل أئمة الدين، وأعلامهم، ففي الحديث:"إنَّما العلم بالتعلم" وهو واجب، إذ لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتَّى يعلم حكم الله فيه، وقد قال سبحانه وتعالى: {
…
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
…
(36)} [الإسراء].
ولما أخذ الله العهد على العامة أن يتعلموا أخذ العهد على أهل العلم أن يعلموا فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
…
(187)} [آل عمران: 187]، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159، 160].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار" فتعلموا وعلموا فإن من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، قال سبحانه: {
…
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ
…
(282)} [البقرة: 282]. وفى الحديث: "اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"، {
…
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا
…
(20)} [المزمل: 20]، {
…
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]، وقال:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8].
وقال صلى الله عليه وسلم في وصية لبعض أصحابه رضى الله عنهم: "كن في الدُّنيا كأنك غريب أو عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح".
وقال: "يابنى احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
وقال في وصيته لمعاذ بن جبل: "يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق النَّاس بخلق حسن قال قلت يا رسول الله زدنى قال: كف عنك هذا وأشار إلى لسانه قلت أو إنا لمؤاخذون به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب النَّاس في النَّار على مناخرهم -أو قال على وجوههم- إلَّا حصائد ألسنتهم".
وفيه: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وفيه: "أحب الأعمال إلى الله حفظ اللسان".
وفيه: "رحم الله امرءاً تكلم فغنم أو سكت فسلم".
وفيه: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوى بها في جهنم".
وفيه: "أكثر خطايا الإنسان من لسانه".
وفيه "من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له الجنة.
"فليبلغ الشاهد الغائب ألهمنا الله وإياكم الأعمال الصالحات. وأرشدنا لمناهل الخيرات وجعلنا من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
وفيها أمر بتأليف لجنة من بعض فقهاء فاس للنظر فيما أراد اليهود إحداثه بملاحهم بفاس، ونص الظهير الذي أصدره في ذلك لنائب قاضى فاس بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"الفقيه النائب في القضاء بفاس الأرضى، السيد محمد بن عبد الرحمن سددك الله وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فقد بلغنا أن أعيان يهود ملاح فاس العليا اجتمعوا واتفقوا على إحداث أمر بملاحهم مخالف لعاداتهم وهو نصب حزان وتاجرين من تجارهم في ملاحهم للحكم فيما يعرض بين إخوانهم من الوقائع كالسرقة وسائر الدعاوى وعلى إبدالهم في رأس كل شهر بآخرين، وصار هؤلاء الحكام يقبضون على من أرادوا من خصوم إخوانهم ويوجهونهم للسجن على يد عاملهم ويسرحونهم منه على يده وحيث لم تجر لهم عادة بنصب ما ذكر، وكانوا معاهدين والأمور التي بينهم وبين المسلمين كلها مبنية على قواعد الشرع رددنا قضيتهم للشرع، وعليه فنأمرك أن تجتمع أنت والفقهاء المسمون يمنته وتتنزلوا لهذه القضية وتعطوها حقها من النظر والتأمل والبحث ومراجعة عقد ذمتهم، هل هم معاهدون في ذلك أم لا؟ وما اقتضاه الشرع في النازلة من تسويغ ذلك لهم أو منعهم منه وردهم لعادتهم، طالعوا به علمنا الشريف وأعلموا به خالنا القائد العربي ولداب محمد لينفذه فقد أمرناه بتنفيذه والسلام في 6 ربيع الثَّاني عام 1300".
والفقهاء المشار لهم في الظهير هم على التَّرتيب الفقيه السيد الحاج محمد جنون، والفقيه السيد جعفر الكتانى، والفقيه السيد أحمد بن الحاج، والفقيه السيد الحميد بنانى، والفقيه السيد عبد الله الودغيرى.
وقد كان جواب هؤلاء الفقهاء أن يمنع اليهود ممَّا أحدثوه من نصب حزان وتاجرين يبدلون كل شهر بغيرهم، وجعل عاملهم المسلم منفذاً لأمرهم، يسجن وشرح من غير أن يعرف لذلك وجها، واستند الفقهاء في ذلك لعهد لعمر مع نصارى الشام وقفت على نص ذلك بخطوطهم ما عدا جنون مؤرخاً بعشرين جمادى الأولى من السنة.
ولم يزل مقيماً بعاصمة جده الأكبر يدبر أمر الرعية وينظر فيما يؤيد سعادة الناحية الغربية إلى أواخر عام واحد وثلاثمائة وألف.
وفيها تم تنفيذ إصلاح وادى فاس الذي أمر صاحب الترجمة لإجرائه رفعاً للضر الحاصل لسكانها من قلة الماء بالمساجد والدور والحمامات والأرحية والأجنة والأسجان.
وكان ابتداء البحث قد تقدم قبل هذا؛ لأنَّه لما ظهر النقص في المياه وتفاحش وجه أوامره الشريفة لقاضى فاس مولاى محمد بن عبد الرحمن العلوى بأن يعين العدول وأرباب البصر ليتوجهوا مع الأمين الحاج عبد السَّلام بن محمد المقرى لماء وادى فاس الداخل للحضرة الإدريسية للبحث في شأنه، ومعرفة الموجب لقلة وصوله لما ذكر مع النظر فيما أحدث من البناءات بالدوح والزيات، وكثرة رفع السدود بصواغة والبناء بالأودية، وهل كان ذالك سبباً فيما ذكر؟.
فتوجه الأمين المذكور مع جماعة وافرة عينها الشرع الكريم من أهل النَّاس القرويين واللمطيين وعدوة الأندلس، وهم من أهل المعرفة والخبرة والبصر وأصحاب الرأى والنظر من الفلاحين والبنائين والفخارين والتجار والرحويين والقنويين والنظار والعارفين بأحوال الوادى المذكور وما يعرض له من النقص والزيادة في جميع الأمور، ومصاريف الوادى وتقاسيمه على الجمهور، ووقفوا على ذلك وشهدوا بما ألفوا.
وبعد فراغهم من الوقوف على قسمة ماء أندلس القرويين والتطوف عليها والإشهاد بما وقع فيها من الضرر والحدوث على أرباب مائها، توجهوا للوقوف على قسمة ماء اللمطيين لينظروا ما حصل فيها من الضرر والفساد، فلما فرغوا منها توجهوا للوقوف على ماء عدوة الأندلس مع من زاده الشرع من أهل العدوة زيادة على من ذكر أولاً حسبما ذلك مسطر بشهادة عدلية ثابتة مؤرخة بمحرم
1299 -
وتقدم ابتداء الوقوف في أواخر حجة 98 - مبين فيها الضرر في كل موضع، وما لاحظه الواقفون أثناء طوافهم مع تسمية كل واحد منهم، واستثناء من لم يشهد في بعض الأمور من الشهادة بما شهد به غيره.
ثم لما كان الباشا عبد الله بن أحمد بمكناسة الزيتون وكان بها صاحب الترجمة يومئذٍ كتب لولده وخليفته على عمالة فاس السيد محمد أن يعين أفراداً للتوجه مع من عينهم الجناب الشريف للوقوف على ماء وادى فاس، حتَّى يتحققوا صحة ما كان قد وقع الإشهاد به من قلة الماء بالمساجد والدور والحمامات والأرحية فعينهم، وتوجهوا مع مولاى أحمد الصويرى والقائد البشير بن القائد بريك الحبشى، والقائد محمد الشرادى الذين وجههم الجناب الشريف لذلك، وشهدوا بما ألفوا من أحداث ما لم يكن من قبل وافتقار لإصلاح وغير ذلك ممَّا هو مبين في شهادتهم الثابتة المؤرخة بسابع ربيعء الثَّاني من هذه السنة 1301، وكان ابتداء الوقوف في متم ربيع الأول منه.
ومن الكتب الرسمية التي جرت في ذلك ما كتبه الباشا عبد الله لولده ونصه بعد الحمدلة والصلاة:
"ولدنا الأعز البار الفقيه الخليفة سيدى محمد بن عبد الله رعاك الله، وسلام عليك ورحمة الله بوجود مولانا أيده الله.
وبعد: فقد أبلغنا مولانا الإمام بأنه كان وجه وصيفه القائد البشير الحبشى للوقوف مع القائد العربي بن أبي محمد على رد السدود الحادثة التي ضعف بها ماء فاس خارج المدينة، وأخبر المكلفان بأنهما تتبعاً ذلك حتَّى أبطلا جميع المجارى الحادثة ورد الماء لمحله، وصار جريانه خارج المدينة على ما ينبغي، ولما دخل الماء للمدينة بلغ العلم الشريف أن النَّاس لا زالوا يتضررون بقلة الماء وضياعه داخل المدينة، وقد وجه أيده الله الشريف مولاى أحمد الصويرى والقائد البشير الحبشى
وصاحب سيدنا لمراجعة ما بلغ علمه الشريف من إبطال المجارى الحادثة ورد الماء لمحله وللوقوف على عين مجارى الماء داخل المدينة واستيعاب ذلك مع المعينين من قبلنا، وهم: الخليفة الحاج أحمد الرايس، والأمين الحاج عبد السَّلام المقرى، وتاجران عارفان، وأربعة من الحذاق الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم والقنويون والعدول والصاحب الوارد عليك من هنا حمان الرايس، فإذا ورد عليك من توجه من قبل مولانا بقصد ما ذكر فاعلم المذكورين بالتَّهَيُّؤ للملاقاة بالمحل والوقت الذي توافقت معهما عليه ليتطوفوا مع الجميع بمجارى الماء كلها، وكذا المحل الذي ينتهي له الماء عند من كان وتعين ولو كان عندى، وليقيد العدول ما عاينوا من صلاحها أو فسادها ووجه لنا الرسم بذلك والله يصلحك والسلام في 24 ربيع لعام 1301 عبد الله.
ومنه: فزد من قبلنا رجلين اثنين من أهل العدوة ومن الأندلس كذلك، ومن اللمطيين كذلك للوقوف على قضية الماء المشار إليها أعلاه ونظار الأحباس ومن تحتاجون إليه من المعلمين الرحويين".
ونص ظهير شريف للباشا المذكور بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"وصيفنا الارشد الطالب عبد الله بن أحمد وفقك الله، وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: وصل جوابك في شأن مجارى ماء فاس الذي وجهنا من يتعاهدها وأمرناك بتعيين من يقف من قبلك مع من تعين: بأنك كتبت لنائبك وعينت له من يقف معهم وفق ما أمرت، وأجابك بأن الأمر استوفى على التمام وقيد العدول ما عوين منبها كما بالموجب الواصل على الكتاب، فقد طالعنا الموجب فألفينا غاية ما فيه أن الموجهين تطوفوا على مظان الضر. بطواف أرباب البصر. من غير حصول على نتيجة التوجيه التي هي رد الماء لأصله والضرب على يد المتعدى فيه. على أنَّه
مهما كان الغرض يدرك. فلا يلغى الكد لأجله حتَّى يحصل ويترك، وعليه فنأمرك برفع حادث الضرر بمحضر المذكورين في الرسم لرفعه. حتَّى يرجع الشيء لأصله. وليحضر معهم من عيناه للوقوف على رفعه وهما مولاى أحمد الصويرى، ووصيفنا البشير الحبشى ومن عداهما فيه أخبر تقله.
ولذلك نتخير في المهمات من يحسن في إقامة الغرض قيامه. ويزيل بصدقه عن طريق الحق إبهامه. لأنَّ النَّاس اليوم غلبهم هواهم. ووافق سجاياهم فلا خير في كثير من نجواهم. سيما أهل التعدى فآمالهم كلها لدينا مرفوضة. وقضايا تدابيرهم منقوصة. وجموع تكسيرهم مفضوضة.
فلا ترفع السوط حتَّى يرتفع الضرر عن المساجد والحرمات والشكاة من غير ريب بصائب رأيك. وبمعونة تعزيز شريف أمرنا لك ومن بين يديك ومن خلفك، بحيث يرجع الشيء لأصله القديم ونهجه القويم، ولو أدى ذلك إلى هدم ما بنى على غير وجهه بتعدى صاحبه، أو أبدل مشرب من محله، أو زيد فيه برأى مرتكبه، إذ الحق أحق أن يتبع. وإليه في كل المذاهب يرجع. والإغضاء على المتعدى يفضى إلى المنازعة. وكثرة المراجعة.
وقد شاع أمر هذا الماء وذاع. في جميع البلدان والبقاع. فقم على ساق مع من عيناه لذلك حتَّى يتوصل كل من له حق بحقه، ويجرى كل قسط منه بمستحقه، والتعدى بالماء أهلك الله به أمة، وأرسل عليهم طامة ملمة، قال تعالى: {
…
أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)} [القمر: 28] فأزل هذا الداء العياء بكيه، بإيصالك منه كل واحد لشيه، وعامل كل متعد بنقيض قصده، وأجلسه عند حده، والسلام. في 27 ربيع الثَّاني عام 1301".
ونص ما كتبه الوزير الأكبر يومئذٍ وهو أبو عبد الله محمد بن العربي الجامعى للباشا المذكور بترتيب مؤنة الوفد الموجه لإصلاح الماء:
"الحمد لله محبنا الأرضى الباشا الأسعد الفقيه السيد عبد الله بن أحمد، رعاك الله وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد: فإن سيدنا أيده الله وجه وصيفه القائد البشير الحبشى، ومولاى أحمد الصويرى، ومحمد بوهيمة الدليمى لرد ماء فاس لمجاريه الأصلية ويأمرك أيده الله أن ترتب لهم مؤنتهم اليومية مدة مقامهم ثمَّ وعلى المحبة والسلام في 27 ربيع الثَّاني عام 301 محمد بن العربي خار الله له".
ونص ما كتبه الوزير المذكور جواباً عن استشكاله بعض ما في الظهير الشريف بعد الحمدلة:
"محبنا الأعز الأرضى، الباشا الأسعد المرتضى، الفقيه سيدى عبد الله بن أحمد رعاك الله وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد: وصلتنا بطاقتك باستشكالك الجملة التي بينت من الظهير الشريف الموجهة لك في شأن رفع الضرر والحيف الواقع في ماء فاس، وطلبت التصريح لك بالمراد في ذلك لئلا تقع مع من ذكرت في محذور، وأطلعنا بذلك علم مولانا فأجاب نصره الله بأن المراد هو رفع الضرر الحادث والقديم الواقع في ذلك الماء ورد مجاريه لهيئتها وكيفيتها القديمة والتسوية في رفع ذلك الضرر بين القوى والضعيف، والمشروف والشريف، وبأن من توقعت منهم ما ذكرته هم الذين تشكوا بذلك الضرر ورغبوا في رفعه هم وغيرهم من كبراء فاس وأعيانها كافة، والنبيه مثلك لا ينبه وعلى المحبة والسلام في 28 ربيع الثَّاني عام 1301 محمد بن العربي خار الله له".
ثم توجه الوفد العالى والخليفة الرايس، والأمين المقرى، والناظر الشامي، وشيخا البصر، والقنويين والرحويين وغيرهم للوقوف على إجراء الإصلاح المنشود
حتَّى وقفوا على الماء الذي يسيل من سد باب جبالة، فاقتضى نظرهم حصره ببناء حائط من طابيه، وحينئذ أحضرت الإقامة وشرع في بنائه وعلى الجزيرة التي برأس رحى الجبل المشهود بضرر بقاء السمر النابت بها حتَّى أزيل جميعه، وخملت الجزيرة المذكورة وما زالوا كذلك في تنفيذ الإصلاح من تعيين أوقات السقى وتجديد المغاليق وإصلاح القواديس وبيان أنواعها وما تناسبه وغير ذلك، حتَّى أتموا مهمتىم حسبما ذلك بشهادة عدلية ثابتة بتاريخ رجب الفرد من السنة 1301.
ثم ظعن إلى فاس فأقام لتدبير الشئون فيها إلى أن دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة وألف، فرجع إلى العاصمة المكناسية وأصدر الأوامر لعاملها إذ ذاك الباشا حم بن الجيلانى بانتخاب عشرة من أعيان نجباء طلحة الجيش البُخاريّ لقراءة فن التوقيت والحساب، ورشح لتعليمهم موقت الحضرة المكناسية الشَّهير الجيلانى الرحالي.
وقد كان للمترجم اعتناء وشغف بهذه الفنون الرياضية، فكان يوجه في طلب آلاتها من سائر الجهات، وقد وقفت على بطاقة من عامل الرباط السيد محمد بن محمد السويسى للشريف العلامة سيدى محمد بن الحسنى عم صديقنا الحميم سيدى المدني بن الحسنى نصها بعد الحَمْدَلَة:
"محبنا الأرضى الفقيه الأجل الشريف سيدى محمد بن الحسنى السَّلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد: فقد أمرنى مولانا أعزه الله نوجه لحضرته الشريفة ستة ربعات وستة أسطرلابات التوقيت من هنا، وبحثنا فتحقق لنا عندكم اثنين ربعات وأسطرلاب وعليه أحبك توجه لنا بهم وتعلمنا بثمنهم أو يقدر لهم ولا بد وعلى المحبة والسلام في 7 شوال عام 1308 محمد السويسى لطف الله به".
ثم نهض من مكناس قاصداً عاصمة الجنوب فسار على طريق زمور الشلح ثم رياط الفتح وبه أقام سُنَّة عيد الفطر، ثم نهض على طريق زعير وتادلا، وبينهما قضى سُنَّة عيد النحر، ثم من زعير لايت بوريد فآيت اعتاب، ولما وصل إلى قبيلة. نتيفة أوقع بها جزاء على ما أجرمت من شقهم عصا الطباعة على عاملهم الطالب عبد الله النتيفى ووثوبهم عليه وهدهم لداره، ولولا أنَّه خلص بنفسه نجيا لحضرة السلطان لمثلوا به.
وكذلك أوقع بأهل راوية تنغملت، ثم سار على فم الجمعة، ثم قبائل السراغنة والرحامنة، ثم مراكش الحمراء فأقام بها مدة يتأهب لعود الحركة للقطر السوسى لتفقد أحواله وتسكين اضطرابه، وإعادة النظر في ترتيب شئونه، ويدبر أمور الظعن إليه، وكيفية المرور على قبائله وتمهيدها وبمراكش أقام حفلة العيد النبوى والمولد الكريم المصطفوى.
ولما حضر بشريف أعتابه أعيان القطر السوسى كأبي عبد الله محمد بن الحسين أو هاشم، والقائد دحمان بن بيرك التكنى، والحاج مسعود الراشدى، والقائد أحمد العبوبى السرغينى والعمال الذين يتصارفون معهم من آيت باعمران وباعقيلة وتيزفيت وغيرهم كالقائد على الخصاصى، والقائد إبراهيم بوفوس لأداء واجب التهنئة ومشاهدة هذه الحفلات المولوية العيدية وفق المقرر المألوف في ذلك أمر وزيره أبا عبد الله محمد بن العربي الجامعى بإحضارهم بشريف الأعتاب ومفاوضتهم فيما صمم عليه جنابه العالى من الوجهة لناحيتهم.
فأحضرهم وعرض عليهم القصد المولوى فأجابوا بالترحيب والبشر، وسردت عليهم مراحل السفرة الأولى فوافقوا على بقاء البعض منها على الأصل، وأشاروا بتبديل البعض. قال الخصاصى وبوفوس: إن المسلك السهل المتواصل العمارة والماء إلى كلميم إنَّما هو على بلاد الاخصاص لقربه واتصال الماء والعمارة، فذكروا أن من بونعمان لاندجه نحو الخمس ساعات لكون محطة الظهر الفارقة بينهما ليس فيها إلَّا المطافى، ومن اندجه لاكيسل نحو الساعتين ومنه لكلميم
كذلك، كما ذكروا أن لبلدهم طريقاً آخر بيانه أن من عين أولاد جرار إلى محل الماء القريب من تمرغت بنحو نصف ساعة نحو الساعتين، ومن ذلك المحل إلى اندجه نحو الساعتين ونصف، ومنه إلى كيسل كذلك ومنه إلى كلميم كذلك وهنالك مراحل آخر:
المرحلة الأولى: من ماسة إلى تيزنيت سوائع 3 وأقسام 8 واسم العامل محمد احسون التيزنيتى وفيها الماء كثير.
المرحلة الثَّانية: من تيزنيت لأولاد جرار سوائع 3 والعامل محمد -فتحا- ابن عبد الرحمن الجرارى وفيها الماء كثير.
المرحلة الثالثة: من أولاد جرار لبونعمان سوائع 3 وأقسام 3 والعامل القائد يَحْيَى البريمى وفيها الماء الكثير.
المرحلة الرابعة: من بونعمان لايسك سوائع 4 وأقسام 6 والعامل إبراهيم بن سعيد وفيها الماء كثير.
المرحلة الخامسة: من ايسك لبير تانكارفة والخميس بآيت بوبكر سوائع 2 والعامل أحمد البوبكرى وفيها الماء كثير جداً.
المرحلة السادسة: من بغير تانكارفة والخميس لتانكارفة سوائع 2 والعامل باكريم وفيها الماء كثير جار.
المرحلة السابعة: من تانكارفة لفم تيكتن سوائع 4 والعامل باكريم والماء عيون دائرة بالمحلة.
المرحلة الثامنة: من فم تيكتن لكيسل ساعتان والعامل باكريم أيضاً وفيها الماء كثير.
المرحلة التاسعة: من كيسل لكلميم ساعتان والعامل ولد بيروك وفيها الماء كثير جداً.
