الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالعقل اذن لا يستطيع أن يحكم، ولا يصح حكمه الا في الأمور المادية المحدودة. أما (ما وراء المادة)، أي عالم الغيب (الميتافيزيك)، فلا حكم للعقل عليه. وهذا الذي أثبته (كانْت) في كتابه، وقاله علماؤنا من قبل، موجود في كتاب شرح المواقف للسيد، ورسالة (المقصد الاسني) للغزالي (1) وسائر كتب علم الكلام.
قواعد العقائد
القاعدة السادسة
- الإستعاذة بقوة وراء الكائنات
ان الناس جميعا، المؤمن منهم والكافر، والناشئ في صوامع العبادة، والمتربي في مخادع الفسوق، اذا ألمّت بهم ملمّة ضاقوا بها ذرعا، ولم يجدوا لها دفعا، لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات، قوة لا يرونها ولكنهم يشعرون بأرواحهم وقلوبهم، وكل عصب من أعصابهم بوجودها، وبعظمتها وجلالها. يقع هذا الكثير من الطلاب أيام الامتحان، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم، وعجز الطبيب. كلهم يعودون إلى ربهم، ويقبلون على عبادته. فهل سألتم أنفسكم، ما السبب في هذا وأمثاله؟ لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى الله؟ نذكر جميعا (2) أيام الحرب الماضية، والتي قبلها، كيف كان الناس يقبلون على الدين، ويلجؤون إلى الله. الرؤساء والقواد يؤمّون المعابد، ويدعون الجنود إلى الصلاة.
(1) بقيت هذه الرسالة (المقصد الأسني في شرح أسماء الله الحسنى) في مكتبتي أكثر من ثلاثين سنة، لم أجد دافعاً إلى قراءتها، ثم أخذتها فوجدت فيها شيئا عجيباً من عبقرية الغزالي. فهو يتكلم عن الاسم والمسمى والصلة بينها ويربط بين أسماء الله وسلوك المسلم بأسلوب جديد وطريقة مبتكرة. وهذا شأن الغزالي في كل موضوع يكتب فيه وإن كان في كتابه العظيم (الاحياء) كثير من الصوفيات المخالفة للسنة، وكان فيه كثير من الأحاديث التي لا أصل لها، وكان أثره في نفس قارئه العزلة والخمول، والبعد عن روح المغامرة والجهاد. مع انه ألف في عهد الحروب الصليبية، التي وجب فيها الجهاد على الرجال والنساء، كما هو واجب الآن، لاخراج الكافر من أرض المسلمين التي يحتلها. وأنا أقول بأن الغزالي أعظم مفكر اسلامي، ولكنه ليس بمعصوم - والانصاف العلمي يستوجب ذكر عيوبه المعدودة - وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.
(2)
أعني الكهول والشيوخ الذين أدركوا الحرب الأخيرة: سنة (1939 م)، ومن قبلها الحرب الأولى:(1914 م)، وقد أدركتهما وقلت ما قلت عنهما، عن مشاهدة وعيان.
ولقد قرأت في مجلة (المختار) المترجمة عن مجلة (ريدر زاديجست)، مقالة نشرت أيام الحرب، لشاب من جنود المظلات (يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئا جديدا) يروي قصته فيقول: انه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله أو يصلي، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين، ولا مدرس متدين، نشأ نشأة (علمانية) مادية، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف الا الأكل والشرب والفساد، ولكنه لما هبط أول مرة، ورأى نفسه ساقطا في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة، جعل يقول: يا الله يا رب. ويدعو من قلبه، وهو يتعجب من أين جاءه هذا الايمان؟
وبنت (ستالين) نشرت من عهد قريب مذكراتها، فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين، وقد نشأت في غمرة الالحاد، وتعجب هي نفسها من هذا المعاد. وما في ذلك عجب، فالايمان بوجود اله، شيء كامن في كل نفس، انه فطرة (غريزة) من الفِطَر البشرية الأصلية، كغريزة الجنس، والانسان (حيوان ذو دين).
ولكن هذه الفطرة، قد (تغطيها) الشهوات والرغبات والمطامع، والمطالب الحيوية المادية، فاذا هزتها المخاوف والاخطار والشدائد، القت عنها غطاءها فظهرت. ولذلك سمي غير المؤمن (كافرا)، ومعنى الكافر في لسان العرب (الساتر). ومن العجيب اني وجدت تأييد هذه الفكرة في كلمتين متباعدتين، في الزمان والمكان والظرف والقصد، ولكنهما متقاربتان في المعنى.
كلمة لعابدة مسلمة تقية معروفة هي (رابعة العدوية (1))، وكلمة لكاتب فرنسي ملحد معروف هو (اناتول فرانس). واناتول فرانس يقول في معرض كفره والحاده:"ان المرء يؤمن اذا ظهر بنتيجة فحص البول، انه مصاب بداء السكري، (يوم لم يكن قد عرف الانسولين) .. ". ورابعة، قيل لها: "ان
(1) ظهرت من سنوات قصة غنائية مصورة، زعموا أنها تمثل حياة رابعة العدوية، مع انها لا تمثل الا ما في نفس مؤلفها من خيالات وتهاويل، وما فيها من حقائق التاريخ الا القليل.
فلانا أقام ألف دليل على وجود الله"، فضحكت وقالت: "دليل واحد يكفي"، قيل: "وما هو؟ "، قالت: "لو كنت ماشيا وحدك في الصحراء، وزلت قدمك فسقطت في بئر، لم تستطع الخروج منها، فماذا تصنع؟ ". قال:"انادي يا (الله) .. " قالت: وذاك هو الدليل .. ". في قرارة نفس كل انسان الايمان باله، هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين لأن الله خبرنا ان الايمان فطرة فطر الناس عليها. وقد عرفها الافرنج من جديد، (دوركايم) استاذ الاجتماع الفرنسي المشهور (1) له كتاب في ان الايمان بوجود اله بديهية. لا يمكن أن يعيش الانسان ويموت من غير أن يفكر في وجود اله لهذا الكون، ولكنْ ربما قصر عقله فلم يهتد إلى المعبود بحق، فعبد من دونه أشياء، عبدها على توهم أنها هي الله، او انها تقرب إلى الله.
فاذا جد الجد، وكانت ساعة الخطر، رجع إلى الله وحده ونبذ هذه المعبودات. مشركو قريش، كانوا يعبدون (هبل)، و (اللات)، و (العزى)، حجارة وأصنام، (هبل) صنم من العقيق، جاء به (عمرو بن لحيّ) من عندنا، من (الحمّة)(2) قالوا له انه اله عظيم قادر، فحمله على جمل وجاء به، فسقط على الطريق فانكسرت يده، فعملوا له يدا من ذهب. اله تنكسر يده! وكانوا مع ذلك يعبدونه!! يعبدونه في ساعات الامن، فاذا ركبوا البحر، وهاجت الامواج، ولا شبح الغرق، لم يقولوا: يا (هبل)، بل قالوا: يا الله.
وهذا مشاهد إلى اليوم عندما تغرق السفن، أو تشب النيران، أو يكون الخطر، او يشتد المرض، تجد الملحدين يرجعون إلى الدين.
لماذا؟ لان الايمان غريزة، أصدق تعريف للانسان انه (حيوان متدين)،
(1) دوركايم استاذ الاجتماع الفرنسي: هو يهودي مثل (فرويد)، الذي أفسد عقول الناس حينا من الدهر.
(2)
الحمة ذات الينابيع المعدنية التي أخذها اليهود من سورية بعد حرب الأيام الستة.