الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يجد أنه يسمع الاغنية الحالمة، في الليلة الساجية، قد خرجت من قلب مغنٍ عاشق، فهزت من سامعها حبّة القلب، وأطلّت على عالم الروح، ويقرأ القصة العبقرية، للأديب البارع، فيحس كأنها تمشي به في مسارب عالم مسحور، فيه مع السحر شعر وعطر، فاذا انتهت القصة رأى كأنه كان في حلم لَذٍّ فتّان، وصحا منه، فهو يحاول عبثا أن يعود إلى لذته وفتونه.
ويعيش في لحظات التجلي، حين تصفو النفوس بالتأمل فتتخفف من أثقال المادة، فتعلو بجناحين من الصفاء والتجرد، حتى تصل إلى حيث ترى الأرض وما عليها، أصغر من أن ينظر اليها، لما تجد من لذة الروح التي لا تَعْدلها لذة الطعام للجائع، ولا لذة الوصال للمحروم، ولا لذائذ المال والجاه للفقير المغمور.
واذا بالنفس تتشوق أبدا إلى هذا (العالم الروحي) العلوي، العالم المجهول، الذي لا تعرف منه الا هذه اللمحات، التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي، وهذه النفحات التي لا تهب حتى تسكن. فيعلم أن اللذات المادية محدودة، وان اللذات الروحية أكبر منها كبرا، وأعمق في النفس أثرا. ويُوقن (بالحدس النفسي، لا بالدليل العقلي)، ان هذه الحياة المادية ليست كل شيء، وان العالم المجهول، المختبئ وراء عالم المادة، حقيقة قائمة، تحن اليها الأرواح، وتحاول أن تطير اليها، ولكن هذا الجسد الكثيف يحجبها عنها، ويمسكها عن ان تنطلق وراءها، وهذا هو الدليل النفسي على وجود العالم الآخر.
قواعد العقائد
القاعدة الثامنة
- الاعتقاد بوجود الحياة الاخرى
الاعتقاد بوجود الحياة الاخرى، نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله - وبيان
ذلك ان الاله لا يكون الا عادلا، والعادل لا يقرّ الظلم، ولا يدع الظالم بغير عقاب - ولا يترك المظلوم من غير انصاف، ونحن نرى أن في هذه الحياة من يعيش ظالما ويموت ظالما لم يعاقب - ومن يعيش مظلوما ويموت مظلوما لم ينصف - فما معنى هذا؟ وكيف يتم هذا ما دام الله موجودا - وما دام الله لا يكون الا عادلا؟ معناه أنه لا بد من (حياة اخرى) يكافأ فيها المحسن. ويعاقب المسيء.
وان (الرواية) لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا، ولو انه عرض (فلم) في الراني (التلفزيون)، فقطع من وسطه وقيل (انتهى)، لما صدق أحد من المشاهدين انه انتهى، ولنادوا ماذا جرى للبطل؟ وأين تتمة القصة؟ ذلك لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يتم القصة، ويسدد حساب أبطالها. هذا والمؤلف بشر، فكيف يصدق عاقل، ان (قصة) الحياة تنتهي بالموت؟ كيف؟ ولم يسدد بعد الحساب، ولا اكتملت الرواية؟ فأيقن العقل من هنا، ان لهذا الكون ربا، وان بعد الدنيا آخره.
وان ذاك العالم المجهول، الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الاغنية الحالمة، والقصة البارعة، واستروحت نفحة من عطره، في ساعة التجلي، ليس عالم المثل (1) الذي كان خيالا صاغه أفلاطون، ولكنه عالم الآخرة، الذي هو حقيقة أبدعها خالق افلاطون. ورأى أن أكبر لذائذ الدنيا، لذة الوصال، لا تدوم الا نصف دقيقة، فعلم أنها ليست الا مثالا من لذات الآخرة، انها لقمة من الطعام تذوقها، فان اعجبك اشتريت منه فأكلت حتى شبعت. انها نموذج تجاري (2)، تراه فان ارتضيته طلبت البضاعة. ان هذه اللذة التي لا تدوم الا نصف دقيقة، مثال مصغر للذات العالم الآخر، التي تدوم ابدا، والتي لا حد لها تقف عنده، والتي تبقى (لذة) دائما، لا تصير (عادة)، كما تصير اللذات في الدنيا عادات.
(1) المثل العليا: نظرية لافلاطون معروفة ( Idé alisme)، ومنها جاء قولهم:"شيء مثالي"، وهو ( Idéal) .
(2)
النموذج التجاري: هو تعريف للاصطلاح الفرنسي: ( Echantillon) وتلفظ: (اشانتيون)