كما وقع الكلام معهم في شأن اكتيال الشعير فأشاروا بأن يكون أمين يكتال لكل مرحلتين وما اكتاله ينزلونه بالمحل الذي تنزل به المحلة.
وكانت هذه المفاوضة في العشرين من ربيع النبوى عام ثلاثة وثلاثمائة وألف حسبما وقفت على ذلك في كناشة المهندس الطالب أحمد بن الشاذلى البُخاريّ، وقد كان المتقدم أمام المترجم لضبط المراحل بالسوائع والدقائق وبيان السهل والوعر وما به ماء وما لا ماء به فإذا أحاط علماً بالطريق المراد سلوكها فصل ذلك في تقييد بغاية الضبط والإتقان، وقدمه للمترجم ليكون على بصيرة ممَّا يقدم عليه وعلى هذا كان العمل في سائر الحركات.
ولما عزم المترجم على النهوض عقد لنجله مولاى محمد على جيوش جرارة وقدمه أمامه لاستخلاص الواجبات الشرعيّة من زكوات وأعشار المترتبة بذمم تلك القبائل السوسية، وأمره بالتخييم بقبيلة هوارة إلى أن يلحق به أو يرد عليه ما يكون عليه عمله بعد، وأصيب الوزير ابن العربي بداء الفالج واستنيب عنه الفقيه الصنهاجى.
ثم في يوم الخميس الثَّاني عشر من جمادى الثَّانية عام ثلاثة وثلاثمائة وألف بارح المترجم مراكش في جيوشه المتلاطمة الأمواج ووجهته القطر السوسى وكان مخيمه بوادى السمار، ومدة السير ساعتان ونصف، ثم منه لزاوية الشرادى ومدة السير ثلاث ساعات ونصف، ثم لوادى الحلوف ومدة السير ثلاث ساعات، ومنه للمغسلة والسير ثلاث ساعات، ثم لزيمة بقبيلة حمير والسير ثلاث ساعات ونصف.
وأقام المترجم بجيوشه هنالك يوماً واحداً للاستراحة ولحوق المتخلفين بالجيوش المظفرة، ثم لسوق الأحد والسير ساعتان ونصف، ثم لقلعة ابن التمار بعبدة، والمسير أربع ساعات وربع، ثم لغدران الخيل والسير ثلاث ساعات، ثم
[صورة]
لثغر مدينة آسفى والسير ثلاث ساعات، ثم للملح بعبدة والسير ثلاث ساعات ونصف، ثم لزاوية الرثنانة من بلاد الشياظمة والسير ثلاث ساعات ونصف ومن ثم لسيدى عبد الله مولى الحمراء والسير أربع ساعات، ثم إلى عين الحجر والسير أربع ساعات، ثم لثغر الصويرة والسير خمس ساعات وربع، وكانت الإقامة هنالك أربعة أيَّام، ثم كان النهوض منها للمحل المعروف بالرياض والسير ساعتان ونصف ومنه لسميمو بحاحة والسير ثلاث سوائع ونصف، ثم منه لدى وسارن والسير ساعتان ونصف ومنه لتفنى والسير ثلاث ساعات، ومنه لتبصريت والسير ثلاث ساعات، وأقام هنالك الأمير بجنوده يوماً واحداً، ومنه الوادى آيت بامريم والسير أربع ساعات، ثم لاقروض والسير ثلاث ساعات ونصف، ثم لتامزاغت ما بين حاحة واذاوتنان والسير ثلاث ساعات ونصف ومن ثم لابن شركا وهو أول سوس وكانت مدة السير ثلاث ساعات والمقام هنالك سبعة أيَّام، ثم سار إلى أن خيم بآزرو من قبيلة كسيمة والسير ساعتان ونصف، ومن ثم لسيدى بيبى حيث المدرسة والسوق الآن والسير ساعتان ونصف، ثم إلى تابوحنكت بقبيلة آيت أبو الطَّيِّب بهشتوكة والسير ثلاث ساعات عدا ربع، ومنه لدوار سيدى على المجاور لوادى النَّاس بقبيلة المعدر من جبل رسموكة والسير خمس ساعات عدا ربع، والمقام ستة أيَّام ومن تيزنيت نهض لأولاد جرار والسير ثلاث ساعات، ومن ثم إلى راوية أبو نعمان مدرسة العلم ثم آيت ابريم وهم الجبليون والسهليون والسير ساعتان، ومن ثم لايسك حيث يكون الموسم على شاطئ البحر وبه مدرسة آيت باعمران قرب سيدى إبراهيم والسير أربع ساعات، ومنه آثلمون بعد سوق الخميس بآيت بوبكر والسير ساعتان والمقام أربعة أيَّام ومنه لأربعاء انمستتن والمقام ثلاث ساعات وثلث، ومن ثم لثلاثاء اصبويا وهي قبيلة عظيمة أهلها ذوو كرم وشجاعة وعلم وفضل ونزاهة والسير ثلاث ساعات ونصف والمقام يوم، ومنه إلى تبجلكت
والسير ثلاث ساعات وعشرة دقائق ومن ثم لزاوية تيلوين والسير ساعتان ونصف، ومنها لرق أولاد أبي السباع والسير ساعة واحدة ونصف، ومنه لمدشر اكلميم موسى على شاطئ البحر والسير ساعة وربع، والمقام أحد عشر يوماً وبهذا المحل لحق به وزيره ابن العربي لما خف ألمه.
فكان عدد مراحل الذهاب من مراكش إلى كليميم تسعاً وثلاثين مرحلة قطعت في مائة واثنين وعشرين ساعة وخمسة عشر دقيقة، وعدد أيَّام المقام سبع وثلاثون، فعدد الأيَّام في الذهاب وفى الظعن والإقامة ستة وسبعون يوماً.
ولما خيم بكليميم وجه وزيره وشيخه أبا الحسن على السمفيوى وخديمه القائد مبارك بن الشليح الشرادى الدليمى وكاتبه الطالب أبا عبد الله محمد -فتحا- الجباص لمرسى البيضة -بالتصغير- المتصلة بطرفاية للوقوف على عينها والكشف له عن حقيقتها.
ومن آيت باعمران كتب لباشا مكناس مخبرا بوصول الركاب السعيد ودونك نص الكتاب بعد الحمدلة والصلاة والطابع الذي بداخله الحسن بن محمد بن عبد الرحمن الله وليه 1291:
"وصيفنا الأرضى القائد حم بن الجيلانى وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فإنا بحول الله الملك القوى المعين. الفاتح لما أُغلق كما يشاء في الحين أو بعد حين. المؤيد بعنايته عبده في كل مصدر ومورد وتحريك وتسكين. كتبنا لك هذا يوم حلولنا وسط خدامنا قبائل آيت بوعمران بحبوبة مجامع قبائل سوس الأقصى ومناخ الأعيان. نعلمكم بما واجهنا المولى سبحانه في هذه الحركة المباركة من تعاقب المنن والأيادى وابتسام ثغر الزمان، بما أملناه من العلى المنان،
في هذا النادى لتعلموا أن الله على كل شيء قدير. وبيده مقاليد السماوات والأرض وهو الولى والنصير، والسميع والبصير.
فكان من أمر هذه القبائل السوسية والقساملة الساحلية أن تلقوا ركابنا السعيدة أفواجاً أفواجاً. ناشرين أعلام الفرح تجاه جيوش الله المظفرة ضحى وإدلاجاً، حاشدين حروكهم مصحوبة بأعيانهم ومن يعتد به من فقهائهم وشرفائهم ومرابطيهم، من غير أن يكون جمعهم خداجاً مستنتجين للفوز بخاطرنا الشريف مقدمات الامتثال والسمع والطاعة لله ورسوله استنتاجاً، مقدمين بين يديهم هداياهم، متترسين بإخوانهم وسراياهم، مادين أعناق الامتثال. عاضين بالنواجذ على الخدمة وصالح الأعمال. فأتوا بمئونتهم على قدر الاستطاعة، ومهدوا لسلوك الملة السعيدة ما صعب من طرقهم حتَّى صارت مسلوكة مشاعة.
ونحن في كل ذلك نعاملهم بالبروز، ونبسط البشر إليهم ونقابلهم بما ارتسم فيهم من السرور، وها نحن بحول الله جادون في الخلوص إلى المقصد الذي لأجله نقلنا هذه الخطوات. واستعملنا فيه الفكر وأسهرنا أحداق الاعتبارات. من صرف النظر لفتح مرسى آصكى مركز سواحل وادى نون. ومجمع القبائل الأعرابية والبربرية ومنتهى ذلك المسكون. ولا سيما من جاءت بينهما كالام والعنصر وهما كالتوءمين لها يستمدان منها ويرضعان خلاصة لبن ثديها وهما القبيلتان البوعمرانية والتكنية ومن تراكم عليهما وارتدف. من قبائل البربر والأعراب أو كان على حكمهما فيما ارتضع وارتشف.
هذا إن كانت تصلح لذلك وتعود منفعتها على المسلمين والإسلام بعد الاستخارة مراراً. في اختطاطها وفتحها ونتحقق بصلاحيتها كشفاً واستبصاراً. ونتوخى في الإقدام على ذلك بحول الله الأسد من الأنظار، والمنهاج القويم الجارى على أعراف هاتيك الأقطار.
ثم إن كانت موافقة للأصلح أقدمنا، وإن لم يظهر وجه المصلحة أعرضنا عنها إلى غيرها قال الله العظيم: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا
…
(106)} [البقرة: 106]، وما آل إليه الأمر نعلمكم به ونشنف آذانكم بما سنح من سره، فإنَّه لكل عمل نتيجة بعد العنوان، والله الولى المستعان، والهادى إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام في 8 شعبان المبارك عام 1303".
وبعد قضاء الوطر من هذه الرحلة نهض من كليميم يوم الأربعاء تاسع عشرى شعبان العام ووجهته عاصمة الجنوب وكان مخيمه بالمطفية المتقدمة الذكر، ولم يزل يظعن ويقيم إلى أن طوى مراحل الإياب في أربعة وثلاثين مرحلة فكانت مدة السير فيها مائة ساعة وأربعة سوائع ونصف، ومدة المقام ست وأربعون يوماً، فجملة أيَّام الإياب ثلاثاً وسبعين مرحلة قطعت في مائتى ساعة وسبع وعشرين ساعة عدا ربع ساعة.
وعليه فجميع أيَّام السَّفر من يوم الخروج من مراكش وهو الخميس الثَّاني عشر من جمادى الثَّانية إلى يوم الحلول بها وهو السبت موفى عشرى قعدة ظعنا وإقامة مائة وستة وخمسون يوماً عنها خمسة أشهر وستة أيَّام لنقص شهرى شوال وذى القعدة.
وفى إيابه من هذه الوجهة أوقع القبض على عتاة هشتوكة وهوارة وذلك يوم الثلاثاء تاسع عشر رمضان وفى يوم الخميس ثامن عشرى رمضان استولى على أمتعة وذخائر أهل البغى والعناد من هوارة.
ثم في يوم السبت متم رمضان حل بتارودانت وبها أقام سنة عيد الفطر، ومكث بها أحد عشر يوماً وفى يوم الثلاثاء سابع عشر شوال أوقع باذاوتنان.
وفى يوم السبت موفى عشرين من ذى القعدة حل بحضرة مراكش عاصمة الجنوب فأقام بها يتفقد الأحوال وينظر في المصالح إلى يوم الاثنين ثامن شعبان عام 1304 فنهض منها قاصدًا عاصمة سلفه مكناسة الزيتون وأوقع في طريقه بقبيلة
نتيفة حيث رفضوا طاعة عاملهم عبد الله الزناكى، وأقام سُنَّة عيد الفطر بالزيدانية من أعمال تادلا، ولم يزل يظعن ويقيم إلى أن حل بثغر الرباط يوم الاثنين سابع عشر قعدة، وأقام بها إلى يوم الخميس سابع عشرى الشهر المذكور ولم يزل يطوى المراحل إلى أن دخل العاصمة المكناسية يوم الأربعاء رابع حجة متم عام 1304.
وفى يوم الأحد خامس عشر رمضان 1305 نهض من مكناس قاصداً القبائل البربرية بنى مجيلد وريان وغيرهم لتفقد الأحوال وإخماد نيران الأهوال التي أضرمها بنو مجيلد الذين سعوا في الأرض الفساد، وأهلكوا ضعفاء العباد، ولم تنلهم الأحكام السلطانية منذ وقعتهم الشنعاء مع السلطان العادل مولاى سليمان عام أربعة وثلاثين ومائتين وألف على ما سنوضحه بعد بحول الله الشهيرة عند الخاصة والعامة بوقعة سرور.
فمن ذلك العهد خلعوا ربقة الطباعة من أعناقهم، وتجردوا للسلب والنهب، وظنوا أن عصبيتهم لا تغلب، وتمنعهم بأوعار الجبال الشاهقة حام لهم من تحكيم سيوف العدل في رقابهم، فصار التوحش والهمجية خلقاً لهم به يفتخرون، واستحكم ذلك فيهم لا ينظرون إلَّا لما فيه مصلحتهم الشخصية وإن كان فيه خراب العالم، فإن احتاجوا لحجر لأثافى (1) قدورهم نقلوه من أضخم المبانى وأعتقها وأفخرها ولا عليهم في خرابها لأجل ذلك الغرض الخسيس، ويرون أن رزقهم تحت ظل مكاحلهم إذا تركوا السلب والنهب يموتون جوعاً، ووراء كل رأى من آرائهم الفاسدة عصبية وحمية جاهلية.
ولما تفاحش عيثهم واشتد أذاهم ولم ينفع فيهم تحذير ولا إنذار بل لا يزيدهم ذلك إلَّا عتوا ونفوراً وعصيانًا، سنح للمترجم كسر شوكة تمردهم وضلالهم وإرغامهم على الرضوخ للطاعة، والدخول فيما دخلت فيه الجماعة،
(1) الأثْفِيَّة: أحد أحجار ثلاثة توضع عليها القِدر، الجمع: أثافِىُّ، وأثافٍ.
فبعث إليهم باشا مكناس القائد حم بن الجيلانى في جيش عظيم متنظم من العسكر والقبائل البربرية كبنى مطير وجروان، ثم نهض المترجم من العاصمة المكناسية في التاريخ المتقدم بجنود لا قبل لهم بها.
ولما حل بجنوده بالمحل المعروف بسيدى بورمان وجد في استقباله هنالك القائد محمد أحمد الزيانى فيما يزيد على الألف فارس من إخوانه، ولما شرفت الجلالة السلطانية عليهم. وأشرقت أنوار محياه بحيهم. ترحل القائد المذكور وأدى التحية المخزنية كما يجب، وقبل الركاب كبقية إخوانه وأعلنوا بالسمع والطاعة والتمسوا صالح الأدعية وخامرهم من الفرح والارتياح ما لم يكن في حسبان، وأحدقوا بالموكب الشريف يتمسحون ويتعلقون بالأذيال حتَّى حالوا بين السلطان وبين جل الخاصة من حاشيته والسلطان يهش في وجوههم ويبش، ويظهر من الانشراح والتنازل ما زادهم إغراء وإغراقاً في التهتك في حبه والميل بالقلب والقالب إليه، ثم بعد قضاء وطرهم من التبرك واستجلاب صالح الأدعية امتطوا ظهور خيلهم وتقدموا أمام المحال السلطانية إلى أن حلوا بالمحل المعروف بكر كرة فخيم السلطان هنالك إلى أن أقام سُنَّةَ عيد الفطر.
وبعد انتهاء حفلة أيَّام العيد في غاية الأبهة والضخامة نهض السلطان في جنوده المجندة إلى أن حل بالمحل المعروف بيمين خنيك فوجد هنالك باشا مكناس القائد حم بن الجيلانى في محاله، إذ كان المترجم وجهه مقدمة أمامه قد وقعت بينه وبين بعض العتاة مناوشة بالبارود انجلت عن قتلى وجرحى من الفريقين، ولولا أن المترجم أمدهم بأبطال فرسان محلته سعيدة الطالع لكانت الهزيمة على المحال الباشوية، ولبقى هو أسيراً بأيديهم إذ قد ضربوا فرسه، ولما بقى راجلاً أحدقوا به فأدركته خيل المحلة وشتت جموع البغاة، ولما مثل الباشا المذكور أمام السلطان وبخه وقبح فعله إذ كان مراده أن لا يخرج بارود من المحال المخزنية ولو
ابتدأهم أهل الزيغ بالضرب حتَّى يحيط بهم محاله الوافرة العدة والعدد إحاطة السوار بالمعصم.
ثم لما كان الغد نهض السلطان ونظم الجيوش أبدع نظام، ودخل شعبة كبيرة شديدة الوعر وسط غابة عظيمة وجعل العسكر عن يمينه وشماله بأعلى تلك الشعبة بحيث لا يغيب عنه كمين ولا آت، وأدخل المال والذخائر مع رايات عبيد البُخاريّ، وأحدقت بالجميع خيول الجيش من مسخرين وشراردة ووداياً، وقدم أمام الكل قبته وأخبيته مع فرسان ورماة القبائل التي كانت في معيته كزيان وجروان، وجعل وراء الجميع في الذنب رئيس عساكره خاله أبا عبد الله محمد الصَّغير مع العساكر التي إلى نظره من خيل ورماة وعدد عديد من المدافع.
ثم سار السلطان في تلك الشعبة الطويلة العريضة حتَّى اقتطعها، وخرج في فسيح متسع الأكناف كثير الخصب والزرع، فأمر بالتخييم هنالك فنزل النَّاس وضربوا الأخبية واستراحوا، ونزل السلطان تحت جدار قصبة هنالك لبعض الأشراف ريثما يتم ضرب أخبيته وفساطيطه.
فبينما هو ثم إذ ورد عليه فارس من قبل رئيس العساكر المذكور يخبره بنشوب البارود بين العساكر وبين عتاة المفسدين، فأمر بإسراج خيول المحلة المسومة وتوجيهها لإعانتهم ثم بمجرد دخول المترجم لأخبيته هجم العسكر الذي بالمحلة السلطانية على قصبة أولئك الأشراف ومدت فيهم أيدى النهب والسلب ووقع الضرب بالبارود ظنًّا منه أنهم من أهل العصيان، فخرج المترجم مسرعاً وأمر بكف العسكر وسب وجدع وجبر كسر المبغوتين بإفاضة سجال العطايا التي غمرتهم، وصيرت الشرور في العين لديهم سرور.
أما الخيل التي وجهت لإعانة كبير العساكر فإنها ما سارت غير قليل حتَّى وجدت العساكر مولية وجهتها للمحال السلطانية ظافرة منصورة بعد أن طمع فيهم
البغاة المتمردون، وحسبوا أن ذلك الذنب كله طعمة لهم باردة، فعند مبارحة السلطان بما كان معه العساكر والخيول والرماة طبق ما وصفنا عن الشعبة المذكورة أشرف المفسدون على ذنب الجيش من قنن تلك الجبال.
ثم إن رئيس العساكر لما عاينهم أمر من معه من العسكر بسلوك تلك الشعاب.
ولما رأى البغاة العسكر ينزل من الأعالى ظنوا أنَّه ذاهب لحال سبيله، فصاروا ينزلون إليه من صياصى الجبال كأنهم جراد منتشر، فهجموا عليهم ووقع القتال بين الفريقين وصار العسكر يتأخر كأنهم منهزمون، فازداد طمع العدو فيهم، فلم يشعروا حتَّى قطع العسكر من خلف، وصار كور المدافع ينصب على البغاة ودهمتهم خيول العسكر فروا فوجدوا رماة العسكر قد عمروا سائر المسالك فأثخنوا طعناً بالرماح وضرباً بالسيوف وتشتتوا شذر مذر، فسر المترجم بذلك سروراً ليس عليه من مزيد، وحمد الله وشكره على ما منح من الفتح والظفر، بمن حاد الله ورسوله وطغى وفجر، وكتب بذلك الظفر إلى سائر أقطار رعيته، وإليك نص ما كتب به لباشا مكناس بعد الحمدلة والصلاة والتحلية:
"حم بن الجيلانى وبعد فإننا بحول من بيده الفتح والنصر والظفر والتمكين، والحول والقوة والطول المكين، لما نهضنا من بعض المرحلات التي بغضون جبال فساد بنى مجيلد وخرجت المحلة سالمة من شغب بعض غاباتهم الصعبة زاغ من أراد الله هلاكه منهم في هاتيك الشعبة، فناوشوا بعض من بقى مع أثقال المحلة بقتال فاشل مأخوذ، علماً منهم بأنهم لا قبل لهم بالجيوش المنصورة بالله، ولذا بقى زعيمهم في ميدان الاقتناص منبوذاً، وكان الذي جرأهم على ذلك وغيرهم ما كان صدر منهم قبل في الدار الأخرى، وحيث عرفوا المقصود من التوجه لأعز أماكنهم وقصورهم التي هي بملوية التي هي مستوء أموالهم وخيلهم وأسلحتهم
وزروعهم المرعية قاسوا على ذلك بأخريات الأثقال ما حاولوه، واجترءوا على ما تناولوه، فرددنا عليهم من يعتد به من قبائل الإعراب وآيت يوسى وبنى حسن وبنى مطير وجروان والعساكر المنصورة بالله من أبطال الرماة والفرسان فشنوا عليهم الغارات، وجعلوهم أغراضاً للإشارات، واقتنصوهم اقتناص العقبان للعصافير، ونفذ الوعيد في طائفة منهم بعد أن تركوا قصورهم وأعز أماكنهم بلقعا ليس فيها عيس ولا يعافير، فقطعت منهم رءوس، واستؤصلت منهم أعز نفوس، وكان بؤس ذلك عليهم أشد بؤس، وأسام من وقعة البسوس، فلم يفلت من لم تصبه سهام الله إلَّا الفرار، للبرارى والقفار، وتركوا جيفهم صرعى صادين عنهم إلى ساحات النفار.
