الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن رأيت الغمام قد ازداد وتراكم، واسود وتراكب، وخرج البرق يلمع من خلاله، وازداد ظنك بنزول المطر في الطائف، فصار (نعم) سبعون أو خمس وسبعون في المئة، وكان هذا ما يسميه علماؤنا بـ (غلبة الظن)، فأنت تقول لسائلك: يغلب على ظني ان في الطائف الآن مطرا.
فإن أنت ذهبت إلى الطائف، فرأيت المطر بعينك، وأحسست به على وجهك أيقنت بنزوله، وعلماؤنا يسمون هذا اليقين (علما).
فصار لكلمة (العلم) معان: (العلم) المطلق الذي يقابل الجهل، (والعلم) الذي يقابل الفن والفلسفة. فالكيمياء علم، والفيزياء علم. أما الرسم فهو فن، والشعر فن. والعلم بهذا المعنى هو الذي تكون غايته الحقيقة، وأداته العقل، ووسيلته المحاكمة، والتجربة، والاستقراء. والفن هو الذي تكون غايته الجمال، وأداته الشعور، ووسيلته الذوق.
(والعلم) الذي يجيء بمعنى اليقين، ويقابل الشك والظن، هو الذي نقصده في هذا البحث (1).
العلم الضروري والعلم النظري:
العلم الذي يحصل بالحس والمشاهدة، لا يحتاج إلى دليل. الجبل الذي تراه أمامك لا تحتاج إلى إقامة الدليل على وجوده، انك تعلم - ضرورة - بأنه موجود، وكل من يراه (من العقلاء) يعلم أنه موجود.
وهذا ما يسمى (العلم الضروري)، أما العلم بأن مربع الوتر (في المثلث القائم الزاوية) يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين، فيحتاج إلى دليل عقلي، فالعالم أو طالب العلم الذي يصل إلى الدليل، يعلم هذه الحقيقة، أما العامي الجاهل فلا يعلمها،
(1) أما العلم بالمعنى الخاص: كقولنا (علم النحو)، و (علم الكيمياء). فلعلمائنا فيه تعريفات كثيرة، ولكن اوضح تعريف وأبعده عن التعقيد، هو ما عرفه به (سارتون) بقوله:"العلم هو مجموعة معارف محققة ومنظمة .. ". فبقوله (معارف) خرجت المشاعر والخيالات، وبقوله (محققة) خرجت النظريات والفروض. وبقوله منظمة خرجت المعارف المبعثرة المتفرقة.
ولا يصدق بها، ما دام لم يطلع على هذا الدليل، ولو رأى المثلث أمامه، ولو أقيم على كل ضلع منه، مربع له. وهذا ما يسمى به (العلم النظري)، وهو الذي لا يحصل الا بالدليل العقلي.
تعريفات
البديهية والعقيدة
ومن العلم النظري، ما يحتاج في الاصل إلى دليل، ولا يدرك بمجرد الحس والمشاهدة، ولكنه يعم ويشتهر، حتى يدركه العالم والجاهل، والكبير والصغير، وحتى يصير أقرب إلى (العلم الضروري). مثاله: العلم بأن (الجزء أصغر من الكل)، الرغيف الناقص أصغر من الرغيف الكامل، هذه حقيقة هي في الاصل من العلم النظري الذي يحتاج إلى دليل، ولكنك لا تجد من يشك فيها، ويطلب الدليل عليها، فالطفل اذا أخذت منه كف (الشكلاطة) الكامل، وأعطيته كفا ناقصا لا يقبله، واذا حاولت اقناعه بأن هذا أكبر لم يقنع، لأن كون (الجزء أصغر من الكل) بديهية.
و (مقولة الهُوية) - أي كون الشيء هو نَفْسُه - بديهية، ولو قال لك قائل:"اثبت لي ان هذا القلم الذي تحمله بيدك ليس ملعقة شاي". تقول له: "هذه بديهية، لا تحتاج إلى اثبات لأن القلم قلم .. ".
فالبديهيات (1) هي الحقائق العقلية التي يقبلها الناس جميعا، ولا يطلب أحد عليها دليلا، فاذا دخلت البديهية العقل الباطن، واستقرت فيه، وأثرت في الحدس والشعور، ووجهت الانسان في تفكيره (عقله الواعي)، وفي أعماله، سميت:(عقيدة)، وسمي الاعتقاد بها:(ايمانا).
ولكنا نعرف ان الانسان يعتقد الحق أحيانا، ويعتقد الباطل حينا، ونشاهد في هذه الأيام، من اتباع المذاهب المنحرفة، و (المبادئ) الباطلة، من
(1) القياس: ان نقول في النسبة إلى البديهية (بدهي)، ولكن علماءنا استعملوا من القديم كلمة (بديهي) و (طبيعي)، كما يستعملها جمهور الناس اليوم. وانا اوثر أن استعمل العامي الفصيح، تنبيها على فصاحته، وقد نبهت في حواشي كتبي إلى عشرات وعشرات من هذه الكلمات.
امتزج بها قلبا وقالبا، وتمسك بها ظاهرا وباطنا، وبذل ماله ونفسه في نصرتها وحمايتها، فهل نسمي هؤلاء (مؤمنين)؟
أما اطلاقا فلا، ولكن يمكن أن نطلق عليهم اسم الايمان مضافا إلى الباطل الذي يؤمنون به، على نحو قوله تعالى:
?ألم تر إلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت?؟.
ويمكن اطلاق اسم الايمان مقيدا بالوصف، نحو قوله تعالى:
?وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون?.
أما (الايمان) بالمعنى الخاص، الذي لا ينصرف اذا اطلق الا إليه، ولا يدل الا عليه، المعنى الذي يراد كلما ورد ذكر الايمان ومشتقاته، في الكتاب والسنّة، وعلى ألسنة العلماء. فهو:
الاعتقاد بالله ربا واحدا.
-
…
... ومالكا مختارا متصرفا.
-
…
... وإلها مفردا بالعبادة، لا يشرك معه غيره في كل ما هو من جنس العبادة.
-
…
... والاعتقاد بكل ما أوحي به إلى نبيه، من: خبر الملائكة، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وصاحب هذا الاعتقاد هو (المؤمن)، فان نقص (1) شيئا منه، او ردّه، أو تردد في تصديقه، أو شك فيه، فَقَدَ صفةَ الايمان، ولم يعدْ يعدُّ مع المؤمنين.
(1) نقص شيئاً منه بمعنى أنقص.