الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روح العبادة:
والعبادة لها روح ولها جسد، فروحها العقيدة التي دفعت اليها، والغاية التي عملت من أجلها، وجسدها عمل الجوارح، من لفظ اللسان، وحركات الجسم. الصلاة مثلا حركات وألفاظ، قيام وقعود، وركوع وسجود، وتلاوة وذكر وتسبيح، ولكن هذا كله جسد الصلاة، فان لم يكن الدافع اليه توحيداً صحيحاً، وعقيدة سليمة، ولم يكن المقصود به امتثال أمر الله، وطلب رضاه، كانت الصلاة جسدا ميتا لا روح فيه.
توحيد الألوهية
الأساس في توحيد الألوهية
الأساس أن نعتقد ان الله وحده هو النافع وهو الضار، ولا بد لهذا من شيء من البيان: الله خالق كل شيء، أوجد العوالم، وبث فيها من كل شيء. وأعطانا العقول وقال لنا: فكروا بعقولكم في هذه الأشياء التي خلقتها، وانظروا ماذا في السموات والأرض، فنظرنا فوجدنا ان الله الذي خلق هذه الأشياء، قد سلط بعضها على بعض، فالنار اذا مست الشجرة اليابسة أحرقتها، والماء اذا صب على النار أطفأها، والبعوضة (1) اذا لدعت الانسان أصابته بالبرداء (الملاريا)، والمادة التي في قشور شجرة (الكينا) اذا دخلت جسد المريض شفته من البرداء.
وانه جعل بين هذه الأشياء روابط، وجعل اجتماعها بمقادير قدرها، وامتزاجها بنسب عينها ينتج عنه أشياء جديدة. فـ (الكلور) وهو مادة مؤذية، و (الصوديوم) وهو مادة مؤذية، اذا اجتمعا كان منهما مادة نافعة لا بد للانسان منها، ولا يستغنى عنها وهي ملح الطعام.
1 -
ووجدنا أن الروابط والعلاقات، تتبع كلها قواعد ثابتة، وأساليب معينة، لا تتبدل ولا تتغير هي سنن الله في الكون، التي اصطلحنا على تسميتها (قوانين الطبيعة).
(1) أعني النوع المعروف منها.
2 -
وان هذه الروابط بين الأشياء التي سميناها قوانين الطبيعة، ليست كلها كالعلاقة الظاهرة بين النار والخشب الذي نحرقه، والنار والماء الذي يطفئها، ليست كلها بهذه (البساطة (1)) وهذا الظهور، بل ان أكثرها أدق وأعمق.
الله وضع في هذا الكون دواء لكل داء، ولكن لم يضع الدواء في مكان باد للعين، ولم يجعله (جاهزاً) معداً للاستعمال، بل جعله (تعالت حكمته) مخبوءاً في أوضاع عجيبة، وفي أماكن لا يظن أنه موجود فيها، فـ (البنسلين) الشافي، وضعه ربنا في العفن الاخضر، الذي يبدو انه سم مميت، كما وضع أجمل العطور ذوات الروائح العبقة، وأبدع الاصبغة ذوات الألوان الزاهية، في أقبح مادة ريحا وأبشعها شكلا، المادة السوداء القبيحة التي اسمها القطران، ومنها تستخرج العطور والألوان!
ولم توضع وضعا قريبا، بل ان العنصر المؤثر المطلوب، جعله ربنا ممزوجاً بمواد اخرى، متداخلا معها، يحتاج استخلاصه منها إلى عمليات وتجارب وجهود، ومن قرأ كتاب (التلميذة الخالدة)(2)، علم كيف احتاج استخراج (غرام الراديوم)، إلى تصفية ركام هائل كالتل الصغير، من مواد مختلفة، واجراء العمليات المتعاقبة عليها، التي استمر اجراؤها سنين.
3 -
ولم نكتشف إلى الآن من هذه (النواميس) الكونية التي وضعها خالق الكون الا قطرة من بحر، رأينا فيها العجب العجاب، وصنفنا هذا القليل الذي كشفناه في زمر وأصناف سميناها (علوما)، فكان منها علم الحياة، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء، وعلم الجسم (الفسيولوجيا)، وعلوم الطب، وسائر العلوم. وانقطع إلى كل علم منها ناس منا، تفرعوا لفهم قوانين الله فيه، وكشف المزيد منها، فكان منهم علماء الحياة، وعلماء الكيمياء، وسائر العلماء.
(1) البساطة في اللغة السعة ولكني قصدت بها المعنى العامي.
(2)
قصة مدام كوري وزوجها. وأرجو أن يقرأ الطلاب هذا الكتاب، ليروا كيف يكون الصبر على تحصيل العلم. وفي سير علمائنا الأولين مئات الأمثلة على مثل هذا الصبر، وعلى الاخلاص للعلم والجد فيه.
4 -
ووجدنا ان في الكون أشياء تضرنا وأشياء تنفعنا، وأن النفع والضرر على نوعين. منه ما يكون بسبب ظاهر، تطبيقا لقانون من قوانين الطبيعة، التي كشفناها وأدخلناها في نطاق علومنا، كمن يقف قلبه بتناول مادة سامة عرفناها، وعلمنا - بالتجربة - تأثيرها في القلب، ومنه ما يكون بغير سبب ظاهر، ولا يستند إلى قانون معروف، كمن يكون قوي الجسد، صحيح الجسم فيقف قلبه فجأة، بسكتة قلبية لا نعرف سببها. وكلا النوعين من الله، فالله وحده هوالنافع، وهو الضار.
5 -
والله قد فطر الانسان على جلب النفع، فهو يتخذ لجلبه كل وسيلة. وفطره على كره الضرر، فهو يستعمل لدفعه عنه كل حيلة. ويستعين على ذلك بكل طاقة ممكنة، وهذه الاستعانة منها ما يجوزه الدين، ومنها ما يمنعه، ويراه منافيا للايمان. فما هي الاستعانة المشروعة، وما هي الاستعانة الممنوعة؟
اذا مرض ولدك، وكان الطبيب إلى جوارك يسمع كلامك (فدعوته)، ففحص عن المرض، ووصف له الدواء، كانت هذه استعانة مشروعة، لأنك استعنت على الشفاء بالقانون الطبيعي، الذي وضعه خالق الكون، وبالرجل العالم بهذا القانون. ولكن ان دعوت دجالا أو ساحراً، ليعمل على شفائه بلا علم، ولا قانون، بل بقوى غيبية يزعم الاتصال بها، لم يثبت وجودها بالعلم الحسي، ولا بالدليل السمعي (1) كانت استعانة ممنوعة.
وإن جئت قبر الطبيب بعد موته، فدعوته وهو لا يقدر أن يفحص المريض، وأن يصف الدواء، كانت استعانة ممنوعة. وان عجز العلم ولم ينفع الدواء، فتوسلت إلى الشفاء بالدعاء، أو بالصدقة، أو طلبت من رجل صالح أن يدعو لك، كانت هذه استعانة مشروعة، وان وقفت على قبر الرجل الصالح، فاستعنت به وهو لا يملك تحريك لسانه بالدعاء لك، ولا يقدر من عند نفسه على شفاء مريضك، كانت هذه استعانة ممنوعة.
(1) الدليل السمعي: هو آية من كتاب الله تعالى، أو حديث ثابت من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.