ولم تلتفت المحلة إلى حز ما بقى من رءوسهم شغلا بالسعاية. وحرصا على الجباية. قالا فلو احتزت منهم تلك الرءوس لكانت تملأها أحمال. ولعبت بها الجمال. وما تحصل من الرءوس ممَّا فيه الكفاية. وجهناه لفاس إيذاناً بعنوان البداية. ثم لا نبرح عنهم بحول الله. إلَّا إذا استأصلتهم سطوة الله. وأذيقوا مرارة الوبال. وأليم النكال. بمعونة الله. ولم تغنهم من الله حصون بحول الله. ولا ما اتخذوه وزراً وفيئاً، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، والمحلة بحول الله مشتدة مصونة صائلة، في أرغد عيش وأطيبه بائتة وقائلة. تتربص بالفساد الدوائر. وتذيقهم كل يوم المرائر. وأعلمناكم لتأخذوا بحظكم من الفرح، وتعلموا أن الله سبحانه يتولانا في الطغاة بمنه وفضله ومعونته وفق المقترح. إنه مفضال غنى كريم. ناصر الحق عزيز حكيم. والسلام في 15 شوال عام 1305".
ثم نهض المترجم في جنوده وسار إلى أن وصل للمحل المعروف ببولعجول مدشر كبير محصن غاية التحصين أمامه عدة مداشر متفرقة، في بسائط ذات خصب وعيون دافقة وحراثة متسعة، وهنالك أوقع بتلك القبيلة الشاردة عن الطباعة
المشوشة للراحة العامة المعدمة الأمْن في السبل بضرب رقابهم وأسر رجالهم وحز رءوسهم وحصد زروعهم وهد حصونهم المنيعة، وأذاقهم أليم النكال وحرق مداشرهم وشدد عليهم الحصار حتَّى ضاق بهم المتسع، وأذعنوا للطباعة رغم أنوفهم، وجاءوا تائبين منيبين مذعنين فعفا عنهم عفو قادر، وألزمهم إعطاء عدد وافر من البقر والغنم وغير ذلك ذعيرة لهم فأدوا جميع ذلك من غير أدنى تمنع ولا مماطلة وولى عليهم العمال وكتب لعواصمة مبشراً بهذا الفتح الباهر ومحققاً للواقع.
وإليك نص ما كتب به لصنوه وخليفته بفاس بعد الحمدلة والصلاة والافتتاح:
"مولاى إسماعيل وبعد فإنا لما خيمنا بحول الله وقوته بملوية بالدار بالمرحلة الثالثة منها تخييم يمن وأمان وعرجنا على قصور الصلحاء من بنى مجيلد عمدت المحلة إلى أكلها ظنًّا منهم أنها من قصور الفساد وأنها المقصود بذلك الناد، فوجهنا من جيشنا السعيد من كلهم عن ذلك حتَّى صيرناهم في ظلال الأمن نائمين. وفى قصورهم مطمئنين.
وفى أثناء ذلك توجهت الطوبجية أمام فساد بنى مجيلد فوصلوا إلى قصر من قواهر قصورهم سمى اغرم منى بمحل من ملوية يقال له بوعجول، وبه نزلت المحلة السعيدة وبالقصر المذكور مدخراتهم وأموالهم وأمتعتهم فناوشوهم بالمضاربة. وأعلنوا بالمحاربة. فتضاربوا معهم من ذلك القصر، ولما بلغنا ذلك وجهنا لهم المدد من العساكر المنصورة. وجيوش الله الموفورة. فأذاقوهم المرائر وأرهقوهم بالقسر وقطعوا منهم رءوساً. واستأصلوا منهم نفوساً. وقبضوا على مساجين وأذاقوهم مرارة الحين في الحين. وصاروا يأتون بالرءوس والمساجين إلى أن جن الليل فأمرناهم بالرجوع إلى الصباح، ليرتب أمر ضربهم على مقتضى الكفاح فإذا بمن بقى في مكامن القصر ذر منه وتركه بلقعاً، ولم يبقوا منه فرداً ولا جمعاً.
فأمرنا بهدمه فهدم حتَّى صار دكاً، ولم يترك له صورة ولا تركيباً مرتكباً، وأبقيناه عبرة لمن اعتبر، ولكل من له عقل مزدجر، في كل ورد وصدر.
وذلك بعد أن أخرجت ذخائره. واغتنمت أوائله وأواخره فكان بحمد اللهْ فتحاً مبيناً. وظفراً وتمكيناً. هذا ولم يكن لنا غرض في قتالهم في ذلك اليوم لولا ابتداؤهم به ولكن الله خذلهم ومزقهم وبددهم ونحن على نيَّة استئصالهم بحول الله بعد فإن القبائل التي أمرنا باجتماعهم عليهم وهم خدامنا زيان وشقيرن وآيت يَحْيَى وآيت يحمد وآيت يزدك وآيت حديدو أجلناهم بذلك أجلاً كاد إلى الانصرام وحيث تجتمع تكون النهضة إليهم دفعة، والجلبة عليهم متحدة لتكون عليهم شر وقعة، والمرجو منه سبحانه أن يمكن منهم حتَّى لا تبقى لهم قائمة ويمحو من دواوين القبائل أسماءهم ويصير رسومهم دارسة، ومع هذا فإنا لا نعتمد إلَّا على خالق القوى والقدر المؤيد لعبده، الناصر لجنده، إذ لم يعودنا سبحانه إلَّا الجميل، ولم نعترف من فضله إلَّا الظفر الذي هو به كفيل والله سبحانه يتولى أمورنا وأمور المسلمين، ويمكن من القوم الظالمين، فإنَّه سبحانه بعباده بصير، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وحيث كانت السبقية لكم بإعلامكم بباكورة الفتح الذي امتن الله به عنوان وجهنا في هذا الفتح الثَّاني لمكناس ستة عشر رأساً من رءوس الفساد الذين اقتحم هذا القصر عليهم والسلام في 18 شوال عام 1305".
وبهذا التاريخ وبنفس الألفاظ والمعانى كتب لخليفة القائد حم بن الجيلانى باشا مكناس إلَّا أحرفاً قلائل.
ثم نهض المترجم من بولعجول وسار إلى أن خيم بعين سرور التي كانت بها واقعة السلطان مولاى سليمان المشار لها فتقدمت له من قبيلة شقيرن فرقة يقال لها آيت شخمان، وطلبت منه أن يرسل معها شرذمة من الخيل لتستوفى منهم ما
بذممهم من الواجب الشرعي، وقد أظهروا من الطباعة ما لا مزيد عليه، وهم على دخل مصممون على الغدر والأخذ بالثأر لإخوانهم بنى مجيلد، فأسعف المترجم رغبتهم وعقد لابن عمه البركة المفضال مولاى سرور بن إدريس بن سليمان السلطان المذكور سابقاً والمترجم فيما يأتى بحول الله ووجهه معهم.
ثم نهض المترجم وسار إلى أن حل بالمحل المعروف باغبال تسردنت، وهنالك وجد المهراس الصينى الكبير الذي كان بقى ثم من عهد السلطان أبي الرَّبيع سليمان في الوقعة المنبه عليها آنفاً، فأمر المترجم بحمله لمكناس، ثم نهض وسار إلى أن خيم بالمحل المعروف بجنو، وهنالك بلغته واقعة مولاى سرور، وذلك أن مولاى سرور لما ذهب مع آيت شخمان في تلك الشرذمة من الجيش ووصل لحلتهم، أظهر الشخمانيون له من الفرح والابتهاج والرضوخ للطاعة ما دلوه به ومن معه من الجيش بغرور، ففرق تلك الجيوش على حللهم مظهرين غاية الاعتناء بهم وأنهم يريدون ضيافتهم، ولم يتركوا مع الشريف المذكور غير نفر قليل، ولما جن الليل قتل كل من عنده، وأوقع البارود وقتلوا الشريف حسبما يأتى تفصيل ذلك في ترجمته.
ثم لما بلغ ذلك الخبر المحزن للسلطان اشتد غيظه وأنهض الجيوش للإيقاع بهم والإتيان بهم ناكصين على الأعقاب، فلم يجدوا لهم أثراً حيث إنهم لما فعلوا فعلتهم الشنيعة هربوا ودخلوا الكهوف والأوعار، فهدمت أبنيتهم واستؤصلت أمتعتهم، وحصدت زروعهم، وغض الطرف عن اقتفاء أثرهم وهو يتربص بهم الدوائر حيث إنه في وسط أرضهم، وجل من معه منهم لا تؤمن غائلته.
ولما شاع أمر ما أجرموه وذاع، وملأ الأفواه والأسماع. كتب المترجم لصنوه خليفته بفاس مولاى إسماعيل بما لفظه بعد الحمدلة والصلاة والتحلية:
"مولاى إسماعيل، وبعد: فبعد ما أعلمناكم بأن مرورنا على طريق زيان، فنهضنا وسرنا في عز وظفر وسكينة، وكانت قبيلة آيت شخمان ممن ورد على حضرتنا الشريفة، وأعطوا يد الانقياد، وولينا عليهم عاملين وتلاقوا وأهدوا ووظفنا عليهم ما وظفنا على غيرهم من قبائل البربر، واقتضى نظرنا الشريف توجيه طائفة من الخيل والعسكر بقصد إزعاجهم لتنضيد ما وظفنا عليهم حذراً من التطويل، إذ كان مقصودنا إدراك عيد الأضحى بالمدينة، ثم إنهم أى آيت شمخان دخل فيهم شيطانهم المهاوشى ونفث في روعهم غدر من وجهناه إليهم فاحتالوا لذلك وفرقوا الخيل على الدواوين والمداشر، بقصد الإتيان بالموظف.
وكنا وجهنا مع الخيل المذكورة ابن عمنا مولاى سرور فبقى مع طائفة من الخيل، ثم لما ناموا غدروهم فضربوهم بالبارود. ونقضوا العهود. وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، فكان من قضاء الله وقدره موت ابن عمنا المذكور، وحيث بلغنا ذلك وجهنا لهم العسكر والمدافع والقبائل وأمرناهم باستئصالهم، فلم يجدوا منهم أحداً. فحرقوا قصورهم ولم يتركوا لهم فيها سبدا ولا لبدا.
ثم كتبنا سائر عمال البربر جوارهم من ناحية الصحراء وأمرناهم بالإحداق بهم وسد الفرج التي منها يفرون، وأكدنا عليهم في ذلك، وعما قريب يقضي فيهم الغرض بحول الله ولا نبرح عنهم بعون الله إلَّا إذا أرهقهم الله بسطوته وتناولهم أيدى الجيوش والقبائل، وأبقيناهم عبرة للمعتبرين. وإن الله لا يهدى كيد الخائنين. والسلام في 20 قعدة عام 1305".
ثم بعد ذلك كتب المترجم لصنوه خليفته بفاس أيضاً بما لفظه بعد الحمدلة والصلاة والتحلية:
"مولاى إسماعيل ويعد فما كُنَّا أعلمناكم به من غدر آيت شخمان ومدهم يد الطغيان. بعدما أعطوا يد الانقياد. وكنا وعدناكم بأننا لا نبرح عنهم إلَّا إذا
استأصلتهم سيوف الله في ذلك الناد. وجهنا الطلب في أثرهم حيث فروا للصحراء. ودوخنا بلادهم سهلاً ووعراً. فلم يقفوا وتاهوا في البيداء، وتلونا قول الله سبحانه:
…
أَيْنَمَا ثُقِفُوا
…
(61)} [الآية 61 من سورة الأحزاب] فلم يكن إلَّا هدم قصورهم. وإعفاء آثار رسومهم. حتَّى صارت دكاً. بعد استخراج خباياهم وزرعهم وأسلحتهم وأمتعتهم وصارت للجيوش ملكاً.
وكتبنا سائر جوارهم من قبائل الصحراء. بضربهم وقتلهم أينما وجدوهم حتَّى لا تظلهم سماء، ولا تقلهم أرض ولا يجدون جرعة ماء.
ثم إن طائفة من شقيرن يقال لهم آيت يعقوب اعيسى، بلغنا أنهم حلفاء آيت شخمان، وأنهم آووا طائفة منهم بأموالهم ومواشيهم وبعض من الأعيان. كأنهم منهم على قاعدة المستجير الولهان. وكنا ولينا عليهم أيضاً عاملين وأعطوا يد الانقياد ظاهراً. وأنهم لم يبق منهم إلَّا من كان للصلاح مسامراً.
وحيث تحقق لدينا أن ذلك عن غش وخذلان. ومرض قلب لا عن صفاء طوية واطمئنان، حيث آووا فسدة آيت شخمان. رعياً لما بينهم من الإخاء القديم على الفساد والطغيان. وجهنا إليهم عدداً من قبائل البربر. وأحدقوا بهم إحداق من أطاع الله وبئر، وأتبعناهم بالعساكر المنصورة، والجيوش الموفورة، فلم يكن إلَّا كلمح البصر أو هو أقرب حتَّى قطعوا منهم رءوساً، واستأصلوا من أعيانهم نفوساً. وقبض على نحو ثلاثمائة من المساجين وكانت وقعة شفينا بها الغليل، وتداوى بها العليل، فإنَّه سبحانه لم يعودنا إلَّا الجميل وهو الفاعل المختار. الذي بيده النواصى والمقاليد في الإيراد والإصدار، وها الرءوس توافيكم وعددها اثنان وعشرون، فتعلق ثلاث ثم توجه لمكناس للخليفة هنالك والسلام فاتح حجة عام 1305".
هذا كله والمترجم مخيم كما تقدم بالمحل المعروف بـ "جنو" ثم نهض وخيم بالاعريض وبه أوقع بآيت يعقوب وعيسى بإغراء من القائد محمد احم الزيانى.
ولا شك أن هؤلاء العتاة البغاة محاربون يجب قتالهم ويقدم على قتال الروم يتبع منهزمهم ويقتلون مقبلين ومدبرين ومنهزمين، وليس هربهم توبة تدرأ عنهم القتل على قول سحنون خلافًا لابن قاسم، انظر المواق، وإذا أخذوا قبل التوبة لزمهم الحد، وهو ما نص الله تعالى عليه في محكم وحيه بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
…
(33)} [المائدة: 33].
ولا يسقط حق الحرابة على من ثبتت حرابته إلَّا التوبة قبل القدرة عليه، ثم لا يسقط بعد حق الآدميين، ولا خلاف يعتبر في أن المحارب هو القاطع للطريق المخيف للسبيل الشاهر للسلاح طالباً للمال، فإن أعطيه وإلا قاتل عليه. انظر منتقى الباجيّ.
وقد قال ابن المواز: لم يختلف قول مالك وأصحابه في إجازة قتال المحاربين وأن من قتلوه فهو خير قتيل، ومن قتل منهم فهو شر قتيل.
وقال مالك وابن القاسم: غزوهم غزو.
وقال عنه أشهب: من أفضل الغزو وأعظمه أجراً.
وقال مالك في أعراب قطعوا الطَّريق: غزوهم أحب إلى من غزو الروم.
وقال ابن القاسم: وإذا قتل الواحد منهم قتيلاً فقد استوجب جميعهم القتل ولو كانوا مائة ألف إذا كانوا ردءاً له وأعواناً، وقد صرح ابن الحاجب وغيره بالاتفاق على قتالهم ووجوبه على من قدر عليه.
ومن كان معاوناً للمحاربين كالكمين والطليعة فحكمه حكمهم ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدُّنيا وما فيها" والغدوة لقتال المحاربين.
وقال ابن عرفة: لا ينبغي لمسلم مخالفة في قتال المنتصبين لقطع الطَّريق وسفك دماء المسلمين وأكل أموالهم، وكذلك استباحة أموالهم واتباعهم في هروبهم والإجهار عليهم، لا يشك في ذلك إلَّا مغرق في الجهل ومعاند للحق، قال: وذلك عندى كفر لأنَّه منكر لما علم من الدين ضرورة إن كان يعلم وصفهم المذكور.
هذا ولما استوفى المترجم غرضه من إقماع المعتدين وتبديد جموعهم وكسر شوكة عصبيتهم طبق ما اقتضته السياسة إذ ذاك، نهض إلى أن وصل إلى دار القائد محمد احم المذكور بادخسان، وهنالك أقام سُنَّة عيد الأضحى، ثم بعد انتهاء حفلات أيَّام العيد نهض في جيوشه الجرارة ولم يزل يوالى السير إلى أن حل بالعاصمة المكناسية صبيحة يوم الاثنين تاسع عشر حجة متم عام 1305.
فكانت جميع أيَّام هذه الحركة ثلاثاً وتسعين يوماً ثلاثون يوماً منها ظعن، وثلاث وستون يوماً إقامة، أولها يوم الأحد خامس عشر رمضان وآخرها يوم الاثنين التاسع من ذى الحجة قطعت أيَّام السَّفر منها في اثنين وسبعين ساعة وخمسين دقيقة:
ولما حل المترجم بمكناس أقام به اثنين وأربعين يوماً ثم نهض لفاس ووفدت عليه الوفود لتهنئته بمقفله من حركة بنى مكيلد في ضمنهم الوفد الرباطى ومعهم قصيدة العلامة الشَّهير شيخ الجماعة بذلك الثغر أبي حامد سيدى المكيِّ البطاورى في التهنئة وهي:
سعادة الملك مسعد بها الوطن
…
وعزة النصر موصول بها
الزمن ومن يكون إله العرش ناصره
…
ألقت إليه القياد الشم والقنن
والله يحفظ مولانا ويحرسه
…
حتَّى يغص عداه أينما قطنوا
ألية بالصفا والمأزمين لقد
…
خص بعز الورى سيدنا الحسن
أعز ذا الغرب ملكاً بل أعز ملو
…
ك المسلمين جميعاً أينما وطنوا
في كل قطر من الدُّنيا اسمه علم
…
منوه الذكر تستعلى به اللسن
لنا الهناء فهذا الفخر من عظم
…
ما ناله أحد ما حازه وطن
أيامه الغر أعياد الورى انسجمت
…
بها المكارم وانهلت بها المزن
ما زال منذ ولى والله يكلؤه
…
يقظان عزم إلى أن نامت الفتن
وشيد المغرب الأقصى وزينه
…
بالأمن فاتصلت بقطره الهدن
ومهد الملك تمهيداً وصيره
…
روضا أريضا بكلِّ نبعة فنن
وعمت الخلق أنعم مواصلة
…
وأعدم العدم والأكدار والمحن
فالدين في سعة والكفر في ضعة
…
والنّاس في دعة أمن ولا دخن
والعصر مبتهج والحقُّ منتهج
…
والملك بالنصر والتأييد مقترن
تدبير شهم له في كل معضلة
…
رأى سديد إذا ما حارت الفطن
مجدد العصر محيى الدين شمس هدى
…
سيره حكم أفعاله سنن
معتضد بالتقى بالله معتصم
…
مظفر الجيش منصور اللوا يقن
محبب في قلوب الخلق كيف ولا
…
أحد إلَّا وفى نعماه مرتهن
كل يفديه بالأرواح مجتهداً
…
لأنَّه للورى روح وهم بدن
من ذا يباريه في مجد وفى كرم
…
وهل يبارى الذي إنعامه الهتن
العفو سيرته والصفح شيمته
…
والجود والبذل والإنعام والمنن
بر جواد شجاع سيد نزه
…
سمح حليم عفيف كيس فطن
فراسة صدقت في كل نازلة
…
قد استوى عنده الإسرار والعلن
وهيبة جلل الآفاق موقعها
…
فالأسد في غيلها من خوفه تهن
وسطوة بهرت والنصر يصحبها
…
وعين حزم وعزم ما بها وسن
ساس الرعية من سوس وبربرها
…
وزال عن درن بوطئه الدرن
ذلت مكيلد بل عزت بطاعته
…
لما غدت في عدادا لجند تحتجن
خوفهم بعصا الشرع المطاع فمذ
…
تابوا وأموا على حضرته أمنوا
ظنوا حصونهم والوعر يمنعهم
…
هيهات لا وزر يَحْمى ولا حصن
أنى يقل مكان من أناط به
…
همته أو تقيه البيض والجنن
كيف وهمته بالله نافذة
…
لو مدها نحو دهر قاده رسن
ولو أراد مسير العاديات على
…
متن العباب بها ما احتيجت السفن
ولو رمى بسديد سهم همته
…
ديار كفر بها لم يعبد الوثن
الله أولاك ملكاً شامخاً بهجاً
…
عنت لسطوته الأقيال والعتن
هذى السعادة عين الله تكلؤها
…
بغير أنبائها تشنف الأذن
من معشر بالتقى والعلم قد عرفوا
…
وبالندى والحيا والمجد قد زكنوا
هم أهل بيت رسول الله بهجتهم
…
ما فاز قط بها شام ولا يمن
هم الملوك أدام الله دولتهم
…
فكأنها للورى عز ومؤتمن
دامت سعادة مولانا وعزته
…
ونصر رايته ما اتصل الزمن
وأقام بفاس إلى يوم الاثنين السابع عشر من شوال عام ستة وثلاثمائة وألف. فخرج منها وخيم على قنطرة وادى سبو من بلاد الحياينة، ومنها لقبيلة
رغيوة فصنهاجة فمتيوة فمزيات فبنى زروال فالعين الباردة فحولان من بنى مسارة، وهنالك أقام سنة عيد الأضحى، ثم نهض لقبيلة بنى أحمد فغزاوة فالأخماس فباب تازا فمدينة شفشاون فبنى حسَّان، ثم زار تربة الولى الصالح أبي محمد عبد السَّلام بن مشيش فكسا ووصل وواسى، ثم سار على بنى حزمار إلى أن دخل مدينة تطاون يوم الأربعاء ثامن المحرم فاتح سنة سبع وثلاثمائة وألف، وأقام بها نحو الخمسة عشر يوماً، قابل فيها وجهاء وجوهها وتفقد أحوالها وزار صلحاءها وأنعم على أهلها بعشرة آلاف ريال لبناء قنطرة واديهم، وبكل أسى وأسف لم يقع اعتناء بإتقان بنائها فاضمحلت في أقرب وقت، وذهبت العدة التي صيرت عليها أدراج الرياح، كما أنَّه أنعم على جسده وعساكره بالكسوة.
ثم بارح تطاوين ووجهته طنجة فدخلها يوم الأحد سادس عشرى محرم المذكور، وأقام بها تسعة عشر أو عشرين يوماً، وكان يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً، ومن أعظم المواسم والأعياد معدوداً، واستقبله سكانها على اختلاف طبقاتهم بغاية الفرح والإجلال والإكبار، فتفقد أبراجها وصقائلها وأتت لتحيته فيها قطع من الأسطول الإنجليزى المرابط بجبل طارق.
ولما قضى وطره منها نهض متوجهاً على الغربية فثغر آصيلا وكان حلوله به يوم السبت السادس عشر من صفر العام، وأقام بها يوماً طاف فيه على الصقائل والأبراج، ثم سار على طريق الساحل ومر بقبيلة الخلط، وبعد صلاة العصر عبر وادى لكس من مشرع النجمة وذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من صفر المذكور، وبمجرد عبوره مع بعض الخاصة من حاشيته امتلأ الوادى وتعذر على المحلة عبوره فبات المترجم بعدوة وبقيت المحلة بالعدوة الأخرى، ومن صبيحة الغد عبر باقى المحلة ولحق بالمترجم وتوجه لمدينة القصر الكبير بقصد زيارتها، ثم رجع من يومه للمحلة، ثم توجه لثغر العرائش ودخله دخول عز وإجلال يوم الخميس الحادى
[صورة]
السلطان مولاي الحسن في موكبه في صلاة الجمعة
والعشرين من صفر المذكور، فتفقد الأحوال والصقائل والأبراج، ثم بارحها يوم الثلاثاء سادس عشرى الشهر المذكور، ولم يزل يوالى السير إلى أن حل بالعاصمة المكناسية يوم الأحد فاتح ربيع النبوى من العام.
فكانت مدة هذه الرحلة مائة وسبعاً وثلاثين يومًا، منها أربعون يومًا ظعناً قطعت في مائة وثلاثين ساعة وخمس وثلاثين دقيقة وإقامة تسع وثلاثين يومًا.
وفى يوم الأربعاء رابع ربيع المذكور بارح مكناسة ووجهته فاس فدخلها من غده الذي هو الخميس خامس ربيع وأقام بها اثنين وثلاثين يومًا، ثم بارحها يوم الاثنين الثالث عشر من شوال ودخل مكناسة يوم الأربعاء الخامس عشر منه، ونهض منها يوم الاثنين الثالث عشر من ذى القعدة، وخيم بالمحل المعروف بدار أم السلطان، ومن ثم لعين عرمة فاربعاء وادى بهت فولجة العكارى فضاية رومى فتفلت فسيدى علال البحراوى فالعرجات فقرميم، ثم رباط الفتح فغبولة فسيدى يَحْيَى من بلاد زعير ففدان الناموس فبزار فأبو الضراضر فعويد الماء فالكيسان فصخرة الدجاجة من بلاد ورديغة فبيار امزوى فسيدى محمد البصير من بلاد بنى زمور.
ولم يزل يظعن ويقيم إلى أن دخل عاصمة الجنوب مراكش الحمراء يوم الأحد رابع ربيع النبوى عام ثمانية وثلاثمائة وألف.
فكانت جميع أيَّام هذه الحركة مائة وأربعين يومًا الظعن فيها ست وثلاثون يومًا قطعت في مائة وثمانية عشر ساعة والمقام مائة ساعة وأربع سوائع وعشر دقائق.
وأقام بمراكش إلى أن بارحها صبيحة يوم الاثنين ثامن قعدة ووجهته مكناسة ولم يزل يظعن ويقيم حتَّى أدركه عيد الأضحى بصخرة الدجاجة فأقام بها سنته وهنالك لحقت به محلة الشاوية.
وبعد انتهاء حفلات العيد عقد لنجله المولى العباس على محلة الشاوية المذكورة ووجهه بها بقصد شد عضد العمال في استيفاء الزكوات والأعشار المترتبة في ذممهم.
ثم نهض المترجم وسار إلى أن وصل المحل المعروف بالشبيكة فأوقع ببنى خيران، وذلك يوم الجمعة سابع عشر حجة ثم في يوم الجمعة رابع عشرى الشهر أوقع بالحلاليف وبنى اورا فرقة من الزيايدة.
ثم في يوم الخميس فاتح محرم عام تسعة وثلاثمائة وألف أوقع بالعرب أمر نجله مولاى العباس المذكور وكبير محلة الغرب ولد أب محمد الشركى بالنزول عليهم بمحلتيهما والتنكيل بهما، ولولا أن عامل الرباط الأنصح القائد السويسى تشفع فيهم للجلالة السلطانية لقطع دابرهم من لوح الوجود.
وفى يوم الثلاثاء سادس محرم المذكور حل برباط الفتح وأصدر أمره المطاع لنجله مولاى العباس بالنزول مع محلة الباشا ولد أب محمد بقصبة بوزنيقة ولمحلة الشاوية التي كانت مع نجله المذكور بالقدوم للرباط وأقام هو به تسعة عشر يوما.
ثم نهض منه يوم الاثنين سادس وعشرى الشهر وسار وفى يوم الجمعة رابع عشر صفر أوقع ببرابر بنى مطير وآيت شغروشن ومزقهم كل ممزق ثم أوقع بفرقة من قبيلة زمور الشلح وقعة شنيعة انجلت عن إنابتهم.
وفى يوم الثلاثاء ثامن عشر الشهر حل بالعاصمة المكناسية وأقام بها تسعة عشر يوما في يوم الاثنين ثامن ربيع الأول نهض منها قاصد فاسا فدخلها يوم الأربعاء عاشر الشهر.
فكانت مدة هذه الرحلة تسعين يوما كان الظعن في أربعة وأربعين يوما منها والمقام ست وأربعون يوما.
وفى جمادى الأخيرة من السنة كتب وزير الخارجية ليهود مراكش كتابا نصه بعد الحمدلة والصلاة: "من عبد الله تعالى وزير الأمور البرانية بالحضرة العالية أعز الله أمرها وأبد فخرها إلى كافة يهود ملاح مراكشة أخص منهم حزانة جموعهم وأساقفتهم وتجارهم وأعيانهم.
أما بعد: فقد بلغ لشريف علم حضرة سيدنا العالية بالله أعزها الله أن عاملكم القائد محمد ويدة السوسى لم يحسن السيرة معكم وعاملكم معاملة غير مليحة وشدد عليكم فلم يلق ذلك بسيدنا نصره الله ولم يعجبه لأنكم أهل ذمته وفي رعيته.
فلا يحب أيده الله أن يقع لكم تضييق أو ظلم من أحد أو معاملة بمكروه، وإنما يحب أن تكونا في أمن وأمان من ذلك وعلى حالة مليحة وفى عيشة مرضية وعز به الحال دام تأييده ونصره حيث بلغه ذلك عنكم من عند الناس، ولم يبلغه من عندكم إذ كان من حقكم أن تكتبوا لأعتابه الشريفة بالإعلام بذلك كما يكتب بعض تجاركم ومقدميكم لها في الأمور.
وقد أمرنى نصره الله بالكتابة لكم بان تكونوا تكتبوا لنا بما يقع لكم وذلك لنطالع به علمه الشريف، كما أمرنى أيده الله بإعلامكم بأنه أصدر أمره الشريف للعامل المذكور بأن يحسن السيرة معكم ويعاملكم بمثل ما يعامل به من إلى نظره من المسلمين من الحكم عليكم في الدعاوى المخزنية بما يقتضيه الحق فيها مثل ما يحكم به على المسلمين ويجريكم مجراهم في جميع الأمور من غير فرق، ويرد دعاويكم الشرعية لأساقفتكم وحزانتكم ويمشى مع أهل الحماية منكم على مقتضى الشروط والقوانين ومن حاد منهم عنها يطالع به شريف علم مولانا دام علاه والتمام في 7 جمادى الثانية عام 1310".
ولم يزل المترجم مقيما بفاس إلى أن بارحها يوم الخميس الرابع عشر من ذى الحجة منصرم العام ووجهته بلاد صالحى سلفه تافيلالت على طريق صفرو، وذلك بعد أن أصدر أوامره لنجله البار الأسعد الشريف الذاكر المتبتل مولاى محمد بالنهوض والتوجه أمامه فبارح مراكش في عاشر ذى الحجة المذكور.
ثم إن السلطان لم يزل يظعن ويقيم ويقارب ويسدد ويرتق الفتوق إلى أن أدركه موسم المولد النبوى الكريم من عام عشرة وثلاثمائة وألف بقصر الريش من دار العيد بوادى زير، ثم سار إلى أن خيم بدار على بن يحيى المرغادى كعبة العتو وركن الفساد وأوقع القبض عليه يوم الخميس ثانى ربيع الثانى ووجه به سجينا لمراكش، كما ألقى القبض قبل ذلك اليوم على متمردة آيت احديدو ثم في يوم الاثنين التاسع عشر من ربيع الثانى التقى المترجم بمحلة نجله الأسعد مولاى محمد، ومحلة الحوز التي جاءت تحت رياسته وذلك بقصر السوق من بلد آيت ازدك ثم بعد ذلك توجه صاحب الترجمة لزيارة صلحاء الصحراء ثم رجع وسرح آيت احديدو.
وفى يوم الثلاثاء سابع وعشرى الشهر حل المترجم بضريح جده الأكبر فخر بنى جلدته مولاى على الشريف وأقام هنالك سبعة عشر يوما أفاض فيها سجال العطايا وأجزل المواهب، فأعطى شرفاء مدغرة عشرين ألف ريال "مائة ألف فرنك" وجهها إليهم مع ولده المحبوب مولاى عبد العزيز وأعطى شرفاء تافيلالت عشرين ألف ريال أخرى، أرسلها إليهم مع ولديه مولاى عبد العزيز المذكور ومولاى بلغيث.
وقد أوضح معالم هذه الوجهة من فاس إلى سجلماسة في كتاب بعثه لباشا مكناس القائد حم بن الجيلانى ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الذى بداخل خاتمه السليمانى "الحسن بن محمد الله وليه" وبزوايا الخاتم الست اسم الجلالة ثم
محمد فأبو بكر نعمر فعثمان فعلى وتجاه الزوايا: وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وبدائرته بيتا البردة ومن تكن إلخ ومن يعتصم الخ: "وصيفنا الأرضى الباشا حم ابن الجيلانى وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فإن من صالح الرعاية التي شرح الله صدرنا إليها، وأبرز لنا في مظاهر اختيار الكسب قدرته عليها، أن ألهمنا سبحانه لهذه الوجهة المباركة الصحراوية، لتفقد أحوال أهلها وتأسيس مصالحهم المرعية، وسنى لنا فيها سبحانه من فتوحات النصر والظفر، ما لم تزل آثاره لدينا متجددة في حالتى المقام والسفر، جريا على ما عودنا سبحانه بحمده وشكره، من إمداد عنايته وجميل بره، إذ الكل منه سبحانه وبه وإليه، ومقاليد التدبير في عالم الكون بيده ولديه، فمنذ نهضنا من محروسة فاس بجيوشنا المنصورة، ومواكبنا المظفرة بالله الموفورة، وبنودنا الخضر السافرة، وعساكرنا التي لم تزل على التعاضد متضافرة، والأحوال بحمد الله جارية على مقتضاها، ومآثر السعادة ترضى المؤمن ويرضاها، عن صدور أثلجها الله بالانشراح، ومسرات مترادفة الهناء والأفراح، والآت جهادية واستعدادات. وآثار يمن يراها ذوو البصيرة من خرق العادات، إلى أن تخللنا من بلاد آيت يوسى معاقلها، ورضنا بأزمة الاستصلاح قبائلها. فتلقوا جنابنا الشريف بتمام الخدمة وحسن الطاعة، وقاموا بالواجبات والوظائف جهد الاستطاعة، مظهرين بمواطئنا الشريفة غبطة ومحبة وانشراحا. ومعتقدين بها فوزا وتيمنا ونجاحا، زيادة على انتخاب فرض الحركة من أعيانهم لمصاحبة جيشنا السعيد، وقيامهم في ذلك بالحزم القوى والشرط الأكيد.
ثم نهضنا عنهم في عناية الله المتوالية أياديها. المنبئة عن حسن الختام مباديها. إلى أن خيمنا بمعاقل قبائل بنى مجيلد تخييما تعاهدنا به أحوالهم.
وأكرعنا به في مناهل الصلاح شرخهم ورجالهم. فتبادروا لاغتنام السبقية بكمال الطاعة وصميم الالتزام، وقاموا بأداء الواجبات وحقوق خدمتنا الشريفة أتم قيام. وجددنا فيهم للاستقامة أساسا. ورتبنا أمورهم ترتيبا لم يبق فيها انتكاسا، ونهضوا بحركتهم لمصاحبة محلتنا المنصورة، متظاهرين في الحزم والامتثال بسيرة مشكورة.
ولما كمل منهم الراد، نهضنا عنهم بحول الله في تمكين وظفر واستعداد، إلى أن ركزت مواكبنا السعيدة في بلاد آيت ازدك راياتها. وأظهرت مآثرنا الحميدة في قبائلهم آياتها، فخيمنا عليهم تخييما طبق بمحالنا الموفورة بلادهم، وتخلل بمغارسا لصلاح أغوارهم وأنجادهم، فتسارعوا للتطارح على أعتابنا الشريفة. والالتجاء لظلالنا الوريفة. معلنين بالتوبة عما فرط منهم من المآثم والجناح. وراغبين فيما جبلنا الله عليه من الحلم والعفو والسماح، وملتزمين أداء الواجبات والحقوق، ومتحملين من تمام الطاعة ما لم يبق فيه احتمال نفار ولا عقوق، جنوحا لعدم القتال وسفك الدماء والوقوع في الأرامل والصبيات، وذوى العجز من النساء والرجال الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
فأمنا عليهم إذ حققوا ذلك بالعمل. ووفوا بكل ما وظف عليهم عن فور وعجل. مع استنهاض حركتهم لمتابعة ركابنا السعيد، وانتدابهم لامتثال أمرنا الشريف فيما نريد، وصفحنا عنهم حيث صلحت منهم سريرة النجوى وأخذنا فيهم بقوله تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، بعدما وجهنا شرذمة من أطراف جيشنا السعيد، لاستئصال أهل طوطورماس الذين قتل في قصرهم الخديم ولد الطالب محمد اليوسى فلم يكن إلا كوقفة راكب، أو صرة حالب. حتى أخذتهم أخذا وبيلا. وكان فعلهم على انتقام الله منهم دليلا.
ولما قضى في آيت ازدك بحول الله الغرض، واستوفى من جميعهم الواجب والمفترض، نهضنا عنهم محفوفين بما عودنا الله من العزة والتمكين، ومعتمدين
على حول ذى القوة المتين، إلى أن خيمنا على وادى زيز، مقابلين مواعد الرعاية بالتنجيز، فأقمنا به حتى قضينا حقوق مولد النبى الكريم، عليه أزكى الصلاة والتسليم، وأحيينا ليلته بما رجوناه وسيلة لرضوان الله الأكبر، وتحصنا بحماية صاحب اللواء والقضيب والمغفر، وتلاقينا هنالك بوفود القبائل الواردين للتهنية، ونالوا من بركة مشاهده الوسيمة ومواقفه الفخيمة غاية الأمنية.
ثم نهضنا بحول الله آخذين بمعهود الحزم والاستعداد حتى خيمنا بسمكات على متحصن قبيلة آيت مرغاد، فلم يفدهم إلا الانخراط في سلك أهل الخدمة والإذعان والاقتداء بمن قبلهم في إظهار حسن الطاعة وأداء الواجبات وطلب الأمان، وتسارعوا للتطارح على أعتابنا الشريفة جموعا وفرادى، والتزموا القيام بالواجبات والتمسك بالصلاح رغبة وانقيادا، وتبرءوا ممن كان يثبطهم عن الامتثال حالا ومضيا. ويسول لهم ما لم يغن عنهم من الله شيئا.
ومن هنالك رددنا شرذمة لفرقة من آيت ازدك باوطاط، حيث بلغ لعلمنا الشريف ما ظهر في انحرافها من الطيش والإفراط فصدمتهم صدمة وبال وحين وصيرت قصرهم معهم أثراً بعد عين وبسمكات أيضا أخذنا بخناق آيت حديدو الذين هم ملجأ آيت شخمان وإليهم يأوون عند الفزع والامتحان لكون ذلك المحل رباطا على صياصيهم ومأخذا لنواصيهم فانحل بنصر الله عقدهم وفل سناهم وحدهم وعاد عليهم بالوبال كيدهم ولم يسعهم إلا القدوم لأعتابنا الشريفة حيث استنزلناهم، والمبادرة إلى الإجابة لما أمرناهم به وألزمناهم، ولما طالبناهم باتباع قولهم بالعمل، في أداء ما وظفناه على قبيلتهم بعد ضرب الأجل، صاروا يركنون لحيز المطال ويأنسون بأمانى التسويف والإمهال.
وحيث بلغت المعذرة فيهم حدها ولم يرتكبوا من الأمور جدها. أعرضنا بوجه الملاطفة عنهم. وقبضنا على أكثر من المائة رجل منهم. فلم يعتبروا فيما
كانوا فيه حيارى. حتى عادوا في الأغلال أسارى. ولم يتنبهوا لمسلك الإرشاد. حتى أصبحوا مقرنين في الأصفاد. لكونهم سلكوا طرائق، ما فيها رائق، وظهرت منهم خلائق، كان غيرها بهم هو اللائق.
وبعد ذلك نهضنا بهم في سطوة من الله ونصر، متعرفين من أياديه ما لا يدخل تحت حصر. متخللين أعماق الشواهق من أقاصى جبال درن. حتى خرجنا منها لفسيح الصحراء خروج عِزّ قَد اتصل إسعاده بحَول الله واقترن. فخيمنا في بسيطة تداغوست بجيوشنا الجرارة، وأصبح فضاؤها بمحالنا الموفورة عمارة.
وعندما ضربت هنالك أخبيتها الميمونة وقبابها. ومددت بأوتار الظفر والثبات أطنابها، تلقانا القاطنون بها من بقية آيت مرغاد المتطرفين، وتبادروا لأداء حقوق الطاعة ملتزمين ومعترفين، وتوارد علينا أهل تلك النواحى طلبة وشرفاء وكبراء وأعيانا، وشيوخا ورجالا وصبيانا، مظهرين غاية الفرح والابتهاج، وناهجين في مسالك الانحياش والالتجاء أبلغ الانتهاج، ومتسابقين لتقبيل مواطئنا التي جعل الله العز في تقبيلها، والسعد في اتباع سبيلها بعد أن أظهروا من الإذعان والخدمة ما كان لنفوسهم أمانا، ولقلوبهم سكونا واطمئنانا، إلا ما كان من ابن يحيى المرغادى. الذى كان رأس النفاق، وموئل أهل الشقاق بذلك النادى، فقد قبضنا عليه في وسط حماه. حيث أوقعه في شرك الثبور عماه. فكان كما انتضى من غمده نصله. وبكاه بدمع الثكلان أهله. ولكن رب بكاء وتصلية. خير من مكاء وتصدية، ومن أرسل نفسه مع الهوى، فقد هوى في هوى، وبعثنا به بعد قبضه لمراكش مقيدا، إراحة من شؤمه، وعقوبة على ما فرط منه وبدا. وما زالت سنة الله في مخلب المعصية أن يقص بالندامة. وفى جناح الطاعة أن يوصل بالأدامة.
وانتخبنا إذ ذاك من أهل الوطن من يصلح بهم من العمال. فوليناهم عليهم ولاية صلاح تصونهم عن مسارح الإهمال، وانتدبوا لأداء ما لزمهم من الواجبات والكلف، بعد أن كانوا منها على خطر وتلف.
وبعد تأسيس صلاحهم وتلافيهم. وقضاء غرضنا الشريف بحول الله فيهم. نهضنا عنهم محفوفين بمواد السعادة والإقبال. ومعتمدين على القوى المتعال. إلى أن خيمنا على قبائل آيت عطة بقصر السوق. تخييم سعد تبهر مظاهره وتروق. وهنالك تلاقينا بحركتهم مع أهل الصحراء والوافدين من توات وبجيوشنا السعيدة المراكشية والقبائل السوسية وقبائل الدير والقبائل الحوزية الوافدين مع ولدنا مولاى محمد أصلحه الله من جهة سوس على نواحى تدغة وغريس.
فكان الاجتماع بهم جمع تعضيد للصلاح وتأسيس. ثم نهضنا بهم من هناكم إلى وطن مدغرة المباركة فخيمنا بامسكى. في نعم متوالية تقصر الألسنة أن تصف بعضها وتحكى ومنه وجهنا ولدنا مولاى عبد العزيز أصلحه الله لملاقاة شرفاء أهل مدغرة وتوفيتهم بصلة البرور المعتادة. بعد أن ضعفنا لهم القدر الذى نصلهم به كل سنة تضعيف تنمية وزيادة. فزدناهم على المعهود خمسين ألف مثقال تكملة لمائة ألف مثقال وجب فيها بصرف بلدهم عشرون ألف ريال.
ثم نهضنا للتخييم على بلاد الصباح. فانتشرت أجنادنا الوافرة ببلادهم انتشار عمود الإصباح. وجاست مواكبنا السعيدة خلال نخيلهم وأوديتهم وأثارت سنابك الخيل نقع بساتينهم وأنديتهم، فتلقوا شريف جنابنا خارج قصورهم برجالهم ونسائهم وأهل رواياهم، وأحسنوا في إظهار خدمتهم وأداء واجباتهم. ودفع هداياهم.
ومنهم كان نهوضنا لتافلالت المباركة فخيمنا بمركزها المنيف، وحططنا الرحال الموفورة حول نخيلها الباسقات، وأحدقت مضاربها الغراء بتلك البساتين المتناسقات، مصحوبين بجميع تلك الجيوش التي لا يأتى الإحصاء بفضل الله عليها، ولا يكاد يضاف حصر العدد إليها، وخصوصا حركة آيت عطة المنتخبة الفرسان والأوصاف المشتملة على نحو الستة آلاف، مع من ذكر من حركة آيت مرغاد بعدد له بال، وحركة آيت ازدك الكبيرة المعتبرة الخيل والأبطال.
وعندما شارفنا تلك المواطن الميمونة السنية وواجهنا معالمها بخوافق البنود والألوية، تسابق أهلها لشريف لقيانا وأكبوا على ركابنا الشريف شرفاء وطلبة ورجالا ونسوانا، معلنين بضمائر المحبة والاشتياق ومظهرين من كمال الفرح ما لا يوصف حده ولا يطاق، وكذلك جميع أهل الزوايا وأصحاب الأحوال، فكل طائفة تلهج برنات السرور، وتضرب آلات الأفراح وتنشر أعلام الإجلال. حتى أسفرت أيام المسرات هناكم عن أبهج المباسم، وغدت من أيام الأعياد والولائم والمواسم، وأقمنا هنالك بقصد الاستراحة والزيارة ومشاهدة آثار أسلافنا الكرام التي لم تزل على جلالة مآثرهم أمارة. حتى عاينا معالمهم المنيرة وأصبحت العيون بفيوض بركاتهم قريرة، وتعاهدنا أملاكهم وأصولهم الأثيلة، وقضينا المتعين من حقوق المراحم الطيبة الجليلة، ووجهنا ولدينا الأرْضَيْنَ مولاى عبد العزيز ومولاى بلغيث أصلحهما الله لتوفية الشرفاء أقاربنا وأبناء عمنا بصلتهم المعهودة لهم بعد أن زدناهم عليها خمسين ألف مثقال تتمة لمائة ألف مثقال أيضا، وجب فيها بصرف بلدهم عشرون ألف ريال صلة، تحمد وترضى مراعاة لحقوق القرابة الشريفة، التي حض الله ورسوله عليها، ونص في كتابه الحكيم على نسبة التنزيه والتطهير والتعظيم إليها، وزيادة برور حيث قدمنا لتلك المواطن المباركة وحللنا لديها، وها نحن لما قضينا في سجلماسة بحول الله المرام. واجتمعت مصالحها الغائية بحلولنا الشريف جمع الأهلة بالتمام. شددنا رحال الأوبة متوجهين لمراكش الحمراء، ومتحدثين بنعمة الله سبحانه حمدا وشكرا.
وعند ذلك كتبنا لكم هذا المسطور الكريم. لتعلموا ما سناه الله لنا من فتحه العميم. وتأخذوا حظكم من الفرح والسرور. وتقيموا نزهة الشكر إظهارًا لنعمة الله ويمنه الموفور. وتحمدوا الله على فتوحه الكفيلة برعاية الإسلام. التي دل حسن ابتدائها على حسن الختام، ونسأل الله تعالى أن يحفنا بدوام حفظه في المقام
والمسير. ويجعلها أوبة موصولة بالسلامة والغنيمة والتيسير. وأن يديم إجراءنا من جميل صنعه وخصوصياته على ما تعودناه. ويكنفنا بكنف عنايته ويوفقنا وإياكم لما يرضاه، آمين والسلام في 15 جمادى الأولى من عام 1311".
ثم نهض يوم السبت الخامس عشر من جمادى الأولى ووجهته الحضرة المراكشية وسار على طريق الفايجة يظعن ويقيم إلى أن حل العاصمة الجنوبية مراكش الحمراء يوم الثلاثاء التاسع من جمادى الثانية.
فجميع أيام هذه الرحلة أعنى من تافيلالت إلى مراكش خمسة وعشرون يوما، كان السير في واحد وعشرين يوما منها قطع في سوائع سبع وثمان وعشرين دقيقة، وكانت مدة المقام أربعين يوما.
وكتب لباشا مكناس القائد حم بن الجيلانى بشرح الأوبة كتابا نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير الذى بداخله "الحسن بن محمد بن عبد الرحمن الله وليه 1291":
"وصيفنا الأرْضَى القائد حمّ بن الجيلالى، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فقد قدمنا لكم الإعلام بما هيأه الله لنا في هذه الوجهة الميمونة من جزيل إمداداته، وسوابغ نعمه وآلائه، وباهر فتوحاته، وشنفنا مسامعكم بشرح ما أظهره الله فيها من الخوارق. ولاح من البوارق. إجراء على ما عودنا سبحانه من مواهبه وإقباله ورفده. وما النصر إلا من عنده.
وأعلمناكم بأننا نهضنا من إقليم سجلماسة بعد قضاء المناسك. وتحصيل الغرض مما هنالك. ثم بعد ذلك توجهنا محفوفين من الله بجنود الحفظ والسلامة وهواتف البشرى تهتف من كل ناحية بالميامن المستزادة. فمررنا بواسط بلاد اعراب
الصباح. وتخللنا الروابى منها والبطاح. وأهلها مصاحبون لركابنا الشريف بحركتهم وخيولهم في انبساط وانشراح. بعد أن تاموا بمئونة المحلة السعيدة. ودفعوا ما عليهم من الواجبات وشفعوها بهدايا عديدة.
ثم حللنا بقصور غريس وفركلة التي هى قاعدة آيت واحليم من آيت عطة.
فأظهروا من الفرح والقيام باللوازم المتعينة ما دل على نصحهم في الخدمة والطاعة. ولم يقصروا جهد الاستطاعة.
ومن هناك وجهنا حراك قبائل الغرب لحالهم مثابين، وبرضا الله وخاطرنا الشريف ظافرين، بعد أن أبلوا في طاعة الله البلاء الحسن، وسعوا فيها بكليتهم مطيرين عن مقلهم الوسن.
ثم نهضنا وخيمنا ببلاد تدغا وآيت يحيا فتلقونا بسرور وابتهاج متسارعين لأداء المفروضات والميرة والهدايا، عادلين عن سبل الاعوجاج وبعدهم نزلنا بدادس، فتجلت فيه من المنا عرائس، وقام أهله باللوازم كذلك بوجوه طلقة غير عوابس.
ثم دخلنا في قبائل الفائجة، فتلقانا أهلها وصدورهم بالفرح مائجة. وأول من تخللنا أرضهم منهم أهل اماسن وسكورة وآيت بودلال وورزازت، وحادى البشائر يحدو بالنصر والظفر والمسرات، ومنهم إلى اتلوان وآيت زينب ووزكيتة وآيت امنى ثم تلوات. وجميعهم قاموا بالوظائف والضيافات وأدوا النوافل والمفروضات.
ثم أقبلنا على جبل درن فإذا هو في الجو شاهق متعمم بالثلوج، لا يستطاع فيه دخول ولا خروج. ولا يفهم فيه على البديهة من أين يكون الولوج يحاكى في الارتفاع سد يأجوج. تتحير الأذهان من رؤيته. وتضطرب القلوب عند نظرته. ويسبح الله لهول خلقته، وتعاظم عظمته، لا تفهم مسالكه، ولا تدرك مداركه.
فاستعنا بالله على عبوره، وشرعنا في صعوده ومروره. بعد أن رتبنا الجنود والعساكر ترتيبا، وجعلنا منهم للدخول فيه مقدمة وساقة فكان تكييف ذلك عجيبا، واقتحمناه في دائرة الحفظ وسرادق العناية على جناح التسهيل، والألطاف الخفية مشاهدة ممن عليه الاعتماد والتعويل.
وسرنا على طريق وادى ابى المواهب والمدد المتوالى، سيدى محمد بن عبد الله رحمه الله في وروده لمراكش من سجلماسة، فحصلنا والحمد لله على فائدتين: سهولة الطريق، وزيارة الولى المذكور وقضينا منها حقا متعينا، ونلنا من بركته قسطا وافرا وسرا بينا.
وسرنا وبنود العز برياح الإسعاد خافقة. وألسن القلوب والجوارح بالحمدلة والشكر ناطقة. إلى حضرتنا الشريفة المراكشية. ذات الحلل البهية المزركشة الموشية. ويوم تاريخه خيمنا برأس العين من بلاد الرحامنة، ومنها وجهنا لكم هذا ومنها نخيم بزاوية سيدى عبد الله بن ساسى نفعنا الله به.
وبعدها نحل حمراء مراكش بحول الله في يوم الأربعاء أو الخميس الذى بعد تاريخه بيومين حلول سلامة وظفر وتحصيل، ونرد منهلها العذب السلسبيل فلله الحمد في البداية والتمام، وله مزيد الشكر في الافتتاح والاختتام.
وأعلمناكم لتكونوا على بصيرة من الواقع ومن جميع ما كان، وتعرفوا حقيقته بمزيد إيضاح وبيان، ولتفرحوا بما يسره الله من فتوحاته المزيدة ومواهبه المديدة، لأن هذه جملة خبرية عن ذلك المبتدا. وخاتمة عقد ذاك الابتدا، والله أسال أن يجعل ما ارتكبناه في ذلك كله عائدا بصلاح الأمة والرعية. جاريا من رضا الله وطاعته على الطريق المرعية. آمين والسلام في 8 جمادى الثانية عام 1311".
وقد ألف غير واحد من الكتاب والأدباء في هذه الرحلة الصحراوية نثرا ونظما، منهم الكاتب المجيد العلامة السيد الغالى بن سليمان أحد كتاب الحضرة السلطانية، فإنه نظم هذه الرحلة الميمونة الطالع، ورمز لأيام الظعن والإقامة وعدد السوائع التي قطعت فيها أيام الظعن وتاريخ النهوض إليها وموافقة الشمسية للقمرية، وشرح ذلك النظم شرحا بديعا لطيفا عندى طرف من مسودته بخط مؤلفه يقول في أول النظم:
وللنصر فتح ظاهر في البرية
…
يقابله الإقبال في كل وجهة
بحركة يمن قد بدا (طى 19) نشرها
…
بطالعها الميمون في (يد 14) حجة
يوافقه من ينيه (ز 17 ى) سره
…
بفتح ونصر في سلوك المحجة
وآخرها سبع لشهر دجنبر
…
يوافقه تسع جمادى الأخيرة
وفى عدد الأيام عقد لجيدها
…
مقاما 120 وسيرا في 54 جنان المسرة
سوائعها (يمن 100)(حليم 88) لأنها
…
مواهب عدل في جبين المعزة
ويا سيدى مولاى يا خير مالك
…
تفردت في عز ونصر وهيبة
وجزت مقاما طالما كان خاملا
…
فجئت له فردا بغير معية
وكنت وكان الفضل والبذل والندى
…
فأصبحت في عز عزيز المزية
فبشرى هنيئا بالقدوم الذى به
…
أضاءت على الإسلام شمس الظهيرة
وبشرى لنا والحمد لله سيدى
…
عليك سليما نعمة أى نعمة
فيارب أيده ورده معزة
…
وحقق مناه في الفروع بنظرة
بجاه النبى والآل والصحب جملة
…
وكل ولى عارف في البسيطة
وفى أثناء هذه الرحلة الصحراوية وقع شغب في الشاوية والغرب كما وقعت مناوشة بين أهل مليلة وبين المجاورين لها من أهل الريف نشأت عن بناء البرج بحدود مليلة، فلما بلغ صاحب الترجمة ذلك وجه أخاه مولاى عرفة في الحين لكلعية في شرذمة من الخيل يعظهم ويذكرهم وينذرهم ويحذرهم ويوعدهم بالعقوبة إن لم يكفوا عن ذلك ويقفوا عند حدهم ويتركوا التعرض لأهل مليلية في بناء البرج بداخل حدادتهم، ويباشر فصال ما وقع بينهم وبين أهل مليلية من القتل والجرح وفساد الأملاك على حسب ما يشير به عليه النائب الطريس، فسافر من المحلة السعيدة في السابع عشر من شهر ربيع الثانى ثم بعد ذلك وقعت مضاربة أخرى بين أهل كلعية وعسكر مليلية، أفضت إلى قتل وجرح عدد من الفريقين ومن جملة من مات فيها حاكم مليلية.
وأقام المترجم بمراكش إلى أن صام رمضان، وأقام سُنة عيد الفطر، ثم صار يهيئ الحركة للناحية الغربية. لتفقد الأحوال والنظر في مصالح الرعية.
ثم في يوم الخميس الثانى عشر من قعدة الحرام عام أحد عشر وثلاثمائة وألف عقد لنجله البار المولى عبد العزيز على جيش لا يستهان به ووجهه أمامه خليفة لرباط الفتح.
وفى يوم الاثنين الخامس عشر من الشهر بارح المترجم العاصمة المراكشية وسار إلى أن أدركته المنية بدار ولد زيدوح على ما سنشرحه بحول الله، وهذه آخر حركة للمترجم وفيها ختمت أنفاسه النفيسة رحمه الله.
فكانت جميع حركاته منذ جلس على أريكة ملكه إلى أن لبى داعى مولاه تسع عشر حركة:
الأولى: من مراكش إلى مكناس وفاس عام تسعين ومائتين وألف.
الثانية: عام واحد وتسعين من فاس إلى القبائل الريفية والقبض على الفتان بوعزة الهبرى.
الثالثة: عام اثنين وتسعين من فاس ومكناس إلى مراكش الحمراء.
الرابعة: عام ثلاثة وتسعين من مراكش على طريق المراسى إلى مكناس وفاس الخامسة: من فاس إلى تازة ووجدة وقبائل الريف أوائل عام أربعة وتسعين.
السادسة: من فاس ومكناس إلى مراكش في آخر السنة نفسها.
السابعة: عام ستة وتسعين من مراكش إلى مكناس وفاس.
الثامنة: عام ثمانية وتسعين من فاس إلى مكناس ثم مراكش.
التاسعة: عام تسعة وتسعين من مراكش إلى السوس الأقصى.
العاشرة: عام ثلاثمائة وألف من مراكش إلى مكناس وفاس.
الحادية عشرة: عام اثنين وثلاثمائة وألف من فاس ومكناس إلى مراكش.
الثانية عشرة: عام ثلاثة من مراكش إلى سوس الأقصى.
الثالثة عشرة: عام أربعة من مراكش إلى مكناس وفاس.
الرابعة عشرة: عام خمسة من مكناس لغزو بنى مجيلد.
الخامسة عشرة: عام ستة من فاس للثغور المغربية والقبائل الجبلية.
السادسة عشرة: عام سبعة من فاس ومكناس إلى مراكش.
السابعة عشرة: من مراكش إلى مكناس وفاس وذلك أواخر عام تسع مع أوائل المتصل به.
الثامنة عشرة: أواخر عام عشرة وأوائل المتصل به من فاس إلى تافيلالت.
التاسعة عشرة: أواخر عام أحد عشر من مراكش قاصدا مكناسة الزيتون وفاسا فحال المنون بينه وبين تمام مراده.
ودوخ في هذه الحركات الأغوار والأنجاد لإصلاح أحوال الرعية. وإجرائها على الطرق المرضية. وحسم مواد الفق والأهوال. والجد والاجتهاد في استصلاح الأحوال. وبعث للعتاة السرايا والبعوث. من الأبطال والليوث. حتى وقع له التمكن بسطوة الله من نواصى الجميع. وحصلت الغلبة على القوى والوضيع. ولم يبق في إيالته قدس الله روحه من يحرك للعتو يدا. أو يعصى في أمر أبدا. وجبيت من الكل الجبايات واستوفيت حقوق وتباعات. وساد الأمن وعم. وحكمت الأقدار بالانعدام لكل ما قد تم.
* * *
علائقه السياسية
السفارة الزبيدية للدول الأربع:
- فرنسا وبلجيكا وإنكلترا وإيطاليا-
غير خاف ما كانت عليه حالة السياسة الخارجية بهذه المملكة المغربية بعد حرب تطاوين وما نشأ عنها من تداخل سفراء الدول في القضايا والوقوف للمخزن في أوعر المسالك وأضيق المآزق، وتكثير الحمايات وتطاول المحميين على الحكام المخزنيين بأدنى علقة توصلهم لذلك، وتفاحش الأمر إلى أن وصلت الحالة إلى درجة كاد أن يتعذر معها تنفيذ أوامر المخزن في الرعية لعدم إمكان تعميمها بسبب الامتيازات المعبر عنها بالمصالح الأجنبية المخولة لهم بمقتضى الفصل التاسع والعاشر
من معاهدة عم المترجم مولانا العباس المنعقدة مع الإصبان، عقب الحرب المذكورة أيام والد المترجم السلطان سيدى محمد قدس الله أرواحهما.
ولما جلس المترجم على أريكة الملك وكان مهتما بترقية مملكته وإدخال الإصلاحات والتنظيمات المناسبة للأحوال الوقتية، وعلم أن سياسات الامتيازات سد أمام وجهه، وعقدة لا تنحل ولا تنفتح معها أبواب مساعيه، بذل مجهوده بطريقة ودية في تحوير تلك المعاهدات، وتنقيح فصولها وخص عدد الحمايات ارتكابًا لأخف الضررين.
وحيث رأى أن هذا الأمر لا يتم إلا بفتح المخابرة مع الدول ذات الأكثرية في المصالح التجارية إذ ذاك بالمغرب مثل فرنسا وإنكلترا وايطاليا وبلجيكا، وكانت هذه الدول هى التي سبقت غيرها بتوجيه سفرائها لتهنئته بالجلوس على سرير ملك أسلافه الكرام، اغتنم هذه الفرصة ووجه خديمه الأنصح السيد الحاج محمد الزبيدى سفيراً وباشا دورا لرد الزيارة لتلك الدول ورؤسائها، وأعطاه أموالا طائلة ليصيرها في وجهته، وهدايا فاخرة للعظماء الذين يلقاهم في رحلته، ووجه معه أمينا للصائر السيد بناصر غنام الرباطى، والفقيه الأديب الفلكى سيدى إدريس الجعايدى السلوى بصفة كونه كاتبا، وعددا من أعيان ووجهاء قواد الأراحى إظهارا للأبهة المخزنية، والضخامة السلطانية فتوجه أولا لدولة فرنسا.
فركب من طنجة على متن باخرة حربية وجهتها الدولة المذكورة لنقله إلى مرسيليا فوصلها في سابع جمادى الأولى عام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف، واحتفلت الحكومة المحلية هنالك باستقباله احتفالا باهراً وأكرمت وفادته، فتبرع على الجمعيات والملاجئ الخيرية هنالك بما راده اعتباراً في أعينهم وحظوة وكتب له حاكم المحل متشكرا من حسن صنيعه.
[صورة]
بالوسط السفير الحاج محمد الزييد وعن يمينه أمين صائره السيد بناصر غنام الرياطى وعن يساره كاتبه سيدى إدريس الجعايدى السلاوى والوقوف من قواد الجيش
ثم كتب السفير المذكور إلى الحاجب السلطانى وقتئذ أبى عمران موسى بن أحمد، بشرح ما قوبل به في ثغر مرسيلية من الاعتبار والإجلال. فأجابه بما لفظه بعد الحمدلة والصلاة:
"محبنا وخديم سيدنا الأعز الأنبه اللبيب السيد الحاج محمد الزبيدى، أمنك الله وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا المنصور بالله.
وبعد: فقد وصلنا كتابك، وعلمنا منه وصولك لمرسيلية، وما قوبلت به من الترحيب والتنويه والاعتناء في جميع الأحوال، حسبما شرحت، وأنك بصدد التوجه لباريس، وطالعنا سيدنا أعزه الله بمسطورك وصار على بال من جميع ما قررته.
ونسأل الله أن يصحبك السعادة والتيسير وشددك ويلهمك الصواب في جميع الأقوال والأفعال، ولا تغيب عنا خبرًا بكل ما تجدد لديك، ومهما انتقلت من محل إلى محل آخر، أخبرنا بذلك ولابد والله يكون لنا ولك خير معين، والكتاب الشريف الذى تتوجه به لسلطانة الإنجليز ها هو يصلك على يد نائب سيدنا الخير السيد محمد بركاش، وكذلك كتاب الطليان وعلى المحبة والسلام في 27 جمادى الأولى عام 1293".
ثم نهض السفير من مرسيليا وسار إلى باريز فاقتبله وزراء الدولة وكبراؤها بالمحطة هناك وأكرمت الحكومة وفادته ونزله.
وفى صبيحة غد يوم حلوله بباريز قابل وزير خارجيتها وصرح له أن المقصود من سفارته هو تجديد عقود المحبة وتأكيدها مع الدولة الفخيمة ومجاراتها على الاعتناء بالجناب العالى بالله بتوجيه سفيرها المسيو "طيسو" لتهنئة جلالته
الكريمة بالجلوس على كرسى ملك سلفه الكريم، وتقرير ما عند مولانا نصره الله من الاعتناء بجانبهم، واعتبار حقوق المجاورة، ومسرته بما يتجدد من العلاقات التي تدل على دوام الألفة والمحبة، ثم طلب من الوزير تعيين وقت الملاقاة مع رئيس الجمهورية وهو يومئذ الماريشال مكماهون.
ولما قابل الرئيس في الوقت المعين له ألقى بين يديه الخطبة التي كان متابطا لها وإليك نصها:
أيها الرئيس المعظم.
بعد إهداء ما تستحقه مرتبتك الفخيمة من التحية والتسليم اللائق بمقامك الفخيم، إننا قدمنا على حضرتك من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين سلطان المغرب وجهنا نصره الله بقصد تجديد أسباب المودة وتكيد المحبة التي كانت بين أسلافه الكرام وبين دولتكم الفخيمة التي لا تزال بحول الله في ازدياد وتأكيد، ونعلمك أنه أيده الله مسرور بهذه المحبة الجديدة التي تكدت بها المحبة القديمة، وأنه لا زال يحرص على ما يزيدها ويتحافظ على ما يديمها ويراعى حق الجوار، ونجازيكم على لسانه على ما صدر منكم من الاعتناء بجانبه العالى بالله بتوجيه سفيركم المسيو "طيسو" لتهتئته بالجلوس على سرير ملك أسلافه الكرام وسبقيتكم لذلك، لأنه أدل دليل على رسوخ. محبتكم وكامل اعتنائكم وها كتابه نصره الله لكم في ذلك.
وناوله الكتاب الشريف وإليك نصه:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، من عبد الله المتوكل على الله المفوض أمره إلى الله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بالمغرب الأقصى
[صورة]
كتاب السلطان مولاى الحسن لرئيس جمهورية فرنسا فى السفارة الزبيدية
وهو الحسن بن محمد بن عبد الرحمن بن هشام، الله وليه أبد الله نصره. وزين بالمحاسن عصره. إلى المحب المعظم الأمير المحترم كبير جمهورية دولة الفرنصيص الفخيمة الرئيس المعتبر "مكماهون".
أما بعد: فموجبه تجديد أسباب المحبة التي لا تزال تزيد غلى مرور الأيام تأكيدا. وإحكام عقد المحبة الذى يبقى ثوبه مع الأبد جديدا. ويحلى بحسن التواصل مفرقا وجيدا. ولأجل ذلك أوفدنا إليكم حامله خديمنا الأرْضَى الحاج محمد الزبيدى سفيرًا إليكم ومبلغا ما تقتضيه أمارة المودة لديكم، وانتخبناه من أخص خدامنا وكبراء حاشيتنا لما حاز من التقدم والنصيحة في الخدمة مع مولانا الجد وسيدنا الوالد قدس الله ضريحهما العزيزين ليقرر لكم مشافهة ما عندنا من المحبة مع دولتكم التي اقتفينا فيها أثر كرام الأسلاف، وما نحرص عليه من المحافظة على العهود التي بها يدوم حسن المواصلة وجميل الائتلاف، ويجازيكم نيابة عن جانبنا العالى بالله بلسان الخير والثناء، على ما صدر منكم من البرور والمبالغة في الاعتناء، وأمارة الصدق في الوداد، التي زادتنا في جانبكم حسن الاعتقاد، بتوجيهكم سفيركم المعتبر المنسطر "طيسو" سابقا، وما شاهدناه من الرعاية في معاملتكم لاحقا، مما ملأ الصدور انشراحا، وأبدى في وجوه الأمالى نجاحا.
فالمحقق عندنا إن شاء الله أن تقابلوه ومن معه بما عودتم المرة بعد المرة، من الاعتناء والقبول والمبرة، وتصدقوه فيما يذكره لكم من المصالح التي تعود بالخير على الإيالتين، وتؤدى إلى تمام الراحة بين الدولتين، وتنظروا فيها بعين الإنصاف، وتجروها على أكمل الأوصاف، حتى يرجع مقضى الأوطار مثنيا على جنابكم بحميد الإيثار. فإن المحبة تقتضى تسهيل ما بين الدولتين وتيسيره. وتؤذن بكمال التوافق وحسن السيرة. ودمتم كما تحبون ممتعين بين الأجناس بموجبات التهنئة.
مقابلين بما يصلح بكم في الإسرار والعلانية، وبه ختم في 27 ذى القعدة الحرام عام 1292".
ثم استرسل السفير المذكور في خطبته قائلا: ونحن نشكر بلسان دولتنا المعظمة الاعتناء الذى قابلنا به أهل الدولة في طريقنا وكبراء المركب الذى أقلنا لبلادكم الزاهرة، ونرجو أن نرجع من حضرتكم بما يزيد هاتين الدولتين رسوخا، ولعلاماتها وضوحا، ونؤمل من حضرة الرئيس أن يوصى من يعينه للمفاوضة معنا في الأمور التي اقتضت المحبة الكلام فيها بما يعود بالنفع على الجانبين العظيمين بأن يعطينا وجه الاعتناء في مباشرتها، ويسهل طريق البلوغ إلى رفع الضرر الحاصل فيها.
فأجاب الرئيس مكماهون على خطاب السفير بما نصه:
سعادة السفير الأفخم:
قد حصل لنا كمال السرور وغاية المحظوظية بمجيئكم سفيرا للسلطان الأعظم الأفخم سلطان ممالك المغرب الأقصى. فمنذ جلوس الحضرة العالية الشريفة في تخت أسلافه الكرام صدرت براهين عديدة من المودة والمؤالفة الكائنة بين الدولتين الفخيمتين، وقد انشرح صدرنا بتأمينات تشييد الروابط للمحبة.
فالمرجو من سعادة السفير أن يعتبر اقتبال بلدنا وفرحها به دليلا مبينا لمحبتنا في الحضرة الشريفة، واعتبارنا لذاته العالية كما أرجو أن يكون احترامنا لذاتكم السامية وأخلاقكم الحميدة يروق لديكم، وتجعلونه أقوى دليل لتسهيل مأموريتكم بما يعود بالمنفعة على الدولتين الفخيمتين وتبلغوا اعتناء بلادنا بكم للجلالة الشريفة لتتحقق بذلك.
ثم بعد ذلك دعوا للضيافة والإكرام بقصر رئيس الجمهورية وفق العادة المقررة في سائر الحفلات.
[صورة]
كتاب من وزير خارجية فرنسا للسفير الزبيدي
والمقرر في الضيافات التي تقام للسفارات المغربية بسائر الممالك الأروبية غداء أو عشاء، أن تكون بالقصر الملوكى ويحضرها الملك والملكة أنفسهما، ثم يقوم احتفال بضيافة ثانية في وزارة الخارجية ثم في البلدية، وعلى هذا جرى العمل في دول أوروبا ما عدا مملكة الإنجليز، فإن المقرر عندها بعد الاحتفال بضيافة الملك ووزير الخارجية أن يقوم بالضيافة رئيس الوزراء ووزير البحرية.
ثم إن دولة فرنسا بعد انتهاء ضيافاتها عينت وزير الأمور الخارجية المسيو "دوك دكاز" للمفاوضة مع السفير المذكور فتفاوضا بكل حفاوة ولطف في المسائل الهمة من السفارة وبعد الفراغ من تمهيد الطرق الموصلة للوفاق، كتب السفير لوزير أمور الخارجية بما نص المقصود منه:
"حضرة الوجيه الأفخم وزير الأمور الخارجية للدولة الفرنسوية المسيو دوك دكاز، بعد إهداء ما يليق بجنابكم من التحية والتكريم، فالباعث عليه إعلام حضرتكم أننا أردنا التوجه إلى مملكة البلجيك في يوم الاثنين القابل، ومنها لمملكة اكريت بريطن لأداء ما أنا مأمور به من الحضرة الشريفة جلالة سيدنا دام عزه ونصره، وأعلمت جنابكم لتكونوا على بال على العادة في ذلك وعند رجوعنا في قريب إن شاء الله، نرجو منكم المقابلة لتتميم المذاكرة كما نرجو منكم المقابلة مع رئيس الجمهورية الأفخم للوداع، ودمتم مسرورين، وختم في 30 جمادى الأولى عام 1293 خديم المقام العالى بالله محمد الزبيدى وفقه الله".
فأجابه الوزير المذكور بما نصه:
"سعادة الباشدور الأفخم سفير الدولة الشريفة بالمغرب الأقصى، وخديم سدة جلالة سلطانه الأعظم السيد الحاج محمد الزبيدى، قد تشرفت بوصول كتابكم إعلاما بعزمكم على السفر لمملكة البلجيك الفخيمة ومنها لمملكة اكريت بريطن ويكون رجوعكم منها لبلادنا لتتميم الأشغال المنوطة بمأموريتكم، فليعلم جنابكم أن الدولة هيأت لكم قطارا خاصا وعربة تليق بمقامكم السامى لتسافروا
فيها في التاريخ المذكور ويرافقكم إلى حدود البلجيك خليفة وزير الخارجية والترجمان، وأرجو لكم سفرا سعيدا كما نرجو من جنابكم أن تعلمنا قبل نهوضكم من مملكة اكريت بريطن بثلاثة أيام بطريق السلك ليهيا لكم البابور الخاص بكم بمدينة كالى وتفضلوا بقبول مزيد الاحترام لشخصكم المعظم".
ودفع السفير لفقراء باريس عشرة آلاف فرنك حسبما جاء في كتاب الشكر الذى وجهته له الحكومة على ذلك وهو:
"باريس في 25 جوان 1876
سعادة السفير المحترم
لقد تفضلتم سعادتكم فأبلغتمونى بواسطة الكاتب الثانى بسفارة جلالة سلطان المغرب جملة عشرة آلاف فرنك برسم توزيعها على فقراء العاصمة.
وطبقا لرغبتكم بإرسال المبلغ المذكور إلى عامل مقاطعة لاسين مشيرا عليها بتوزيعه على مختلف ملاجئ الإحسان في باريس.
وسأكون قد تقدمت عن إدارة مقاطعة لاسين عندما أعرب لسعادتكم عن ممنونية الحكومة مما منحتموه لديار الإحسان ولكم يا سعادة السفير كل الاحترام والاعتبار
الإمضاء:
…
"اليك قائمة ما تبرعت به السفارة منذ خروجها من طنجة: فلرئيس المركب الحربى المقل للسفارة من طنجة إلى مرسيليا ليفرقه على البحارة بها فرنك 5000
ولأصحاب الموسيقى عند النزول بمرسيليا 1000
ولأصحاب حاكم مرسيليا عند زيارة السفير له 600
لضعفاء مرسيليا 5000
وللخدمة بمحل النزول 1000
وللعسكر الملازم للسفارة بمرسيليا 500
وللموسيقى عند الوصول لباريز 1000
ولأصحاب العربات الملازمة للسفارة من قبل الحكومة 1000
وللمكلفين بخيل الهدية 1000
وللخدمة بوم ضيافة السفارة بدار رئيس الجمهورية 2000
وللبوابة 1000
ولضعفاء باريس 10000
ولأصحاب وزير الخارجية 2000
ولعسة العسكر المكلفين بالسفارة بباريس 1000
وللخدمة المقابلين للسفارة بمحل النزول 2000
ثم في يوم الاثنين المذكور توجهت السفارة المذكورة في المراكب الخصوصية المذكورة صحبة الرفيق في كتاب الوزير المذكور لمملكة بلجيكا.
ولما وصل المركب وجد خليفة وزير الأمور الخارجية للدولة البلجيكية وعددا من الذوات وحاكم المقاطعة وفرقة من العسكر ورجال الموسيقى تحت قيادة الجنرال الحاكم العسكرى لتلك المقاطعة في انتظار السفارة هناك، وبعد وداع السفارة هناك لمشيعيها الفرنسيين نزلت من القطار فأدت العساكر البلجيكية التحية بعد ما رفع العلم المخزنى المغربى وأطلقت الطلقات المدفعية.
ثم تقدم الكبراء للسلام على السفير، وأظهروا من الفرح والبشاشة والترحيب ما يستدل به على ما لهم من الاعتناء بجانب مرسله إليهم سلطان المغرب الأقصى، فقابلهم السفير بما يقتضيه المقام.
ثم ركبت السفارة في القطار المعد لها وتوجهت لعاصمة البلجيك (بروكسيل) وبعد مسير ساعة ونصف وصلت إليها فوجدت المحطة على أروع ما يكون من الزينة وبديع التنسيق، والأعلام المغربية والبلجيكية ترفرف وعددا وافرًا من العساكر خيالة ومشاة ووزير الخارجية والقائد العسكرى، وجما غفيرًا من وجهاء الدولة وذوى الحيثيات واقفين بها في انتظار ورود السفارة اعتبارا لشأنها وأداء لواجب تحيتها.
وبعد تقديم مراسم السلام بين الجانبين ركب وزير الخارجية والسفير في عربة خصوصية وأعضاء السفارة في عربة أخرى أعدت لهم وساروا في موكب مدهش إلى محل النزول الذى كان اُد لهم، ثم ودعهم الوزير ورجع.
وما استقر بهم المجلس حتى أتى إليهم رئيس التشريفات للسلام على السفير بحسب النيابة عن الملك، ثم استفهمه عن تعيين وقت رد الزيارة للوزارة الخارجية، فعين له الساعة العاشرة من يوم الأربعاء ثالث يوم وصولهم.
وفى الوقت المعين وقع اقتبال وزير الخارجية للسفير بكل حفاوة وإجلال هش وبش، وأظهر من العواطف والإحساسات ما لا مزيد عليه.
وفى عشية اليوم نفسه رد الوزير للسفير الزيارة وأعلمه بان اقتبال الملك والملكة له يكون على الساعة الثانية بعد الزوال من غده الذى هو يوم الخميس، وطلب منه نسخة من الخطبة التي سيلقيها أمام الملك ليهيئ جوابها طبق المتعارف في ذلك فدفعها له. ونص كتاب الإعلام بتعيين وقت الاقتبال الملوكى:
"وزارة الخارجية
عدد 4469 بروكسيل 29 يوليوز 1876
سيدى السفير المحترم
أتشرف بإعلامكم أن جلالة الملك وجلالة الملكة يقتبلانكم في قصر بروكسيل على الساعة الثالثة من هذا اليوم.
وسيتوجه حرس القصر إلى سفارتكم بقصد مرافقتكم ومن معكم من الكتاب والضباط الملحقين بالبعثة ذهابا وإيابا.
وإنى لأغتنم هذه المناسبة فأحقق لسعادتكم من جديد عبارات الاحترام.
ولما كان الوقت المعين انعقدت حفلة رسمية وقابل الملك السفير بمزيد اعتبار واعتناء وإجلال ثم ألقى السفير خطبته أمام الملك وإليك نصها:
أيها السلطان المعظم المحترم:
بعد إهداء ما يجب لمرتبتك الفخيمة من التحية والتسليم فإننى أمرت من جلالة سلطان المغرب مولانا الحسن دام عزه ونصره بالوصول إلى حضرتك الفخيمة السامية، بقصد تجديد أسباب المحبة التي كانت بين أسلافه الكرام وبين دولتكم المعظمة التي لا تزال في ازدياد وتأكيد، وشكركم على لسانه أيده الله على ما صدر منكم من الاعتناء بتوسط نائبكم المسيو (لرنسط دولوان) في شأن المتعلمين وغيرهم، فإن ذلك أقوى دليل على رسوخ المحبة وتكيدها، ونحن نجدد لمقامكم الأفخم المجازاة ونشكر بلسان دولتنا الاعتناء الذى قابلنا به أهل دولتكم الفخيمة في طريقنا، وإنى لمسرور جدا بتبليغ كلام جلالة سلطاننا المنصور بالله لفخامتكم مشافهة وخصوصا حيث أسعدنى الحظ بأداء التحية والسلام الخصوصى لجلالة الملكة المعظمة التي افتخر بها عصرها وازدهرت بها دولتها، وأرجو من سموكم
[صورة]
وزارة خارجية بلجيكا بتعيين وقت مقابلة الملك للسفير
الإذن لمن تختارونه للمخابرة معنا فيما يعود بالمصلحة على الدولتين العظيمتين اللتين نؤمل تمتين علائقهما الودادية.
ثم دفع الكتاب السلطانى.
ثم بعد الضيافة بالقصر الملوكى الفاخر اقتبل السفارة دوق ودوقية افلاندر من مقطعات البلجيك وإليك نص الإعلام الموجه من وزارة الخارجية بذلك:
وزارة الخارجية
عدد 4469 بروكسيل 30 جوان 1867
سيدى السفير
نتشرف فنخبركم بان صاحبى السمو دوق ودوقية أبلاندر يقتبلانكم ومن بمعيتكم من كتاب السفارة والضباط التابعين للبعثة في نفس هذا اليوم على الساعة الواحدة ونصف.
ولكم يا سعادة السفير أجدد عبارات الاعتبار الزائد.
الكاتب العام
…
ثم شرع في أشغال مأموريته مع وزير الخارجية حتى تممها على أحسن ما يرام، وقد زار في تلك المدة معامل السلاح وحقق ودقق، ثم طير الإعلام للجناب السلطانى بجميع ما شاهده واستحسنه، وطير الإعلام بذلك للحاجب السلطانى، وإليك نص ما أجيب به من حاجب الجلالة المسمى بعد الحمدلة والصلاة:
"محبنا الأعز الأرْضَى. الأمين الضابط المُرْتَضَى. الباشدور النبيه الأحظى. السيد الحاج محمد الزبيدى حفظك الله وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد: فقد وصلتنا مكاتبك 3 المؤرخ ثالثها بأواخر 20 جمادى 2 مخبرا فيها بمدة مقامك ببلاد البلجيك وشارحا ما قابلك به رؤساؤها من تمام الفرح
والضيافات، ومن حضرها وبمزيد الاعتناء والبرور، وما أطلعوك عليه من الفبريكات الهائلة التي وصفتها وأروكه من أنواع آلات الحرب وأشكالها مدافع ومكاحل على نحو ما وصفته.
وعرفنا منه يوم سفرك من بلجيكة صحبة من سميت من أعيانها واصلا للوندريز، وما تلقاك به كبراء الدولة الإنجليزية من الفرح والسرور والمراعاة، وإنك تلاقيت هناك مع باشدور الطليان وألح عليك بتعجيل السفر لدولتهم لما عزم عليه عظيمهم من الخروج للصيد، وعلمنا ما دار بينك وبينه أولا وثانيا واعتذرت له وما انفصلت به معه من القدوم لإيطاليا في أول شهر غشت بعد نهوضك من اللوندريز ومرورك بباريز، وأشرت بتعجيل توجيه ما كتبت على زيادته هدية لوزير أمور البرانية ومن معه وصار بالبال جميع ما سطرته في المكاتب الثلاثة، وأطلعنا عليها سيدنا أيده الله واستوعبتها سيادته قراءة وفهما، وصار مضمنها بباله الشريف ودعا لك نصره الله بخير.
وقال دامت سعادته: فهلا وجهت مكحلة من كل عينة من العينات المحدثات التي لم تصل للمغرب ولا جلبها أحد للآن لا من التي وصلت للمغرب منها كالمعمرة من وراء فلا. وعليه فإن أمكنك أن تصحب معك عينات من المعدة المعتبرة الجديدة المحدثة التي لم تصل للمغرب فافعل إن تيسر لك تدارك الإتيان بها، وببيان ثمنها وقد استحسن سيدنا أيده الله مدفع الجر الصغير الخفيف ذا العمائر والذى نبهت عليه، وقال أيده الله: لابد من بيان ثمنه أى المدفع الصغير الذى تحمله بغلة واحدة فتحقق لنا ثمنه، وبين لنا كيفية السريجة التي يحمل عليها، ولا بد حينئذ يظهر لسيادته ما يحتاج لجلبه منه.
وقد كتبنا عن أمره الشريف للمحب السيد محمد بركاش ليتكلم مع نائب البلجيك في ذلك.
وأما المسائل التي تزاد في هدية الوزير الفرنصيصى فقد تقدم الكتب لأخينا الأرْضَى سيدى عبد الله بن أحمد بالتعجيل بتدارك توجيهها لكم هى وهدية الإنجليز، وها نحن حددنا له الكتب وأكدنا عليه في التعجيل بتوجيه ذلك عزما، هذا وقد سررنا بسلامتك وما قوبلت به من التيسير والإعانة، نطلب الله أن يقضى بكم غرض سيدنا الشريف ويصحبك الفتح والسلامة، في كل ظعن وإقامة. ويردك بخير وعافية مقضى الأغراض مبلغ المراد آمين، ولا تغيب عنا خبرا وعلى المحبة والسلام في 26 من رجب الفرد عام 1293 موسى بن أحمد لطف الله به".
وفى أثناء مقامه ببروكسيل تبرع على فقرائها بخمسة آلاف فرنك ونص شكر الحكومة له على ذلك:
وزارة الخارجية بروكسيل 11 جوليت 1876
سعادة السفير:
لقد ناولنى الكاتب الثانى بالسفارة مجموع الخمسة آلاف فرنك التي تبرعتم بها على مختلف ملاجئ الإحسان بالعاصمة.
وقد بادرت بإبلاغ هذا المبلغ إلى رئيس البلدية الذى أعرب لكم عن تشكراته في الرسالة الموجهة إليكم صحبة هذه. ولقد تأثر جلالة مولاى الملك وحكومته من صنيعكم المبرور ولا شك أن ذلك مما يخلد تذكار المهمة التي أديتموها في هذه الديار بغاية المقدرة والكفاءة.
وبهذه المناسبة أدعو لكم يا سعادة السفير بيمن السفر وأجدد لكم عواطف الاعتبار.
وزير الخارجية لدى جلالة ملك بلجيكا
وإليك قائمة ما تبرع به في بلاد بلجيكا:
[صورة]
من وزير بلجيكا للسفير الزبيدي
فلأصحاب الموسيقى عند الوصول 1000
ولأصحاب العربات الملازمة للسفارة من قبل الحكومة
وللخدمة يوم الضيافة بدار السلطان 1500
وللبوابة 1000
ولضعفاء البلجيك 5000
ولأصحاب وزير الخارجية 15000
وللعسكر المنفذ للسفارةِ 1000
وفى صدقة لضعفاء مدينة الياج 1000 وياتبريس 1000 وبمدينة اوستاند 1000 ج
وللخدمة بمحلات النزول بمدن بلجيكا 2000
ولرئيس البابور الذى أقل السفارة من بلجيكا إلى إنكلترا ليفرقه على خدمة المركب 2000
ثم قابل السفير ثانية وودعه ونهض من بلجيكا في بابور خاص ورافقه نائب وزير الخارجية والترجمان بقصد تشييعه إلى اللندريز.
ولما ودعه ونزل من البحر وجد وزير الأمور الخارجية وولد باشادور طنجة حينه والجنرال حاكم الناحية والعسكر والموسيقى في اقتباله وعددا من الذوات واقتبلوا السفير أحسن مقابلة وبالغوا في الترحيب وإظهار الفرح والإجلال وبعد مبادلة السلام وواجبات التحية توجه السفير بمن بمعيته للمحل المعد لنزولهم.
وبعد يومين من يوم حلولهم باللندريز عينت الملكة الإنجليزية فيكتوريا وقت الملاقاة بواسطة رئيس التشريفات الذى ناب عنها في تهنئة السفير بالقدوم عقب نزوله ونص كتاب الإعلام بذلك الذى كتبه اللورد دربى الشهير وزير الخارجية البريطانية يومئذ:
[صورة]
الإعلام للسفير بوقت مقابلته لملكة إنجلترا
"يقدم اللورد دربى احتراماته إلى السيد الحاج محمد الزبدى ويخبر سعادته بأن جلالة الملكة سوف تقابله في (اوسبون) يوم الخميس المقبل يوم 27 من الشهر الجارى.
وقبل أن يغتنم اللورد دربى فرصة ترك سموكم فإن له الشرف بأنه سوف يخبركم بأوقات القطار الذى يترك لندن قبل وقت المقابلة المعين دائرة الأعمال الخارجية 25 يوليو 1876".
ولما حظى باستقبالها بالغت في الهش والبش وإظهار العواطف الحسنة والمجاملة التامة ثم أكرمت السفارة إكراما زائدا في الأبهة والاعتناء والاعتبار.
ثم كتب للورد دربى بقائمة الهدايا التي أمر بتقديمها للملكة حسبما جاء في الرد الذى بعثه له عليها ونصه:
"وزارة الخارجية 3 غشت 1876.
سيدى السفير:
لى الشرف بان أعلم سموكم باستلام مذكرتكم المؤرخة ب 28 من الشهر الماضى التي فيها قائمة الهدايا المقدمة من جلالة سلطان المغرب إلى جلالة الملكة وأتشرف أيضا بإخباركم بأنى لم أتمكن إلى الآن من عرض ذلك على جلالتها.
أرجوكم أن تتقبلوا فائق احتراماتى يا سيدى السفير:
مطيع سموكم وخادمكم المخلص: لورد دربى"
وهذه نسخة من قائمة الهدايا التي أمر صاحب الترجمة بصنعها بفاس لتوجه إلى ملكة الإنجليز.
"أوله رسون من الحرير مطررة بالصقلى والحرير المذهب بين حمصى 4 وأخضر 4 وبنفسجى 4 الجميع 12
وجلالات في غاية الجودة عدد 12
وحياك قنطرى وبلهوان حرير 4
وكساوى من أوراق ساهل أربعة كل واحدة منها في لون وواحدة منها تكون مثقلة بالصقلى وتعرف بالصمة 4
وتغاطى من الزردخان أربعة كل واحدة منها في لون وفى أطرافها قضيب مثل السلتة والترييش بالصقلى 4
من الشرابل 6 من الموبر على ألوان و 6 من الجلد و 6 من الطلس 18 ومطرز بالصقلى 18
ومن اسطارم ستة من الموبر وستة من الطلس وستة من الجلد والجميع 18
على ألوان ومطرز بالصقلى 18
ومن شكاير البارود على نحو عمل الريف مطروزة بالصقلى على ألوان 12
ومن مرافع خشب الصنوبر الجيدة تكون مخرمة ومزوقة في كاية الجودة على ثلاثة أنواع، نعم ستة منها يكون طولها من ستة أشبار، وستة منها تكون طولها من أربعة أشبار والصنعة مختلفة الجميع 12
ومن رشاقات خشب الصنوبر التي تحمل عليها المكاحيل اثنا عشر زوجة مخرمة ومزوقة جيدة 12
ومن طبالى الخشب الصنوبرى التي توضع عليها صوانى الاتاى تكون مثمنة الشكل وبالأرجل على نحو عمل اشاون 12
[صورة]
كتاب من وزير خارجية إنجلترا للسفير الزبيدى
ومن شقق الملسة الرفيعة ستة مطروزة بالتل عمل فاس متفاوتة في الطرز إلا واحدة منها مثقلة 6
ومن صوانى الصفر عمل فاس اثنا عشر أربعة منها نمر 1 وأربعة نمر 2 وأربعة نمر 3 12
واثنا عشر كمية عمل سوس تكون مجبرة بالفضة على ثلاث عينات الجميع 12
ومثلها من السبائل عمل الريف مجبرة بالفضة على ثلاث عينات الجميع 12
ومن السفارى المطرورة اثنا عشر أربعة مطرورة بالصقلى وأربعة بالحرير وأربعة من الجلد 12
ومنه تقييد الحوائج التي بزيادتهم:
سفارة ثلاثة موبر مطروزة 3
سطارم أربعة 4
حزوم بالصقلى 3
حياك أربعة بالحرير 4
مسخرات أربعة مطروزين 4
سبانى أربعة بالصقلى 4
الحمد لله وحده
أخانا الفقيه الأعز الأرضى، سيدى موسى بن سيدى أحمد رعاك الله وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد: فما قيد أعلاه هو زمام الهدايا الثلاث التي أمر سيدنا أعزه الله بصنعها لتطلع عليه، وتعرف تفصيله غير أن المعلمين ذكروا أنهم إن صنعوا ذلك بأجمعه ربما يستغنى عن بعضه، فيبقى بيدهم كاسدا لا يجدون مشتريا له منهم لعدم صلاحيته هنا، وعليه فإن كان المراد صنع الجميع من غير أن يرد لهم شئ فيعتمدون على ذلك، وإن كان المراد صنع البعض مختارا من ذلك فليبين المراد لهم حتى تطمئن نفوسهم فيما يقدمون على صنعه:
عبد الله بن أحمد لطف الله به"
أما قائمة ما يتوجه من التحفة لكل الأجناس فهذا بيانه:
فلكبير الدولة:
جلالة عدد 10
ثم رسون 10
ثم سروج بإقامتها 2
ثم سفارى موبر 4
ثم سطارم موبر مطروزة 6
ثم كلساوى حريرا 6
ثم حياك بولهوان 6
ثم رواحى 6 موبر مطرورة وبابوجات 6 12
ثم حزم 3 رردخان 3 جزيرية 6
ثم زرابى كبار عمل الرباط 6
[صورة]
كتاب من وزير إنجلترا للسفير الزبيدى
[صورة]
توصيل وزير خارجية إنجلترا من السفير بابرات 600
وللوردر الكبير:
سفارى موبر 2
ثم سطارم موبر مطرورة 2
ثم رواحى 3 وبابوجات 3 موبر مطروزة 6
ثم حياك بولهوان 2
ثم كساوى من حرير 2
ثم حزام 1 رردخان وآخر 1 جزيرية 2
ولوردر الأمور البرانية:
سفارى موبر 2
ثم سطارم موبر مطرورة 2
ثم رواحى 3 موبر مطرورة وبابوجات 3 6
ثم حياك بولهوان 2
ثم كساوى حريرا 2
ثم حزم 1 رردخان وآخر 1 جزيرية 2
ثم زرابى كبار عمل الرباط 2
ثم تبرع السفير بقدر يوزع على المستشفيات كما بالتوصيل الذى بعثه إليه نائب كاتب الدولة بوزارة الخارجية والشكر الذى أرسله إليه اللورد دربى وزيرها ونصهما:
"توصلت من سعادة السفير بما قدره 600 ليرة تصرف في سبيل المستشفيات.
بالنيابة عن كاتب الدولة بوزارة الأمور الخارجية لجلالة الملكة:
…
وزارة الخارجية في غشت 1876"
"الوزارة الخارجية الإنجليزية في 3 غشت 1876
سعادة السفير:
أخبر سعادتكم بأننى تشرفت بكتابكم المؤرخ في الثانى من الشهر الجارى، معلما فيه أنكم قد وجهتم على يد الكاتب الثانى بسفارتكم ما قدره 600 ليرة إنعاما على العميان الفقراء الذين يعالجون بالمستشفيات المبنية بمرقومكم، كما أتشرف بأن أذكر لكم ما حصل لى من الفرح والسرور بتبليغ ذلك الإنعام إلى مختلف المستشفيات وفق مرغوبكم وأنا أيها السفير خديمكم المتواضع.
الإمضاء: دربى"
وإليك قائمة ما تبرع به السفير في بلاد الإنجليز:
خدمة أوطيل الدوفر ابرات 10
أصحاب الموسيقى بالدوفر 15
ولرئيس البابور بالجزيرة 40
أصحاب العربات المنفذة للسيارة 30
للخدمة بدار السلطانة يوم الضيافة 75
وللبوابة 20
للخدمة بدار وزير الخارجية 60
ولضعفاء اللندريز 600
وللخدمة بمدينة وينزة بالقصر السلطاني 20
ولأصحاب المدافع يوم زيارة السفير المناورة المدفعية المعدة له 20
ولخدمة محل النزول باللندريز 40
وللعسكر المنفذ للسفارة 20
ولبحارة المركب المقل للسفارة من إنكلترا لفرنسا 50
وفى هذه الأثناء قدمت جماعة اليهود ببلاد الإنجليز مطالبها إلى السفير لرفعها لجلالة مرسله، وإليك نص كتابها بعجره وبجره وأصله بخط مشرقى:
"نميقة الوداد القلبية وإقبال التهنيات الزهية بالسعادات البهية والاحترامات السنية تعرض على حضرة سعادة ذو القدر صاحب درجة العلية السيد الحاج محمد زبدى المحترم بشدور دولة عظمة جلالة سيدنا السلطان حاكم في جميع بلاد الغربية دام مصون بعناية بارى البرية من وكلا عصبة طائفة الإسرائيلية في سائر بلاد الإنكليزية.
غب إهدا أذكى التحيات بالإكرام وفرط الدعا المستجاب المستدام وسؤال شريف الخاطر العاطر ولطف المزاج السليم الباهر مع تقديم ما وجب ولاق إلى ذاك الذات بديع الصفات الذى حار على رتبة العالية ونال مستاهلا ثقة مولاه عظمة جلالة سيدنا السلطان ولهفة جميع الأهالى، نعرض لحضرة سعادتكم بأن عصبتنا المذكورة جل قصدها والمرام تعديل وتصليح بكل نوع لائق ومستقيم أحوال إخواننا الإسرائليين الموجودين في سائر بلدان الدنيا، وهذا القصد تم غالبا بفتح مدارس علومية لأجل تنوير شباب إسرائيل، ومنذ ثلاثة سنين تشرفنا بتقديم واجباتنا لعظمة جلالة سيدنا السلطان حين جلوسه على كرسى المملكة، وترونا للآن ممنونين من الوعد الكريم الذى عظمة جلالته تفضل علينا به مع إصدارنا الجواب
وهو ما يخص تحسين أحوال رعاياه الإسرائليين، وذلك الوعد تكرار فرمان الشريف الذى صدر من عظمة جلالة السلطان والده رحمه الله وعطى إلى سير موسى مونتفيورى في سنة 1864، فاستنادا على مداومة هذه الأفكار العادلة نرجو من إفضال سعادتكم أن تكرموا بلطف المناظرة على الملاحظات الآتى شرحها وتوصلوها إلى عظمة جلالة سيدنا السلطان حيث خواصها جوهرى لجميع الذين يرحموا المخلوقات.
أولا: نرجو حسن إجادة وترفق بحال إخواننا الإسرائليين الذين في آزمور، حيث على ما بلغنا من تقارير عمده من بعض السواحين بان إخواننا المذكورين مجبورين يمشوا حافين حتى بالشتا في رقاق مليانان حصى مسنونات وذو حد، وذلك بموجب أمر حاكم المكان الذى يدعى على ما يقولوا بان ذلك تتميم أوامر رؤوساه.
ثانيا: نتوسل من حضرة سعادتكم بأن حكم الغرب من كرمه يأمر بالتنبيه في كل مدة من الزمان في جميع أماكن الذى فيهم أهالى من ملل مختلفة، بأنّ هولاى الذين يتبعوا ديانة الغالبة لا يزالون يعاملوا باقى الملل في كل فرصة بالاحتمال التام، وأن والين الأماكن حينما يحافظون على أمنية كل ملة وملة يجملوا إليهما إخواننا الإسرائليين (1).
ثالثا: نستغنم هذه الفرصة الجيدة لندير عالى أنظار حضرة سعادتكم على المنافع العديدة التي تنتج لإخواننا في الصويرة إذا محلتين الملاح غير كافيتين لراحة سكنهما اتسعتا حيث تراكم السكان بزيادة في بيوت هل قدر مضيقة غير نضيفة وغير هاوية قطعا يحصل من ذلك أمراض وبلايا لا تصف من كل جنس عرفى وطبيعى. فبتقديمنا لحضرة سعادتكم الملاحظات المذكورة عندنا يقينا أن بذلك نكرر
(1) حافظنا على النص كما ورد في الأصل.
فقط أرباب السخى والكرم الذى حضرة سعادتكم تشتهوا قلبيا أكثر من كل مخلوق أمنية الأهالى ومحبتها لبعضها البعض ونجاح جميع بلاد الغرب.
تحريرا في 25 شهر تمورغ سنة 1876
نحن لشريف حضرة سعادتكم متواضعين.
رايس متولى مجلس عصبة الإسرايلية
في ساير بلاد الإنكليزية
رايس متولى تانى
رايس المالية
رايس نظارة الشورة
ناظر مصالح الأدبية
ناظر مصالح المالية
ناظر إدارة الكتبة
محل إدارة كتبة الوصية" بلفظه
ثم وقع الشروع من السفير في الذاكرة مع الوزير المعين لذلك وهذا كتاب من وزارة الخارجية الإنجليزية يشرح بعض ما جرى من المفاوضات:
"الوزارة الخارجية عاصمة إنكلترا 8 غشت 1876
يا جناب السفير
إن حكومة جلالة ملكة إنكلترا قد أحلت محل الاعتبار رسالتكم المؤرخة ب 18 الجارى فيما يخص حماية الحكومات الأجنبية لجملة المغاربة القائمين بوظائف السمسرة أو النيابة لدى التجار الأجانب.
[صورة]
كتاب من وزير خارجية إنجلترا للسفير الزبيدى
وردا على رسالتكم المشار إليها، أشعر سعادتكم بأن حكومة جلالة الملك ليست لها رغبة في بسط هذه الحماية على المغاربة إلا بمقتضى نصوص الفصل الثالث من الاتفاقية المبرمة بين أبرطانيا العظمى والمغرب في تاريخ 9 دجانبر 1856، وبمقتضى الفصل الرابع من الاتفاق التجارى والبحرى الصادر في نفس التاريخ المذكور.
وليس في رغبة حكومة جلالة ملكة إنكلترة تغيير الاتفاقات المبرمة طبقا لهذا الفصل الأخير لتسهل على التجار الإنكليز القيام بأعمالهم داخل الأيالة المغربية، ومما تعتقده الحكومة أيضا أن سفير جلالة ملك إنكلترة في المغرب لم يقدم قط على إيثار السماسرة أو النواب التجار في الداخلية.
فالحكومة والحالة هذه لا تستطيع أن تبخس التجار الإنكليز شيئا من الامتيازات التجارية الممنوحة لسواهم من التجار الأجانب.
وبالرغم عن هذا كله فإذا وفقت الحكومة المغربية إلى أن تعقد مع أية دولة اتفاقا يكون أفضل لها من الأول، فإن حكومة جلالة ملك إنكلترا تنيله اعتبارا صحيحا حتى تتوصل حسب الإمكان على تلبية رغبات جلالة ملك المغرب.
وإنى أنتهز هذه الفرصة لأعبر لسعادتكم عما حصل لجلالة الملكة ولحكومتها من الارتياح لمأموريتكم راجيا من سعادتكم أن تتقبلوا فائق الاحترام.
…
"
ثم ودع السفير الملكة فكتوريا وطلب من الوزير كتابة صدور الأمر لباشادورهم بطنجة لتتميم المسائل هنالك، وأبحر من إنكلترا لفرنسا فقابل رئيس جمهوريتها مقابلة الوداع، وطلب صدور الأمر لباشادور الدولة الفرنسبة بطنجة لتتميم المسائل التي لم تتم.
ثم ظعن من باريز لمدينة ليون، ورافقه إليها نائب الوزير والترجمان على
العادة المقررة في سائر تنقلاته من مملكة لأخرى، وقد قوبل بمدينة ليون بكل تجلة وإكرام.
ومزيد إكبار واحترام.
وأقام بها بضعة أيام في ازدهاء وازدهار.
وتبرع في هذه الرجعة لفرنسا بهبات أخر
فللخدمة بمحل النزول بكالى 500
وللخدمة بمحل النزول بباريس 1000
ولأصحاب العربات المنفذة للسفارة 500
وببلد ليون محل الفبركات بطورى 500
ولخدمة فندق النزول به 500
ولأصحاب العربات به 300
ولأصحاب الموسيقى 300
ومن ليون ظعن لمدينة مضان التي هى الحد الفاصل بين فرنسا وإيطاليا، وكتب لأميره بكل ما راج في تنقلاته بل حركاته وسكناته، وإليك لفظ جواب الحاجب الوزير عن الكتاب المشار بعد الحمدلة والصلاة.
"محبنا الأعز الأرضى، المبجل المرتضى، الباشدور السيد الحاج محمد الزبيدى أمنك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته عن خير مولانا المنصور بالله.
وبعد: فقد وصلنا كتابك، وعلمنا منه أنك نهضت من مدينة ليون بعد ما أقمتم بها حسبما تواعدتم به مع الدولة الفرنسوية حسبما قدمتم شرح ذلك، وتوجه معكم ترجمانهم، إلى أن وصلتم إلى مدينة مضان التي هى الحد بين الفرنسيس والطليان.
فوجدتم نائبه منتظرًا لكم، وتلقاكم بالترحيب والتعظيم، وحملكم في عربة منتخبة من عربات كبيرهم، وصاحبكم إلى مدينة عظيمهم المسماة طورين، فأقمتم بها يومين مكرمين معظمين، وورد عليكم عامل البلد وشيخها والجنرال وكبير العسكر.
وأخبروكم بأن عظيم الدولة خارج البلد حسبما قدمتم الإعلام بذلك وأن رجوعه يكون في أواخر غشت، وقاموا بالاعتناء بكم وطلبوا توجهكم إلى رومة عملا بما أمروا به من قبيل كبيرهم، فدخلتم لها يوم تاريخ كتابكم بعد اجتيازكم من مدينة فرينسية، ولقيكم بها خليفة وزير الأمور البرانية مع الكبراء المذكورين.
ثم قدموا عليكم لمحل النزول برومة بقصد التسليم والتهنئة وظهركم أن قدوم الوزير عليكم يكون بعد الاستراحة، وأخبروا بوصول الهدية إلى جنوة عدا الخيل، وأنك تطلب من الوزير عند اللقى به إتيان الهدية لتصحبها معك إلى طورين عند رجوعك إليها، وبينت ما ظهر لهم من تأخير ورود الخيل إلى أن تأتى في البابور الذى يحملكم إلى طنجة، وأن الكتاب الشريف الذى تدفعه لعظيمهم كان وجهه لك وزير الأمور البرانية، حيث كنت بطورين، ورجوت أن يكون غشاؤه مع الهدية وقد طالعنا سيدنا أعزه الله بكتابك، وصار ما قررته بباله الشريف، ودعا لك أيده الله بخير ونسأل الله أن يقضى بك الغرض الشريف، ويسددك في الأقوال والأفعال وعلى المحبة والسلام في 4 رمضان عام 1293 موسى بن أحمد لطف الله به".
ولما وصل السفير لحدود إيطاليا ودعه النائب الفرنسى الذى ذهب معه مشيعا له، واقتبله وزير خارجية إيطاليا وباشادورها بطنجة والحاكم العسكرى، وبعد انتهاء حفلة الاستقبال وأداء واجب التحية، توجهوا في مركب عظيم لمدينة طورين،
وكان ملك إيطاليا إذ ذاك متغيبا للصيد طبق ما أشرنا إليه في خبر الباشادور للسفير، فأقاموا بطورين في حفاوة وإكرام وتكريم.
ثم ورد عليهم الوزير وولى العهد الحالى، وطلبوا من السفير التوجه لرومة عاصمة الملك فأجابوا رغبتهم، وكان يوم دخولهم إليها من أعظم الشاهد وأفخرها.
ثم شرع السفير بمباشرة أمور المأمورية التي جاء لأجلها مع الوزير، وطالت المفاوضة بينهما أياما حتى تم الأمر وفق ما يرام ويراد، وبعد الضيافة برومة وانتهاء الوطر ونجاح المسعى، رجع السفير وولى العهد والوزير لطورين، فوجدوا الملك قد رجع من الصيد وقد اقتبلتهم الحكومة المحلية هنالك بغاية الإعظام والسرور وبمجرد ما استقر المجلس بالسفير ورد عليه رئيس التشريفات يحييه نيابة عن الملك، وصرح له بأن الملك ما عجل الأوبة إلا لأجله، وأنه بعد مقابلتهم سيرجع لتتميم فسحته ورياضته الصيدية، وعين له وقت الاستقبال، وأنه سيكون من الغد.
وهذا كتاب وزارة الخارجية الإيطالية المعين للوقت:
"وزارة الأمور الخارجية رومة في 20 غشت سنة 1876
سعادة السفير:
إنه جوابا عن كتابكم الذى مكننى إياه سعادة عامل فالازيو حاجب جلالة الملك أتشرف بإخبار سعادتكم أن مولانا الملك سيستقبلكم في حفلة رسمية بطوران في 26 من الشهر الجارى.
وأغتنم هذه الفرصة لأقدم لكم يا سعادة السفير عبارات فائق احترامى والسلام.
الإمضاء: ميليكارى"
[صورة]
تعيين وقت استقبال السفير
ولما كان الوقت المعين وقع اقتبال الملك للسفارة وأظهر من البشر والاعتناء والاعتبار ما لا يزيد عليه، وقدم السفير الهدية الملكية التي أتى بها طبق ما قدم لسائر ملوك الدول التي كانت سفارته متعلقة بها، وقدم المسطور الشريف الذى أتى به للملك وفق ما وصفنا سابقا، وإليك نص ذلك الكتاب:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، من عبد الله المتوكل على الله المفوض أمره إلى الله أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين أدام الله سعوده، ونصر أعلامه وبنوده، إلى المحب المعظم. المبجل المحترم. المميز في ميدان الرياسة بمزيد التقدم. سلطان إيطاليا الفخيمة وعظيمها فكطور ايمنوءيل الثانى.
أما بعد: فالموجب لتقديم هذا الكتاب العزيز تجديد عهود المودة التي تتأكد بمرور الأزمان. وترسخ شوامخ أصولها في الأسرار والإعلان. فلا يزيدها طول المدى إلا تكيدا، وبحسن التواصل تلبس كل حين ثوبا جديدا. ولأجل ذلك اقتضى نظرنا السديد أن أوفدنا إليكم حامله خديمنا الأرضى الأنصح الحاج محمد الزبيدى سفيراً منا إليكم، ومشهرا لما هو كالشمس من ثابت المحبة لديكم، وقد اخترناه من أخص خدام داخلية عتبتنا العزيزة، وكبراء حاشيتنا حيث اقتضت خدمته ونصيحته تمييزه لما عرف به من السبقية في الخدمة أيام سيدنا الجد ومولانا الوالد قدس الله روحيهما الطاهرين.
وقصدنا أن يذكر لكم مشافهة ما تجدد عندنا لكم من المحبة التي ورثناها من كرماء الأسلاف. وزدناها تأكيدا وتأصيلا يثمران بحول الله حسن الائتلاف، ويقرر لكم ما نحرص عليه من المحافظة على العهود وحسن المعاملة التي تدوم بها كروم
المواصلة. وتنمو وتزيد، وقد حملناه ما يذكره لكم مشافهة نيابة عن جنابنا العالى بالله من المجارات بلسان الخير والثناء على ما أظهرتموه بجنابنا العالى بالله، من المبرة والاعتناء، حيث عينتم سفيركم الكبير المعتبر المنسطر (الكمندطرا صطبان اشكباص الرزدنص) وأوفدتموه على حضرتنا الشريفة مبينا لما نعتقده من صفاء المحبة. ومحققا لما نعتمده من أشراط الصحبة. مما ملأ الجوانح انشراحا، وجدد لبلوغ الآمال ارتياحا.
والمعتقد عندنا أن تقابلوا سفيرنا المذكور، ومن معه بغاية الاعتناء والبرور، وتلاحظوه بعين الاغتبار في الورود والصدور، وتصدقوه في جميع ما يذكره لكم من جانبنا العالى بالله من خالص المحبة وصفو الوداد، مما يكون بحول الله سببا في كمال الاتصال بين الأيالتين ويعود بالنفع والخير على الدولتين العظيمتين، حتى يرجع مقتضى المطالب ناطقا بلسان الثناء على تلك المراتب، فإن محبتنا مع دولتكم الفخيمة القديمة، وطريقتنا في التودد لعظماء الدول قويمة، والمحبة تقتضى التسهيل والتيسير، وتؤذن بكمال التوافق في الكثير واليسير، ودمتم كما تحبون ممتعين بموجبات الهنا، مقابلين بما يليق بكم من بلوغ المنا، وبه ختم في 28 جمادى الأولى عام 1293".
وبعد انتهاء المقابلة مع جلالة الملك وتناوب الخطب استدعى الملك السفير بانفراد لمحل خصوصى بالقصر وتفاوض معه في أمور. وأظهر له غاية الاعتناء والبرور، واستدعى وزير الخارجية بمحضره وقال له إنى أكون مسرورا إذا رجع السفير مقضى الأوطار، وحمله السلام الخاص لجلالة السلطان، وأمر ولى عهده بالقيام بإكرام السفارة إلى أن ترجع مبتهجة مسرورة، فأقام لهم حفلة عظيمة تلك الليلة تناولوا العشاء فيها بدار الملك.
وإليك قائمة الهبات التي تبرعت بها السفارة في مدة مقامها ببلاد الطليان والأعداد بحسب النقد الإيطالى وهو الليرة:
بمدينة طورين لأصحاب الموسيقى 300 عربات 300 عسكر الحرس المعين للسفارة 500 1100
ببلاد افرنسية موسيقى 250 العربات 250 الحرس 500 1000
برومة أصحاب الموسيقى 1000 الضعفاء 3000 العميان 3000 7000
لأصحاب وزير الخارجية 1500 العربات 300 الحرس المعين للسفارة 500 2300
ضعفاء مدينة برنسية عند الرجوع لها للضعفاء 3000 موسيقى 250
العربات المنفذة للسفارة 250 3500
عند الرجوع لطورين عربات 500 للضعفاء بها 6000 للخدمة يوم الضيافة بدار السلطان 8500
وللحرس بدار السلطان 2000 ولمن عين لمقابلتها لما توجهت للصيد مع ولى العهد والوزراء 2000 4000
ولخدمة جنان الوحوش 500 وبجنوة للحرس 500 لأصحاب العربات 300
وللخدمة بالمركب الحربى على يد الرئيس 500 6300
ولخدمة مائدة الأكل به 550
ونص بعض رسائل الشكر التي تلقاها السفير على بعض تلك الهبات فعن هبة العميان:
"مأوى مارغيت دوسافوى رومة في 21 غشت 1876
مكتب تدبير الأمور
سعادة الوزير
إن هبتكم الشريفة المحتوية على فرنك 3000 اللائقة حقا بكرم سعادتكم، والملك العظيم الذى تنوبون عنه أحسن نيابة، قد أثرت في قلب المجلس الإدارى لماوى العميان الفقراء الذى تترأسه أميرتنا الفخيمة بسافوى.
فبالنيابة عن المجلس المذكور أعبر لسعادتكم عن كامل ممنونيتى كما أطلب من الله أن يمد في عمر ملككم الفخيم وشخصكم الكريم أعواما مديدة في رفاهية واطمئنان.
نائب السمو الملكى
الإمضاء: لا يقرأ"
وعن هبة فقراء رومة:
"رومة في 12 غشت سنة 1876
سعادة السفير
قد دفع إلى كاتب سعادتكم مبلغا تدرة ثلاثة آلاف ليرة إيطالية ذهبية تفضل بها جنابكم على فقراء المدينة.
ولا شك أن والى مدينة رومة سيكون لدى سعادتكم خير مترجم للعواطف السامية التي ستخامر أهل المدينة كافة، لما يتيقنوا أنه قد اجتمعت فيكم أحمد الخصال والعواطف الكريمة، ومواهب العقل العالية التي أوجبت لكم فائق الاحترام في عموم الوطن، وقد بقى على أنا كذلك أن أعرب لجنابكم عن
[صورة]
يتعلق بسفارة الزبيدى لإيطاليا من وزيرها برومة
[صورة]
توصيل بما وقع به التبرج على جمعية رومة
تشكراتى الخالصة على حسن صنيعكم الذى يزيد في توطيد الدعائم والمحبة التي تربط دولتينا، وأنتهز هذه الفرصة لأقدم لسعادتكم فائق الاحترام.
ميلكرى".
ثم كتبت الحكومة للسفير كتابا تبلغه طيه شكر شيخ مدينة رومة نيابة عن فقرائها وهو:
رومة في 28 غشت سنة 1876"
إلى سعادة السفير
قد كلفنى والى مدينة رومة بأن أبلغ لسعادتكم الكتاب المبعوث لكم طى هذا يشكركم فيه على عواطفكم الكريمة التي حملتكم على التبرع بثلاثة آلاف ليرة ذهبية على ضعفاء المدينة لأنهما مكننى من فرصة.
وإننى أقوم بهاته المهمة عن طيب نفس أجرد لكم فيها عبارات احترامى الفائق.
نيابة عن الوزير: مورنيلى
وهذا الكتاب المشار له:
"مدينة رومة بالكابيطول في 22 غشت سنة 1876
مكتب شيخ البلد
سعادة الوزير
توصلت على يد سعادة وزير الأمور الخارجية بمبلغ قدره 3000 ليرة ذهبية التي أرادت سعادتكم الكريمة أن تتفضل بها على الأعمال الخيرية برومة.
وأرى من الواجب أن أشكركم الآن على تكرمكم هذا منتظرا أن أعبر لكم شفاهيا بما هو أحسن عن عواطف اعترافى بالجميل، واعتراف أهل المدينة كلهم.
فلتتيقن سعادتكم بخالص احترامى والسلام
شيخ البلد
الإمضاء: لا يقرأ"
وعن هبة طوربن:
"عامل طوربن بطورين في 30 غشت سنة 1876
أيها القائد
قد تشرفت بوصول كتابكم اللطيف المؤرخ يومه، وأبادر بإخباركم أننى توصلت بما قدرة ستة آلاف ليرة (6000) مركبة من ثلاثمائة نقد ذهبى قيمة كل واحد عشرون فرنكا التي تبرع بها سعادة سيدى محمد الزبيدى في سبيل البر، وأرجو منكم أن تترجموا لدى الرجل الفذ الذى أراد أن يبقى أثرا قيما عند مروره ببلدتنا عن عواطف ممنونية بؤساء مدينتنا الذين تنعموا بما أفاض عليهم من إحسانه الجزيل، وأنهم يتلون على اسمه آيات الحمد فحققوا له أن اسمه المعتبر لا ينفك يذكر ومقرونا بتمجيد الملك المعظم لدى إنابه عنه لدى جلالة ملك إيطاليا.
فأرجو منكم أيها القائد أن تقبلوا فائق تحياتى والسلام
والى مدينة طورين"
وعن هبة رجال الاصطبل الملوكى بطورين:
"كتب بطورين 30 غشت سنة 1876"
أنا الواضع اسمى أسفله، أعترف بأنى قد حزت من الفارس بوزيد الترجمان الأول لسفير جلالة سلطان المغرب مبلغا قدره سبعمائة ليرة إيطالية ذهبية تفضل بها سعادة السفير على خدم اصطبل جلالة ملك إيطاليا مكافأة على ما قاموا به نحو سعادته مدة إقامته.
[صورة]
من وزارة ايطاليا بطورين للسفير الزبيدى
نيابة عن قائد اصطبل جلالة ملك إيطاليا
…
"
ثم ظعن السفير لمدينة جنوة ومنها أبحر في مركب حربى خصوصى أعدته الحكومة الاطالية له، وسار ووجهته طنجة، ورافقه إليها باشادورهم بها، وكان دخوله لطنجة في اليوم الرابع عشر من شعبان عام ثلاثة وتسعين مقضى الأوطار، وخلف في مدن أروبا بما أبداه من السياسة وقام به من التبرعات على الجمعيات الخيرية ذكرًا جميلا حفظه التاريخ للمرسل والمرسل بل لسائر الإيالة المغربى.
ثم سافر السفير من طنجة لفاس حيث كان مثوى السلطان إذ ذاك، فأكرم وفادته وقابله بما هو له أهل من التجلة والإكرام، ولما قص عليه قصص سفارته وقرر له كل شاذة وفاذة شكر مسعاه ودعا له بخير، وأمره بالرجوع لطنجة لتتميم المسائل المحال على القناصل والباشادورات القاطنين هنالك في حل مبرمها، ولم يزل بطنجة إلى أن كمل المراد وفق ما يراد حسبما ينبئ عن ذلك جواب الحاجب أبى عمران موسى بن أحمد للسفير على كتابه إليه في القضية ونصه:
"الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
محبنا الأعز الأرضى وأمين مولانا الناصح الضابط الأحظى السيد الحاج محمد الزبيدى، أمنك الله وسلام عليك ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله.
وبعد: فقد وصلنا كتابك وعلمنا منه ما آل إليه أمر ضبط الحماية وما حصل في مباشرتها من التيسير، وأن الكلام فيها سيتم في قريب وبينت ما دار بين النواب فيها ومن وقف منهم في أمرها وبذل المجهود في حصرها على القوانين، ومن توقف منهم في تكليف السماسرة على الوجه الذى أشرت إليه، ونبهت على تمام وقوف باشادور النجليز المحب وحسن مباشرته ونصحه، وكذا نائب المركان، وما صدر من الأخير من زيادة التنبيه على أمر الحافر بالأبواب حسبما سطرته وأنهينا
ذلك كله لمولانا المنصور بالله، وسره ما أثنيت به عليهما وأمر أيده الله بالكتب لهما بالمجازاة على ذلك بخير فكتبنا وها كتاباهما 2 يصلانك لتدفع لكل واحد منهما كتابه وتنوب عنا في مجازاتهما، ونسأل الله أن يسددك ويصحبك الإعانة واللطف والتيسير ويقضى بك الغرض الشريف على وفق المراد آمين، وعلى المحبة والسلام في 26 رجب الفرد عام 1294، ومنه، ولا تغيب عنا خبرا فإنا نتشوف لإخبارك ولا بد صح به
موسى بن أحمد لطف الله به"
ونص كتاب سفير الانجليز المشار إليه:
الحمد لله وحده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
المحب الناصح الساعى في الخير بين الدولتين والصلاح بين الإيالتين مينسطر سلطانة اكريت بريطن الفخيمة وباشدورها المعتبر بهذه الإيالة السعيدة الكبليرجان هى درمنض هى.
أما بعد: مزيد السؤال عنك كثيرا ومحبة أن تكون بخير دائما، فإن محب لجميع الأمين الأرضى خديم سيدنا الأنصح السيد الحاج محمد الزبيدى كتب بأنك وفيت بما وعدت به من الوقوف في مباشرة إتمام الكلام في أمر الحماية بما ينحسم به ضررها ويبنى أمرها على القانون، وأنك بذلت المجهود ونصحت ولم تقصر في الأخذ بيده والإشارة بما فيه المصلحة على عادتك، وأنهينا ذلك لمولانا المنصور بالله ونشط به ودعا لك بالمجازاة بخير وتحقق لدى سيادته أنك جريت في ذلك على ما يعلمه أيده الله منك، وجبلت عليه من تمام المحبة في جانبه العالى بالله وبذل النصيحة والسعى في جلب الخير والمصالح لهذه الإيالة السعيدة، جزيت خيرًا.
فنحبك أن تزيد في وقوفك وحسن مباشرتك ليتم الأمر على يدك على وجه جميل، وتفور بمزية السبق لإحراز هذه الفائدة والمزية، والظن بك أنك لا تقصر ولا تحتاج إلى مزيد تنبيه، فإن العاقل يحرص على تمام وإحراز المزية بكماله، لان الأعمال بخواتمها وبه ختم في 26 رجب الفرد عام 1294.
موسى بن أحمد لطف الله به"
ونص كتاب سفير أميركا المشار إليه أيضا بعد الحمدلة والحوقلة:
"المحب العاقل الساعى في الخير والصلاح بين الإيالتين المعتبرتين والدولتين الفخيمتين، نائب دولة جنس المركان المفوض له بهذه الإيالة السعيدة الجنرال المعتبر فلين مطيوس.
أما بعد السؤال عنك ومحبة أن تكون بخير دائما، فقد أخبر أمين مولانا الأرضى السيد الحاج محمد الزبيدى أنك وقفت معه فيما توجه بصدده ولم تقصر في الأخذ بيده في ذلك وفاء بما وعدت به، وأنك ردت التنبيه على أمر الحافر بالأبواب، وأشرت بأن يكون الناس فيه على حد سواء مثل الرعية، وذلك مما يؤيد ما نعلمه منك من المحبة وبذل النصيحة، والإشارة بما فيه المصلحة والسعى في جلب الخير لهذه الإيالة المحروسة بالله جزيت.
وقد سرنا ذلك وأنهيناه لمولانا المنصور بالله فنشط وأمر بالكتب لك بالمجازات بخير، وعلم أيده الله أنك عملت أن تزيد في وقوفك وحسن مباشرتك حتى يتم هذا الأمر على وفق المراد، فإن العاقل يحرص في تمام عمله وإحراز المزية بكماله، لأن الأعمال بخواتمها، وبه ختم في 26 رجب الفرد عام 1294.
موسى ابن أحمد لطف الله به"
وليست هذه السفارة بأول مأمورية مهمة رشح لها هذا السفير الخطير القدر، الرفيع الذكر، المحبوب في أمته المختار لديها، في الرياسة عليها. حسبما تقف
عليه في ظهير سلطانى عبد الرحمانى، وإليك نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الشريف في وسطه "عبد الرحمن بن هشام الله له" وبدائرته ومن تكن برسول الله نصرته
…
إلخ، من يعتصم
…
إلخ.
"خدامنا أهل الرباط وفقكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد أخبرنا كاتبنا الطالب العربى بن المختار باختياركم للولاية عليكم خديمنا الحاج محمد الزبيدى وموافقتكم على تقديمه خاصة وعامة، فقد كملنا لكم فيه ووليناه عليكم وأسندنا إليه أموركم وبسطنا له يد التصرف عليكم، فاسمعوا له وأطيعوا في جميع ما يأمركم به من أمور خدمتنا الشريفة، أسعدكم الله به وأسعده بكم وجعله غرسا طيبا آمين.
فإنكم خدامنا ورعيتنا وزاوية جدنا سيدى الكبير قدسه الله، ونحن نراعى لكم جواره وحقه، ونعلم ضعفكم وعجزكم ونحب من يرفق بكم ويسير فيكم السيرة الحسنة، وقد عفونا عن هفوتكم، وصفحنا عن زلتكم، وقبلنا توبتكم وإنابتكم، فطيبوا نفسًا وقروا عينا، فلا تروا منا إلا ما يسركم إن شاء الله تعالى، فإنا نعامل بالعفو الطغاة أهل الجرائم العظام، ونقابل بالصفح أهل الكبائر والأثام، فكيف بمن هو أعجز الناس عن الدفع عن نفسه وأولاهم بالرفق والإغضاء والشفقة اقتداء بجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى الحديث:"كان خلقه القرآن" وقد قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]. {
…
وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
…
(237)} [سورة البقرة 237]، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ
…
(96)} [المؤمنون: 96]. وأنه لما نزل عليه قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك. وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
[صورة]
ظهير عبد الرحمانى بتولية السيد الحاج محمد الزبيدى على الرباط
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لأمتى فإنهم لا يعلمون" وفى شمائله صلى الله عليه وسلم: ولا يقابل بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ونحن بسنته مقتدون وبأنواره مهتدون، كيف وهو عليه السلام يقول: ما ازداد عبد بعفو إلا عزا، فاعفوا يعزكم الله.
وأقول ما حكى الله في كتابه على لسان نبيه يوسف عليه السلام: {
…
لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} [يوسف: 92] والسلام في 23 رمضان المعظم عام 1261".
* * *